الأحد، 29 أكتوبر 2023

كله تمام: صناعة الهزل!

في عام 1984م بدأت موجة كاسحة لمجموعة من الأفلام التي يصنعها عدد من مُخرجي السينما في خلال عدة أيام لا تتعدى الأسبوع- على أكثر تقدير- وبميزانية شديدة الضآلة؛ ليسرع هؤلاء الصُناع بتعليب أفلامهم التي صنعوها في شرائط الفيديو- بدلا من عرضها في دور العرض السينمائي- وتصديرها إلى دول الخليج لا سيما المملكة العربية السعودية.

هذه الموجة من الأفلام المُتهافتة التي لم تقدم لنا أي شيء له علاقة بصناعة السينما، بل اهتمت بالهزل واللامعنى، أطلق عليها نقاد السينما أفلام المقاولات، وهي الأفلام التي عملت على مُنافسة ما يقدمه مخرجو الواقعية الجديدة بشراسة، حتى باتت تيارا موازيا له ثقله وخطره على صناعة السينما والانحدار بها نحو هاوية جديدة تكاد أن تشبه هاوية سقوط السينما في السبعينيات، وإن كان سقوط الثمانينيات أكثر سوقية ورداءة، وفراغا، وابتذالا؛ لتبنيه قيم الحرفيين والغوغاء التي سادت في فترة الثمانينيات بسبب سياسات السادات الانفتاحية السابقة التي غلّبت كل ما هو سوقي وحرفي وبذيء على ما هو راق وينتمي إلى التعلم أو الثقافة أو الفن!

هذه الموجة من الأفلام الفارغة كان لها جمهورها العريض من غير المُتعلمين وأنصافهم الذين لا علاقة لهم بالسينما، كما كان لها مُخرجيها الذين لم يقدموا سوى هذه النوعية من الأفلام، وهم المُخرجون الذين لم يعد يذكرهم التاريخ السينمائي؛ نظرا لأن ما صنعوه من أفلام لم يبق منها في تاريخ السينما أو ذاكرتها شيئا مثل المُخرجين صلاح سري، وناصر حسين، وسيد سيف، وإسماعيل حسن، وإبراهيم عفيفي، وأحمد ثروت، وغيرهم من المُخرجين الذين رأوا أن صناعة هذه الأفلام هي المُناسبة لهم كي يعملوا في مجال السينما المصرية. كما لا يمكن إنكار أن هذه النوعية من الأفلام كان لها نجومها الذين رأوا فيها البيضة التي تبيض لهم ذهبا؛ ومن ثم لم يعنهم ما يقدمونه بقدر ما اهتموا بالمال الذي سيأخذونه في مُقابل تقديمها، ولقد كان أبرز نجوم سينما المقاولات إسعاد يونس، وفريدة سيف النصر، وسمير غانم، وسعيد صالح، ويونس شلبي، وغيرهم من المُمثلين الذين رأوا أنه لا غضاضة من تقديم أفلام سينمائية بمثل هذا القدر من التهافت والهزلية ما دام سيقابل هذا الهزل الكثير من المال.

إذن، فلقد كانت البداية الحقيقية لأفلام المقاولات في السينما المصرية عام 1984م، وهو ما أدى إلى ارتفاع الإنتاج السينمائي المصري فجأة إلى 63 فيلما في هذا العام؛ نظرا لوجود الكثير من الأفلام الرديئة، إلى جانب غيرها من الأفلام النوعية التي يقدمها رواد الواقعية الجديدة وغيرهم من المُخرجين الجادين.

في هذا العام قدم المُخرج أحمد ثروت فيلمه "كله تمام" الذي كتب له القصة والسيناريو والحوار محمد أبو يوسف بالاشتراك مع المُخرج نفسه، وهو الفيلم الذي لا يقدم لنا أي شيء له علاقة بصناعة السينما سوى الهزل والمزيد من الهزل الذي لا معنى، ولا قيمة له سوى إثارة الغثيان مما يدور أمامنا على الشاشة، سواء على مستوى الأداء التمثيلي، أو القصة، أو الحوار الذي كان عبثيا ولا معنى له؛ الأمر الذي يعطينا نموذجا واضحا لفداحة الأفلام التي قدمها مخرجو المقاولات في هذه الحقبة الزمنية من عُمر السينما المصرية.

يبدأ الفيلم على مشهد فتحي- قام بدوره المُمثل سمير غانم- جالسا أمام التلفاز في بيته بينما يتابع برنامج الأطفال الذي تقدمه زوجته المُذيعة المشهورة سهير وجدي- قامت بدورها المُمثلة إسعاد يونس- التي تُحادث الأطفال بحديث لا يمكن أن يكون من أحاديث العقلاء قائلة: وكمان الطفل يونس شلبي، قلت لك ميت مرة يا يونس، ميت مرة: متلفش كتبك في جرنان، الواحد يحط كتبه في شوال، أو في زكيبة قماش تكون واخدها من صاحبك سعيد صالح!

مثل هذا الحديث الذي نستمع إليه من مُذيعة تقدم برنامجا للأطفال لا يمكن لنا أخذه على محمل الكوميديا؛ فهو لا يحمل في فحواه أي شكل من أشكال الكوميديا التي قد يبرر بها صُناع الفيلم ما ذهبوا إليه، بل هو حديث يحمل الكثير من الهزل، والاستهانة بصناعة السينما والمُشاهد معا، وليس من العقلاني مُطلقا توجيه مثل هذا الحديث للأطفال حتى لو على سبيل الكوميديا المُفتقدة التي قد يذهب إليها صُناع الفيلم من أجل تبريرها.


نُلاحظ أن فتحي يشعر بالرعب الشديد من الطباخ علي- قام بدوره المُمثل علي الشريف- وهو الطباخ الذي يتعامل معه هو وزوجته وكأنه هو مالك البيت، أو كأنه السيد وهما من يعملان لديه، كما نراه كثيرا ما يزجرهما ويسبهما بينما هما راضخين تماما أمامه غير قادرين على التنفس أو التفوه بكلمة واحدة أمامه!

يعمل فتحي ككاتب مقال في إحدى الصحف، ويظن في نفسه العبقرية في مجال الصحافة، وأن ما يكتبه شيئا مُهما ذا قيمة لا يمكن الاستغناء عنه، بل ويرى نفسه مظلوما؛ لأنه لم يأخذ فرصته الحقيقية من الشهرة، بل يتقاضى 30 جنيها فقط على المقال الذي يكتبه.

تصل سهير إلى البيت ليستقبلها فتحي كطفل صغير يفتقد أمه قائلا: يا حبي وحشتيني، اتأخرتي ليه أوي كدا؟ لترد عليه: إيه يا بيضا؟ أنتي بتخافي تقعدي لوحدك يا بيضة؟ فيقول: طبعا، مكدبش عليكي، حد مجنون يقعد مع الطرزان دا عم علي؟! دا يرعب بلد، مبيرضاش يلبي لي أي طلب نهائي!

ربما نلمح في مثل هذا الحوار الكثير من الاستخفاف والهزل الذي يقدمه الفيلم؛ فصُناع الفيلم يرغبون في التأكيد على الخوف الشديد، والخشية من علي الطباخ الذي لا يلبي لهما طلباتهما وكأنه يحتل المنزل، أو أنه مالكه الحقيقي بينما هما مُجرد ضيوف عنده.

تُلاحظ سهير أن فتحي مُنشغلا في كتابة شيء ما، وحينما تسأله عما يشغله يقول لها: أنا بكتب مقالة صحفية طبية فسيولوجية هتاكلي صوابعك وراها. فتسأله: عن إيه يا حبيبي؟ ليقول بسماجة: البيض، لماذا يا أطباء العالم، يا مُخترعي المُعجزات لا تلد الفرخة بدلا من أن تبيض؟ لتسأله: ازاي الفرخة تولد بيضة مسلوقة؟! ليرد: دي عايزة تفكير يا حبي؟ احنا لو اديناها شوية ميه سُخنة، بلاش بتغلي عشان متموتش، ميه دافية هتنزل البيضة برشت، ودا مُفيد. فتسأله سهير: طب ولما نعوز نلون البيض عشان شم النسيم؟ يقول: عايزين بيض أحمر نديها ميكروكروم، عايزين بيض أزرق نديها توتيا زرقا، عايزين بيض أصفر اديها الصفرا. لتقول: طب الأومليت نعمل فيه إيه؟ ليرد: اديها شربة ياخدوا أومليت للصبح!

من خلال هذا الحوار الهزلي الذي لا معنى له، ولا يمكن له أن يضيف أي شيء إلى سيناريو الفيلم أو أحداثه سيتأكد لنا أننا أمام مسخ يطلقون عليه اسم الفيلم السينمائي، فلا يوجد حوار من الأساس، بل مجموعة من المُهرجين الذي يحاولون تقديم تهريجهم رغم أنه لا طعم له، ولا لون، ولا رائحة.

حينما يتجه فتحي إلى الجريدة التي ينشر فيها مقالاته نُلاحظ أن السكرتيرة سلوى- قامت بدورها المُمثلة فريدة سيف النصر- تشعر تجاهه بالكثير من الإعجاب الذي قدمته المُمثلة بشكل فيه الكثير من الابتذال، لكن الكارثة الحقيقية حينما تنتقل الكاميرا إلى مكتب رئيس التحرير ونراه جالسا مع أحد الأشخاص ليقول له: تعرف يا خواجة، أنا أجعص كوفتجي في البلد كلها، أنا كنت أعمل صُباع كفتة ميعملوش كفتجي في العالم، أصغر صُباع كفتة كنت أعمله كان كدا حاجة بتاعة نص متر. ليرد عليه الرجل مُندهشا: نص متر؟! فيقول رئيس التحرير: آه، دا صُباع كفتة عشان الأطفال. ليسأله الرجل: وعلى كدا مبينكسرش منك الصُباع دا؟! فيقول: لا، ينكسر ازاي؟! ما أنا كنت ببيع الصُباع بسيخه! فيسأله الرجل: وإيه اللي خلاك اشتغلت صحفي أومال؟! ليقول: دا سؤال حلو يا خواجة، أنا كان ليا واحد صاحبي صحفي إنما دمه خفيف أوي، جه اتحداني، قال لي: شوف، لو عملت لي صُباع كفتة طوله 40 كيلو متر، أنا هعمل لك دعاية محصلتش، قلت: ماشي، عملت التحدي، أتاريه كان عازم واحد صاحبه في بنها، عملت له الصُباع، قعد بيه في شبرا وصاحبه بقى ياكل وهو في بنها، صاحبه ياكل ويقول له: اسحب، يروح مدي له الصُباع!

ربما حرصنا هنا على تتبع هذا الحوار الشديد العبثية لبيان مدى الهزل الذي يحرص عليه المُخرج في صناعة فيلمه الذي لا معنى له، كما أننا لا بد لنا من التساؤل: ما علاقة كل ما قاله رئيس التحرير بأن يعمل في الصحافة، وما علاقته بالصحافة كي يكون رئيسا لتحرير إحدى الصحف؟!

يدخل فتحي لرئيس التحرير مُقدما له الهراء الذي يكتبه من مقالات لنعرف أن عنوان أحد مقالاته: يا حلاوتك يا خوخة، جيبتك بعد دوخة، أي أن صُناع الفيلم حريصون، كل الحرص، على التكريس لثقافة الشارع والحرفيين، وسائقي الميكروباص بشكل فيه الكثير من الابتذال واللامعنى!

أثناء وجود فتحي في مكتب رئيس التحرير يدخل أحد الفتوات الذي ينشر مُذاكراته في الجريدة مُسلسلة، ويذكر له رئيس التحرير أنها قد لاقت الكثير من القبول؛ حتى أن مكتبه قد ضاق من كثرة خطابات الإعجاب التي تصله؛ ومن ثم فهو يمنحه 14 ألفا من الجنيهات كمُقابل لهذه المُذكرات التافهة التي يكتبها عن إجرامه وقتله لإحدى الراقصات لأنها لم تكن تتقن الرقص! وهنا يخبره البلطجي بأنه قد اصطحب معه ابن الخُط السفاح الذي قتل الكثير من الضحايا؛ فيشعر رئيس التحرير بالسعادة الجمة، ويعرض عليه 18 ألفا من الجنيهات في مُقابل نشر مذكرات الخُط!

هنا يشعر فتحي بالدهشة الشديدة ليسأل رئيس التحرير بعد انصرافهما عن السبب في مثل هذه المبالغ المُبالغ فيها من أجل نشر مُذكرات مُجرمين؛ ليخبره رئيس التحرير بأن مُذكراتهما قد رفعت من توزيع الجريدة بشكل لم يكن مُنتظرا، فيؤكد له فتحي بأنهما لا علاقة لهما بالصحافة، لكن رئيس التحرير يخبره بأنه إذا ما أراد أن يكون مشهورا؛ فعليه ارتكاب جريمتي قتل، ثم يعود إليه كي ينشر له مُذكراته!

ألا تتبدى لنا هنا مدى العبثية التي يعيش فيها المُشاهد الجالس من أجل مُشاهدة هذا الهزر الذي لا معنى، ولا قيمة له؟ ألا نُدرك أن تقديم أفلام باسم صناعة السينما بمثل هذا الشكل لا بد له من قتل الصناعة في حد ذاتها؟


يعود فتحي إلى منزله ليؤكد لزوجته بأنه لا بد له من أن يكون مُجرما من أجل أن يكون مشهورا ويأتي بالكثير من الأموال جراء جرائمه! لكنها لا تأخذ حديثه مأخذ الجد، إلا أنه يظل يفكر في الأمر؛ ليوقظها من نومها مُخبرا إياها بأنه سيقوم بقتلها. تنزعج الزوجة من حديثه؛ فيخبرها بأنه لن يقتلها بالفعل، بل سيدعي قتلها لتقبض عليه الشرطة، وتحكم عليه بالإعدام، وحينما يتم الحُكم، وفي اللحظة الأخيرة، عليها أن تظهر في المحكمة لتؤكد لهم أنها ما زالت حية، ويكون هو قد اكتسب الكثير من الشهرة وكتبت جميع الجرائد عنه وعن قضيته في قتل زوجته.

تخبره سهير بأنه لا بد من وجود جثة أولا من أجل اقتناع الشرطة بوجود جريمة قتل؛ فيخبرها بأنهما سيلجآن إلى شقيقها صلاح/ الطبيب البيطري- قام بدوره المُمثل وحيد سيف- من أجل توفير جثة لهما وإيهام الشرطة بأنها جثة الزوجة.

من أجل المزيد من الهزل والعبثية في تقديم هذا الشيء الذي لا يمكن لنا أن نُطلق عليه توصيف الفيلم السينمائي، نشاهد عم علي الطباخ الذي يقوم كل ليلة بالصراخ وإصدار أصوات غريبة، بل والإيهام بوجود شبح يعزف على البيانو في بهو الفيلا التي يقطنانها، وارتداء العديد من الأقنعة المُرعبة، ونعرف أنه يقوم بهذه الأفعال من أجل إخافتهم ودفعهم لترك الفيلا؛ لأن مالكها فرغلي- قام بدوره المُمثل أحمد عدوية- يرغب في استعادتها وتحويلها إلى كباريه، ورغم أنه عرض على فتحي مبلغا كبيرا من المال إلا أنه يرفض تركها له!

ثمة تناقض هنا في الأحداث لا بد لنا من مُلاحظته، وهو أن فرغلي قد عرض على فتحي مبلغ 20 ألفا من الجنيهات كي يترك له الفيلا، وحينما رفض فتحي زاد فرغلي المبلغ إلى 25 ألفا من الجنيهات، ورغم أن فتحي لا يمتلك المال، ورغم أنه يعاني من تلقيه 30 جنيها فقط على مقاله، ورغم أنه يرغب في الشهرة كي يكتب مُذاكراته كمُجرم ويحصل على 20 ألفا من الجنيهات مثل ابن الخُط إلا أنه يرفض ما يعرضه عليه فرغلي!

إنها رغبة المُخرج في استمرار فيلمه كما يراه في ذهنه من دون وجود أي منطق عقلي؛ فمن الطبيعي لمن هو في وضع فتحي الذي يرغب في الشُهرة من أجل 20 ألفا من الجنيهات أن يقبل بالمبلغ الذي عرضه عليه فرغلي، وهو مبلغ بالفعل كبير يكفيه من عناء التفكير في ادعاء الجريمة أو السجن، لكن لأن المُخرج لا بد له من صناعة فيلمه بأي شكل مهما كانت لا منطقيته؛ نرى فتحي يرفض مثل هذا العرض.

تخبر سهير شقيقها صلاح بالأمر، وهو ما يبدأ في نقاش فتحي فيه وإعداد الخطة من أجل تنفيذه، ويتفقا بالفعل، في حضور سهير، على أن يبدأ فتحي بالتعامل مع زوجته بشكل مُهين أمام الجميع؛ كي يؤكد لهم أنه ثمة الكثير من الخلافات بينهما قبل الادعاء بمقتلها، وأنه سوف يخفيها في بدروم الفيلا الذي لا يعرف عنه أي إنسان شيئا، إلى أن يتم الحُكم عليه، وحينها ستخرج للعالم لتؤكد للشرطة بأنها ما زالت حية!

ربما نندهش هنا حينما نعرف أن بدروم الفيلا لا يعرف عنه أي إنسان أي شيء؛ فالبدروم له باب في بهو الفيلا، وهو باب يراه الجميع؛ فكيف لم يسأله السفرجي، أو الطباخ عن هذا الباب من قبل، وإلام يؤدي؟! كما أن فرغلي صاحب الفيلا أيضا لا يعلم شيئا عن البدروم الموجود في فيلته، هو أمر غير عقلاني ولا يمكن قبوله، ولكن لأن المُخرج أراد ذلك فقلد فرضه علينا كمُشاهدين، ولا بد لنا من تصديقه، والتواطؤ معه في مثل هذا العبث الذي يقوم بصناعته وتقديمه لنا.

يحتفل فتحي بعيد ميلاده ليدعو الجيران، وسلوى/ السكرتيرة المُعجبة به؛ كي يوهم الجميع بأن ثمة علاقة بينه وبين سلوى، وأثناء عيد الميلاد يتعامل مع زوجته/ سهير بفظاظة غير مقبولة، ويغازل سلوى أمام الجميع ليترك الحفل غاضبا بعدما يتشاجر مع سهير ويخرج مع سلوى. حينما يعود فتحي يجهز البدروم لزوجته كي يكون مُريحا لها خلال الشهر الذي ستقضيه فيه، ويدعي بالفعل أن زوجته قد اختفت ولم تعد إلى البيت، ومن ثم يتصل بالشرطة التي تؤكد له بأنهم سيبذلون قصارى جهدهم للعثور عليها.

يقوم فتحي بدفن الجثة التي يأتي بها صلاح من الحانوتي- قام بدوره المُمثل توفيق الدقن- في حديقة الفيلا ويلبسها ملابس زوجته، ويرسل بأكثر من خطاب عبثي إلى الشرطة باعتباره مجهولا ليبلغهم بأن فتحي هو من قتل زوجته، لكن لأن الشرطة لا تأخذ هذه الخطابات بجدية؛ يعرض فتحي على سهير أن يفعل مثلما يرى في الأفلام بأن يبيع ذهبها ويبدأ في ارتياد الملاهي الليلية مع سلوى ليصرف فيها ببذخ؛ الأمر الذي لا بد له من أن يثير شكوك الشرطة حوله، ويؤكد لهم بأنه بالفعل قد قتل الزوجة.

يقوم فتحي ببيع ذهب امرأته، ويتردد بالفعل على الملاهي الليلية حيث تراقبه الشرطة، وهنا يرسل بخطاب جديد للشرطة يبلغهم فيه بأن فتحي قد قتل الزوجة ودفن جثتها في حديقة الفيلا. حينما تصل الشرطة من أجل البحث ويجدون الجثة يقبضون على فتحي الذي يُحكم عليه بالإعدام وتأتي الكثير من الصحف من أجل مُتابعة قضية القتل التي ارتكبها لنراه سعيدا بأنه قد بات مشهورا بمثل هذا الادعاء، مُطمئنا إلى أنه سيخرج منها بسهولة حينما تظهر الزوجة قبيل موعد تنفيذ حُكم الإعدام.


يُلاحظ كل من علي/ الطباخ وفرغلي أن صلاح يتردد كثيرا على الفيلا رغم سجن فتحي، ومقتل سهير، وهو ما يجعلهما يشعران بالريبة من وجوده الدائم في الفيلا؛ لذا يطلب فرغلي من علي مُراقبة صلاح لمعرفة ما ورائه. حينها يكتشف علي أمر البدروم، ويعرف أن سهير ما زالت حية، وأنها تقيم فيه. يسرع فرغلي، متعاونا مع علي، إلى البدروم ليقيدا سهير وصلاح، ويرفضا خروجهما، بل ويطلب فرغلي منها إمضاء شيكات تقدر بأربعين ألف من الجنيهات. وحينما يطلبان منه إطلاق سراحهما من أجل اللحاق بفتحي وإيقاف تنفيذ حُكم الإعدام يرفض فرغلي، ويأخذهما إلى عزبته ليسجنهما فيها، راغبا في التخلص من فتحي بالإعدام.

حينما يخبر أحد رجال العزبة سهير بأن الجريدة قد أكدت بأن حُكم الإعدام سيتم تنفيذه في زوجها في هذا اليوم؛ يقدم لنا المُخرج مشهدا لا عقلانيا ولا يمكن تقبله سوى في أفلام الكارتون فقط التي تفتقد لأي شكل عقلاني أو منطقي. حينما نرى سهير بجسدها الضئيل تقفز فجأة في الهواء راكلة الباب الحديدي الصلب الذي لا يمكن زحزحته بقدمها؛ مما يؤدي إلى انهيار الباب بكل بساطة وكأنه مُجرد ورقة ركلتها بقدمها! ثم لا تلبث أن تخرج لمواجهة رجال العزبة الأشداء الذين يبدون كجدران ضخمة أمامها، بل وتتشابك معهم لتقضي عليهم جميعا بكل بساطة، وتهرب مع أخيها صلاح إلى الطريق محاولين اللحاق بالذهاب إلى فتحي قبل تنفيذ الحُكم!

يحاول كل منهما إيقاف أي سيارة، لكن السيارات لا تلتفت إليهما، إلى أن يفكر المُخرج في المُنقذ الخيالي المُعتمد على المُصادفة كي يحاول الانتهاء من فيلمه كما رسمه في ذهنه، وتمر إحدى سيارات الشرطة التي تتوقف لهما، ويخبران الشرطة بالأمر وبأنها ما زالت حية؛ ليتم الاتصال لإيقاف تنفيذ حُكم الإعدام!

يخرج فتحي بالفعل، وينجو بحياته، لكنه أثناء نزوله على درج المحكمة مع زوجته وشقيقها يرى الحانوتي- توفيق الدقن- صاعدا لاتهامه بسبب الجثة التي باعها لهما، وهنا يقترب أحد الضباط من فتحي مُؤكدا له بأنه لا يمكن له الانصراف؛ لأنه مُتهم في قضية الجثة التي أخذها من الحانوتي، وينتهي هذا المسخ الذي لا يمكن له أن يشبه الفيلم على هذا المشهد!

إن السينما التي قدمها مخرجو المقاولات في فترة الثمانينيات من القرن الماضي كانت من أردأ ما تم صناعته في تاريخ السينما المصرية؛ فهم لم يقدموا سوى هزلا لا يمكن له أن يؤدي سوى إلى الخواء والعدمية، ولعلنا نُلاحظ هذه العدمية من خلال هذا الفيلم الذي قدمه لنا المُخرج أحمد ثروت ليجعلنا نتساءل: أين هو الفيلم، وما هو الحدث، وأين هي السينما، وما الذي يرغب في قوله لنا؟!

إنه لم تكن لديه الرغبة في تقديم أي شيء سوى مُجرد السُخرية منا كمُشاهدين بدعوى تقديم شكل من أشكال السينما التي لا يمكن لنا، على سبيل المجاز، الادعاء بأنها سينما كوميدية؛ فالمُمثلون أنفسهم لم يقدموا لنا أي شكل من أشكال الأداء، بل كانوا يمزحون أمام الكاميرا بشكل شديد الهزلية والعبثية العمدية؛ مما يعني أنهم يدركون جيدا بأنهم لا يقدمون لنا شيئا، لكن الأمر مُجرد شكل من أشكال التجارة التي ستجني لهم الأموال فقط!

في فيلم "كله تمام" للمُخرج أحمد ثروت ثمة فراغ يفضي بنا إلى المزيد من الفراغ؛ ورغبة سادية من المُخرج وصُناع الفيلم في تعذيبنا كمُشاهدين، وبالتالي فكل من يصبر على هذا الشيء حتى نهايته لا بد أن يكون مُصابا بالمازوخية والمقدرة على تعذيب نفسه باحتمال هذا المسخ حتى المشهد الأخير، وهو ما شعرنا به بالفعل أثناء مُشاهدة الفيلم الذي شعرنا به طويلا كدهر، لا يريد أن ينتهي، لكننا كنا مُرغمين على مُتابعته حتى النهاية من أجل تناوله بالتحليل والبحث!

 

محمود الغيطاني

مجلة مصر المحروسة.

عدد أكتوبر 2023م

الأربعاء، 18 أكتوبر 2023

عش العائلة: الجحيم المجري كما يراه تار!

ربما نكاد أن نتفق بأن العمل الفني الأول لأي شخص مُمارس للفن إنما هو بمثابة البصمة الجينية التي تحمل سماته، وأسلوبيته، وكيفية تطوره ونضجه، وطريقة تفكيره، وتأمله، وتناوله للقضايا الفنية، والمسار الفني الذي ستكون عليه أعماله التالية. صحيح أن الأمور لا تسير دائما بمثل هذه الصرامة بالضرورة، بمعنى أن العمل الأول ليس بالضرورة دالا على أسلوبية صاحبه وكيفية تطورها وتقدمها فيما بعد- فمن المُمكن له أن ينحرف عن مساره الأول إلى مسار آخر جديد يرى أنه الأفضل بالنسبة له ولرؤيته الفنية- لكن في الغالب ما تدل هذه الأعمال الأولى على صُناعها، وطريقة تناولهم للقضايا الفنية في حال استمراريتهم في المجال الفني.

في الفيلم الروائي الأول للمُخرج والسيناريست المجري Béla Tarr بيلا تار، Family Nest عش العائلة، أو Családi tüzfészek حسب العنوان الأصلي للفيلم في اللغة المجرية، وهو الفيلم الذي بدأ العمل فيه عام 1977- أي أنه مشروعه السينمائي الأول- لكنه لم ينته منه ويقدمه للجمهور إلا في عام 1979م ليصبح فيلمه الثاني الذي يتلقاه جمهوره بعد فيلمه الوثائقي القصير Hotel Magnezit فندق ماجنزيت 1978م- نقول: إن ثمة ملامح أسلوبية، وفكرية واضحة تخص بيلا تار في الفيلم رغم أنه من أكثر أفلامه اختلافا عما قدمه فيما بعد- بدأ تار صناعة هذا الفيلم وهو في الثانية والعشرين من عمره، وقبل أن يدرس السينما بشكلها الأكاديمي، فهو لم يلتحق بمعهد السينما إلا بعد انتهائه من صناعة هذا الفيلم.

إذن، فنحن أمام التجربة الأبكر في مسيرة تار السينمائية، وهي المسيرة التي ازدحمت بالكثير من التأمل، والتفكير، والتمهل أمام كل القضايا- حيث اقترب بالسينما كثيرا من مجال الفلسفة فيما بعد في رغبة قوية منه بدفع السينما باتجاه التفلسف- ورغم أنه في هذا الفيلم إنما يتأمل قضية اجتماعية مُباشرة يعاني منها المُجتمع المجري في الحقبة الشيوعية الصارمة- التي أفقرت المُجتمع بالكامل وأدت إلى تدميره على المستوى الاجتماعي والأسري- ورغم أنه في تناوله لهذه القضية يكاد أن يكون مُباشرا، وسطحيا، وربما ساذجا على المستوى الأسلوبي السينمائي، وتناوله لموضوعه، أي أن الفيلم يميل بقدر ما باتجاه الخطابية- وهو المأزق الذي يقع فيه دائما صُناع السينما حينما يتناولون مثل هذه الموضوعات- إلا أننا لا يمكن لنا أن ننكر على تار مقدرته على عرض قضيته الراغب في الحديث عنها بشكل سينمائي يخصه، مُستعينا في ذلك بأسلوبية السينما الوثائقية من أجل الإحاطة بالكارثة التي يعاني منها المُجتمع المجري كما يراها هو.


إن تار هنا لا يقدم لنا حكاية- بمفهوم الحكايات في السيناريوهات السينمائية- أي أننا إذا ما حاولنا تفكيك الفيلم إلى عناصره الأولية فلن نجد المُخرج قد أخبرنا بقصة ما بشكلها المُكتمل، أو كما نعرفها نحن- كل ما هنالك زوجين يقيمان في بيت أبوي الزوج، وأثر ذلك على حياتهما اليومية- بقدر ما حرص تار على توثيق أسلوب حياة المجريين في هذه الفترة الخانقة من تاريخ المُجتمع المجري- أي أنه يتأمل ما يدور من حوله في المُجتمع، وتلك سمة من أهم سمات السينما التي يقدمها المُخرج، صحيح أنها تطورت فيما بعد بشكل فيه الكثير من النضج والعمق، لكننا هنا نُلاحظ ميزة مُهمة من سينماه، وهي التأمل من دون التدخل، وعدم الاهتمام بالقصة بمفهومها الكلاسيكي، بقدر الاهتمام بالأفعال الإنسانية اليومية، وهي الأفعال اليومية التي يراها تار تافهة، ولا قيمة لها، رغم أنها قد تؤدي إلى الكثير من الكوارث فيما بعد؛ نتيجة لتراكم فوضاها وتفاهتها!

إذن، ففيلم تار الأول- كما سبق لنا أن ذهبنا يحمل من جيناته الفنية والأسلوبية العديد من الميزات، منها عدم الاهتمام بالشكل الكلاسيكي للحكاية، والتركيز على الأفعال اليومية العادية والتافهة، ومن ثم إكسابها معناها الفني الذي يُكسب الفيلم في نهاية الأمر معناه وعمقه، كذلك حرص تار على استخدام الكاميرا المحمولة على الكتف، بما تحمله من دلالات القلق، والتوتر، وعدم الارتياح، وهي المشاعر التي يشعر بها المُشاهد، والتي يرغب المُخرج في إيصالها للمُتلقي بالفعل- أي المُساعدة، والدفع به نحو التوتر- فضلا عن أن الكاميرا المحمولة دائما ما تحمل وجهة نظر، أي أننا كمُشاهدين نشعر معها بأن الكاميرا هي كائن حي يتحرك، ويحس، ويحزن، ويشعر بالسعادة، ويغضب، ويراقب، ويتلصص- أي أنها كائن مُضاف، وشخصية من شخصيات الفيلم لا تنفصل عن باقي الشخصيات التي نراها أمام عدسة الكاميرا.


ثمة ميزة ثالثة لا يمكن إنكارها على المُخرج في هذا الفيلم المُبكر من مسيرته السينمائية، وهي السُخرية التي يتميز بها المُخرج؛ فتار عادة ما يسخر من كل شيء، وهو في هذا الفيلم تتجلى لنا سُخريته للوهلة الأولى في العنوان الذي اختاره ليكون هو عنوان فيلمه، أو الناطق باسمه، أو المُعبر عنه: "عش العائلة". إن مُتابعة الفيلم بروّية سيؤكد لنا أن تار هنا إنما استخدم عنوانا مُخاتلا، ساخرا لا يعني معناه المُباشر، بقدر ما يعني المفهوم الضدي له. وإذا ما كان عنوان "عش العائلة" يحمل العديد من الدلالات التي لا توحي سوى بالدفء، والألفة، والحب، والمشاعر، والتماسك، والقيم الأسرية- وهو ما لن نراه في الفيلم أبدا- فتار من خلال فيلمه يقدم لنا عكس كل هذه المعاني، وبالتالي لن نرى سوى الجفاء، والقسوة، والإهانات، والاختناق الشديد- هذا الاختناق ليس سببه جفاف المشاعر فقط، بقدر انحشار مجموعة كبيرة من البشر في حيز مكاني شديد الضيق لا يتناسب مع عددهم؛ الأمر الذي يؤدي بهم إلى الشعور بأن كل منهم ليس سوى جحيم للآخر، وبالتالي فهو لا يطيقه، ويوجه إليه الكثير من الإهانات، والرفض، وعدم القدرة في الانسجام معه.


إن تار هنا يشعر بالسأم، والقرف، والغثيان من كل ما يدور من حوله في المُجتمع المجري. الغثيان من النظام السياسي الشيوعي الذي يعمل على تحويل البشر إلى حيوانات محشورة في مساحة شديدة الضيق- شقة- لا تتناسب مع العدد الذي يعيش فيها؛ ومن ثم يُصابون بالأمراض التنفسية، فضلا عن إحساس كل منهم بالعدائية تجاه الآخر، والاختناق منه، وربما كراهيته، والرغبة في قتله، والتحرش جنسيا ببعضهم البعض، ومن ثم فهم يتصرفون مع بعضهم وفقا للمعطيات التي وضعهم فيها النظام الشيوعي- أي تحويلهم إلى حيوانات، وكائنات فاقدة لأهلية الحياة الكريمة- فضلا عن أن جميع الرجال في هذا المُجتمع لا يحترمون النساء، بل يتعاملون معهن بفظاظة وعنف مُبالغ فيهما، وبعادية لا يمكن تصديقها، بل إن النساء يكدن أن يتقبلن هذه الفظاظة وعدم الاحترام بعادية بدورهن، وكأنما هذا الأسلوب في التعامل معهن هو الحياة الطبيعية التي لا يجب الاندهاش منها، أو الاعتراض عليها- يتضح لنا ذلك بشكل جلي في المشهد الذي نرى فيه لاسي وأخاه- قام بدور لاسي المُمثل المجري László Horváth لازلو هورفات- يحاولان التحرش الجنسي، ومن ثم اغتصاب الغجرية/ صديقة زوجته إيرين- قامت بدور إيرين المُمثلة المجرية Irén Szajki إيرين زاجكي- فنراهما بعدما ينتهيا من اغتصابها يتجهان نحو الحانة لتناول البراندي وكأنهما يحتفلان بما سبق لهما أن فعلاه، بينما تصحبهما الفتاة الغجرية التي وقع عليها فعل التحرش والاغتصاب مُنذ دقائق! ورغم مُعاناتها، وبكائها، ورفضها، وألمها لفعلهما أثناء القيام بالفعل إلا أنها تصاحبهما إلى الحانة لتناول البراندي معهما، وكأنهما لم يفعلا لها أي شيء، أو كأنهما لم يغتصباها وأرغماها على الفعل الجنسي من دون رغبتها مُنذ دقائق!

إنه الاعتياد على الإهانة في مُجتمع كل أفراده مُهانين، وكل منهم يحاول إسقاط الإهانة الموجهة إليه من قبل النظام السياسي، على من هم أضعف منه في السلسلة الاجتماعية، وبالتالي يتحول المُجتمع هنا إلى حلقات هشة لا تنتهي، يُسقط فيها من هو أقوى القهر الموجه إليه على من هو أضعف منه، في مُتتالية عددية لا يمكن لها أن تنتهي، بل يسحق فيها كل فرد للآخر بسبب القهر الموجه للجميع من قبل النظام السياسي الحاكم لهم، وبالتالي يؤكد لنا المُخرج من خلال هذه الأفعال اليومية العادية أن النظام السياسي قد نجح بالفعل في تحويل الإنسان إلى محض حيوان في نهاية الأمر، وهو ما عبر عنه المُخرج بأسلوب يفتقر فيه إلى الكثير من الأناقة بشكل مُتعمد، حتى أنه بدا لنا في نهاية الأمر وكأنه يقيء علينا جميعا بسبب شعوره الجارف بالغثيان مما يدور من حوله، ويحاول تقديمه لنا بشكل أقرب إلى التوثيق لهذه الفترة الحرجة المُظلمة من تاريخ المُجتمع المجري، بالإضافة إلى تصوير تار لفيلمه باللونين الحياديين- الأبيض والأسود- وهما اللونان المُعبران خير تعبير عن الحقبة الزمنية الشيوعية التي مرت بها المجر، والمُعبران بدورهما عن جفاف المشاعر، والانهيار الذي مرت به العديد من الأسر في هذه الفترة بسبب النظام الشيوعي وقسوته على المواطنين، والعمل على إفقارهم، فضلا عن أنهما اللونان المُفضلان لتار في تصوير جل أفلامه السينمائية.


إذن، فبيلا تار من خلال فيلمه الروائي الأول إنما يحرص على تقديم فيلم ناقد للواقع الاجتماعي المجري، وما يدور فيه، والجريمة التي اقترفها النظام السياسي المجري الشيوعي في حق المواطنين الذين دُمرت أسرهم باسم الشيوعية، وإن شاب الفيلم في نهاية الأمر شيئا من المُباشرة التي غالبا ما تُصيب الأعمال الفنية التي تحاول الانتقاد السياسي للأنظمة- لا سيما أن هذا الفيلم هو التجربة الأولى للمُخرج في عالم السينما، أي أنه لم يكن قد اكتسب خبرته ونضجه الأسلوبي بعد.

يبدأ تار فيلمه الناقد بشكل مُوغل في السُخرية حينما يكتب على الشاشة: هذه قصة حقيقية لم تحدث للمُمثلين في فيلمنا، ولكن كان من المُمكن أن تحدث لهم أيضا! أي أن المُخرج يسخر من النظام السياسي الشيوعي الذي أدى إلى تدمير العديد من الأسر باسم الشيوعية، بل إنه يتخذ من الأسرة التي يقدمها لنا من خلال فيلمه نموذجا مُصغرا للمُجتمع المجري بأكمله، وبالتالي يكون ما حدث للأسرة الصغيرة التي اتخذ منها نموذجا مثالا لما حدث للآخرين- باعتباره ينطلق من الخاص- الأسرة الصغيرة النموذج- إلى العام- المُجتمع بالكامل.

إنه النظام الشيوعي الذي جعل كل أحلام المواطن، وكل أمانيه في الحياة تنحصر في مُجرد شقة مكونة من غرفة واحدة ومطبخ فقط! الحصول على شقة ذات غرفة ومطبخ بات هو الفردوس الحقيقي في نظر المواطن المجري، وبالتالي فهو ليس في حاجة إلى أي آمال أخرى في المُستقبل سوى هذا الحلم البسيط، حلم الحياة بحرية، من دون التلصص عليه من الآخرين الذين قد يشاركونه شقة مُكتظة بالعديد من الأسر، ويحاسبونه على جميع أفعاله، ولفتاته، وردود أفعاله، يسائلونه عن السبب في فتح باب الغرفة، أو إغلاقها، عن طريقة تربيته لأبنائه، وانتقاده الدائم، عن السبب في تأخره عن العودة إلى البيت، وبالتالي يكون على المرء عبء تفسير كل ما يفعله في حياته للآخرين، أي أن النظام الشيوعي قد حوّل المُجتمع بالكامل إلى جحيم حقيقي، يمارسه الجميع على الجميع من دون استثناء وكأنه حق جوهري لا يمكن إنكاره أو الاعتراض عليه مما أدى إلى تدمير الكثير من الزيجات في المُجتمع المجري، وانفصال أفراد الأسرة عن بعضهم البعض بطريقة فيها الكثير من الألم، والكره، والبغض لبعضهم البعض.


إذن، فالمُخرج المجري بيلا تار هنا يتأمل، لكن تأمله ليس هو التأمل الهادئ الذي سنراه فيما بعد في أفلامه التالية، ليس التأمل الفلسفي الحكيم، بل هو التأمل الصاخب الساخط على كل ما يدور من حوله- سخط الشباب باعتبار المُخرج ما زال في الثانية والعشرين من عمره- وهو ما جعل الفيلم يكتسب قدرا من المُباشرة في تناوله لموضوعه الاجتماعي.

يحرص بيلا تار في فيلمه على تناسب الشكل الفيلمي/ التصوير مع المضمون/ سيناريو فيلمه، وهو ما نلاحظه بشكل بيّن في أسلوبية التصوير التي اتبعها المُخرج، وبما أن الفيلم تدور أغلب أحداثه داخل شقة ضيقة مكونة من غرفة واحدة ومطبخ، بينما يسكنها 14 شخصا، يتكونون من والد لاسي- قام بدوره المُمثل المجري Gábor Kun جابور كون- وهو مالك الشقة، وزوجته- قامت بدورها المُمثلة المجرية Gaborne Kún جابورن كون- وابنته وأسرتها، وابنه لاسي وزوجته إيرين وابنتهما، وابنه الآخر البالغ من العمر 27 عاما؛ فلقد حرص المُخرج على أن تكون جميع لقطات الكاميرا مُقربة خانقة جدا تُشعرنا- كمُشاهدين- بأننا داخل صندوق خانق؛ لذلك فاللقطة السينمائية في الفيلم تكاد لا تتسع سوى لوجه مُمثل واحد بشكل كبير يملأ الشاشة، أي أن عدم اتساع عدسة الكاميرا لأكثر من شخص واحد لا بد له من أن يوحي لنا بالكثير من الاختناق، وعدم القدرة على التنفس بسهولة، فضلا عن اهتزاز الكاميرا الناشيء من كونها كاميرا محمولة- الشعور بالقلق والتوتر المُضاف للشعور بالاختناق- بل والتأكيد على إشعار المُشاهد بثمة شيء ما يطبق على صدره ويمنعه من التنفس بسهولة، أي الإيحاء للمُشاهد في النهاية بأنه محشور معهم داخل نطاق ضيق، غير قادر على الخروج منه بسهولة، وهي أسلوبية تتناسب تماما مع موضوع الفيلم الذي يقدمه لنا المُخرج.

يفتتح تار فيلمه بكاميرا مُستعرضة، مُتأملة، مُراقبة لما يدور من حولها؛ فتتلصص الكاميرا على إيرين أثناء مشيها في شوارع بودابست الخالية صباحا مُتجهة لعملها، لنرى العديد من الموظفين المُنحشرين في وسائل المواصلات- شعور الاختناق الذي يشعر به المواطن المجري مُنذ الوهلة الأولى من الفيلم، في إسقاط على أن جل الأسر المجرية تنحشر في شقق صغيرة مُشتركة مكونة من غرفة واحدة ومطبخ- وتظل الكاميرا مُتابعة لإيرين، مُراقبة لها سواء في الحافلة التي تستقلها، أو أثناء عملها في مصنع اللحوم، كذلك أثناء تسلم الموظفين ليومياتهم النقدية في نهاية يوم العمل، وتفتيشهم أثناء خروجهم من المصنع في نهاية يوم العمل.

تنتقل كاميرا تار من خلال القطع المُونتاجي إلى شقة والد لاسي/ عش العائلة، وهي الشقة التي تعيش فيها إيرين مع زوجها لاسي- المُجند في الجيش- وابنتها وعائلة والدي زوجها لنرى والد لاسي- وهو الدور الذي أداه المُمثل ببراعة لدرجة أننا سنشعر معه طوال الوقت بالنفور والتقزز والاشمئزاز منه، بل والرغبة في صفعه، أو البصق عليه- حيث يصرخ بسُلطوية مُطلقة على زوجته: ماذا لدينا على العشاء؟ لترد عليه: يخنة بطاطس. ليقول مُتبرما: يخنة بطاطس مرة ثانية؟! لكنها ترد عليه: ما الذي يمكنني خدمتك به غير ذلك؟! ليقول: ألا يمكن طهو شيء مُختلف؟ لتسأله: مثل ماذا؟ فيرد: القليل من الحساء، أنت تعرفين بأني أحبه. فتقول: زوجة ابنك العزيزة تصنع الكريب، كيف تتوقع مني طهو الحساء؟

نُلاحظ- مع هذا المشهد الأول للأسرة- الازدحام الشديد داخل الشقة المُكتظة بالأفراد، حتى أنهم غير قادرين على التحرك فيها بحرية كافية، بل يكادوا أن يصطدموا ببعضهم البعض إذا ما رغبوا بالتحرك داخلها، فضلا عن الصخب والضوضاء الشديدين نتيجة لأن الجميع يتحدثون مع بعضهم البعض في نفس الوقت حتى لكأننا في سوق مُزدحم، بالإضافة إلى السُلطوية الكريهة لوالد لاسي، وتعامله مع الجميع بشكل كريه مُنفر فيه الكثير من الأوامر باعتباره مالك الشقة التي تأويهم جميعا، والتي من دونها سيجدون أنفسهم في الشارع من دون مأوى لهم، وهو الأمر الذي يكرره كثيرا طوال أحداث الفيلم، ويعمل على التأكيد عليه بأنه مالك الشقة التي تأويهم، وأنهم من دونه لن يستطيعوا الحياة لأنهم لا يمتلكون شقة مثل شقته.


حينما تخبر الزوجة زوجها بأن إيرين تصنع الكريب؛ يتحول باتجاه زوجة ابنه بفظاظة كريهة ليسألها مُستنكرا: تتوقعين زوار أم ماذا؟! لترد: نعم، إحدى زميلاتي، لكنك لم تمنحني الوقت للإيضاح- ترد إيرين عليه بقولها بينما صديقتها/ الضيف محشورة معهم بالفعل في الشقة- ليقول بفظاظة أكبر: أتدعين الضيوف لشقتي؟ ومتى عدتِ؟ لتقول: في الخامسة، ولا تحاول إزعاجي طوال الوقت. ليقول: ومع ذلك لا يمكنك دعوة الضيوف هنا في شقتي.

إذن، فنحن هنا أمام حياة مُستحيلة؛ فإيرين لا يمكنها دعوة من ترغب من زملائها إلى الشقة لأنها ليست ملكها، بل ملك والد زوجها الفظ، كما أنه يتدخل في كل دقائق حياتها، حتى أنه يسألها عن موعد عودتها، وعن موعد خروجها، وعن كل تفاصيل حياتها التي تخصها وحدها، أي أنه يتدخل في كل شيء باعتباره صاحب الحق في حياتهم جميعا بما أنه يمتلك الشقة التي تأويهم، أي أن تار في حقيقة الأمر إنما يقدم لنا جحيما اجتماعيا لا يُطاق مُمثلا للمُجتمع المجري بكامله.

سنعرف أن لاسي/ زوج إيرين مُجند في الخدمة العسكرية مُنذ عامين، وبالتالي فهو غائب عن ابنته وزوجته اللتين تعيشان محشورتين في شقة والده، فضلا عن أن إيرين تعمل ليل نهار من أجل اكتساب القليل من المال، وإرسال بعضه إلى زوجها المُجند والمُدمن على الكحول، أي أنها تتولى الإنفاق على أسرتها وزوجها، فضلا عن أن حماها دائما ما يطالبها بالمال في مُقابل إيوائها داخل شقته الخانقة.


إن سُخرية بيلا تار من الوضع الاجتماعي والسياسي المُزري للمجر تتضح لنا حينما تركز الكاميرا على شاشة التلفاز التي تنقل الأخبار حيث نستمع للمُذيع يقول: وقعت حكومة جمهورية الشعب المجري، واللجنة المركزية لرابطة الشباب الشيوعي اتفاقية بحضور فيرنيك هافسي، عضو اللجنة المركزية لـPOSH، ونائب رئيس الوزراء، لازلو ماروثي، عضو المكتب السياسي، والسكرتير الأول، وأعلنت الرابطة الشيوعية الشابة، المُؤتمر التاسع لرابطة الشباب الشيوعي بأنها ستشرف على أعمال البناء في المُفاعل الذري في باك.

إن السُخرية العميقة للمُخرج تتجلى لنا هنا من خلال المشهد الخانق للأسرة الذي نراه- تكتلهم وانحشارهم في شقة مكونة من غرفة ومطبخ فقط- والخبر الذي يفيد بأن الحكومة المجرية الشيوعية التي كانت السبب في حياتهم مثل هذه الحياة اللاآدمية عازمة على بناء مُفاعل ذري! أي أن الحكومة المجرية الشيوعية لا يعنيها المُجتمع الذي يعاني بأكلمه، وانحشاره بالكامل في مثل هذه العلب/ الشقق النادرة، والتي لا يستطيع المواطن الحصول عليها في مُقابل بناء مُفاعل ذري- بالنسبة للنظام السياسي المُفاعل الذري أهم من المواطن الذي تستخدمه كمُجرد أداة، وعبد فقط من أجل هذه المُفاعلات- إنه انتفاء إنسانية المواطن المجري، وتحويله إلى حيوان لا تشعر به حكومته، ولا يعنيها الاهتمام به!

بل تتضخم السُخرية هنا حينما نعلم بأن المواطن الذي سيذهب من أجل المُشاركة في بناء المُفاعل الذري سيحصل على شقة مكونة من غرفة ومطبخ كمُقابل من أجل مُشاركته في المُفاعل- رغم أن الحصول على شقة في المجر في هذه الفترة الزمنية كان من الأمور النادرة التي لا تتحقق بسهولة، بل إن المواطن الذي يقدم طلبا من أجل الحصول على شقة يضطر إلى الانتظار في الدور لسنوات طويلة- قد يكون قد وافته المنية خلالها- كي يحصل عليها!

يُفاجأ الجميع بعودة الابن الثاني مُصطحبا معه لاسي الذي عاد إلى البيت مُنهيا لحياة الجندية؛ فيرحب به أبوه في مشهد حرص فيه المُخرج على إيضاح مدى الفساد الاجتماعي الذي ضرب جذوره في جميع أركان المُجتمع المجري؛ نتيجة للحياة البائسة التي يحيونها في ظل النظام الشيوعي حيث يقول لابنه: حياة الجندية هي الأفضل على الإطلاق، لو كنت قد قبلت عمولة لكان لديك الآن شقة أسرع بكثير، كان من السهل بالنسبة لك، شقة ضابط، مُستقبل جيد، وأجر جيد، أم أنك تريد العودة إلى أحواض بناء السُفن كعامل لحام؟


إذا ما توقفنا هنيهة هنا أمام هذا المشهد، والحوار الذي دار بين الأب وابنه لاتضح لنا مدى عمق السُخرية الاجتماعية التي يرغب المُخرج في التوقف أمامها، وانتقاد المُجتمع المجري الذي لم يعد يحكمه أي شكل من أشكال القيم، بل هو الفساد الذي يضرب بجذوره في كل مكان، ويفكر فيه الجميع، وبالتالي يكون قبول العمولة/ الرشوة أمرا طبيعيا من أجل الحصول على شقة، والحياة فيها، أي أن المواطن قد بات من حقه فعل أي شيء من أجل الحصول على الحلم الوحيد الذي يحلم به المواطن المجري- مُجرد شقة مكونة من غرفة ومطبخ فقط.

إن بؤس الحياة في المجر في ظل هذه الفترة الشيوعية يتجلى لنا بشكل أكبر في حوار الأب مع الفتاة الغجرية/ زميلة إيرين في عملها حيث يقول لها: كما تعلمين، بودابست ليست فاخرة كما تتخيلي، كان من الأفضل لك البقاء في قريتك الصغيرة، هذا صحيح، فهناك لديك كل ما تحتاجينه، وهو أرخص كثيرا، بينما هنا لا يمكنك شراء أي شيء. لتقول له: لكني أرغب في الاستمتاع أيضا. ليقول: تظنين أن الحياة مُجرد وعاء من الكرز. فتقول: هناك أيضا المركز الثقافي، والسينما، ماذا تريد أكثر من ذلك؟ يمكنك حتى الرقص بشكل جيد. فيقول: لكن هنا الأمر مُختلف. لتسأله: كيف؟ يرد: إنه غالٍ جدا، في بودابست، عليك أن تدفعي إذا ما كنت تريدي المُتعة، وإذا ما استمتعت فلن تأكلي، ولن يمكنك شراء الملابس، إما هذا أو ذاك. لتقول الفتاة: لكن الآخرين تمكنوا من فعل ذلك. ليقول: بالتأكيد ليس من خلال رواتبهم فقط.

إنها حياة بائسة بكل المقاييس، حياة تؤكد على أن حياة المواطن المجري مُجرد جحيم لا معنى له، وبالتالي فهو لا يعيش من أجل الاستمتاع بحياته بقدر ما يعيش ويعمل من أجل سد جوعه فقط، ومن ثم إذا ما رغب في المُتعة فعليه أن يخضع لآليات الفساد الضارب بجذوره في كل أركان المُجتمع، وهو الفساد الذي بات الجميع بتقبلونه باعتباره المخرج الوحيد لهم من الجحيم الذي يعيشون فيه- لاحظ جملته الأخيرة: بالتأكيد ليس من خلال رواتبهم فقط، وهي الجملة التي لا بد لها أن تردنا إلى جملته الأخرى مع ابنه: لو كنت قد قبلت عمولة لكان لديك الآن شقة أسرع بكثير!


حينما تحاول الفتاة الغجرية الانصراف في نهاية السهرة يتبعها لاسي وشقيقه مُدعين بأنهما ذاهبان إلى الحانة قليلا، لكنهما يحاولان التحرش بها واغتصابها، ورغم أنها ترفض وتقاومهما، إلا أنهما يصران على الفعل، بينما نرى الكاميرا تراقبهما بشكل خانق بكادراتها الضيقة التي لا تتسع لأكثر من وجه في الكادر الواحد، بينما الفتاة تطلب منهما الابتعاد عنها ليقول لها الأخ: إذا ما صرخت سيأتي الآخرون، هل هذا ما ترغبينه؟ لكنها ترجوه بقولها: دعني أذهب. إلا أنه يُصرّ على اغتصابها قائلا: أتفضلي قائمة انتظار أطول؟ هل هذا ما تريدينه؟ الآن هناك اثنان منا فقط. أي أن محاولة استغاثتها بالآخرين لن يؤدي إلى إنقاذها منهم، ومن فعل التحرش والاغتصاب، بل سيؤدي إلى زيادة قائمة المُغتصبين لها في طابور طويل ربما لن ينتهي، مما يعني أن المُجتمع المجري في هذه الآونة لا يرى فعل في التحرش والاغتصاب جريمة بقدر ما يراه فعلا عاديا من المُمكن المُشاركة الجماعية فيه باعتباره حقا لكل الذكور تجاه كل إناث المُجتمع، وهو ما يفسر لنا ذهاب الفتاة معهما إلى الحانة لقضاء الليلة بعد اغتصابها وكأنما لم يحدث لها شيئا!

ينتقل تار من خلال القطع المُونتاجي على مشهد خارجي أكثر اتساعا مما يعطي الكاميرا الفرصة للخروج من حالة الاختناق، واتساع عدستها لالتقاط لقطات أكثر راحة، حينما نرى لاسي مع إيرين وابنتهما في الملاهي بينما نستمع إلى أغنية تعبر كلماتها عن المزيد من السُخرية التي يرغب تار في التركيز عليها، حيث توضح مدى التناقض بين ما يدور أمامنا على الشاشة، وما تُدلل عليه كلماتها التي تقول: أنا أنتظر الشمس، أنا أنتظر شروق الشمس، وأنتظر اليوم الجديد، نعم، أنا في انتظار وصول اليوم الجديد، سيكون كل شيء أفضل وأجمل، ولن أخاف من أي شيء.

مع تأمل كلمات الأغنية التي تدعو إلى التفاؤل بالحياة، في مُقابل ما يعيش فيه جميع أفراد المُجتمع المجري يتضح لنا مدى المُفارقة الساخرة التي يرغب تار في تعميق أثرها في نفوسنا، ومدى القهر الذي يعيش فيه المُجتمع البائس.


إن انحشار مجموعة كبيرة من البشر داخل شقة خانقة مكونة من غرفة ومطبخ- وهو ما يحياه جميع أبناء المُجتمع المجري في هذه الفترة- لا بد أن يؤدي بالضرورة إلى الكثير من الأمراض الاجتماعية، مما ينمي من مشاعر الكره، والبغض، والرفض، بل والادعاء الذي لا سبب له سوى نمو الكراهية والنميمة داخل نفوس الآخرين، وهو ما نراه حينما يحاول الأب دفع ابنه لاسي من أجل هجر زوجته إيرين، حيث يقول له عنها: إنها تمشي في الجوار بنصف ملابسها، ولم تستخدم منديلا أبدا- في إشارة منه إلى انفلاتها الأخلاقي، لا سيما أن المُجتمع المجري هو مُجتمع مُحافظ إلى حد كبير- بل يصر الأب على تنمية مشاعر الكره والرفض داخل ابنه تجاه زوجته بقوله: لقد رأيت ما تفعله، لم أرغب في إخبارك بذلك، إنها دائما ما تدعي بأنها في الخارج مع أحد أصدقائها. ليرد لاسي عليه: أنا أصدق ما أراه. فيقول الأب: أنت دائما تصدقها هي، انظر إلى والدتك التي كانت دائما مُخلصة لي، ألا تلاحظ أنها لا تعتني بالطفلة؟ لا أستطيع تحمل تلك المرأة، ستدمر حياتك، وحياتنا أيضا، كل انسجام الأسرة، فكر في الأمر، ليس عليك أن تكون أعمى، لم لا تريد التفكير في ذلك؟ ليرد لاسي: سنغادر في أقرب وقت مُمكن لمكان ما. لكن الأب يقول: في الحقيقة هذا ليس حلا، هل ترغب حقا في الحياة مع هذه العاهرة؟! ليقول لاسي: هي ليست بعاهرة. فيرد الأب: هل أنت أعمى أيضا؟ لقد رأيتها تخرج مع الرجال. ليتساءل لاسي: لم لا يحدث ذلك الآن؟ ليقول أبوه: لأنك في المنزل، لِمَ تعود دائما في الليل؟ فيقول لاسي: لأني أعمل الآن، وهي تعمل وقتا إضافيا أقل. لكن الأب يصر: ليست هي التي أرسلت لك المال أثناء فترة التجنيد. فيسأله لاسي: من إذن؟ فيسأله الأب: أين هذا المال؟ فيخبره لاسي: لقد أنفقته. يقول الأب: أنت لا تفكر بوضوح، بالنسبة لطريقة تفكيري فإيرين ليست زوجة ولا أم، أنت لا تصدقنا، وبدلا من ذلك تصدق هذه العاهرة، لن أسمح لابني بإهانة اسم عائلتنا.

إن الحوار السابق بين الأب وابنه إنما يُدلل على تفسخ المُجتمع، وهو تفسخ طبيعي وتلقائي بالنسبة لمجموعة من الأفراد يعيشون مثل هذه الحياة التي دفعهم إليها نظامهم السياسي الذي لا يهتم بحياتهم بقدر اهتمامه ببناء مجموعة من المُفاعلات الذرية.


نظرا لأن تار اعتمد من خلال السيناريو الذي كتبه على ما يشبه القصة بشكلها الذي نعرفه- أي أنها ليست قصة بالمعنى التقليدي- بل مُجرد مُتابعة للسلوك اليومي العادي الذي يراه من حوله في المُجتمع المجري لرغبته في عرض ما يدور في مُجتمعه، وانتقاده، والسُخرية المريرة منه؛ فلقد أدى بنفسه إلى مأزق استكمال فيلمه وقضيته التي يتعرض لها، وبالتالي أدى به ذلك إلى انقلاب أسلوبي في الفيلم من أجل استيفاء ما هو بصدده من انتقاد لأحوال مُجتمعه. أي أن تار حينما رأى أن فيلمه لا يمكن له السير بنفس الوتيرة، وإلا توقف تماما ساكنا غير قادم على التقدم للأمام، اضطر إلى استخدام أسلوبية السينما الوثائقية التي تعتمد على مجموعة من المُقابلات التي يحكي فيها الأفراد مُعاناتهم، ومُشكلاتهم التي يعانون منها- رغم أنه مُنذ اللقطة الأولى من فيلمه نلمح فيه أسلوب الفيلم الوثائقي بشكل أخف وطأة مما تحول إليه الفيلم فيما بعد- وهو ما نراه حينما تتوجه إيرين إلى مصلحة حكومية من أجل مُتابعة طلبها في الحصول على شقة لها ولزوجها، حيث نرى فتاة مُنتظرة بدورها تتحدث إلى الكاميرا- في أسلوبية وثائقية تماما- قائلة: أعمل هنا مُنذ عام 1973م، وقد أجبرتنا المحكمة العليا على الخروج من الشقة في غضون خمسة عشر يوما، لكن لم يكن لدينا مكان آخر نذهب إليه، لذلك مكثنا مع حماتي. لدي طفلان، وأتوقع الحصول على طفل ثالث، أحدهما يتم الاعتناء به من قبل والدتي، والآخر من قبل والد زوجي، وقد أخذنا رجل عجوز، لكنه كان مُستأجرا من الباطن من شخص آخر، لم نكن نعرف ما كان في عقد الإيجار. مات الرجل العجوز، لكن عقد الإيجار كان لا يزال ساريا، حكمت المحكمة العليا بخرق العقد، لكني لا أعرف إلى أين أذهب، سيكون من المُفيد لي الحصول على هذه الشقة، بفضل هذا الرجل العجوز تمكنت من استعادة أطفالي، فهم كالغرباء.

ينتقل تار من خلال القطع المُونتاجي إلى امرأة أخرى مُنتظرة لدورها بينما تتحدث بدورها إلى الكاميرا: سيكون من المُفيد الحصول على شقة، تكفي غرفة واحدة مع مطبخ طالما كان لدي سقف. لست متزوجة فنحن نعيش مُنفصلين، لقد عانيت من مشاكل في رئتيّ، لكني أجريت للتو عملية جراحية، وأستطيع العمل الآن، لكن لا شيء ثقيل يمكنني رفعه، لدي طفل واحد فقط، وأخي أيضا لديه طفل بالإضافة لزوجته، كانا ينتظران عامين للحصول على شقة، لكنهم دائما ما يقولون: انتظروا، انتظروا. يقولون: إنهم لن يؤجروا مكانا لشخصين فقط، ولكن إذا ما كانت هناك حاجة ماسة، أفلا يمكن أن يكون ذلك صحيحا؟ وإذا ما كان لدى شخص مكان بدون تصريح، فهل يمكنه البقاء؟


إن لجوء تار إلى أسلوبيته الوثائقية هنا- وهي الأسلوبية التي استمر عليها حتى نهاية فيلمه، محولا أبطال الفيلم إلى مجموعة من الأفراد الذين يتحدثون أمام الكاميرا وكأنهم في فيلم تسجيلي- ساعدته بالفعل في استكمال استعراضه للجحيم الاجتماعي المجري، لكنها في نفس الوقت سلبته الكثير من قيمة فيلمه الفنية، وجعلته ينحو به باتجاه المُباشرة تماما- باعتباره فيلما روائيا في الأساس- وبالتالي بات صوت المُخرج في انتقاد المُجتمع من حوله عاليا ذا ضجيج، ويكاد أن يكون سطحيا، أي أن الوثائقية كبديل للروائي في الفيلم لم تفده بقدر ما أضرته على المستوى الفني كثيرا- لا نستطيع هنا محاولة التماس العذر للمُخرج باعتباره يحاول تقديم فيلم نوعي، تتداخل فيه الأجناس الفيلمية المُختلفة، فالمُخرج حينما لم يستطع الاستمرار في فيلمه بشكل روائي حتى النهاية؛ لجأ إلى هذا الأسلوب الذي أدى إلى سيادة الفوضى والارتباك في فيلمه في نهاية الأمر.

حينما تتجه إيرين إلى الموظف من أجل سؤاله عن الطلب الذي تم تقديمه من أجل الحصول على شقة لها ولزوجها وابنتهما، وهو الطلب الذي تسأل عنه كل أسبوع تقريبا، وفي كل مرة يخبرونها بأنها لا بد لها أن تنتظر دورها، نُلاحظ أن الموظف يتعامل معها ببرود مُطلق، وبشكل بيروقراطي لا يختلف مُطلقا عن كل النُظم في العالم الثالث، لا سيما الأنظمة الشيوعية، ولعلنا نتأكد من هذا العذاب الذي يعاني منه المواطن في النظام الشيوعي حينما نستمع للموظف قائلا: للأسف، لا نستطيع منحك شقة هذا العام وفقا لنقاطك، وربما ليس العام المُقبل أيضا، من المُمكن أن نتمكن من منحك شقة في عام 1979م أو 1980م! غرفة واحدة مع مطبخ بشكل مُؤقت. فترد: أنا لا أفهم، عندما جاءكم زوجي هنا الأسبوع الماضي؛ طلبوا منه أن يطلب شقة فارغة إذا ما علمنا بواحدة. ليقول: من غير القانوني القيام بذلك، لم يقل أحد هنا مثل هذا الشيء، لا يمكنك القول بأنك تعرفين مكان شقة فارغة. فتقول: لكننا نعلم بأن مثل هذه الأشياء موجودة، توجد شقق فارغة، ومع ذلك لا أفهم لم لا تعطينا بعض الأمل على الأقل، بحلول عام 1980م قد أكون ميتة ومدفونة إذا ما واصلنا العيش على هذا النحو، سيكون زواجي على المحك، لا أصدق بأنك مثبط هكذا. فيرد: طلبات الإقامة مُصنفة حسب الحاجة المُلحة، هنا لدينا 14000 طلبا، ماذا نقول للعائلات التي يكون مُؤشر الاستعجال فيها ضعف ما لديك؟


إن مثل هذا الحوار البيروقراطي السخيف بين الموظف وإيرين إنما يُدلل على عمق الكارثة التي يعيش فيها المُجتمع المجري غير القادر على امتلاك مكان يأويه من التشرد، أو التكدس مع الآخرين في مساحة خانقة، شديدة الضيق، ولعل الرقم الذي ذكره الموظف في الحوار يدل على مدى الأزمة التي يعيشها المجريون بالفعل من أجل شقة تأويهم، بل نلمح أيضا مدى الفساد المُستشري في كل مكان، والذي يجعل الدولة لا تمنح المواطنين شققا لسكناها بدلا من التشرد في حين أن هناك بالفعل شقق متوفرة، لكنها تحتفظ بها لأصحاب الحظوة، وهو دليل دامغ على الفساد، يقوي من هذا الأمر قول إيرين للموظف: أعرف رجالا عازبين يعيشون بمُفردهم بشقتهم. لكنه يرد: سنطردهم. فتقول: لقد كانوا هناك لأكثر من عامين. ليقول: هذا غير مُمكن. لتقول: إنه مُمكن، وهذه هي الحقائق. فيقول شاعرا بالملل: حسنا، اعطني أسماءهم وعناوينهم.

إنه فساد حقيقي، يجعل بعض الناس يحيون داخل شقق بمُفردهم في الحين الذي يعلن فيه النظام بأن منح الشقق لا بد أن يكون للأسر فقط، وكلما كان عدد أفراد الأسرة أكبر؛ كلما كانت لها الأحقية والأولوية في الحصول على شقة قبل غيرها، وهو ما يجعلهم يرون أن إيرين وزوجها ليسا من حقهما، حاليا، الحصول على شقة لأن ثمة أسر أخرى في حاجة لذلك أكثر منهما، بما أن عدد أفرادها أكبر، وهو ما يجعل إيرين تقول له بمرارة: هل تشعر بالفخر بسياستك الاجتماعية، وتنظيم الأسرة والأطفال، وكل هذه الزيجات تفشل لأنه لا يوجد مكان يعيش فيه الشباب؟

إن السؤال في جوهره يوجهه المُخرج بيلا تار للنظام السياسي في حقيقة الأمر، وليس للموظف الذي لا يمتلك سوى تنفيذ أوامر النظام وبيروقراطيته.


رغم ادعاء والد لاسي لابنه بأن أسرتهم ذات اسم وسُمعة جيدة، وأن إيرين سوف تسيئ إليهم بتمريغ اسم الأسرة في التراب باعتبارها داعرة- كما يدعي عليها- إلا أن تار- من خلال أسلوبه الساخر- يجعلنا نرى الأب يلوم ابنه الثاني بقسوة وغضب، لائما إياه لأنه اكتشف بأن ابنه لديه ابن غير شرعي من امرأة ما، لكن الابن يرد هنا بثقافة ذكورية مُتأصلة في المُجتمع المجري المسيئ دائما للمرأة كما رأينا مُنذ اللقطات الأولى في الفيلم، وبالتالي حينما يقول له الأب: أنت غير مسؤول للغاية. يرد الابن: على أي حال هي ليست مُشكلتي، بل مُشكلتها. فيرد الأب: يحتاج صُنع طفل إلى اثنين، أو هكذا أعتقد. فينهي الابن الحوار في النهاية بقوله: إنها ليست نهاية العالم!

قد يبدو لنا الأب هنا أخلاقيا- ولكن بشكل ظاهري- فهو لا يعنيه حفيده الذي عرف عنه بقدر اهتمامه بما سيقوله الناس حول ابنه الذي رُزق بطفل، ولم يعترف به، أو لم يهتم بالاعتناء به. ولعل الدليل على ذلك أن الأب نفسه بدوره غير أخلاقي كابنه تماما، لا سيما أننا نراه في الحانة يتناول الكحول بينما يحاول جاهدا التودد لإحدى النساء من أجل قضاء ليلة معها، لكنها ترده رافضة له طوال الوقت رغم لجاجته؛ مما يجعله يقول لها: لم ترفضني امرأة قط. لتقول: لكني سأرفضك. فيقول: ستبكين عندما أرحل. لتسأله: لأي سبب؟ أبكِ من بعدك؟! ليقول: كوني سعيدة، لأنك تمتلكين رجلا مثلي يمتلك سيارة. فترد: هذا لا يهمني. ليسألها: أتريدين مارلبورو؟

إذا ما تأملنا الحوار السابق بين الأب وامرأة الحانة لرأيناه حوارا سيرياليا- لكننا بالفعل كثيرا ما نراه في الواقع من قبل الكثيرين من الذكور، لا سيما في المُجتمعات التي تسودها الثقافات الذكورية، وتهميش المرأة واحتقارها- فالأب يرى أنه لا يمكن أن يُرفض من قبل أي امرأة لمُجرد أنه رجل- وكأنما ذكورته كافية لعدم الرفض- فضلا عن ظنه بأن امتلاكه لسيارة يجعله رجلا لا مثيل له، تتمناه أي امرأة نتيجة للفقر السائد في المُجتمع، وهو ما يجعله يظن بأنها ستبكي، بل ويحاول إغرائها بالسجائر الأمريكية التي كانت بالفعل عملة نادرة في المُجتمعات الشيوعية السابقة. إن الأب هنا ينطلق من مُنطلق نظرة دونية ومُحتقرة للمرأة، ورغم حاجته الشديدة إليها على المستوى الجنسي، إلا أنه في قرارة نفسه ينظر إليها بدونية وبأنها مُجرد أداة لتفريغ رغبته الجنسية فقط، وهو ما يتأكد لنا من خلال قوله: أنا رجل، لدي احتياجات أساسية، اعطيني يدك. أي أن كونه رجلا لديه احتياجات يجعل له الحق في فعل ما يحلو له بها وبأي امرأة غيرها، وكأن هذه الاحتياجات الجنسية هي حق له فقط، وهو فقط الذي يشعر بها، بينما المرأة ليس لديها أي احتياجات سوى استقبال حاجات الرجل فقط؛ لذلك حينما ترفضه المرأة في نهاية الأمر، تاركة إياه لتنصرف؛ ينعتها بالعاهرة، أي أنها قد باتت عاهرة من وجهة نظره لمُجرد أنها رفضت أن تقضي معه ليلة جنسية، في الوقت الذي يتأكد لنا بأنها بالضرورة كانت ستُنعت أيضا بالعهر بعد انقضاء الليلة الجنسية بينهما، أي أن توصيفها بالعهر في حقيقة الأمر كان مُؤجلا فقط لما بعد انقضاء الليلة إذا ما كانت قد حدثت، لكن المُثير للسُخرية- وهي سُخرية مُتعمدة من المُخرج- أنه بمُجرد انصراف المرأة التي وصفها الأب بالعاهرة يبدأ في غناء أغنية كلماتها تُبجل المرأة في صورة الأم وتحترمها، حيث تقول كلماتها: كافحت أمي لتربيتي، عملت ليل نهار، كانت حياتها صعبة. وهو ما يجعلنا نتساءل: هل الأم ليست امرأة مثل بقية النساء؟! ولِمَ يرى الرجل مُعظم النساء من حوله عاهرات فيما عدا أمه الوحيدة التي يراها قديسة؟ إنها الثقافة الذكورية السائدة التي جعلته يتهم زوجة ابنه أيضا بالعهر، ويتهمها بمُصاحبة الرجال لمُجرد أنه حاول التحرش بها ذات مرة، لكنها ضربته بحذائها؛ ومن ثم حق عليها- من وجهة نظره- وصف العهر، بما أنها رفضته، وهو في قرارة نفسه يرى بأنه رجل لا يُرفض من أي امرأة!


يستمر تار في النصف الأخير تقريبا من فيلمه على أسلوبيته الوثائقية التي تتحول بفيلمه إلى حد كبير إلى مُجرد انتقاد سياسي واجتماعي للنظام الشيوعي المجري بصوت عالٍ شديد الفجاجة، لا سيما حينما تمرض ابنة إيرين ولاسي بمرض تنفسي في الرئة بسبب الازدحام الشديد داخل الشقة الضيقة- وهي أمراض التنفس المُعتادة التي تُصيب من يعيشون في مكان واحد وضيق بأعداد كبيرة- وحينما تتجه مع زوجها لحماها من أجل إقراضهم المال ومحاولة الاستقلال بحياتهما، يتهمها أمام ابنه بالعهر، ومُصاحبة الرجال، وبأنها تدعي دائما بأنها تعمل في وقت إضافي في حين أنها في حقيقة الأمر تُصاحب الرجال من أجل مُتعتها الجنسية، بل وتنفق أموالها عليهم، ويدعي لابنه بأنه قد راقبها وتأكد من عهرها؛ مما يجعل الابن يسألها عن السبب في تأخرها خارج البيت، ولِمَ لمْ تكن تبيت في البيت أحيانا، وأنها عليها أن تثبت بأنها بالفعل كانت تعمل أعمالا إضافية، بل وإثبات فيما كانت تنفق أموالها التي تكسبها من عملها أيضا؛ مما يجعلها تترك البيت مُصطحبة ابنتها وتتركهما.

تنتقل كاميرا تار بأسلوبيتها الوثائقية لتحدق في إيرين باكية، بينما تتحدث إلى امرأة مجهولة، في حين أنها تتحدث في جوهر الأمر للكاميرا، أو لنا كمُشاهدين بشكل مُباشر، حيث تقول: لا أعرف ما الذي سيحدث، الطفلة بخير، إنها تقيم مع أخي، لكني بحاجة إلى مكان يمكنني أن أكون فيه بمُفردي، بعد ذلك، لا أعرف، أفترض أن شيئا ما سيظهر، لكن الآن، إنه فظيع جدا، وأنا وحيدة للغاية، غرفة واحدة فقط ستكون كافية، أو أي شيء أشاركه مع شخص ما، أصبحت الآن أنام هنا وهناك، لا أعرف إلى أين أذهب، هذا سيئ للغاية، كانت لدينا مشاكل في الماضي، تزوجنا مُنذ سبع سنوات، لكن هذه المرة يبدو الأمر نهائيا، لم نفترق أبدا، الآن فقط، لهذا فالأمر صعب للغاية، لا أستطيع تخيل حياتي بدونه، ربما نعود معا حينما أكون في شقة خاصة بي. إنه بالتأكيد بسبب ذلك، أنا واثقة من أننا لو كنا وحدنا، اثنتانا فقط سيكون الأمر مُختلفا، كل ما حدث بالتأكيد بسبب ذلك، لا يمكنني الاستمرار، إذا ما كان في مقدروك المُساعدة فأرجو أن تحاولي، أي شيء سيساعد حتى لو كان في نهاية العالم، في هذه الأثناء سيكون مُفيدا بالتأكيد، وسأكون أكثر هدوءا، ربما يفهم، من الأفضل أن نكون اثنين فقط وندفع إيجارا، لن يكون هناك هذا الحشد الذي ينظر إلينا دائما، يراقب ما نفعله، وكيف نفعله، ومتى، ولماذا نغلق الباب، ولِمَ لا نفتحه، الأمر صعب بهذا الشكل، وهو ليس سهلا في المصنع أيضا، فأنا متوترة، وأحاول التظاهر طوال اليوم حتى لا يلاحظ أحد ما أنا عليه، وحينما أغادر لا يمكنني سوى البكاء، لا، ليس الأمر سهلا هناك. كما تعلمين، إذا لم يكن لدى المرء مال فهو يخجل من الاعتراف بذلك، ويدمر كل شيء، على سبيل المثال، إذا لم أعد في الوقت المُحدد؛ يقولون مُباشرة إن هذا لسبب واحد فقط، لكني كنت أعمل وقتا إضافيا، كنت أعمل مثل العبد، وإذا لم أر أمي يُفسر ذلك لسبب آخر، لقد تجادلنا كثيرا مُؤخرا، لكن لم يدرك أحد، هذا ليس من شأنهم، لا أظن إني بحاجة إلى أن أشرح لك، عندما لم أستطع الذهاب إلى الثكنات؛ سألوا على الفور لماذا؟ لم يمنحني أحد أي أموال، ولا بنس واحد، تجادلنا حول التوافه، لأني بالفعل مُنذ ديسمبر رزقت بالطفلة، وسمحت لها بفعل ما تريد، لكنه لم يضربها أبدا- تقصد والد الزوج- لأني كنت أمها، كل السنوات التي قضيناها معا، عندما عدت خرج هو إلى الحانة- تقصد الزوج- ثم عندما سألته عما يجب أن أفعله في المنزل، أجابني بأنه لم يكن مكاني، لذلك لم أكن أعرف ما أفكر فيه، لكن، حتى لو بقيت وحدي طوال حياتي، هذا لا يقلقني، سيكون بالتأكيد أفضل مما كنت عليه، كنا في حالة حب، لا يمكن الابتعاد عن شخص مثله، في كل الأحوال هو والد طفلتي، لا أعرف ما الذي سيحدث.

تستمر إيرين في الحديث إلى الكاميرا بقولها: إذا ما كان لدي مكان سيكون ذلك رائعا، حتى لو اضطررت إلى النوم لمُدة شهر أو عام على الأرض بدون سرير أو حتى أي أثاث، لا أعرف، لا أعرف ماذا سأفعل، سأكون سعيدة جدا، سأقبل الجدران بالتأكيد، سيكون رائعا إذا ما كانت لدي شقة، حتى لو نمت على الأرض بدون أثاث لأني أعلم بأنها ملكي، وسيكون لي فقط الحق في الدخول إليها، لا أحد آخر، أنا على ثقة من أن هذا سيحدث، وشيئا فشيئا سأشتري الأُثاث، سأطلب قرضا من المصنع، لا أعرف، لكني مُتأكدة من أن الحياة يمكن أن تكون جميلة.

إن الحديث الذي تتوجه به إيرين للكاميرا إنما يلخص مدى عمق المأساة المجرية، وربما يلخص لنا أيضا فحوى الفيلم، وما دار فيه، إنها المأساة التي أدت إلى تدمير الكثير من الحيوات والأسر الشابة لأنهم لا يمتلكون شقة صغيرة يعيشون فيها، كما أدت إلى تفشي الأمراض الاجتماعية في المُجتمع المجري، بل وسيادة الفساد على كل المستويات في ظل الأنظمة الشيوعية التي حولت كل شيء إلى دمار حقيقي.

ينتقل بيلا تار بكاميرته إلى لاسي/ زوج إيرين بدوره في مشهد ذي أسلوب وثائقي- وكأنه في مُقابلة- ليتوجه بحديثه إلى الكاميرا، شارحا مُشكلته التي يعاني منها بقوله: كان ذلك في يناير 1971م، كانت زوجتي سعيدة للغاية. والديها لم يعطياها شيئا، بل أخذا منها كل شيء، اشتريت لها معطفا بالدين، معطفا شتويا، كانت سعيدة جدا، واستمرت في تكرار قولها يوما بعد يوم بأنها لم تمتلك مثل هذا المعطف الجميل أبدا، في الشهر التالي اشتريت لها زوجا من الأحذية مُقابل 800 كرونة، مرة أخرى قالت: إنها لم يكن لديها مثل هذا الحذاء من قبل، لم تستطع، لأن والدتها أخذت مالها، كنت سعيدا لتمكني من شراء شيء ما لها، كانت دائما مدينة في ذلك الوقت لأن والدتها كانت تأخذ أموالها مما يجعلها لا تستطيع شراء أي شيء لنفسها، كانت تنفق كل مالها على أمها، كانت مُصابة بانهيار عصبي، لكنها تعافت، والآن؟ إنها تحاول الابتعاد عن والدي، لا تزال مريضة، تماما كما في البداية، يداها ورجلاها تهتزان طول الوقت. أرادت الرحيل وفعلت ذلك، لا أعرف إذا ما كان لديها أي مكان تذهب إليه. إذا ما كنت أمتلك شقة، وسأحصل عليها قريبا، هذا أمر مُؤكد، سآخذ الطفلة وستأتي بدورها، ستأتي لأنها تحبني، أنا أعلم أنها غالبا ما خدعتني، لكني أحبها رغم ذلك، لم أؤذها أبدا، خلال ست سنوات من زواجنا لم أضربها سوى مرتين فقط، هذا ليس بكثير- لاحظ ذكورية المُجتمع، وعادية الاعتداء على النساء وإهانتهن حتى أنه يرى بأنه لم يؤذها قط رغم ضربه لها- حقا، لدي الكثير من العيوب، كنت أشرب كثيرا قبل الجيش، لكن قبل أسبوع واحد من التجنيد اتخذت قرارا بالتوقف عن الشرب، شربت كمية قليلة من الكحول، لكني بقيت في البار حتى عادت إلى المنزل، عندما تم إطلاق سراحي بدأ كل شيء من جديد، لكن ربما كنت أشرب أقل من الآن، مُنذ أن غادرت لا شيء يهمني، أخرج للشرب وأعود.

المُخرج المجري بيلا تار

يستمر لاسي في حديثه إلى الكاميرا بقوله: المشاكل بيننا كانت بسببي في البداية، كانت بسبب الشراب، لكن في الفترة الأخيرة، كان السبب هو إني كنت أعرف بالفعل أنها خرجت في الليل ولم تعد، ذات مرة حينما كنت في إجازة لم أجدها في المنزل، طويت زاوية من ملاءة الفراش، وفي اليوم التالي عدت بدافع الفضول وسألتها عما إذا كانت قد نامت في المنزل الليلة السابقة؛ فقالت: نعم، لكني كنت أعرف أن هذا ليس صحيحا؛ فقد كان طرف الملاءة تماما كما تركته، هكذا اكتشفت. إذا ما كان لدينا مكان خاص بنا يمكننا البدء مرة أخرى، سيكون ملكا لنا. عندما كنت في الجيش تجسسوا عليها لمعرفة ما تفعله- يقصد والده- عادت من العمل وأخذت الطفلة، ثم ذهبت للتسوق، تجسسوا عليها، لكنها بالطبع لم تكن على دراية بالأمر، لقد كان الأمر أكثر من اللازم بالنسبة لها على ما أظن، ربما كان لها عشيق، ربما لهذا السبب غادرت، يمكنني أن أفهم أن كل هذا كان كثيرا عليها، لقد تحرش بها والدي أيضا، بطريقة غريبة كان يداعبها ليلا من تحت الملاءة، لكنها ضربته بحذائها، لا أحد في عائلتي يعرف ذلك. لم يكن مكان الإقامة هو الأفضل، أنا أحبها وهي تحبني، أنا واثق من ذلك، واثق بنسبة 100%، حتى لو كان لديها حبيب فهذا لا يقلقني، إذا ما كان لدي شقة ستعود، أنا واثق من ذلك، أتريد الرهان؟ ستعود.

ينتهي لاسي من كلامه للكاميرا وسُرعان ما تتساقط دموعه باكيا، لتنتقل كاميرا المُخرج الوثائقية مرة أخرى إلى إيرين التي نراها جالسة حزينة بشكل عميق بينما تنسال دموعها الغزيرة، وتنطلق أغنية يغلق بها تار فيلمه بقصد السُخرية المريرة مما يحدث في الواقع، فرغم انهيار الحياة الزوجية بين إيرين ولاسي- العاشقين لبعضهما البعض- بسبب النظام الشيوعي، وما فعله بالمواطن المجري، إلا أن المُخرج يغلق فيلمه بأغنيه مُبتهجة تماما فيها الكثير من الأمل تقول كلماتها: عندما يصبح منزلنا جاهزا، ستكون ضيفنا الأول، وإذا ما أتيت في المساء فسنأكل معا، ويمكنك النوم في غرفتك الاحتياطية- ونحن على ثقة بأن كلمات الأغنية هذه لن تتحقق أبدا في ظل هذا النظام الشيوعي، ومن هنا تأتي السُخرية.

إن الفيلم المجري "عش العائلة" للمُخرج والسيناريست بيلا تار- وهو الفيلم الأول لمُخرجه- من الأفلام المُهمة في تاريخ ومسيرة المُخرج السينمائية، لمن يرغب في مُتابعة كيفية تطور الأسلوبية الفنية للمُخرج لا سيما الدارسين لصناعة السينما، صحيح أن الفيلم يحمل بعض جينات المُخرج الأسلوبية، لكنه كان من الأفلام الضعيفة إلى حد بعيد- بالقياس إلى أفلامه التالية- بسبب مُباشرة الفيلم، وسطحيته في تناول قضيته، بل وتحوله إلى مُجرد بوق سياسي، خاصة أن المُخرج حينما شعر بالارتباك في استكمال الفيلم لجأ إلى أسلوب السينما التوثيقية كي يفضي إلينا بكل ما يرغب في قوله، ومن ثم إغلاق فيلمه، مما جعل الفيلم مُتأرجحا بين الروائي والتوثيقي بشكل لا يمكن فيه الادعاء بأن المُخرج إنما يقدم لنا فيلما نوعيا يحاول المزج بين الأجناس السينمائية بقدر ما قدم لنا فيلما مُرتبكا إلى حد كبير بسبب موضوع النقد الاجتماعي والسياسي المُباشر للنظام الشيوعي في هذه الفترة.

 

 

محمود الغيطاني

مجلة "نقد 21"

عدد أكتوبر 2023م.