السبت، 23 ديسمبر 2023

فندق الرغبة: المُكافأة العادلة لسندريلا

"إنه اليوم الأكثر حرارة في السبع سنوات الماضية، سماء صافية، وحتى الآن يبدو أنها سوف تُمطر".

جملة قد تبدو عادية لا قيمة لها بدأ بها المُخرج والسيناريست الألماني Sergej Moya سيرجي مويا فيلمه الروائي القصير Hotel Desire فندق الرغبة قبل النزول بتيترات الفيلم، لكن أثناء عرض التيترات نُشاهد حرص المُخرج من خلال التصوير البطئ Slow Motion على سقوط قطرات غزيرة من الماء على قدمين عاريتين، وسُرعان ما تتابع الكاميرا الجسد بهدوء لنكتشف أنه جسد أنطوينا- قامت بدورها المُمثلة الألمانية Saralisa Volm ساراليزا فولام- العاري التي تقوم بالاستحمام في هذا اليوم الشديد الحرارة، بينما الكاميرا تتابع زوايا جسدها الذي تهطل عليه قطرات الماء وكأنها هطول الأمطار في مثل هذا اليوم القائظ.

إذن، فالمُخرج هنا مُنتبه بشكل واضح للمواءمة ما بين الجملة التي كتبها قبل نزول التيترات- اليوم الشديد الحرارة- وبين مشهد الاستحمام الذي رأيناه أثناء نزول التيترات بعد كتابة الجملة مُباشرة، وكأنما مشهد الاستحمام هو سقوط الأمطار المُنعشة على جسد أنطونيا في هذا اليوم الشديد الحرارة.

في المشهد الأخير من الفيلم نشاهد أنطونيا عارية بين ذراعي يوليوس- قام بدوره المُمثل الألماني Clemens Schick كليمنس شيك- بينما يقومان بتدخين سيجارة في غرفة الفندق الذي تعمل فيه أنطونيا كعاملة غرف. تتابع الكاميرا دخان السيجارة المُتصاعد لأعلى والذي يصل إلى إنذار الحريق؛ مما يؤدي إلى هطول المياه على جسديهما العاريين في الفراش، في مشهد يعبر عن الهطول الغزير للأمطار في نفس هذا اليوم القائظ ليشعر كل منهما بالانتعاش والسعادة بهطول المياه عليهما، وبين هذين المشهدين المُعبرين عن الهطول الغزير للأمطار والشعور العميق بالانتعاش تدور أحداث الفيلم القصير.


ثمة مشهد وسيط في الفيلم لا بد لنا من التوقف أمامه لارتباطه الوثيق بمشهدي البداية والنهاية حينما قال لوكا- ابن أنطونيا- لأمه حينما كان يودعها للذهاب إلى أبيه في فرنسا: لا تدخني، أو أنها ستبدأ تُمطر.

ربما لا يمكن لنا تجاوز هذه الجملة التي قالها الطفل لأمه بتلقائية قد تبدو لنا غير مُهمة ولا علاقة لها بأي شيء، وكأنها مُجرد جملة عارضة يقولها طفل لأمه بسبب خوفه عليها من إصابتها بالسرطان، ولكن إذا ما تأملنا المشهد الأخير من الفيلم الذي تناولت فيه أنطونيا السيجارة من بين أصابع يوليوس لتقوم بالتدخين بعد توقفها عنه، سيكون الربط بين جملة الطفل لأمه، وبين المشهد الختامي ضروريا في السياق الفيلمي؛ فهي بمُجرد ما عادت للتدخين حتى أمطرت السماء بالفعل- سماء غرفة الفندق، إنذار الحريق- مما يُدلل على أن المُخرج يعي جيدا كل مشهد، وجملة يضعها في السياق الفيلمي لفيلمه الذي لم يتجاوز 40 دقيقة.

يبدأ الفيلم بأنطونيا التي تقوم بالاستحمام في هذا اليوم القائظ بينما تتابع الكاميرا تفاصيل جسدها بحنو، لكن طفلها، لوكا، يشعر بالكثير من القلق ويحاول أن يحثها على الانتهاء من حمامها؛ لتأخرهما على موعد إقلاع الحافلة التي ستتجه من برلين إلى باريس لتنقله إلى والده هناك، حيث وعده بزيارة "كوت دازور".


يخبر لوكا أمه أنه لم يبق أمامهما سوى عشرين دقيقة فقط على تحرك الحافلة؛ الأمر الذي يجعلها تنتهي من حمامها بسرعة وتنطلق بسيارتها الصغيرة بسرعة هائلة في شوارع برلين من أجل اللحاق بحافلة ابنها. أثناء الانطلاق بالسيارة نشاهد لوكا يتناول علبة سجائر أمه ليلقيها من نافذة السيارة، طالبا منها التوقف عن التدخين لخوفه عليها من إصابتها بالسرطان، وحينما تسأله كيف عرف عن السرطان، يخبرها بأنه قد عرف ذلك من خلال الإنترنت. تعده أنطونيا بالتوقف عن التدخين، وتقوم بتوديعه للذهاب إلى باريس.

تعود أنطونيا إلى سيارتها مُسرعة للحاق بعملها في أحد الفنادق الفاخرة، حيث تعمل كعاملة غرف، تغلق أنطونيا مذياع سيارتها مُتعجلة والذي نسمع من خلاله صوت المُذيعة تتحدث مع زميلها: هل يوليوس باس رسم صورا لأشخاص لا يراهم؟! فيرد عليها: صحيح، إنه يستخدم إحساسه باللمس مُستكشفا ملامحهم بيديه، واليوم هو افتتاح معرضه.


أي أن المُذيعان يتحدثان عن فنان شديد الحساسية يعتمد على حاسة اللمس اعتمادا كاملا. لا تنتبه أنطونيا للحديث الذي ينطلق من المذياع، لتنطلق بسيارتها بسرعة هائلة إلى عملها الذي تأخرت عليه، حينما تصل أنطونيا للفندق تترك سيارتها أمام بابه طالبة من عامل الاستقبال مُساعدتها في إدخال سيارتها لجراج الفندق بسبب تأخرها، لكنها تواجه عاصفة غاضبة من مُديرها المُباشر مارسيل- قام بدوره المُمثل الألماني Jan Gregor Kremp جان جريجور كريمب- الذي قول لها مُؤنبا: لهذا السبب على الفنادق ذات الإدارة الجيدة أن توظف المثليين جنسيا فقط، إنني لا أستطيع إنجاب الأطفال واستخدامهم كذريعة لتخريب الأمور، حسنا، أنت أم وحيدة، وتعملين في هذا الفندق، إذن؟ هل هذا يمنعك من الاستيقاظ وتوصيل ابنك إلى الحافلة، وأن تأتي للعمل في الوقت المُحدد؟


رغم هذا التوبيخ الشديد من مارسيل لأنطونيا إلا أنه يبدو في نهاية الأمر رحيما بها، شديد الود واللطف، فرغم أنه يخبرها بأن هذا التأخير سيجعله يطردها في المرة القادمة، إلا أنه سُرعان ما يهدأ مُبتسما ليحتضنها قائلا لها: الآن تخلصي من ملابسك اليومية المُثيرة للشفقة هذه، وارتدي زي الحكاية الخيالية "سندريلا".

لا يتوقف الأمر على ذلك، بل يحاول مارسيل الدفاع عن أنطونيا وإنقاذها الفعلي من الطرد من وظيفتها حينما يشي بها موظف الاستقبال لمُدير الفندق- قام بدوره المُمثل الألماني Herbert Knaup هربرت كناوب- الذي يقوم بتوبيخها على تأخيرها وترك سيارتها أمام الباب الرئيسي للفندق، لكن مارسيل يدعي بأنها كانت تجوب شوارع برلين للبحث عن مناديل مزدوجة تنقص الفندق.


ربما لا بد لنا من التوقف هنا هنيهة لتأمل الحياة التي تحياها أنطونيا، والأحداث المُتلاحقة التي مرت بها مُنذ بداية أحداث الفيلم لأهميتها في السياق الفيلمي الذي يقدمه المُخرج بدقة ملحوظة؛ فهي مُنذ المشهد الأول تحاول اللحاق بالوقت الذي يجعلها لاهثة مُتعرقة في مثل هذا اليوم القائظ، إنها مُتأخرة على موعد حافلة طفلها، ولن تستطيع اللحاق بعملها في الموعد المُحدد، وهي تعاني من حاجتها للمال والعمل المُهددة بالطرد منه، وتعول ابنها الوحيد، وتعيش كامرأة وحيدة بعد انفصالها عن زوجها، وملابسها تبدو بسيطة مزرية بسبب العرق الغزير الذي يغطيها في مثل هذا اليوم الحار- لاحظ قول مارسيل لها: تخلصي من ملابسك المُثيرة للشفقة.

إذن، فالمُخرج هنا ماهر في رسم شخصية أنطونيا التي يقصد بها في حقيقة الأمر "سندريلا"- اللاهثة، المُتأخرة، التي تعاني، التي يوبخها الجميع على ما لا يد لها فيه- ولعل قول مارسيل لها: ارتدي زي الحكاية الخيالية "سندريلا"، كان من أبلغ الجُمل التي تُدلل على أن المُخرج راغب في تقديم أنطونيا على صورة سندريلا، الفتاة الرقيقة، الفقيرة، التي تحاول اللحاق بالوقت، والتي لا بد لها أن تتم مُكافأتها في نهاية الأمر.


حينما تتجه أنطونيا إلى غرفة تبديل الملابس لارتداء ملابس العمل تجلس وحيدة باكية بسبب مُعاناتها والتوبيخ الذي لاقته من مُديرها، لتدخل عليها زميلتها جوليا- قامت بدورها المُمثلة الروسية الأصل الألمانية الجنسية Palina Rojinski بالينا روجينسكي- مُتسائلة عما يبكيها، لكن أنطونيا تحاول التملص من الاعتراف ببكائها مُخبرة جوليا بأنها تتعرق بسبب اليوم الحار، لكن حينما تظن جوليا بأن أنطونيا تبكي بسبب علاقة ما مع رجل، تخبرها أنطونيا بأنها لم تدخل علاقة مع رجل مُنذ سبع سنوات، أي مُنذ انفصلت عن والد ابنها لوكا؛ الأمر الذي يجعل جوليا تشعر بالكثير من الاندهاش، وتؤكد لها أنها ستحاول ترتيب لقاء لها مع رجل، بل وتنصحها بانتهاز أي فرصة من أجل الدخول في علاقة: اعتبارا من الآن سوف تبدأين في فعل ذلك. فتسألها أنطونيا: فعل ماذا؟ لتقول جوليا: الخفة، خذي الأمور بخفة، وقومي ببعض المخاطر، دعيه يجلبك للفراش، ربما سيغني لك. ثم تقترب جوليا من أنطونيا لتقوم بتقبيل شفتيها مُؤكدة لها على أنها لا بد لها أن تخوض المُغامرات من أجل التمتع بحياة أيسر من تلك الحياة الجافة التي تحياها.

تخرج أنطونيا للقيام بعملها في غرف الفندق، وهو ما شاهدناه من خلال اهتمام المُخرج بكتابة الكثير من أرقام الغرف على الشاشة بينما الكاميرا تتابعها في التنقل بين الغرف كتدليل منه على عملها الشاق الذي تقوم به، إلى أن تدخل للغرفة الأخيرة التي لا تجد فيها نزيلها.


تتجول أنطونيا مُتأملة في الجناح الواسع الذي دخلته، لكنها أثناء تجوالها تسمع صوت كوب زجاجي يسقط أرضا لينكسر، وسُرعان ما يخرج نزيل الجناح من الحمام مُبتلا للرد على هاتفه المحمول. تُفاجأ به أنطونيا عاريا، لتدرك أنه كفيف؛ ومن ثم تتجمد في مكانها خشية إحساسه بوجودها. يرد الضيف/ يوليوس على الهاتف مُؤكدا لمن يحادثه على الطرف الآخر بأنه في المصعد للحاق بالمعرض الذي لا بد له أن يلحق افتتاحه. نعرف أن يوليوس فنان كفيف يقوم برسم بورتريهات لأشخاص لا يراهم مُعتمدا على حاسة اللمس في استكشاف ملامحهم- هل ما زلنا نذكر حديث المُذيع والمُذيعة في مذياع سيارة أنطونيا حينما أغلقته عن فنان كفيف يرسم الآخرين مُعتمدا على حاسة اللمس وأن افتتاح معرضه سيكون اليوم؟


إنه الربط الذكي بين أحداث الفيلم؛ الأمر الذي يُدلل على أن المُخرج يعي جيدا كيفية رسم الأحداث والشخصيات بشكل عفوي تماما من خلال السيناريو الذي قام بكتابته، وقدمه بشكل فيه الكثير من التماسك والابتعاد عن الترهل.

بعدما ينهي يوليوس مُحادثته التليفونية التي يحاول من خلالها الهروب من مُحدثه على الطرف الآخر لشعوره بالكثير من السأم يقوم بارتداء ملابسه، وحينما يبدأ في البحث عن حذائه تصطدم يده بحذاء أنطونيا المُتجمدة في مكانها خشية اكتشاف وجودها، لكن يوليوس يصعد بكفه ببطئ مُتحسسا ساقها، ويستمر بكفه إلى أن يصل إلى وجهها- حاسة اللمس هي أهم ما تميز الرجل- ما أن تصل يده إلى وجه أنطونيا حتى تقوم بإمساكها لوضعها على وجهها برغبة لاهفة حيث يتلمسه بشيء غير قليل من الاهتمام بالتفاصيل بينما الكاميرا تتابع تفاصيل المشهد بانتباه غير قليل وكأنها تشاركهما التفاصيل الدقيقة للفعل.

ربما كان المشهد الحسي الذي دار بين أنطونيا ويوليوس هنا من أهم المشاهد المُؤسسة للفيلم والمُعبرة عما يرغب المُخرج في إيصاله، فرغم أن المشهد بالكامل- الذي استمر 10 دقائق من زمن الفيلم- اعتمد على الحسية الكاملة مما قد يجعل البعض يظن بأنه مشهد أقرب إلى البورنوغرافيا إلا أن المُخرج قد نجح إلى حد بعيد في إنقاذ فيلمه من الوقوع في التصوير البورنوغرافي رغم التفاصيل الحسية الدقيقة، وطول مُدة عرض المشهد للقاء الجنسي بينهما.


لعل السبب الرئيس في إنقاذ الفيلم من الوقوع في التصوير البورنوغرافي يعود في المقام الأول إلى أداء المُمثل الألماني كليمنس شيك، الذي بدا لنا أداء شديد الرهافة والحساسية، مُعتمدا فيه على حاسة اللمس، فضلا عن الكاميرا التي تمتعت بالكثير من الحساسية والتورط في تصوير المشهد الرومانسي وتقطيعه إلى لقطات ركزت فيها على المشاعر والإحساس- الكاميرا هنا تشعر وتفكر وتتأمل- وهو ما رأيناه حينما أمسكت أنطونيا بكف يوليوس لوضعه على وجهها، وتلمس أطراف أصابعه لوجهها بحساسية شديدة- الاعتماد على اللمس- تنسمه لرائحتها بعمق- الاعتماد على الشم- اقترابه بوجهه من وجهها، ثم تقبيلها، التركيز على خلعهما لثيابهما برومانسية راغبة، انتفاء الحوار في المشهد إلا من لغة الجسد والتلامس، مُتابعة الكاميرا للتفاصيل، ووعيها بها، ولكن من دون إصرار على التحديق والفضح، حتى حينما مرت الكاميرا على عانة المُمثلة التي يتحسسها المُمثل بأصابعه لم تُحدق فيها بجرأة وإصرار، تقطيع المشهد الطويل إلى كادرات تضج بالمشاعر والأحاسيس بدلا من الفعل الجنسي المُجرد، فضلا عن المُوسيقى التصويرية المُعبرة للموسيقي الألماني Stefan Maria Schneider ستيفان ماريا شنايدر التي ساهمت إلى حد بعيد في التخفيف من حسية المشهد وتحويله إلى مشهد يضج بالمشاعر.


إن تركيز الكاميرا على تفاصيل الحواس- الشم واللمس- بدلا من التفاصيل الجنسية- رغم طول المشهد الجنسي- هو السبب الرئيس في إنقاذ المشهد من الوقوع في البورنوغرافيا، ورغم مرور الكاميرا على الأعضاء الجنسية لكلا المُمثلين أكثر من مرة، ووضوحها البيّن، إلا أنها حرصت على ألا تكون مُحدقة في التفاصيل، كاشفة، صادمة، بل كانت تمر على تلك التفاصيل بانسيابية تتناسب مع الحسية التي يرغب المُخرج في إيصالها، والتي تؤكد على أن سندريلا/ أنطونيا قد حصلت في نهاية يومها الشاق، وبعد حرمانها لمُدة سبع سنوات من أي لقاء جنسي أو حسي على مُكافأتها التي تستحقها، وهي المُكافأة العادلة التي لا بد لها من الحصول عليها.


يغلق المُخرج الألماني سيرجي مويا فيلمه الروائي القصير "فندق الرغبة" على أنطونيا ويوليوس عاريين في الفراش بعد الانتهاء من مُمارسة جنسية ناعمة، بينما يقومان بتدخين سيجارتيهما لتهطل عليهما المياه من سقف الغرفة وكأنها الأمطار التي لا بد من هطولها في نهاية يوم قائظ لتخفف من وطأة اليوم، أو كأنها الأمطار التي لا بد لها أن تهطل بسبب تدخين أنطونيا- كما سبق لطفلها لوكا أن أخبرها. ليؤكد المُخرج من خلال فيلمه مهارته الإخراجية في كتابة وتقديم فيلم شديد التماسك والفنية، رغم أنه قد يبدو لنا للوهلة الأولى مُجرد فيلم بورنوغرافي، أو أن جميع الأحداث قد تمت كتابتها وتلفيقها من أجل المشهد الجنسي الطويل، لكنه من خلال مقدرته على صياغة فيلمه- سواء من الجانب الكتابي أو الإخراجي- نجح إلى حد بعيد في تقديم فيلم فني، مُرهف، مُستلهما حكاية سندريلا التي نعرفها جميعا من خلال وجهة نظر فنية خاصة به.

 

محمود الغيطاني

مجلة "نقد 21"

عدد ديسمبر 2023م.

 

 

 

 

السبت، 16 ديسمبر 2023

الرجل الثاني عشر: أسطورة الأمل النرويجية

في فيلم ينضح بالتوتر والتشويق اللذين يجعلان المُشاهد جالسا على طرف مقعده مُتمسكا به حتى اللحظة الأخيرة، وهو الأمر الذي يجعل أنفاس المُشاهد تتلاحق مع أحداث الفيلم ومُتابعة بطله الهارب، يقدم لنا المُخرج النرويجي
Harald Zwart هارالد تسفارت فيلمه الجيد The 12th Man الرجل الثاني عشر، أو Den 12 Mann حسب العنوان الأصلي للفيلم في اللغة النرويجية، وهو الفيلم الذي يعتمد على قصة وأحداث حقيقية لأحد الجنود النرويجيين إبان الحرب العالمية الثانية ودخول ألمانيا النازية للنرويج واحتلالها.

يبدأ المُخرج فيلمه بالكتابة على الشاشة مُعرفا لنا بالإطار الزمني للفيلم، والقصة التي هو بصدد عرضها؛ فنقرأ: في إبريل عام 1940م اُحتلت النرويج من قبل ألمانيا النازية، وقام هتلر بصُنع "حصن النرويج"، الغزو الألماني أكمل طريقه نحو الشمال، وبعدها خسر الحلفاء خسائر فادحة.

مع تقديم المُخرج لمشهده الافتتاحي الأول في اسكتلندا يكتب على الشاشة مرة أخرى: اسكتلندا 1943م، الجنود النرويجيون تم تدريبهم بواسطة القوات البريطانية؛ ليقوموا بمُهمة عسكرية في النرويج، عملية "مارتن ريد"، تأسست في 24 مارس، 12 نرويجيا من مُقاتلي المقاومة أبحروا بمركب للنرويج، مُهمتهم هي تخريب المطارات الألمانية والمُنشآت، رجل واحد هو من بقي على قيد الحياة، أهم الأحداث تشويقا في هذه القصة هي التي وقعت فعلا.

ربما نلاحظ حرص المُخرج هنا على الكتابة على الشاشة من أجل اختصار العديد من الأحداث التي لم يرغب في تقديمها؛ فلجأ إلى تعريفنا بها من خلال الكتابة، لك
ننا نلاحظ أيضا رغبة المُخرج في تشويقنا مُسبقا، وكأنه بذلك سيدفعنا للتمسك بمقاعدنا حينما كتب: أهم الأحداث تشويقا في هذه القصة هي التي وقعت فعلا، فالحقيقة أنه لم يكن في حاجة ماسة وحقيقية لكتابة هذه الجُملة على الشاشة من أجل جذب انتباه المُشاهد؛ لأننا عرفنا بالفعل أن ثمة قصة حقيقية سيتعرض لها الفيلم، وبالتالي فلسنا في حاجة لمعرفة أن ثمة أحداث مشوقة، وأنها لا بد بالضرورة التي حدثت؛ لأننا لسنا في حاجة إلى تقديم القصة كما حدثت تماما في الواقع ما دمنا قد لجأنا إلى نقلها لوسيط سينمائي يحتمل في آلياته التغيير وإدخال الخيال كيفما رغب المُخرج، وهو ما يمنحه الفرصة والأحقية في تغيير بعد الأحداث التي وقعت في القصة التاريخية.


رغم أن المُخرج هنا يتحدث عن فترة زمنية مُعينة، وهي الفترة التي أطرها ببداية الأربعينيات من القرن الماضي، حيث الحرب النازية على أوروبا، إلا أنه كان من البراعة ما جعله لا يعرض لنا الحرب النازية الألمانية بشكل مُباشر؛ فالفيلم الذي تدور أحداثه في الحرب العالمية الثانية لم نر فيه مشهدا حربيا واحدا، بل كانت الحرب دائما تلقي بظلالها الثقيلة في خلفية الحدث الأهم، وهو مُطاردة الجندي الثاني عشر ومحاولة اعتقاله، بينما كاميرا المُخرج تتابعه في رحلة هروبه الطويلة عبر السهول والجبال الثلجية داخل النرويج إلى الحدود السويدية، وهي الرحلة الشاقة والأليمة والقاتلة التي وصلت لـ63 يوما كاملة من المُطاردات ومحاولات القتل والتصفية.

في مشهد مُتقدم من الفيلم نشاهد مجموعة من الجنود بينما يسأل أحدهم عن الضابط جان بولسارد؛ فيشير أحد الجنود إليه، ونراه واقفا مُنزويا في أحد الأركان مُتأملا للمُحيط أمامه ذاهلا بينما يتشبث بقوة بملف مكتوب عليه "سري للغاية". تقترب الكاميرا من وجه جان- قام بدوره المُمثل النرويجي Thomas Gullestad توماس جوليستاد- العابس الذي يبدو ذاهلا أو غائبا عما حوله لتبدأ أحداث الفيلم من خلال الفلاش باك Flash Back ونرى الفرقة المُكونة من اثنى عشر جنديا على ظهر أحد مراكب الصيد المُتجهة إلى النرويج، لكنهم يتم اكتشافهم من قبل القوات البحرية الألمانية النازية بعد خيانتهم من قبل أحد السكان المحليين، وتقوم بمُهاجمتهم، وقتل سيجارد- قام بدوره المُمثل النرويجي Vegar Hoel فيجر هول- كما يأسرون العشرة الآخرين بينما يهرب جان منهم.


لعل المشهد الذي يهرب فيه جان كان من المُشاهد المهمة في صيرورة الأحداث حينما يختبئ مع سيجارد خلف صخرة على الشاطئ بينما يتابعون زملائهم الذين تم أسرهم، لكن بمجرد التفات جان نحو سيجارد الذي كان على طرف الصخرة المكشوف يشاهد أحد المدافع المُوجهة لرأس سيجارد الذي يقول لجان بالنرويجية التي لا يفهمها الألمان: لم يرونك بعد، تأكد أن هذا لم يذهب هباء منثورا.

إن هذه الجملة المُهمة التي قالها سيجارد لجان قبل إلقاء القبض عليه وقتله، كانت من الأهمية بمكان طوال أحداث الفيلم ما جعل جان مُصرّا على أن ينجو من الموت والهروب إلى السويد باعتبارها دولة مُحايدة؛ من أجل الحفاظ على الكثير من الأسرار العسكرية التي لم يعد يعرفها سواه، وهي الأسرار التي من المُمكن أن يعرفها الألمان إذا ما وقع بين أيديهم.

إذن، فمجرد هروب جان من الألمان، والحفاظ على حياته يُعد أمرا مُهما بالنسبة للعسكرية النرويجية بسبب الأسرار العسكرية التي يحملها ولا بد من وصولها إلى رؤسائه. في الجهة المُقابلة يوجد كورت ستايج- قام بدوره المُمثل الأيرلندي Jonathan Rhys Meyers جوناثان ريس مايرز- مُدير الشرطة النازية في النرويج، والمُخلص للعسكرية الألمانية، والعنيد المُتعجرف القاسي الذي لا يسمح لأحد أن يفلت من بين يديه، وهو ما حرص المُخرج على بيانه حينما نرى وجه كورت الذي يتميز دائما بالصرامة، بينما عينيه تبدوان لنا وكأنهما فقدتا الحياة حيث لا تعبير فيهما سوى البرودة القاسية، وقد ظهر على جانب وجهه ندبة تدل على إجرامه، كما يتأكد لنا ذلك من قول أحد النرويجيين لجان في مشهد مُتقدم: يقولون: لا أحد يستطيع الهروب منه، لذا من ناحيته فهذا أمر شخصي، لن يدع شخصا مُخربا مثلك يهرب ويفلت منه، إذا استطعت أن تهرب إلى السويد؛ فهذا يعتبر خسارة كبيرة له. أي أن مسألة هروب جان من كورت هي مسألة تكاد أن تكون مستحيلة وشخصية تماما لا علاقة لها بالأمن الألماني؛ لأن الرجل لن يسمح بأن تهتز صورته الواثقة والقاسية أمام أحد بهروب جان منه؛ لذلك فهو يبذل كل ما في وسعه من أجل النيل منه والقبض عليه.


بمجرد القبض على سيجارد يحاول جان الهروب عبر السهول الواسعة الثلجية المكشوفة، وهو ما يجعل القوات النازية تلمحه وتبدأ في مُطاردته، وحينما يطلقون عليه النار تصيب الرصاصة إبهام قدمه الذي يطير في الهواء، لكنه رغم ذلك يستمر في الهروب ليختفي عند المضيق المائي الذي هبط فيه وسبح بعيدا عنهم، بينما وقفوا أمام المضيق حائرين في معرفة مكانه؛ لتصورهم أنه لا يمكن لإنسان أن يسبح في ماء المضيق الذي تبلغ درجة حرارته أقل من الصفر.

إن لجوء المُخرج إلى التصوير في المساحات الثلجية المفتوحة والواسعة أعطى التصوير جمالا خلابا خاصا ساعد المصور على الإبداع كثيرا في جميع مشاهد الفيلم الذي لن تنمحي جماليات مشاهده من الذهن بسهولة.

يطلب أحد الضباط من كورت تقريرا لإرساله إلى برلين عن حادثة الجنود، لكنه يرفض إرسال التقرير مُؤكدا أنه لن يفعل ذلك إلا بعدما يقبض على الجندي الثاني عشر، وحينما يخبره زميله بأن الجندي لا بد أنه قد مات؛ لأنه كان مُصابا بطلق ناري، كما أنه اختفى عند المضيق الذي لا يمكن له أن يعبره بسبب البرودة القارسة لمياهه، وحتى لو هبط إليه للسباحة؛ فهو لا بد أن يموت من البرودة، إلا أن كورت يرفض ذلك قائلا: لن يكون ميتا إلا إذا شاهدت جثته، إنه حي.


صحيح أن السباحة في هذه المياه المُثلجة لا يمكن لأحد احتمالها، حتى أن أحد المواطنين النرويجيين يقول: لا أحد يجرؤ على السباحة هنا حتى في فصل الصيف، وبما أن أحداث الفيلم كانت في فصل الشتاء؛ فهذا يعني أن النزول إلى المياه من الأمور المُستحيلة، لكن جان كان يمتلك من العزم والرغبة في الهروب والنجاة ما جعله قادرا على عبور المضيق إلى الجانب الآخر سباحة، وهو الأمر الذي جعله يكاد أن يموت من البرودة بالفعل، ولعل في مشهده وهو يرتعد بقوة بمجرد خروجه من المياه ما يُدلل على أنه لا بد أن يموت إذا لم تتم تدفئته مُباشرة في هذه اللحظة.

لا يستسلم كورت، ولا يتقبل موت جان؛ فيبدأ في البحث عنه في كل المناطق المُحيطة، بل يبدأ في اقتحام بيوت النرويجيين وتفتيشها بحثا عن جان، حتى أنه يقوم بعمليات اعتقال جماعي للعديد من المواطنين ليجري عليهم التجارب عن مدى مقدرتهم على احتمال بقائهم في ماء المضيق البارد الذي على وشك التجمد، وحينما لا يجد من يحتمل منهم البقاء في الماء لأطول فترة مُمكنة، يخلع ملابسه العسكرية ويهبط بنفسه إلى المياه مُمسكا ساعته بيده لمعرفة الفترة التي من المُمكن له أن يحتملها داخل الماء! أي أن التحدي والإصرار على اعتقال جان قد جعلا منه شخصا مجنونا على استعداد لفعل أي شيء من أجل العثور عليه حتى لا تهتز صورته أمام الآخرين، وليظل مُحافظا على ثقته في نفسه.


يساعد العديد من المواطنين النرويجيين جان، ويحرصون على الحفاظ على حياته باعتباره أملا وطنيا لهم إذا ما نجا من أيدي الألمان، يلاحظ أحد المواطنين الذين ساعدوه احمرار قدمه التي طار ابهامها بسبب الطلق الناري، ويخبره بضرورة مُراجعة طبيب حتى لا تصيبه الغرغرينا، لكنه لا يهتم بالأمر ويحاول مواصلة رحلته في الهروب إلى الحدود السويدية، وأثناء هروبه بزلاجته كان لا بد له من المرور من أمام المُعسكر الألماني باعتباره الطريق الوحيد المُتاح له، لكنه يقع أمام المُعسكر؛ الأمر الذي يلفت انتباه كورت ويستوقفه لمناولته غطاء رأسه الذي وقع منه قائلا له بسخرية: أعتقد أن النرويجيين يعرفون كيف يتزلجون. يتناول جان غطاء رأسه صامتا؛ ليشكره ويسرع في طريقه، لكن كورت ينتبه إلى أن هذا الرجل هو جان المطلوب من أجل اعتقاله؛ فيرسل خلفه إحدى الطائرات التي تطارده في السهول والجبال الثلجية المكشوفة، ويطلق عليه قائدها النار؛ الأمر الذي يؤدي إلى انهيار ثلجي رهيب يلحق بجان ويدفنه تحته.


حينما يفيق جان يحاول إزاحة الثلوج المُتراكمة فوقه، لكننا نشاهد انخلاع أظافره حينما يحاول جرف الثلج الذي يغطيه. يخرج جان من تحت ركام الثلوج وهو في حالة كاملة من الإعياء والضعف والارتعاد الدائم الذي يؤكد حتمية موته، لكنه يصل إلى أحد بيوت المُزارعين في المنطقة؛ حيث يتم إنقاذه من قبل ماريوس المُزارع- قام بدوره المُمثل النرويجي Mads Sjøgård Pettersen مادس سيوجارد بيترسون- الذي يصرّ على إبقائه حيا والحفاظ على حياته باعتبار أن حياة جان قد باتت أملا وواجبا وطنيا بالنسبة للنرويجيين الذين يتناقلون حكايته ومُطاردة كورت له؛ لذلك يطلب من شقيقته جودرون- قامت بدورها المُمثلة النرويجية Marie Blokhus ماري بلوكهوس- إحضار ملابس داخلية جافة له، والعمل على تدفئته ورعاية جروحه الكثيرة لا سيما إبهام قدمه الذي بدأ في التعفن.

رغم أن إيواء الجندي الهارب/ جان عقوبته لدى الألمان هو قتل أسرة من آواه، بل وحرق منازلهم أيضا، إلا أن ماريوس وأخته لا يستطيعان التخلي عن جان، وحينما تذهب الشرطة الألمانية إلى منزل جودرون من أجل تفتيشه للمرة الثالثة يختبئ جان أسفل أكل الماشية لحين رحيلهم؛ لذلك يفكر ماريوس في نقله إلى كوخ مُهمل على الجانب الآخر من المضيق لحين التوصل إلى طريقة تساعدهم على تهريبه إلى السويد.


في الكوخ يدخل جان في سلسلة متوالية ومُتداخلة لا تنتهي من الكوابيس، وهي الكوابيس التي تبدأ في التوالد من بعضها البعض حيث تنصب جميعها في أنه قد تم اعتقاله، كما تصيبه العديد من الهلاوس التي يرى نفسه فيها في الكوخ لكنه يرقص على أنغام موسيقى كان قد سبق أن رقص عليها في لندن، كما يرى ساقه ذات الإصبع المبتور وقد اسودت بالكامل وأصابتها الغرغرينا، وحينما يستيقظ يشرب الكثير من الكحول ويكشف قدمه التي تفوح منها رائحة كريهة بسبب تعفن إبهامه ووسطاه اللذين سادهما اللون الأسود، هنا يبدأ في قطع الباقي من إبهامه، كما يقوم بقطع وسطاه مُستخدما سكينا كان قد أعطاه له ماريوس؛ ليعمل على إبطاء انتشار الغرغرينا في ساقه.

يظل جان لفترة طويلة داخل الكوخ إلى أن يعود إليه ماريوس مُؤكدا له أنه قد وجد طريقة سهلة لتهريبه إلى السويد مُستعينا بأحد الرجال من الماندالين- سكان أصليون لدول الشمال يعيشون على رعي الرنة- ويعدون له زلاجة كي ينام عليها بعد ربطه بها، ويتعاون ماريوس ومجموعة من الرجال على جذب الزلاجة والصعود بجان إلى الجبل حيث إحدى الصخور الضخمة التي اختفى تحتها جان لحين وصول رجل الماندالين وتهريبه.


بعد أربعة أيام يصل رجل الماندالين إلى ماريوس ليخبره بأنهم لم يعثروا على الرجل المُراد تهريبه، هنا يتبين أن الرجل المُهرب قد فهم المكان المُتفق عليه بشكل خاطئ؛ ومن ثم فقد بحث في مكان آخر. يسرع ماريوس إلى الصخرة التي ترك تحتها جان المُنهك تماما ليجد أن الثلوج قد غطت فتحة الصخرة. يسرع بالحفر ليجد جان على وشك لفظ أنفاسه الأخيرة؛ فيعمل على تدفئته وترك الكثير من الطعام له مُؤكدا أن الرجل سيصل إليه في خلال يومين.

يصل رجل الماندالين بالفعل، لكنه أثناء محاولة تهريبه تحدث عاصفة ثلجية شديدة؛ الأمر الذي يجعله يحتفظ بجان في قرية ماندالين لحين هدوء العاصفة الثلجية. حينما تحين اللحظة للتهريب يضع رجل الماندالين جان على زلاجة كبيرة لينام عليها ويقوم بربطه بالحبال إليها، هنا يسأل جان الرجل: كيف تنوي تهريب شخص مثلي في وضح النهار؟ فيرد عليه الرجل مُبتسما: لدينا خطة، عندما تقترب من الحدود سأوجه القطيع للاتجاه الصحيح، سنعطيك أقوى الحيوانات التي تعرف الاتجاه، لن يتوقف حتى تعبر الحدود؛ فيرد عليه جان: إذا باءت الخطة بالفشل، وتم الإمساك بي، أُفضل أن أموت برصاصة مواطن نرويجي.


أي أن رجل الماندالين سيربط الزلاجة المربوط إليها جان بحيوان قوي من حيوانات الرنة، وسيعمل على توجيه القطيع بالكامل إلى الحدود حتى عبورها، وبما أن القطيع شديد الضخامة؛ فإن حرس الحدود من الألمان النازيين لن ينتبهوا إلى وجود جان بينهم.

على الجانب الآخر، من خلال المونتاج المتوازي، ينقل لنا المُخرج انتباه جودرون إلى أن وشاحها المكتوب عليه حروف اسمها، وهو الوشاح الذي كانت قد منحته لجان أثناء تواجده معهم قد فُقد؛ فتسأل أخاها ماريوس عنه، وتخبره أنه كان مع جان حينما ذهبوا به إلى الكوخ المُهمل على الطرف الآخر من المضيق؛ فيسرعان بالذهاب إلى الكوخ؛ خوفا من أن يعثر عليه الألمان ويعرفون بأنهما قد ساعداه في الهروب، لكنهما حينما يجداه بالفعل في الكوخ يكون الأوان قد فات حيث تتبعتهما الشرطة الألمانية وعرفت بالأمر، ويبدأون التحقيق معهم في الكوخ، لا سيما أنهم عثروا على بقايا الطعام التي كانت مع جان، فضلا عن إصبعه الوسطى الذي قام بقطعه بالسكين.


في الوقت الذي يتم التحقيق فيه مع ماريوس وأخته، يكون جان وسط قطيع الرنة الذي يعدو باتجاه الحدود السويدية بينما يتابعه الجنود الألمان، لكن الزلاجة تفلت من الحيوان الذي يسحبها؛ الأمر الذي يجعلها تنقلب على وجهها، ويلمح الجنود الألمان وجود جان المربوط في زلاجته؛ فيحاولون اعتقاله. ينزوي جان فوق زلاجته خلف إحدى الصخور مُمسكا بمسدسه للتخلص من حياته قبل اعتقاله، لكنه يلمح حيوان الرنة الذي يقترب منه مرة أخرى؛ فيربط الحبل بالزلاجة بقوة، ويمسكه بيديه، ليطلق رصاصته في الهواء مما يجعل الحيوان يعدو بقوة باتجاه الحدود عابرا إياها. هنا يتصل حرس الحدود الألماني بالضابط كورت مُخبرين إياه بهروب جان إلى السويد؛ الأمر الذي يجعله ينهار مُنفعلا.

تعود الأحداث إلى الفترة الآنية، التي بدأ بها الفيلم، حيث يقف جان مُتأملا المُحيط أمامه، ليقترب منه الضابط الذي سأل عنه في بداية الفيلم، ويقدم له جان الملف السري الذي كان بحوزته. هنا يحرص المُخرج على إنهاء فيلمه بكتابته على الشاشة عن مصائر العديد من الشخصيات فنقرأ: استمر جان بولسارد في تدريب عسكر جُدد حتى تحررت النرويج، وانتهت الحرب في 8 مايو 1945م، أما كورت ستايج فقد تم إعدامه بتهمة جرائم الحرب في 1947م، وماريوس جرونفول تزوج وأنجب خمسة أطفال في مزرعة جرونفول، أما جان بولسارد فقد تم منحه جائزة أولاف مع جائزة آوك برانش، وتم تعيينه بإمبراطورية بريطانيا؛ لخدمته الشريفة، ولم يتخيل جان أن يكون بطلا، لقد أتم الثقة في الرجال والنساء الذين ساندوه، وتوفي في 1988م، وتبعا لأمنيته فقد دُفن في ماندالين بجانب من ساعدوه.

المُخرج النرويجي هارالد تسفارت

إن الفيلم النرويجي الرجل الثاني عشر للمُخرج هارالد تسفارت من أفلام السيرة المُهمة التي تابعت أحد الجنود النرويجيين في رحلة هروبه من النرويج إلى السويد ونضاله من أجل الشعب النرويجي ضد الألمان النازيين، ولا يمكن إنكار أن الفيلم كان يحمل الكثير من التشويق والتوتر اللذين حافظ المُخرج على وتيرتيهما من أجل جذب المُشاهد حتى المشهد الأخير؛ لذلك لم يكن في حاجة إلى أن يكتب في بداية فيلمه أن الأحداث التي وقعت بالفعل هي الأكثر تشويقا، كما لا يفوتنا الأداء المُتقن والبارع لكل من المُمثل الأيرلندي جوناثان ريس مايرز، والمُمثل النرويجي توماس جوليستاد اللذين بدا لنا أداءهما بمثابة مُباراة بارعة في الأداء التمثيلي والتحدي، كذلك التصوير البارع الذي حافظ عليه المُخرج منذ بداية فيلمه، وقد ساعده في ذلك اللجوء إلى التصوير في المناطق المفتوحة الثلجية الشاسعة، وحفاظه على الإضاءة باللون الأزرق الباهت في مُعظم مشاهد الفيلم، وهو اللون الدال على البرودة والموت اللذين كانا يحيطا بالعالم الفيلمي بالكامل، وبالرحلة المُستحيلة لجان، حيث كانت هذه الرحلة بمثابة أسطورة من الأمل الحقيقي بالنسبة للمواطنين النرويجيين الذي هبوا جميعا من أجل معاونة جان في هروبه الكبير؛ حتى لا يفقدوا الأمل في التحرر.

 

محمود الغيطاني

مجلة الشارقة الثقافية

عدد ديسمبر 2023م.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الخميس، 16 نوفمبر 2023

ناب الكلب: الأسرة كمُعادل موضوعي للدولة الاستبدادية

في فيلم يتأمل في مفهوم السلطة المُطلقة وأثرها في تشويه الوعي الذي يحول الآخرين إلى مُجرد أدوات لا حياة فيهم ولا معنى لهم يحاول المُخرج اليوناني Yorgos Lanthimos يورجوس لانثيموس توضيح أثر هذه السلطة التي لا يمكن مُعارضتها، ولا بد من الانصياع الكامل لها من خلال أسرة مكونة من أب وأم وفتى في العشرين من عمره وفتاتين في نهايات مرحلة المراهقة.

ثمة رغبة عارمة في الفيلم اليوناني dogtooth ناب الكلب لمُناقشة السلطة المُطلقة، السلطة التي لا يمكن مقاومتها بأي حال من الأحوال، بل هي الوحيدة التي تمتلك إمكانية تشكيل الخيال، والمفاهيم، والتعاطي مع العالم من خلال المعلومات والمعاني التي يتم بثها من خلالها حتى لو كانت هذه المفاهيم بعيدة تماما عن الحقيقة، وتعمل على تشويه الوعي الحقيقي.

هذا التشوه في المفاهيم الذي يتم بثه عمدا نلاحظه في بداية الفيلم الذي يفتتحه مخرجه على مشهد الابن- قام بدوره الممثل اليوناني Christos Passalis كريستوس باساليس- وأختيه القريبتين منه في العمر- المُمثلة اليونانية Angeliki Popoulia أنجيليكي بابوليا- الابنة الكبرى، والمُمثلة اليونانية Mary Tsoni ماري تسوني، الابنة الصغرى. في هذا المشهد الافتتاحي، الذي يحرص من خلاله المُخرج على تعريفنا بالعالم الفيلمي الذي يقدمه، نعرف أن الأبناء يتلقون معرفتهم بالكامل من خلال الأبوين اللذين يحرصان على تسجيل المُفردات ومعناها لهم على المُسجل؛ ليحفظاها ويعرفان معاني الأشياء؛ فنسمع من خلال المُسجل الذي ينصت إليه الأبناء: كلمات اليوم الجديدة هي: "بحر، طريق سريع، نزهة برية، وبندقية"، ثم يبدأ الصوت في شرح هذه المُفردات؛ فنعرف أن البحر هو الكرسي الجلدي ذو الأذرع الخشبية مثل الموجود في غرفة المعيشة، ولا يلبث الصوت المُسجل أن يعطي مثالا شارحا على تعريفه فيقول: مثال: لا تظل واقفا، اجلس على البحر لنتحدث! ويستمر في التعريف قائلا: الطريق السريع هي الرياح العاتية، والنزهة البرية هي مادة شديدة المتانة تُستخدم في صناعة الأرضيات، مثال: وقعت الثريا على الأرض وتحطمت، ولكن الأرض لم تنكسر لأنها مُصنعة من النزهة البرية بالكامل! ثم يستمر في التعريفات: البندقية هي طائر أبيض جميل!

إن هذه التعريفات التي يحرص الأبوان على بثها في عقول أبنائهم تؤدي بالضرورة إلى تشويه الوعي والتعامل مع الواقع المُحيط بهم من خلال مفاهيم مغلوطة، لا سيما أنهم لا يتلقون المعرفة عن العالم المُحيط بهم إلا من خلال الأبوين فقط، وبالتالي فإن تشكل الوعي سيكون من خلالهما في الحين الذي يحرص فيه الأب والأم على تقديم المعلومات غير الحقيقية لهم باعتبارها الحقيقة، فالمشهد الافتتاحي يُدلل مُؤكدا على الرغبة في التضليل المعرفي تبعا لرغبة الأبوين، والحرص على تشويه هذه المعرفة؛ وهو الأمر الذي يجعلنا نلاحظ أن سلوك الأبناء الثلاثة- رغم أنهم في مُقتبل العشرينيات- لا يمكن له أن يختلف عن سلوك الأطفال؛ لذلك نرى الابنة الصغرى بمجرد انتهاء استماعهم لهذا الدرس المُسجل تقترح على أخويها أن يلعبوا لعبة الاحتمال والتي تعني بها أن يضع كل منهم إصبعه تحت صنبور المياه الساخنة، وآخر واحد منهم سيسحب إصبعه سيكون هو الفائز!


هذا السلوك الطفولي نلاحظه في مشهد آخر حينما نرى الفتاتين معا، وتخبر الفتاة الصغرى أختها الكبرى أنها لديها مُخدرا جديدا عليهما أن تجرباه وتلعبا به، فتتفقا على استنشاقه للتغيب، ومن ستستيقظ منهما قبل الأخرى تكون هي الرابحة في تلك اللعبة المُسلية!

نلاحظ أن المُخرج حريص على ألا يكون لأي من شخصيات فيلمه أي اسم- إمعانا في التجهيل والتشييء- كما نعرف بأن الأسرة تعيش في بيت كبير معزول في الريف اليوناني يحتوي على حديقة كبيرة وحمام سباحة ضخم، كما أن هذا البيت مُحاط بسور ضخم وعالٍ؛ ليحجب البيت تماما عن العالم الخارجي، لكن المُلاحظة الأهم التي لا بد من وضعها في الاعتبار هي أن هؤلاء الأبناء الثلاثة الذين قاربوا العشرينيات من عمرهم لم يخرجوا إلى العالم الخارجي مرة واحدة في حياتهم، أي أن العالم بالنسبة لهم هو المحيط الداخلي للبيت وكل ما هو في الخارج بالنسبة لهم مجرد مجهول مخيف لا يمكن لهم التفكير فيه، وإذا ما فكروا فيه يتملكهم الخوف منه، أي أن الأبوين قد نجحا في عزلتهم الكاملة عن العالم الخارجي الذي بات بالنسبة لهم شيئا مروعا لا يحمل سوى الرعب منه.

الأب الثري- أدى دوره الممثل اليوناني Christos Stergioglou كريستوس ستيرجوجلو- هو الوحيد الذي يمتلك إرادة الخروج إلى العالم الخارجي لإدارة مصنعه في الخارج، بينما الأم- أدت دورها المُمثلة السويسرية Michele Valley ميشيل فالي- مُنصاعة تماما لرغبات الزوج في طريقة تربية الأبناء، وتلتزم المنزل بالكامل مع الأبناء لمُلاحظتهم ومُراقبتهم والإشراف على طريقة التربية التي اتفق عليها الزوجان.


يحرص الأب على عزل أسرته عزلا كاملا عن العالم الخارجي؛ لذلك نلاحظ أنه حينما يقوم بشراء مُستلزمات البيت يحرص على إزالة أي مُلصقات إعلانية، أو أي علامات تجارية من على المُشتريات قبل دخولها إلى البيت!

يوهم الأبوان أبنائهم بوجود أخ لهم قد تجرأ على الخروج خارج حدود البيت؛ لذلك فهو يعيش دائما في خطر، وهو الأمر الذي يجعل الأبناء يصدقون ذلك؛ لذلك نرى الابن يقف أمام السياج المُحيط بالبيت ليقذف أخاه المزعوم على الجانب الآخر بالحجارة، ونرى كذلك الابنة الكبرى تسرق بعض الطعام من المطبخ لتلقيه لأخيها المزعوم خارج السياج.

تأتي مقدرة الأبوين على السيطرة على أبنائهما من خلال تعليمهما الخاطئ لهم وتشويه وعيهم، هذا التشوه الشديد في الوعي يتمثل في أن الأب يؤكد لهم بأن الواحد منهم لا يمكن له الخروج إلى العالم الخارجي إلا من خلال شروط قاسية ليظل الواحد منهم في أمان من الخطر؛ فيسألهم الأب ليختبرهم فيما سبق أن لقنهم إياه: متى يكون الطفل مُستعدا لمُغادرة المنزل؟ فترد عليه الكبرى: عندما يقع الناب الأيمن، أو الأيسر، لا يهم، فيقول الأب مؤكدا: في هذا الوقت يكون الجسد مُستعدا لمواجهة كل المخاطر، ولكن، لكي يغادر المرء المنزل بأمان يجب أن يستخدم السيارة- أي لا يمكن له المغادرة أو الخروج من المنزل على قدميه، وهو ما يؤكده الأب بشكل عملي حينما تتعارك إحدى الفتاتين مع أخيها وتأخذ منه طائرته التي يلعب بها وتلقيها في الخارج أمام البوابة؛ فينتظر الابن أباه لحين عودته من الخارج ويطلب منه أن يأتي بطائرته؛ فنرى الأب يعود بسيارته للخلف خارجا مرة أخرى ويفتح باب السيارة ليمد يده ويلتقطها حريصا على ألا يهبط منها.


لكن الأب يضع المزيد من القيود التي تؤكد لهم استحالة الخروج من المنزل حتى لو سقط الناب الأيمن أو الأيسر. صحيح أن سقوط أحد النابين هو المؤشر الصريح للخروج- كما يدعي الأب- لكن الخروج لا يمكن أن يكون على القدمين، بل من خلال السيارة فقط؛ لذلك يضع لهم المزيد من العراقيل التي تجعل من الأمر مستحيلا بقوله: متى يستطيع المرء تعلم قيادة السيارة؟ فيرد الابن: عندما ينمو الناب الأيمن مُجددا، أو الأيسر، لا يهم! أي أن الخروج بات مستحيلا ولا يمكن أن يفعله أي منهم في يوم ما!

إن الأفكار المشوهة التي يبثها الأبوان في عقول أبنائهم فضلا عن أنها تشوه علاقتهم بالعالم بالكامل، فهي تعمل على تجميدهم سيكولوجيا في مرحلة الطفولة التي لم ينجحوا في تخطيها مُطلقا؛ لذلك نرى الابن حينما يحاول النوم ويشعر بالخوف، ورغم أنه في العشرين من عمره، يهرع إلى حجرة أبويه لينام بينهما مُحتضنا أباه، محاولا تلمس الأمان منه كطفل صغير يندس بين الأبوين في الفراش! كذلك يوهمهم الأبوان بأن الطائرات التي تمر فوقهم في السماء من الممكن لها أن تسقط، وحينما تسقط داخل حديقة المنزل؛ فمن حق أي منهم التنافس عليها وامتلاكها ليلعب بها؛ لذلك حينما تمر إحدى الطائرات فوقهم ويتابعونها ببصرهم تلقي الأم بطائرة لعبة في الحديقة ليخبرهم الأب بأن الطائرة قد سقطت ويشير إلى الطائرة اللعبة؛ فيسرع ثلاثتهم إليها ليتعاركوا على امتلاكها، كذلك نرى في مشهد آخر إحدى الطائرات المارة فوقهم؛ فتقول الأخت الصغرى: أتمنى أن تقع، لترد عليها الكبرى: إذا وقعت ستكون ملكي، فتصفعها الأم بقسوة قائلة: إذا وقعت ستكون ملكا لمن يستحقها، أي ستكون ملكا لمن سيكون الأسرع في الاستيلاء عليها قبل أخويه!


يحرص المخرج اليوناني يورجوس لانثيموس على الإمعان في التشويه وتأمل ما يفعله الأبوين/ السلطة المُطلقة مع أبنائهما؛ لذلك نلاحظ الأبوان يؤكدان لأبنائهما بأن القطط مجرد مخلوقات متوحشة تفترس البشر، وأي إنسان يخرج من المنزل لا بد أن تلتهمه هذه المخلوقات؛ لذلك يدربهم دائما على مواجهتها بالتعامل معهم باعتبارهم كلاب ويجعلهم يقعون على أيديهم وأرجلهم، ويحرضهم على النباح بشراسة مع أمهم، وتدريبهم على أن يكونوا كلابا شرسة، ولعل المشهد الذي نرى فيه الأب يقف أمامهم كمُدرب لتشريس الكلاب، بينما الأم والأبناء الثلاثة على أيديهم وأرجلهم يقومون بالنباح كان من أكثر المشاهد المُعبرة عن الانفلات السيكولوجي لدى هذه الأسرة؛ فهو يتعامل معهم معاملة الحيوانات؛ الأمر الذي يجعل إمكانية لعق أحدهم للآخر من الأمور الطبيعية في حياتهم، فنرى أحدهم يقوم بلعق يد الآخر، أو كتفه، أو أذنه باعتبارها من الأمور الطبيعية، بل نرى الأب في أحد المشاهد يقول للأم: لقد كان يوما عصيبا مررت به؛ فنراها تجلس على ساقيه لتبدأ في لعق أذنه، باعتبار أن هذا الفعل من الأمور التي تؤكد تعاطفها معه، وتساعده على الشعور بالهدوء والاسترخاء!

إن هذه المعلومات المغلوطة تجعل الابن حينما يشاهد قطة في حديقة المنزل يسرع إلى مقص النباتات لينقض على القطة مُمزقا إياها بالمقص، باعتبار أن القطط مخلوقات مُفترسة من المُمكن لها أن تقتله؛ لذلك تهاتف الأم زوجها، وتخبره بالأمر مُتفقة معه على الإيغال في التخويف من القطط، وهو الأمر الذي يجعل الأبناء أكثر خشية من الخروج خارج حدود المنزل؛ فنرى الأب في طريق عودته يقوم بتمزيق ملابسه، وتلطيخ قميصه باللون الأحمر القاني باعتباره دما، وحينما يعود إلى المنزل يقول لأبنائه: أخوكم توفى، مخلوق مثل الذي كان بالحديقة مزقه، من ناحية لقد ارتكب خطأ فادحا عندما غامر بالخروج من دون استعداد جيد، ومن الناحية الأخرى فهو ابني وأشعر بالكثير من الأسى عليه. الحيوان الذي يهددنا يسمى قطة، أخطر الحيوانات الموجودة، تأكل اللحم، وخصوصا لحم الأطفال، بعد أن تمزق ضحيتها بمخالبها تفترسها بأسنانها الحادة، وجه الضحية وجسدها كله، إذا ظللتم بالداخل فأنتم في حمى منها، يجب أن نكون مُستعدين في حالة ما غزت المنزل والحديقة! أي أن الأب يمعن في التشويه وإعطاء المعلومات المغلوطة التي يتلقاها الأبناء الثلاثة باعتبارها حقيقة مُطلقة لا يمكن لهم التشكيك فيها لحظة واحدة.


يحرص الأب على تلبية احتياجات ابنه الجنسية من خلال موظفة أمن مصنعه كريستينا- قامت بدورها الممثلة اليونانية Anna Kalaitzidou أنا كالاتزد- وهي الموظفة التي يصطحبها معه الأب إلى المنزل معصوبة العينين من أجل مُمارسة الجنس مع ابنه وإشباع احتياجاته، وبعد انتهائها من مهمتها يصطحبها معصوبة مرة أخرى إلى منزلها ليعطيها مكافأتها المالية على عملها الذي تؤديه مع الابن، لكن كريستينا تطلب ذات مرة من الابن أن يلعق ما بين فخذيها إلا أنه يرفض فعل ذلك مُفضلا مُمارسة الجنس معها؛ الأمر الذي يجعل كريستينا حينما تنتهي من فعلها مع الابن تخرج إلى الابنة الكبرى لتنفرد بها في غياب الجميع، وتعمل على إغرائها بعصابة شعرها التي تحتوي على أحجار الفوسفور التي تضيء في الظلام قائلة لها: أتريدين عصابة الشعر خاصتي؟ فترد عليها الابنة الكبرى بطفولية: أريدها بشدة، فتساومها كريستينا: ماذا ستعطيني مقابلها؟ فتقول الفتاة: أتريدين هذا القلم الرصاص؟ به ممحاة في نهايته، فترد كريستينا: لا، ثم تخلع سروالها طالبة منها أن تلعق ما بين فخذيها، ولأن الأبناء معتادون على أن اللعق مجرد فعل طبيعي فيما بينهم؛ فلا فرق بين لعق الأذنين، أو اليدين، أو بين الفخذين؛ لذلك تقوم بلعقها!


لكن، حينما ترغب كريستينا في تكرار الأمر مع الفتاة مرة أخرى تطلب منها الابنة الكبرى أن تعطيها مقابل لعقها شريطي فيديو كانا في حقيبة كريستينا، وحينما ترفض كريستينا الأمر تهددها الفتاة قائلة: سأخبر أبواي أنك أعطيتيني عصابة الشعر، وطلبت مني أن ألعقك بالأسفل عند لوحة مفاتيحك، وكل ذلك قد حدث، أتعلمين ماذا سيفعل أبي إذا ما علم أني لعقت لوحة مفاتيحك؟

أنلاحظ هنا مدى التشوه في المعلومات والمُسميات التي يحرص الوالدان على حشرها في رؤوس أولادهم؟ إن هذا التشوه نراه كذلك حينما تخبر كريستينا الابن الأكبر بأنها قد رأته في حلمها، وأنه كان شبيها بالزومبي؛ الأمر الذي يجعل الابن يسأل أمه: أمي، ما هو الزومبي؟ فتسأله: أين سمعت تلك الكلمة؟ ليقول: لا أتذكر، أبي قالها على الأرجح، فتقول: الزومبي هو وردة صفراء صغيرة، أي أنها تضيف إلى قاموس مُفرداتهم المغلوطة مُفردة جديدة يصدقها الابن؛ لذلك حينما يرى وردتين صفراوتين في الحديقة نراه يهتف بسعادة مناديا أمه بطفولية ليقول لها: أمي، هناك اثنين من الزومبي هنا في الحديقة، هل آتي بهما! تشعر كريستينا بالخوف من إخبار الابنة لأبيها بما حدث؛ فتسمح لها بالحصول على شريطي الفيديو بشرط إعادتهم لها في الأسبوع المُقبل؛ الأمر الذي يجعل الفتاة تلعقها بين فخذيها.


تحاول الابنة الكبرى مُشاهدة الأفلام التي أخذتها من كريستينا خفية بعد نوم الجميع، فترى أفلاما عن آكلي لحوم البشر؛ الأمر الذي يجعلها مُندهشة من هذا العالم الجديد الذي لم تكن تعرف عنه أي شيء من قبل، ولم تره فيما سبق؛ فالأسرة لا تشاهد أي شيء في التلفاز سوى أفلام الفيديو المنزلي التي يقوم الأب بتصويرها لهم، ثم إعادة مشاهدتها غير مرة مع الأسرة باعتبار أن هذه الفيديوهات هي الوسيلة الوحيدة للترفيه، وبالتالي فإن مُشاهدة الابنة الكبرى لهذه الأفلام نقلها إلى عالم جديد؛ الأمر الذي جعلها تتقمص هذه الأفلام وتحاول تقليدها في حياتها اليومية وكأنها قد باتت داخل ما شاهدته، أي أن معرفة الابنة بهذا العالم الجديد عليها جعلها تبدأ في استكشاف حياتها ونفسها من خلال منظور لم تألفه من قبل، فترغب في تغيير اسمها، وتتعامل في حياتها وكأنها شخصية في الأفلام التي رأتها، وتتسلل إلى حجرة أمها خفية لاستكشاف الهاتف الذي تخفيه الأم عنهم جميعا ولا يُسمح لأحد بالحديث فيه سواها هي والزوج، بل وتخبر أختها الصغرى بأن نابها يهتز في إيحاء من المُخرج بأن الفتاة حينما استكشفت عالما جديدا لم تكن تعرفه بدأت بذور التمرد والرغبة في معرفة المجهول والاستقلال عن عالمها القديم تنمو مما يؤشر بالخطر الذي يدق أجراسه أمام الوالدين الحريصين على عزلهم جميعا عن أي مؤثرات خارجية.

تحاول الابنة الكبرى أن تقلد الأفلام التي شاهدتها مع إخوتها، وتدعي أنها من أكلة لحوم البشر؛ الأمر الذي يجعل الأب يعلم بأمر الأفلام؛ فيطلب منها أن تحضرها له، ويضع إحدى الشرائط على كفه ليطلب من الابنة أن تأتي له بشريط لاصق عريض، ويقوم بلف الشريط على كفه والشريط معا؛ مما يجعل الشريط المُلتصق بكفه أشبه بالمطرقة، ثم يقوم بضرب الابنة الكبرى على رأسها بالشريط حتى يتحطم تماما، ولا يلبث أن يتوجه إلى بيت كريستينا، ويتناول جهاز الفيديو ليضربها به على رأسها بقوة قاسية قائلا لها بغضب: أتمنى أن يتلقى أولادك المؤثرات الخاطئة ليصبحوا طالحين، أتمنى ذلك من كل قلبي، ليكون هذا عقابا على ما ارتكبتيه في حق عائلتي! أي أن الرجل لديه يقين موغل داخل نفسه بأن ما يفعله مع أولاده هو الأصلح لهم رغم تشويهه الكامل لوعيهم وحياتهم.


إن إيغال المُخرج اليوناني يورجوس لانثيموس داخل النفس البشرية وبيان مدى مرضها وجموحها الغريب يتمثل في أن الأب حينما عاد إلى المنزل بعد ضرب كريستينا يخبر الأم بأنه لا يجب أن يدخل المنزل أي شخص غريب مرة أخرى، أما بالنسبة لاحتياجات ابنهم الجنسية فهو يرى أن الابنة الكبرى من المُمكن لها أن تقوم بهذا الدور بدلا من كريستينا، أو أن الابن عليه أن يختار بين شقيقتيه! وهو ما يتم بالفعل حيث يتم وضع عصابة على عيني الابن، ودخول اختيه عليه عاريتين ليقوم بتحسس كل منهما ويقع اختياره على أخته الكبرى التي تجهزها له الأم وتدخلها له غرفته ليقوم بمُضاجعتها بدلا من كريستينا!

كذلك نرى هذه الغرابة النفسية في رغبة الأبوين في المزيد من السيطرة والطاعة المُطلقة لهما حينما يقول الأب لأبنائه: قريبا ستلد والدتكم طفلين وكلب، أعلم أن أحدكم سيضطر إلى مُشاركة حجرته قريبا، وملابسه، وربما ألعابه أيضا، لكن انظروا إلى الجانب المُشرق، ستحصلون على فردين جديدين ليعتنيا بكم، والعائلة ستكبر، ولا بد أن نطري على والدتكم لهذه الهدية الكبيرة. لكن الفتاتين تبديان اعتراضهما على مُشاركة أحد لهما؛ فتقول الأم: إذا تحسن سلوككما وأداؤكما ربما لا أضطر إلى الولادة، ولكن إذا لم يتغير شيء؛ فلن يكون لدي خيار آخر، لكن لا أريد سماع شيء عن الكلب، سيولد بأقرب ما يمكن، أي أن الأبوين يبذلان قصارى جهدهما في تأليف القصص الخيالية التي لا يمكن لإنسان أن يستوعبها من أجل المزيد من السيطرة على الأبناء المشوه خيالهم تماما.


ألا نلاحظ هنا أن هذه الأسرة المكونة من الزوجين والأبناء الثلاثة هي المُعادل الموضوعي الذي يتطابق كليا مع السلطة، والدولة الاستبدادية التي تحرص على عزل مواطنيها بالكامل عن أي مؤثرات أو معرفة خارجية؛ الأمر الذي يجعلهم يكتسبون المعلومات والمعرفة المشوهة والخاطئة تبعا لما تريده الدولة المُستبدة من مواطنيها؛ وبالتالي يتنازلون عن أي حق لهم في الحياة تبعا للمُعطيات التي تعطيها لهم الدولة نفسها؟ إن الدول الاستبدادية حريصة دائما على بث المعلومات الخاطئة باعتبارها حقائق مُطلقة، وهي في نفس الوقت تعمل على إخفاء الكثير من الحقائق والأمور التي من شأنها أن تجعل المواطنين يلجأون للمُطالبة بحقوقهم؛ وبالتالي فإن العمل على طمس الكثير من الحقائق يكون في صالح الدولة، أو أداة من أجل المزيد من السيطرة، وهو ما نراه على أرض الواقع لدى العديد من الدول التي تحرص على تشويه الوعي والسيطرة على الوسائل الإعلامية من أجل عملية غسيل المخ للجميع.

لا يمكن إنكار أن الفيلم اليوناني ناب الكلب- في تفسيره الأعمق- يتناول علاقة الاستبداد، المُمثل في الدولة ونظامها السياسي، وتشويه الوعي من أجل المزيد من الرضوخ والسيطرة لدى المواطنين، ولعل المُخرج قد أشار إلى ذلك في المشهد المُهم الذي نرى فيه الأب يتجه إلى أحد مراكز تدريب الكلاب من أجل استلام كلبه لديهم، لكن المُدرب يرفض تسليمه كلبه؛ لأنه ما زال في المرحلة الثانية من خمس مراحل قائلا له: دعني أشرح لك، الكلب مثل العشب، وظيفتنا هنا أن نشكله، يمكن أن يكون الكلب حيويا، عدوانيا، مُقاتلا، جبانا، حنونا، وهذا يتطلب منا عملا وصبرا واهتماما، كل كلب، وكلبك ينتظر منا أن نعلمه كيف يتصرف، أتفهم؟ نحن هنا كي نحدد أي سلوك يجب أن يتحلى به الكلب، أتريده أليفا، أم صاحبا، أم رفيقا، أم تريد حارسا يحترم سيده ويطيع أوامره. ألا نلاحظ من خلال هذا الحديث في هذا المشهد المُهم أنه له علاقة وثيقة وجوهرية بصلب مفهوم الفيلم الذي يرغب المخرج في الحديث عنه؟ بل له علاقة بالمفهوم الذي ذهبنا إليه أيضا، وهو ما يؤكد بأن الأسرة هنا هي مجرد نموذج مُصغر تماما للدولة وسلطتها المُطلقة في مُقابل المواطن؟ إنه نفس الأسلوب الذي يتبعه الأبوان مع أولادهم، والعمل على تشريسهم وتدريبهم، والسيطرة عليهم وجعلهم يطيعونهم طاعة عمياء، وإعطائهم ما يرغبونه من المعلومات المغلوطة، ومنع المعلومات الأخرى المُهمة عنهم. إن ما يفعله المُدرب مع الكلاب من جهة يتطابق مع ما يفعله الأبوان مع أولادهم من جهة أخرى، ويتطابق تماما في النهاية مع ما تفعله السلطة مع مواطنيها من جهة أخيرة، وبالتالي يصبح المواطن مُدجنا خاضعا تماما لا فرق في ذلك بينه وبين الكلاب التي يتحدث عنها المُدرب، وبما أن الفيلم السينمائي في مفهومه الفني لا يمكن له احتمال الثرثرة أو التزيد، بمعنى أنه لا يمكن للمخرج أن يقوم بصناعة مشهد من المشاهد من دون أن يكون له أي دلالة أو إفادة داخل السياق الفيلمي، وبما أن المشاهد السينمائية داخل الفيلم السينمائي تترتب على بعضها البعض في إكمال المعنى والمضمون الذي يتحدث عنه المخرج؛ فهذا المشهد من المشاهد المُهمة التي يرغب من خلالها المُخرج التأكيد على المفهوم الحقيقي الذي يريد إيصاله للمُشاهد، وهو أن السلطة المُطلقة لا يعنيها في النهاية سوى العمل على تشويه الوعي والسيطرة الكاملة على المواطن من أجل الطاعة المُطلقة التي لا يمكن النقاش معها في أي حقوق أو واجبات.

المُخرج اليوناني يورجوس لانثيموس

لكن، لا يفوت المُخرج هنا التأكيد على أن مجرد الاطلاع على أي حقيقة- مهما كانت صغيرة- مُخالفة لما تبثه السلطة داخل عقولنا لا بد لها أن تُضئ داخلنا وتجعلنا نبدأ في إعادة التفكير تجاه الحقائق الجديدة التي لا بد لها أن تعمل على تحريرنا؛ لذلك حينما شاهدت الابنة الكبرى أفلام الفيديو التي حصلت عليها من كريستينا بدأت حياتها تتغير، وتملكتها رغبة حقيقية في الخروج من المنزل إلى العالم الخارجي الذي كان مجرد عالم مجهول ومُخيف بالنسبة لها، أي أن الرغبة في المُغامرة والاستكشاف قد نبتت داخلها لتبدأ في إشعارها بالقلق الدائم، وهو ما رأيناه في النهاية حينما قامت الابنة الكبرى بتحطيم نابها بقسوة مستخدمة في ذلك الدامبلز؛ الأمر الذي يمنحها الحق في الخروج إلى العالم، ولكن لأنها- تبعا لما تعلمته- لا يمكن لها الخروج على قدميها، بل من خلال السيارة، تتسلل إلى سيارة أبيها وتختفي في صندوقها الخلفي، وحينما يستيقظ الجميع يبدأون في البحث عنها داخل البيت والحديقة، وينبحون عليها، وحينما يشعرون باليأس من العثور عليها يستقل الأب سيارته للتوجه إلى العمل لينهي المُخرج فيلمه على لقطة عامة Full Shot لباب المصنع الذي تتوقف أمامه سيارة الأب ليهبط منها داخلا إياه، ثم ينتقل المُخرج إلى لقطة قريبة على مؤخرة السيارة التي تختفي فيها الابنة الكبرى لكنها لا تخرج منها، في إشارة إلى أنها فاقدة تماما للقدرة على اتخاذ القرار والخروج إلى الحياة الخارجية بسبب ما تعلمته في حياتها.

إن الفيلم اليوناني ناب الكلب للمُخرج يورجوس لانثيموس من الأفلام المُهمة التي تتناول العلاقة بين الحاكم المُستبد، والمحكوم الخاضع تماما نتيجة العمل الدائم على تشويه وعيه؛ الأمر الذي يجعل المواطن في نهاية الأمر عاجزا عن اتخاذ أي قرار يخصه للمُغامرة في التعرف على العالم الخارجي، أو الثورة، ورفض العالم الذي هيأته له هذه السلطة، كما لا يفوتنا الإتقان الذي عبر من خلاله المُخرج عن هذا المعنى من خلال التصوير الذي يتميز بفنية عالية حينما حرص المُخرج بالتعاون مع المصور Thimios Bakatakis تيميوس باكاتاكيس على إظهار المُمثلين في أغلب المشاهد من دون رؤوسهم أو أطرافهم السفلية؛ الأمر الذي يُدلل على أنهم مجرد أشياء لا قيمة لهم، أو مجرد تروس لا بد لها أن تدور في آلة السلطة المُطلقة التي تقرر كل شيء، وتفعل كل شيء بالنيابة عنهم.

 

 

محمود الغيطاني

مجلة "نقد 21".

عدد نوفمبر 2023م.