الخميس، 16 نوفمبر 2023

ناب الكلب: الأسرة كمُعادل موضوعي للدولة الاستبدادية

في فيلم يتأمل في مفهوم السلطة المُطلقة وأثرها في تشويه الوعي الذي يحول الآخرين إلى مُجرد أدوات لا حياة فيهم ولا معنى لهم يحاول المُخرج اليوناني Yorgos Lanthimos يورجوس لانثيموس توضيح أثر هذه السلطة التي لا يمكن مُعارضتها، ولا بد من الانصياع الكامل لها من خلال أسرة مكونة من أب وأم وفتى في العشرين من عمره وفتاتين في نهايات مرحلة المراهقة.

ثمة رغبة عارمة في الفيلم اليوناني dogtooth ناب الكلب لمُناقشة السلطة المُطلقة، السلطة التي لا يمكن مقاومتها بأي حال من الأحوال، بل هي الوحيدة التي تمتلك إمكانية تشكيل الخيال، والمفاهيم، والتعاطي مع العالم من خلال المعلومات والمعاني التي يتم بثها من خلالها حتى لو كانت هذه المفاهيم بعيدة تماما عن الحقيقة، وتعمل على تشويه الوعي الحقيقي.

هذا التشوه في المفاهيم الذي يتم بثه عمدا نلاحظه في بداية الفيلم الذي يفتتحه مخرجه على مشهد الابن- قام بدوره الممثل اليوناني Christos Passalis كريستوس باساليس- وأختيه القريبتين منه في العمر- المُمثلة اليونانية Angeliki Popoulia أنجيليكي بابوليا- الابنة الكبرى، والمُمثلة اليونانية Mary Tsoni ماري تسوني، الابنة الصغرى. في هذا المشهد الافتتاحي، الذي يحرص من خلاله المُخرج على تعريفنا بالعالم الفيلمي الذي يقدمه، نعرف أن الأبناء يتلقون معرفتهم بالكامل من خلال الأبوين اللذين يحرصان على تسجيل المُفردات ومعناها لهم على المُسجل؛ ليحفظاها ويعرفان معاني الأشياء؛ فنسمع من خلال المُسجل الذي ينصت إليه الأبناء: كلمات اليوم الجديدة هي: "بحر، طريق سريع، نزهة برية، وبندقية"، ثم يبدأ الصوت في شرح هذه المُفردات؛ فنعرف أن البحر هو الكرسي الجلدي ذو الأذرع الخشبية مثل الموجود في غرفة المعيشة، ولا يلبث الصوت المُسجل أن يعطي مثالا شارحا على تعريفه فيقول: مثال: لا تظل واقفا، اجلس على البحر لنتحدث! ويستمر في التعريف قائلا: الطريق السريع هي الرياح العاتية، والنزهة البرية هي مادة شديدة المتانة تُستخدم في صناعة الأرضيات، مثال: وقعت الثريا على الأرض وتحطمت، ولكن الأرض لم تنكسر لأنها مُصنعة من النزهة البرية بالكامل! ثم يستمر في التعريفات: البندقية هي طائر أبيض جميل!

إن هذه التعريفات التي يحرص الأبوان على بثها في عقول أبنائهم تؤدي بالضرورة إلى تشويه الوعي والتعامل مع الواقع المُحيط بهم من خلال مفاهيم مغلوطة، لا سيما أنهم لا يتلقون المعرفة عن العالم المُحيط بهم إلا من خلال الأبوين فقط، وبالتالي فإن تشكل الوعي سيكون من خلالهما في الحين الذي يحرص فيه الأب والأم على تقديم المعلومات غير الحقيقية لهم باعتبارها الحقيقة، فالمشهد الافتتاحي يُدلل مُؤكدا على الرغبة في التضليل المعرفي تبعا لرغبة الأبوين، والحرص على تشويه هذه المعرفة؛ وهو الأمر الذي يجعلنا نلاحظ أن سلوك الأبناء الثلاثة- رغم أنهم في مُقتبل العشرينيات- لا يمكن له أن يختلف عن سلوك الأطفال؛ لذلك نرى الابنة الصغرى بمجرد انتهاء استماعهم لهذا الدرس المُسجل تقترح على أخويها أن يلعبوا لعبة الاحتمال والتي تعني بها أن يضع كل منهم إصبعه تحت صنبور المياه الساخنة، وآخر واحد منهم سيسحب إصبعه سيكون هو الفائز!


هذا السلوك الطفولي نلاحظه في مشهد آخر حينما نرى الفتاتين معا، وتخبر الفتاة الصغرى أختها الكبرى أنها لديها مُخدرا جديدا عليهما أن تجرباه وتلعبا به، فتتفقا على استنشاقه للتغيب، ومن ستستيقظ منهما قبل الأخرى تكون هي الرابحة في تلك اللعبة المُسلية!

نلاحظ أن المُخرج حريص على ألا يكون لأي من شخصيات فيلمه أي اسم- إمعانا في التجهيل والتشييء- كما نعرف بأن الأسرة تعيش في بيت كبير معزول في الريف اليوناني يحتوي على حديقة كبيرة وحمام سباحة ضخم، كما أن هذا البيت مُحاط بسور ضخم وعالٍ؛ ليحجب البيت تماما عن العالم الخارجي، لكن المُلاحظة الأهم التي لا بد من وضعها في الاعتبار هي أن هؤلاء الأبناء الثلاثة الذين قاربوا العشرينيات من عمرهم لم يخرجوا إلى العالم الخارجي مرة واحدة في حياتهم، أي أن العالم بالنسبة لهم هو المحيط الداخلي للبيت وكل ما هو في الخارج بالنسبة لهم مجرد مجهول مخيف لا يمكن لهم التفكير فيه، وإذا ما فكروا فيه يتملكهم الخوف منه، أي أن الأبوين قد نجحا في عزلتهم الكاملة عن العالم الخارجي الذي بات بالنسبة لهم شيئا مروعا لا يحمل سوى الرعب منه.

الأب الثري- أدى دوره الممثل اليوناني Christos Stergioglou كريستوس ستيرجوجلو- هو الوحيد الذي يمتلك إرادة الخروج إلى العالم الخارجي لإدارة مصنعه في الخارج، بينما الأم- أدت دورها المُمثلة السويسرية Michele Valley ميشيل فالي- مُنصاعة تماما لرغبات الزوج في طريقة تربية الأبناء، وتلتزم المنزل بالكامل مع الأبناء لمُلاحظتهم ومُراقبتهم والإشراف على طريقة التربية التي اتفق عليها الزوجان.


يحرص الأب على عزل أسرته عزلا كاملا عن العالم الخارجي؛ لذلك نلاحظ أنه حينما يقوم بشراء مُستلزمات البيت يحرص على إزالة أي مُلصقات إعلانية، أو أي علامات تجارية من على المُشتريات قبل دخولها إلى البيت!

يوهم الأبوان أبنائهم بوجود أخ لهم قد تجرأ على الخروج خارج حدود البيت؛ لذلك فهو يعيش دائما في خطر، وهو الأمر الذي يجعل الأبناء يصدقون ذلك؛ لذلك نرى الابن يقف أمام السياج المُحيط بالبيت ليقذف أخاه المزعوم على الجانب الآخر بالحجارة، ونرى كذلك الابنة الكبرى تسرق بعض الطعام من المطبخ لتلقيه لأخيها المزعوم خارج السياج.

تأتي مقدرة الأبوين على السيطرة على أبنائهما من خلال تعليمهما الخاطئ لهم وتشويه وعيهم، هذا التشوه الشديد في الوعي يتمثل في أن الأب يؤكد لهم بأن الواحد منهم لا يمكن له الخروج إلى العالم الخارجي إلا من خلال شروط قاسية ليظل الواحد منهم في أمان من الخطر؛ فيسألهم الأب ليختبرهم فيما سبق أن لقنهم إياه: متى يكون الطفل مُستعدا لمُغادرة المنزل؟ فترد عليه الكبرى: عندما يقع الناب الأيمن، أو الأيسر، لا يهم، فيقول الأب مؤكدا: في هذا الوقت يكون الجسد مُستعدا لمواجهة كل المخاطر، ولكن، لكي يغادر المرء المنزل بأمان يجب أن يستخدم السيارة- أي لا يمكن له المغادرة أو الخروج من المنزل على قدميه، وهو ما يؤكده الأب بشكل عملي حينما تتعارك إحدى الفتاتين مع أخيها وتأخذ منه طائرته التي يلعب بها وتلقيها في الخارج أمام البوابة؛ فينتظر الابن أباه لحين عودته من الخارج ويطلب منه أن يأتي بطائرته؛ فنرى الأب يعود بسيارته للخلف خارجا مرة أخرى ويفتح باب السيارة ليمد يده ويلتقطها حريصا على ألا يهبط منها.


لكن الأب يضع المزيد من القيود التي تؤكد لهم استحالة الخروج من المنزل حتى لو سقط الناب الأيمن أو الأيسر. صحيح أن سقوط أحد النابين هو المؤشر الصريح للخروج- كما يدعي الأب- لكن الخروج لا يمكن أن يكون على القدمين، بل من خلال السيارة فقط؛ لذلك يضع لهم المزيد من العراقيل التي تجعل من الأمر مستحيلا بقوله: متى يستطيع المرء تعلم قيادة السيارة؟ فيرد الابن: عندما ينمو الناب الأيمن مُجددا، أو الأيسر، لا يهم! أي أن الخروج بات مستحيلا ولا يمكن أن يفعله أي منهم في يوم ما!

إن الأفكار المشوهة التي يبثها الأبوان في عقول أبنائهم فضلا عن أنها تشوه علاقتهم بالعالم بالكامل، فهي تعمل على تجميدهم سيكولوجيا في مرحلة الطفولة التي لم ينجحوا في تخطيها مُطلقا؛ لذلك نرى الابن حينما يحاول النوم ويشعر بالخوف، ورغم أنه في العشرين من عمره، يهرع إلى حجرة أبويه لينام بينهما مُحتضنا أباه، محاولا تلمس الأمان منه كطفل صغير يندس بين الأبوين في الفراش! كذلك يوهمهم الأبوان بأن الطائرات التي تمر فوقهم في السماء من الممكن لها أن تسقط، وحينما تسقط داخل حديقة المنزل؛ فمن حق أي منهم التنافس عليها وامتلاكها ليلعب بها؛ لذلك حينما تمر إحدى الطائرات فوقهم ويتابعونها ببصرهم تلقي الأم بطائرة لعبة في الحديقة ليخبرهم الأب بأن الطائرة قد سقطت ويشير إلى الطائرة اللعبة؛ فيسرع ثلاثتهم إليها ليتعاركوا على امتلاكها، كذلك نرى في مشهد آخر إحدى الطائرات المارة فوقهم؛ فتقول الأخت الصغرى: أتمنى أن تقع، لترد عليها الكبرى: إذا وقعت ستكون ملكي، فتصفعها الأم بقسوة قائلة: إذا وقعت ستكون ملكا لمن يستحقها، أي ستكون ملكا لمن سيكون الأسرع في الاستيلاء عليها قبل أخويه!


يحرص المخرج اليوناني يورجوس لانثيموس على الإمعان في التشويه وتأمل ما يفعله الأبوين/ السلطة المُطلقة مع أبنائهما؛ لذلك نلاحظ الأبوان يؤكدان لأبنائهما بأن القطط مجرد مخلوقات متوحشة تفترس البشر، وأي إنسان يخرج من المنزل لا بد أن تلتهمه هذه المخلوقات؛ لذلك يدربهم دائما على مواجهتها بالتعامل معهم باعتبارهم كلاب ويجعلهم يقعون على أيديهم وأرجلهم، ويحرضهم على النباح بشراسة مع أمهم، وتدريبهم على أن يكونوا كلابا شرسة، ولعل المشهد الذي نرى فيه الأب يقف أمامهم كمُدرب لتشريس الكلاب، بينما الأم والأبناء الثلاثة على أيديهم وأرجلهم يقومون بالنباح كان من أكثر المشاهد المُعبرة عن الانفلات السيكولوجي لدى هذه الأسرة؛ فهو يتعامل معهم معاملة الحيوانات؛ الأمر الذي يجعل إمكانية لعق أحدهم للآخر من الأمور الطبيعية في حياتهم، فنرى أحدهم يقوم بلعق يد الآخر، أو كتفه، أو أذنه باعتبارها من الأمور الطبيعية، بل نرى الأب في أحد المشاهد يقول للأم: لقد كان يوما عصيبا مررت به؛ فنراها تجلس على ساقيه لتبدأ في لعق أذنه، باعتبار أن هذا الفعل من الأمور التي تؤكد تعاطفها معه، وتساعده على الشعور بالهدوء والاسترخاء!

إن هذه المعلومات المغلوطة تجعل الابن حينما يشاهد قطة في حديقة المنزل يسرع إلى مقص النباتات لينقض على القطة مُمزقا إياها بالمقص، باعتبار أن القطط مخلوقات مُفترسة من المُمكن لها أن تقتله؛ لذلك تهاتف الأم زوجها، وتخبره بالأمر مُتفقة معه على الإيغال في التخويف من القطط، وهو الأمر الذي يجعل الأبناء أكثر خشية من الخروج خارج حدود المنزل؛ فنرى الأب في طريق عودته يقوم بتمزيق ملابسه، وتلطيخ قميصه باللون الأحمر القاني باعتباره دما، وحينما يعود إلى المنزل يقول لأبنائه: أخوكم توفى، مخلوق مثل الذي كان بالحديقة مزقه، من ناحية لقد ارتكب خطأ فادحا عندما غامر بالخروج من دون استعداد جيد، ومن الناحية الأخرى فهو ابني وأشعر بالكثير من الأسى عليه. الحيوان الذي يهددنا يسمى قطة، أخطر الحيوانات الموجودة، تأكل اللحم، وخصوصا لحم الأطفال، بعد أن تمزق ضحيتها بمخالبها تفترسها بأسنانها الحادة، وجه الضحية وجسدها كله، إذا ظللتم بالداخل فأنتم في حمى منها، يجب أن نكون مُستعدين في حالة ما غزت المنزل والحديقة! أي أن الأب يمعن في التشويه وإعطاء المعلومات المغلوطة التي يتلقاها الأبناء الثلاثة باعتبارها حقيقة مُطلقة لا يمكن لهم التشكيك فيها لحظة واحدة.


يحرص الأب على تلبية احتياجات ابنه الجنسية من خلال موظفة أمن مصنعه كريستينا- قامت بدورها الممثلة اليونانية Anna Kalaitzidou أنا كالاتزد- وهي الموظفة التي يصطحبها معه الأب إلى المنزل معصوبة العينين من أجل مُمارسة الجنس مع ابنه وإشباع احتياجاته، وبعد انتهائها من مهمتها يصطحبها معصوبة مرة أخرى إلى منزلها ليعطيها مكافأتها المالية على عملها الذي تؤديه مع الابن، لكن كريستينا تطلب ذات مرة من الابن أن يلعق ما بين فخذيها إلا أنه يرفض فعل ذلك مُفضلا مُمارسة الجنس معها؛ الأمر الذي يجعل كريستينا حينما تنتهي من فعلها مع الابن تخرج إلى الابنة الكبرى لتنفرد بها في غياب الجميع، وتعمل على إغرائها بعصابة شعرها التي تحتوي على أحجار الفوسفور التي تضيء في الظلام قائلة لها: أتريدين عصابة الشعر خاصتي؟ فترد عليها الابنة الكبرى بطفولية: أريدها بشدة، فتساومها كريستينا: ماذا ستعطيني مقابلها؟ فتقول الفتاة: أتريدين هذا القلم الرصاص؟ به ممحاة في نهايته، فترد كريستينا: لا، ثم تخلع سروالها طالبة منها أن تلعق ما بين فخذيها، ولأن الأبناء معتادون على أن اللعق مجرد فعل طبيعي فيما بينهم؛ فلا فرق بين لعق الأذنين، أو اليدين، أو بين الفخذين؛ لذلك تقوم بلعقها!


لكن، حينما ترغب كريستينا في تكرار الأمر مع الفتاة مرة أخرى تطلب منها الابنة الكبرى أن تعطيها مقابل لعقها شريطي فيديو كانا في حقيبة كريستينا، وحينما ترفض كريستينا الأمر تهددها الفتاة قائلة: سأخبر أبواي أنك أعطيتيني عصابة الشعر، وطلبت مني أن ألعقك بالأسفل عند لوحة مفاتيحك، وكل ذلك قد حدث، أتعلمين ماذا سيفعل أبي إذا ما علم أني لعقت لوحة مفاتيحك؟

أنلاحظ هنا مدى التشوه في المعلومات والمُسميات التي يحرص الوالدان على حشرها في رؤوس أولادهم؟ إن هذا التشوه نراه كذلك حينما تخبر كريستينا الابن الأكبر بأنها قد رأته في حلمها، وأنه كان شبيها بالزومبي؛ الأمر الذي يجعل الابن يسأل أمه: أمي، ما هو الزومبي؟ فتسأله: أين سمعت تلك الكلمة؟ ليقول: لا أتذكر، أبي قالها على الأرجح، فتقول: الزومبي هو وردة صفراء صغيرة، أي أنها تضيف إلى قاموس مُفرداتهم المغلوطة مُفردة جديدة يصدقها الابن؛ لذلك حينما يرى وردتين صفراوتين في الحديقة نراه يهتف بسعادة مناديا أمه بطفولية ليقول لها: أمي، هناك اثنين من الزومبي هنا في الحديقة، هل آتي بهما! تشعر كريستينا بالخوف من إخبار الابنة لأبيها بما حدث؛ فتسمح لها بالحصول على شريطي الفيديو بشرط إعادتهم لها في الأسبوع المُقبل؛ الأمر الذي يجعل الفتاة تلعقها بين فخذيها.


تحاول الابنة الكبرى مُشاهدة الأفلام التي أخذتها من كريستينا خفية بعد نوم الجميع، فترى أفلاما عن آكلي لحوم البشر؛ الأمر الذي يجعلها مُندهشة من هذا العالم الجديد الذي لم تكن تعرف عنه أي شيء من قبل، ولم تره فيما سبق؛ فالأسرة لا تشاهد أي شيء في التلفاز سوى أفلام الفيديو المنزلي التي يقوم الأب بتصويرها لهم، ثم إعادة مشاهدتها غير مرة مع الأسرة باعتبار أن هذه الفيديوهات هي الوسيلة الوحيدة للترفيه، وبالتالي فإن مُشاهدة الابنة الكبرى لهذه الأفلام نقلها إلى عالم جديد؛ الأمر الذي جعلها تتقمص هذه الأفلام وتحاول تقليدها في حياتها اليومية وكأنها قد باتت داخل ما شاهدته، أي أن معرفة الابنة بهذا العالم الجديد عليها جعلها تبدأ في استكشاف حياتها ونفسها من خلال منظور لم تألفه من قبل، فترغب في تغيير اسمها، وتتعامل في حياتها وكأنها شخصية في الأفلام التي رأتها، وتتسلل إلى حجرة أمها خفية لاستكشاف الهاتف الذي تخفيه الأم عنهم جميعا ولا يُسمح لأحد بالحديث فيه سواها هي والزوج، بل وتخبر أختها الصغرى بأن نابها يهتز في إيحاء من المُخرج بأن الفتاة حينما استكشفت عالما جديدا لم تكن تعرفه بدأت بذور التمرد والرغبة في معرفة المجهول والاستقلال عن عالمها القديم تنمو مما يؤشر بالخطر الذي يدق أجراسه أمام الوالدين الحريصين على عزلهم جميعا عن أي مؤثرات خارجية.

تحاول الابنة الكبرى أن تقلد الأفلام التي شاهدتها مع إخوتها، وتدعي أنها من أكلة لحوم البشر؛ الأمر الذي يجعل الأب يعلم بأمر الأفلام؛ فيطلب منها أن تحضرها له، ويضع إحدى الشرائط على كفه ليطلب من الابنة أن تأتي له بشريط لاصق عريض، ويقوم بلف الشريط على كفه والشريط معا؛ مما يجعل الشريط المُلتصق بكفه أشبه بالمطرقة، ثم يقوم بضرب الابنة الكبرى على رأسها بالشريط حتى يتحطم تماما، ولا يلبث أن يتوجه إلى بيت كريستينا، ويتناول جهاز الفيديو ليضربها به على رأسها بقوة قاسية قائلا لها بغضب: أتمنى أن يتلقى أولادك المؤثرات الخاطئة ليصبحوا طالحين، أتمنى ذلك من كل قلبي، ليكون هذا عقابا على ما ارتكبتيه في حق عائلتي! أي أن الرجل لديه يقين موغل داخل نفسه بأن ما يفعله مع أولاده هو الأصلح لهم رغم تشويهه الكامل لوعيهم وحياتهم.


إن إيغال المُخرج اليوناني يورجوس لانثيموس داخل النفس البشرية وبيان مدى مرضها وجموحها الغريب يتمثل في أن الأب حينما عاد إلى المنزل بعد ضرب كريستينا يخبر الأم بأنه لا يجب أن يدخل المنزل أي شخص غريب مرة أخرى، أما بالنسبة لاحتياجات ابنهم الجنسية فهو يرى أن الابنة الكبرى من المُمكن لها أن تقوم بهذا الدور بدلا من كريستينا، أو أن الابن عليه أن يختار بين شقيقتيه! وهو ما يتم بالفعل حيث يتم وضع عصابة على عيني الابن، ودخول اختيه عليه عاريتين ليقوم بتحسس كل منهما ويقع اختياره على أخته الكبرى التي تجهزها له الأم وتدخلها له غرفته ليقوم بمُضاجعتها بدلا من كريستينا!

كذلك نرى هذه الغرابة النفسية في رغبة الأبوين في المزيد من السيطرة والطاعة المُطلقة لهما حينما يقول الأب لأبنائه: قريبا ستلد والدتكم طفلين وكلب، أعلم أن أحدكم سيضطر إلى مُشاركة حجرته قريبا، وملابسه، وربما ألعابه أيضا، لكن انظروا إلى الجانب المُشرق، ستحصلون على فردين جديدين ليعتنيا بكم، والعائلة ستكبر، ولا بد أن نطري على والدتكم لهذه الهدية الكبيرة. لكن الفتاتين تبديان اعتراضهما على مُشاركة أحد لهما؛ فتقول الأم: إذا تحسن سلوككما وأداؤكما ربما لا أضطر إلى الولادة، ولكن إذا لم يتغير شيء؛ فلن يكون لدي خيار آخر، لكن لا أريد سماع شيء عن الكلب، سيولد بأقرب ما يمكن، أي أن الأبوين يبذلان قصارى جهدهما في تأليف القصص الخيالية التي لا يمكن لإنسان أن يستوعبها من أجل المزيد من السيطرة على الأبناء المشوه خيالهم تماما.


ألا نلاحظ هنا أن هذه الأسرة المكونة من الزوجين والأبناء الثلاثة هي المُعادل الموضوعي الذي يتطابق كليا مع السلطة، والدولة الاستبدادية التي تحرص على عزل مواطنيها بالكامل عن أي مؤثرات أو معرفة خارجية؛ الأمر الذي يجعلهم يكتسبون المعلومات والمعرفة المشوهة والخاطئة تبعا لما تريده الدولة المُستبدة من مواطنيها؛ وبالتالي يتنازلون عن أي حق لهم في الحياة تبعا للمُعطيات التي تعطيها لهم الدولة نفسها؟ إن الدول الاستبدادية حريصة دائما على بث المعلومات الخاطئة باعتبارها حقائق مُطلقة، وهي في نفس الوقت تعمل على إخفاء الكثير من الحقائق والأمور التي من شأنها أن تجعل المواطنين يلجأون للمُطالبة بحقوقهم؛ وبالتالي فإن العمل على طمس الكثير من الحقائق يكون في صالح الدولة، أو أداة من أجل المزيد من السيطرة، وهو ما نراه على أرض الواقع لدى العديد من الدول التي تحرص على تشويه الوعي والسيطرة على الوسائل الإعلامية من أجل عملية غسيل المخ للجميع.

لا يمكن إنكار أن الفيلم اليوناني ناب الكلب- في تفسيره الأعمق- يتناول علاقة الاستبداد، المُمثل في الدولة ونظامها السياسي، وتشويه الوعي من أجل المزيد من الرضوخ والسيطرة لدى المواطنين، ولعل المُخرج قد أشار إلى ذلك في المشهد المُهم الذي نرى فيه الأب يتجه إلى أحد مراكز تدريب الكلاب من أجل استلام كلبه لديهم، لكن المُدرب يرفض تسليمه كلبه؛ لأنه ما زال في المرحلة الثانية من خمس مراحل قائلا له: دعني أشرح لك، الكلب مثل العشب، وظيفتنا هنا أن نشكله، يمكن أن يكون الكلب حيويا، عدوانيا، مُقاتلا، جبانا، حنونا، وهذا يتطلب منا عملا وصبرا واهتماما، كل كلب، وكلبك ينتظر منا أن نعلمه كيف يتصرف، أتفهم؟ نحن هنا كي نحدد أي سلوك يجب أن يتحلى به الكلب، أتريده أليفا، أم صاحبا، أم رفيقا، أم تريد حارسا يحترم سيده ويطيع أوامره. ألا نلاحظ من خلال هذا الحديث في هذا المشهد المُهم أنه له علاقة وثيقة وجوهرية بصلب مفهوم الفيلم الذي يرغب المخرج في الحديث عنه؟ بل له علاقة بالمفهوم الذي ذهبنا إليه أيضا، وهو ما يؤكد بأن الأسرة هنا هي مجرد نموذج مُصغر تماما للدولة وسلطتها المُطلقة في مُقابل المواطن؟ إنه نفس الأسلوب الذي يتبعه الأبوان مع أولادهم، والعمل على تشريسهم وتدريبهم، والسيطرة عليهم وجعلهم يطيعونهم طاعة عمياء، وإعطائهم ما يرغبونه من المعلومات المغلوطة، ومنع المعلومات الأخرى المُهمة عنهم. إن ما يفعله المُدرب مع الكلاب من جهة يتطابق مع ما يفعله الأبوان مع أولادهم من جهة أخرى، ويتطابق تماما في النهاية مع ما تفعله السلطة مع مواطنيها من جهة أخيرة، وبالتالي يصبح المواطن مُدجنا خاضعا تماما لا فرق في ذلك بينه وبين الكلاب التي يتحدث عنها المُدرب، وبما أن الفيلم السينمائي في مفهومه الفني لا يمكن له احتمال الثرثرة أو التزيد، بمعنى أنه لا يمكن للمخرج أن يقوم بصناعة مشهد من المشاهد من دون أن يكون له أي دلالة أو إفادة داخل السياق الفيلمي، وبما أن المشاهد السينمائية داخل الفيلم السينمائي تترتب على بعضها البعض في إكمال المعنى والمضمون الذي يتحدث عنه المخرج؛ فهذا المشهد من المشاهد المُهمة التي يرغب من خلالها المُخرج التأكيد على المفهوم الحقيقي الذي يريد إيصاله للمُشاهد، وهو أن السلطة المُطلقة لا يعنيها في النهاية سوى العمل على تشويه الوعي والسيطرة الكاملة على المواطن من أجل الطاعة المُطلقة التي لا يمكن النقاش معها في أي حقوق أو واجبات.

المُخرج اليوناني يورجوس لانثيموس

لكن، لا يفوت المُخرج هنا التأكيد على أن مجرد الاطلاع على أي حقيقة- مهما كانت صغيرة- مُخالفة لما تبثه السلطة داخل عقولنا لا بد لها أن تُضئ داخلنا وتجعلنا نبدأ في إعادة التفكير تجاه الحقائق الجديدة التي لا بد لها أن تعمل على تحريرنا؛ لذلك حينما شاهدت الابنة الكبرى أفلام الفيديو التي حصلت عليها من كريستينا بدأت حياتها تتغير، وتملكتها رغبة حقيقية في الخروج من المنزل إلى العالم الخارجي الذي كان مجرد عالم مجهول ومُخيف بالنسبة لها، أي أن الرغبة في المُغامرة والاستكشاف قد نبتت داخلها لتبدأ في إشعارها بالقلق الدائم، وهو ما رأيناه في النهاية حينما قامت الابنة الكبرى بتحطيم نابها بقسوة مستخدمة في ذلك الدامبلز؛ الأمر الذي يمنحها الحق في الخروج إلى العالم، ولكن لأنها- تبعا لما تعلمته- لا يمكن لها الخروج على قدميها، بل من خلال السيارة، تتسلل إلى سيارة أبيها وتختفي في صندوقها الخلفي، وحينما يستيقظ الجميع يبدأون في البحث عنها داخل البيت والحديقة، وينبحون عليها، وحينما يشعرون باليأس من العثور عليها يستقل الأب سيارته للتوجه إلى العمل لينهي المُخرج فيلمه على لقطة عامة Full Shot لباب المصنع الذي تتوقف أمامه سيارة الأب ليهبط منها داخلا إياه، ثم ينتقل المُخرج إلى لقطة قريبة على مؤخرة السيارة التي تختفي فيها الابنة الكبرى لكنها لا تخرج منها، في إشارة إلى أنها فاقدة تماما للقدرة على اتخاذ القرار والخروج إلى الحياة الخارجية بسبب ما تعلمته في حياتها.

إن الفيلم اليوناني ناب الكلب للمُخرج يورجوس لانثيموس من الأفلام المُهمة التي تتناول العلاقة بين الحاكم المُستبد، والمحكوم الخاضع تماما نتيجة العمل الدائم على تشويه وعيه؛ الأمر الذي يجعل المواطن في نهاية الأمر عاجزا عن اتخاذ أي قرار يخصه للمُغامرة في التعرف على العالم الخارجي، أو الثورة، ورفض العالم الذي هيأته له هذه السلطة، كما لا يفوتنا الإتقان الذي عبر من خلاله المُخرج عن هذا المعنى من خلال التصوير الذي يتميز بفنية عالية حينما حرص المُخرج بالتعاون مع المصور Thimios Bakatakis تيميوس باكاتاكيس على إظهار المُمثلين في أغلب المشاهد من دون رؤوسهم أو أطرافهم السفلية؛ الأمر الذي يُدلل على أنهم مجرد أشياء لا قيمة لهم، أو مجرد تروس لا بد لها أن تدور في آلة السلطة المُطلقة التي تقرر كل شيء، وتفعل كل شيء بالنيابة عنهم.

 

 

محمود الغيطاني

مجلة "نقد 21".

عدد نوفمبر 2023م.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق