السبت، 26 نوفمبر 2022

هوت ماروك: لعبة صناعة الرأي العام

فيضان سردي. هو التوصيف الذي يمكن إطلاقه على رواية "هوت ماروك" للروائي المغربي ياسين عدنان؛ فالرواية مهما طال السرد فيها تجتذبنا من أعناقنا للاستمرار في قراءتها دفعة واحدة غير قادرين على التخلي عنها لحظة؛ لفرط جماليات السرد، وبساطته، وفنيته، ولغته، ولعل الروائي يتميز بالكثير من الذكاء الفني الذي يجعل القارئ متورطا منذ اللحظة الأولى، والكلمة الافتتاحية في الرواية؛ فالسرد منذ البداية مقتحم، جرئ، واثق من نفسه، يرغم القارئ على الدخول مباشرة في العالم الروائي الذي سيشعر معه كأنه عالمه الذي يخصه هو. يقول: "لم يتصور وفيق الدرعي، الشاعر الشاب، أن الأمور ستتطور إلى ما لا تُحمد عقباه. كان في البداية يسخر ويتذاكى، فيما صويحباته من الغاويات يضحكن لغمزاته المتحذلقة. لكن في اللحظة التي أمسك فيها رحال بخناقه ورجّه بعنف، فهم أن الأمور تمضي باتجاه لم يخمنه خياله الشعري الخصب".

من خلال هذه الفقرة الأولى التي يفتتح بها الروائي روايته نجد أنفسنا في قلب الحدث مباشرة من دون أي مقدمات أو تمهيد؛ حتى لكأنه يريد أن يلقينا في عالمه الروائي لنتفاعل ونكون من شخصياته المتعددة، وهنا لا بد لنا كقراء من الانتباه إلى وفيق الدرعي، ورحال، واشتباكهما الذي سرعان ما سيحيلنا إلى عالم أكبر وأوسع وثري، بطله الأول هو رحال بشخصيته الكريهة المنفرة التي شبهها المؤلف بالسنجاب.

لعل ولع الروائي هنا بوجود بديل دائم لشخصياته من الحيوانات هو أول ما يلفت نظر القارئ لهذه الرواية؛ فالمؤلف يُوجد لكل شخصية روائية في روايته قرينا له من الحيوانات، فنرى رحال السنجاب، وحسنية القنفذ، وأحمد الضبع، وعتيقة البقرة، وبوشعيب الفيل، ومراد الجربوع، والمختار الجرذ، وعزيز السلوقي، وغيرها الكثير من الشخصيات التي كان المؤلف حريصا على أن يكون لكل شخصية منها قرينا حيوانيا تحمل الشخصية من سماته الحيوانية كل خصائصها تقريبا؛ فرحال مثلا يحمل كل السمات السيكولوجية والجينية الحقيقية للسنجاب حتى ذاكرته القوية التي لا يمكن أن يفوتها أي شيء: "لم يكن رحال يفهم لماذا يشبهه البعض بالقرد، ولا كيف ينعته آخرون بالجرذ. تُضايقه هذه الأوصاف. غالبا ما يتلقاها كشتائم. لكنه لا يتأثر بها. فهو مقتنع في قرارة نفسه بأن هذا النبز المتهافت إنما يعكس جهل من يصدر عنهم ويفضح ضعف قدرتهم على التمييز. فرحال يجد نفسه أقرب إلى السنجاب منه إلى أي حيوان آخر. وكل حديث عن القرد والفأر والجرذ- وحتى الضفدع كما نعتته مرة جارة عشواء- يفتقد إلى العين اللاقطة التي تعرف كيف تنتقل بنفاذ ما بين ملامح البشر ونظيراتها عند الحيوانات. قد يكون الفأر والجرذ والسنجاب من نفس الفئة: فئة القوارض، لكن السنجاب لم يكن قط من فصيلة الفأريات. فهو ابن عائلة أرفع شأنا. دعك من الذيل. صحيح أن ذيل الفأر رفيع وطويل فيما يزهو السنجاب بذيل كث كثيف. لكن الفرق الأكبر يكمن في الأخلاق والسلوك وفن العيش، وكذا في التطلعات العميقة للحيوان، مما يؤثر بشكل لاشعوري على سلوك الإنسان المرادف له وأدائه في العمل والحياة".

من خلال هذه المزاوجة المهمة التي اتخذها الروائي كمنهج له في التعامل مع جميع شخصياته الروائية يعمل على أن تحمل الشخصيات دائما نفس السمات السيكولوجية بل والشكلية والملامح التي يحملها الحيوان المرادف له، ولعل في هذه المقارنة ما كان يفسر لنا فعليا السلوك الوضيع الذي يسلكه رحال في حياته مثلا، أو سلوك أستاذه بوشعيب الفيل الذي لا علاقة له بالبحث العلمي، أو سلوك زوجته حسنية الشبيهة فعليا بالقنفذ في كل حركاتها وسكناتها، حتى أننا نتصور أنفسنا في عالم حيواني كبير في شكل آدميين لا يختلفون عن الحيوانات في شيء، وهذا هو ما أراد الروائي إيصاله لنا من دون الحديث بشكل مباشر كي يقول: إن هذا العالم عبارة عن حديقة حيوانات كبرى. فهو لا يقول ذلك مباشرة وإن رغب في إحالتنا له من خلال السرد الذي لا يكشف نفسه للقارئ بشكل مبتذل أو فج، وإن كان من خلال سرد فني فيه الكثير من الحنكة من خلال سارد يعرف ما الذي يريد قوله، وكأنه يتلاعب بالسرد ويستمتع به.

تتحدث الرواية عن الشاب رحال، وتتخذ منه ومن حياته تكأة يستطيع من خلالها المؤلف تأمل كل ما يدور في المغرب من فساد سواء على المستوى الاجتماعي أو السياسي، أو الإعلامي، أو حتى الأيديولوجي. ومن خلال هذا التأمل يتكشف لنا مغربا غارقا في الفساد حتى النخاع، مغربا ضرب السوس في جذوره وجعله على الهوة يكاد أن يسقط نحو الهاوية، ولعل السبب في كل هذا الفساد هو السلطة القائمة فيه وخلطها بين كل أمور الحياة والسياسة، حتى أن السلطة السياسية تعمل على تطويع كل شيء مُعاش من أجل السياسة الفاسدة التي يحرص من هم في قمة الهرم السياسي عليها؛ فيستغلون الدين، والأشخاص، وتقاليدهم، والإنترنت بأوهامه التي يعيشها البشر، والإعلام الفاسد أو الإعلام الحقيقي حريصة على إفساده والسير به في نفس التيار السياسي الفاسد؛ ليتكشف لنا في النهاية أن كل ما يعيشه المواطن المغربي مجرد وهم حقيقي مرسوم بدقة من قبل السلطة السياسية كي يعيشه المواطن الغر ويصدقه باعتباره حياة طبيعية وحقيقية بينما الأمر لا يمكن أن يخرج عن كونه مجرد وهم حقيقي وكبير يعيشه الجميع، إلا أقطاب السلطة السياسية الفاسدة هناك.

الحياة في الوهم الكبير. هذا ما يريد ياسين عدنان أن ينقله لنا ببراعة فنية وأسلوبية يُغبط عليها من خلال سرد فني متماسك ككتلة واحدة لا يوجد فيه أي ثغرة من الممكن أن ينفذ منها أحدهم ليقول له: لديك هنا ترهل ما، أو ثغرة سردية أو بنائية في عملك الفني؛ فالعمل محكم بشكل فيه الكثير من الإتقان والدراية التي تجعل العمل من الأعمال الروائية المهمة في تاريخ الرواية العربية سواء على مستوى السرد، أو الموضوع الذي يتحدث فيه، أو البناء الفني الذي انتهجه الروائي في روايته.

لعل شخصية رحال المحورية- والتي من دونها لما كان هناك سردا- من أهم الشخصيات التي تحدث عنها السارد؛ لذلك نجد أنه يحتل السرد في معظمه، بل نجح عدنان في جعلها من الشخصيات الروائية المهمة التي لابد أن تُذكر كثيرا حين الحديث عن الشخصيات الروائية المهمة التي أثرت، وتركت انطباعا مهما في تطور ومسيرة الأدب العربي؛ فهو شخصية لا يمكن لها أن تزول من ذهنك بسهولة، وكما أن شخصية السيد أحمد عبد الجواد مثلا في ثلاثية محفوظ يعرفها الجميع ويتحدث عنها باعتبارها مثلا روائيا مهما عن الشخصيات الخالدة في الرواية العربية؛ فشخصية رحال في "هوت ماروك" من الشخصيات التي تُضارع السيد عبد الجواد في قوتها وأهميتها في تاريخ الأدب العربي؛ لذلك كان عدنان حريصا على رسم هذه الشخصية المهمة رغم وضاعتها المقززة، متابعا لها منذ ميلادها وجميع مراحل حياتها. هنا نراه يحكي لنا مثلا عن رحال أثناء فترة دراسته الجامعية، ولعل هذه المرحلة التي تحدث عنها الروائي كثيرا كانت من الضرورة بمكان ما يجعله يستفيض في سرد هذه الفترة؛ نظرا لأهميتها التي توضح لنا كيفية تشكل التيارات الأيديولوجية في الجامعة، ورغم أن السرد كان فيه الكثير من الحديث عن الأيديولوجيات المختلفة والمتباينة من يسار، ويمين ديني متطرف إلا أنه لم يكن عائقا في السرد الروائي بحيث يعمل على فصل متابعة القارئ للسرد، بل كان الأمر مشوقا؛ لقدرة السارد على الحديث عن هذه التيارات بشكل روائي محكم. كما أن الحديث عن هذه التيارات التي كان يراقبها رحال قد أوضح لنا بشكل أكبر العديد من الخصائص التي تتميز بها شخصية رحال وغيره من الشخصيات الروائية فيقول: "لكن ما إن حذرهما رحال من وفيق الدرعي مُلمحا إلى وجود علاقة مشبوهة تجمعه بفاضل السراج أحد أشهر عمداء الأمن بالمدينة حتى تعزز التقارب بين القوارض الثلاثة وصار رحال بالنسبة للرفيقين مراد والمختار أحد جنود الخفاء الذين يجب عدم التفريط فيهم"، من خلال هذا المقطع تتضح لنا إحدى خصال رحال الجوهرية فيه، وهي الحقد والغيرة وكراهية كل من هو أفضل منه، ومحاولة توريط الآخرين فيما لا علاقة لهم به؛ فوفيق الدرعي لم تكن له أي علاقة بالأمن، ولم يكن واشيا بزملائه من اليسارين أو حتى اليمينيين، بل كان شاعرا جيدا، ويساريا لا غبار عليه، ولكن بمجرد ما لمح رحال موهبة وفيق الحقيقية وإخلاصه لمبادئه؛ بدأ يشعر تجاهه بالكثير من الكراهية والحقد؛ ومن ثم أراد القضاء عليه تماما بتأليف حكاية لا علاقة لها بالواقع لمجرد أن له قريب يعمل في الشرطة؛ وهنا بات وفيق واشيا وعميلا للأمن ضد زملائه؛ الأمر الذي أدى إلى التنكيل به من الجميع ومقاطعته تماما، ولفظه بسبب حكاية رحال التي لا علاقة لها بالحقيقية.

الروائي المغربي ياسين عدنان

لعل تخلص رحال من كل من يعكر عليه صفو حياته كان منهجا من مناهج حياته التي لا يمكن له التخلص منها؛ ومن ثم كان يلجأ دائما للحيلة والدسيسة والوشاية بالجميع من أجل القضاء عليهم، فإذا كان قد تخلص من وفيق الدرعي سابقا لمجرد أنه يحسده على تفوقه وموهبته، فهو يتخلص فيما بعد من فؤاد الوردي زميله في الكلية لمجرد أنه سيحاول كشف سرقة رحال للبحث الذي يعده مع حسنية عن معلقة امرؤ القيس، وعن ابن حلزة: "هنا سيحكي له رحال كل شيء: كيف قادته المصادفة وحدها إلى مجلس سري للقاعديين تحدثوا فيه عن العناصر المشبوهة التي زرعتها المخابرات وسط الجسد الطلابي. وإذا كانوا قد كشفوا أمر وفيق الدرعي، يُضيف رحال، فإنهم يشتبهون في عنصر آخر في صفوفهم سيعلنون عن اسمه قريبا وسيطردونه من الفصيل بعد محاكمته جماهيريا. لكن ما يهمني في هذا الأمر هو ما سمعته منهم بخصوص تنظيمكم. فقد قالوا إن المخابرات نجحت في تجنيد طالب من المتعاطفين معكم اسمه فؤاد الوردي وأن المهمة التي أُسندت لهذا الأخير هو التشويش على فصيلكم بإشاعة أخبار تتهم أحد مناضلي العدل والإحسان بالعمالة للمخابرات".

لكن ربما كان الروائي من الذكاء ما جعله يفسر لنا أسباب هذه الكراهية والحقد المجاني الذي يتميز بهما رحال حتى أنهما باتا من خصاله التي لا يمكن أن تنفصلا عنه، فرغم أنه يردهما إلى كونه من العائلة الفأرية وغير ذلك من السمات الحيوانية التي يتميز بها، إلا أنه ردها أيضا ببراعة ومن دون أي تعمد إلى نشأته التي أدت به إلى هذه الشخصية المنفرة اللزجة فيقول: "كان رحال يشعر على الدوام بأن نحسا يطارد أسرته وقبيلته منذ أول الدهر. تكفي حكايات الجفاف ونفوق البهائم وقصص الأوبئة التي ظلت تتعاقب على دوارهم وحكى عنها بالتفصيل الممل. تكفي معاناتهم مع القيّاد الغلاظ الشداد. دواوير عن بكرة أبيها تُباد أيام السيبة بلا حسيب ولا رقيب، أو تُشرّد فقط لأن أحد أبنائها أساء الأدب في مجلس القايد أو لأن إحدى بناتها من شيخات ذلك العصر جرفها الشجن أثناء الغناء إلى ما اعتبره القايد تعريضا به ونيلا من هيبته"، إذن فرحال يكره الجميع بسبب وضاعة أصله، وحرمانه، وشعوره الدائم بالدونية وأنه في نهاية السلم الاجتماعي المحيط به، وأنه لا يوجد شخص واحد في أسرته بالكامل قد نال شيئا من التميز رغم أن أباه حافظ للقرآن الكريم، ولكن رغم ذلك لم ينل شيئا من الحظوة الاجتماعية؛ وهو ما جعله نافرا من الجميع، راغبا في إيذائهم جميعا إذا ما وجدهم أفضل منه، وهو يفعل ذلك رغم أنه يبدو للجميع متفرجا على المجتمع من حوله، غير مشارك فيه في أي شيء، خائفا من الجميع، مسالما في الظاهر، رغم أنه هو أول من يحرك الأحداث من حوله ويعمل على تغيير مسارها بكراهيته المفرطة لكل من يحيطونه، ووشايته الكاذبة دائما.

لكن رغم أن المؤلف أحيانا ما يسرد لنا أمورا عن حياة رحال، وهو السرد الذي قد يؤدي بالقارئ إلى التعاطف مع هذه الشخصية الحقيرة؛ مبررا لها حقارتها نتيجة الظروف الاجتماعية التي يحيا فيها، إلا أن السرد المتعاطف أحيانا لا يجعلنا ننساق خلف هذا التعاطف؛ فهو شخصية رغم ظروفها القاسية لا يمكننا التعاطف معها؛ ولعل مرد عدم التعاطف مع رحال يعود إلى براعة ياسين عدنان في رسم الشخصية بكل لزوجتها وقرفها؛ حتى أننا نظل نافرين منها طول الوقت غير قادرين على الانسياق مع الظروف القاسية؛ فحينما يقول المؤلف مثلا: "أما رحال، فكان يريد فقط إنجاز بحث متوسط والحصول على 17 في نهاية السنة لولا أن حسنية ورطته في هذا الموقف الذي سلط عليهما الضوء. ورحال لا يبحث عن الضوء. بل يتحاشاه. كان يعاني من إشادات المخلوفي المتكررة أمام الطلبة التي تُربكه وتُخجله من نفسه ومن العالم، فلماذا يريد فؤاد أن يعمّق معاناته بتسليط المزيد من الضوضاء على شخصه وبحثه؟ رحال لا يريد شيئا من أحد. يريد فقط أن يُنهي السنة بإجازة، ولو من دون ميزة، تتيح له فرصة اجتياز مباريات وزارة التعليم: ابتدائي، إعدادي، ثانوي، لا يهتم. المهم أن يحقق المعجزة وينجح في مباراة ما ويحصل على وظيفة مع الدولة ويصير له هو الآخر رقم تأجير، فيخلق لحظة فرح يتيمة في حياة عبد السلام. يريد أن يتحدى النحس الذي حكمت به الأقدار على قبيلتهم ويفلح في تحقيق شيء يمكن لأبيه أن يفخر به، على الأقل بينه وبين نفسه، بعدما اعتزل الناس في الفترة الأخيرة وقل تردده على الدوار في عبدة".

نقول رغم هذه الظروف القاسية التي يعاني منها رحال، ورغم أنها من السهل جدا أن تؤدي بنا إلى التعاطف مع هذه الشخصية المنفرة الحقيرة التي تحرص على الإضرار بكل من يحيط بها بشكل مجاني، وتلويث سمعته وغير ذلك، إلا أننا لا يمكن لنا التعاطف معه بسبب وضاعته، وقدرة الروائي على تصوير الشخصية بشكل فيه من الخسة والتنفير ما لا يجعلنا نرغب في معرفتها.

ينجح ياسين عدنان في سوق العديد من الحكايات المختلفة لينسج في النهاية عالما روائيا واسعا وخصبا قادرا على إثارة الفضول والتمسك بالرواية حتى النهاية من دون الرغبة في انتهائها، ولعل في هذه الرغبة من الاستمرارية في السرد من قبل القارئ ما يدل على نجاح السارد وقدرته البارعة في أن يمسك بناصية الحدث الروائي الذي يكتبه، ورغم أن هناك بعض الحكايات التي قد تبدو للقارئ أنها محض ثرثرات لا داعي لها، ووقع فيها السارد مما قد يعمل على إضعاف عمله الروائي، إلا أننا سيتبين لنا فيما بعد، مع استمرار القراءة، أن العمل الروائي ما كان قد اكتسب أهميته وعمقه وثرائه لولا هذه الحكايات التي ظنناها فيما قبل ثرثرة؛ أي أن الروائي هنا كان من القدرة على قلب أفق التوقع لدى القارئ الذي سيظن أن هناك العديد من الثرثرات في السرد الروائي، وتلك مقدرة فنية جعلت الرواية شديد الخصوبة. يتضح لنا ذلك مثلا حينما ساق الروائي شخصية ربيعة التي لم تستمر في السرد سوى صفحات قليلة، ورغم حرص الروائي على حكاية ربيعة بشكل تفصيلي؛ الأمر الذي يجعل القارئ يتساءل: ما أهمية هذه الربيعة وحكايتها، وما علاقتها بالسرد الروائي بالكامل؟ إلا أننا سنكتشف فيما بعد، وبعد مرور مئات من الصفحات أنه لولا حكاية ربيعة هذه ما استطاع المؤلف أن يبني العديد من الأحداث المستقبلية، أي أن المؤلف هنا كان ماهرا في وضع اللبنات الأولى للحكايات مهما جاءت الحكايات والأحداث متأخرة، ولكن لولا هذه اللبنات التي ساقها مبكرا ما كان هناك ما يمكن له أن يبني عليه: "هكذا صار رحال يقضي أيامه معتكفا مع ربيعة في المحل: يُملي عليها البحث كلمة كلمة، سطرا سطرا. ينبهها إلى مواضع كسر همزة إن، ومتى تُكتب الهمزة فوق السطر ومتى تُرسم على الياء، ويشرح لها الفرق بين الهمزة المتطرفة والهمزة المتوسطة وهمزة القطع وهمزة الوصل. بل صار يُملي عليها الكلمة ويوضح لها بشكل صريح ما إذا كانت التاء في آخر الكلمة مربوطة أم مبسوطة".

يعمل الروائي هنا من خلال حكاية ربيعة على سرد التفاصيل اليومية لحياتها ويرسمها بشكل واضح حتى أننا نظن أنها دخلت في متن السرد الروائي كشخصية أصيلة من شخصياته، ولكن رغم هذا الاهتمام برسم حياة ربيعة وتفاصيلها، والسبب في أن تكون مسؤولة عن دكان للآلة الكاتبة والتصوير وغير ذلك إلا أنها كانت مجرد تكأة اعتمد عليها السرد كي يتعلم رحال الكتابة على الآلة الكاتبة أو الكمبيوتر؛ نظرا لأنه سيبني على هذا التعلم باقي الحدث الروائي والسردي المهم الذي يكتبه، في الوقت الذي ستذوب فيه شخصية ربيعة بعد عدد قليل من الصفحات لتختفي تماما، وكأنها لم تكن بعدما أدت شخصيتها الروائية الدور المرسوم والموكول لها لاستكمال العالم. ولعل هذا ما كان يهتم به ياسين عدنان أيما اهتمام، وهو ظهور العديد من الشخصيات الروائية فجأة فتنبت من الفراغ ليعمل الكاتب جاهدا على التأصيل لها، ورسم ملامحها وعالمها الروائي، لتختفي هذه الشخصيات تماما فيما بعد حينما تنتهي من أدء الدور المرسوم لها، في إضافة شيئا جديدا لا يمكن الاستغناء عنه في الحدث الروائي القادم؛ مما يدل على روائي يعرف جيدا ما يفعله.

لعل هذا الاهتمام بالحكايات والشخصيات الفرعية التي تُخدّم على الحدث الروائي هو ما جعل عدنان ينجح في توالد الحكايات في هذه الرواية، فالحكاية تنتهي لتتوالد منها حكايات أخرى، والشخصيات تنتهي لتبدأ شخصيات أخرى جديدة في الظهور، قد تستمر، أو تختفي فيما بعد، ولكن هذه الحكايات والشخصيات نجحت في أن يكون لدينا عالما روائيا شديد الثراء والخصوبة حتى أنه كان من الممكن للروائي أن يستمر في سرده الروائي إلى ما لا نهاية من دون الشعور بالملل من قبل القارئ لو رغب الروائي في هذا؛ فهو لديه من خصوبة الخيال والقدرة على السرد بسهولة ما يجعله بارعا في توالد الحكايات الفرعية التي تستمر في النمو والتزايد حتى تكون حكايات أصيلة في المتن الروائي ومهمة في تطوره، ولعل هذا ما جعل الرواية حوالي 600 صفحة كان من الممكن لها أن تستمر إلى ما يربو على الألف أو يزيد لو رغب عدنان في ذلك من دون أي ترهل أو إملال.

من هنا ظهرت لنا شخصيات مثل قمر الدين، وأبو قتادة، ونجمة مراكش، وياكابو، وإيميليا، وفلورا، وغيرهم من الشخصيات التي تنبت فجأة ليبدأ الروائي في استعراض حياتها ومن ثم تصبح هذه الشخصيات فيما بعد من متن النص الذي لا يمكن له الاكتمال من دونها، كما أن هذه الشخصيات ستكون من أهم أفراد عالم "السيبر" فيما بعد والتي لا يمكن له أن يكون من دونها؛ هنا مثلا نجد أن هناك شخصية لم نعرف عنها شيئا من قبل قد نبتت فجأة ليتحدث عنها الكاتب، ثم يوجد لها تاريخا عريضا، وعالما اجتماعيا، وشبيها حيوانيا، وسمات سيكولوجية ثم تستمر هذه الشخصية معنا. نلحظ ذلك مثلا حينما يكتب: "على النقيض تماما من عبد المسيح، كان أبو قتادة"، ولعلنا نلحظ هنا أن هذه الجملة كانت أول مرة يذكر فيها الروائي شخصية أبو قتادة، كما أنه كان من الذكاء السردي ما جعله يسوق شخصية قمر الدين/ عبد المسيح أولا ويتحدث عنها بشيء كبير من التفصيل وكأنه كان يمهد لظهور شخصية أبو قتادة النقيضة تماما لشخصية قمر الدين، وهنا يقول بعد هذه الجملة السابقة: "لا يكلم أحدا. يدخل السيبر برجله اليمنى وهو يقرأ المعوذتين. حقا إفشاء السلام في جمع المسلمين واجب. لكن أبا قتادة يجد عسرا في رفع عقيرته بالسلام كلما دخل السيبر ووجد الكاسيتين العاريتين هناك وبينهما ذلك القنذع الديوث المسمى ظلما وبهتانا قمر الدين".

يبدأ العالم الحقيقي لرواية "هوت ماروك" حينما يعمل رحال في السيبر ويصبح مسؤولا عنه، أي بعد مرور حوالي 200 صفحة من صفحات الرواية بينما ما كان سابقا على هذا العالم هو مجرد تمهيد لابد منه وما كان للعالم الروائي أن يكون موجودا أو مكتملا من دونه. ولنا أن نتخيل أن الروائي كان ناجحا بالفعل في أن يجرنا معه على طول 200 صفحة كاملة في سرد روائي هو مجرد تمهيد لعالم روايته الحقيقي بينما نحن منساقون بالفعل معه من دون شعور بأي شكل من أشكال الملل أو التزيد أو الترهل، وهذا دليل على مقدرة عدنان الروائية التي وضحت في هذه الرواية.

حينما يفتتح عماد- صاحب العمل- مقهى الإنترنت ويجعل من رحال مسؤولا عنه يبدأ رحال في الدخول إلى عالم الفضاء الأزرق كما أطلق عليه أو كما نعرفه، وهنا تبدأ شخصية رحال بكل ما فيها من كراهية ووضاعة حقيقية تخرج إلى السطح من دون أن يلاحظها أحد ممن يحيطون به، ولكن عالم الإنترنت أعطاه الفرصة إلى تدمير كل من لا يروق له من خلال تعليقاته التي يكتبها بأسماء مستعارة؛ ومن ثم يعمل على تشويه العديد من الشخصيات ويُشكل الرأي العام ويوجهه الوجهة التي يريدها، حتى أنه نجح في تدمير العديد من الشخصيات بهذه التعليقات الخبيثة والنارية التي يكتبها من وراء الشاشة الإليكترونية مدعيا العديد من الحكايات الكاذبة التي يلصقها بالشخصية التي يريد أن يسيء إليها بعد صياغتها صياغة مقنعة؛ فيبدأ الجميع في الانسياق خلفه ويصبح الرأي العام للجميع حسبما أراد هو.

يظهر أمام رحال موقع إليكتروني إخباري مغربي باسم "هوت ماروك" وفي هذا الموقع يقرأ مقالا عن الشاعر وفيق الدرعي الذي كان زميله في الكلية ووشى به حتى قضى عليه بين زملائه تماما واختفى من حياته، والآن يظهر أمامه مرة أخرى الدرعي وقد بات شاعرا من أهم شعراء المغرب وهناك مقال مكتوب عنه بمناسبة فوزه بجائزة مهمة: "لم تكن مجرد قصاصة خبرية، بل مقالة طويلة عريضة تتصدر الصفحة الأولى. تحدثت عن مسار وفيق الدرعي وتجربته المتميزة، عن ديوانيه الجديدين اللذين أصدرهما تباعا هذه السنة عن داري نشر مرموقتين في بيروت والقاهرة، كما تشرح الحيثيات التي جعلت لجنة التحكيم تختاره هو بالذات للحصول على جائزة ابن الونان التي تمنحها رابطة الشعر المغربي سنويا للشاعر المغربي الأقوى إنتاجا والأكثر بروزا خلال الموسم. لم يتم رحال قراءة المقال، لأن الألم منعه من ذلك. عاد المغص يقطع أحشاءه. مغص طارئ شديد لا ينفع معه كمون ولا زنجبيل ولا بابونج"، هنا تبدأ الصفات الأكثر وضاعة في رحال في الظهور، كما يبدأ العالم الحقيقي للرواية الذي يريد التأكيد على أن توجيه الرأي العام من خلال الأكاذيب وصنعها هو الحقيقة التي نعيش فيها جميعا، وهو العالم الذي تُحركه أذرع خفية سياسية وأقوى، بينما رحال ومن هم على شاكلته مجرد جنود للآلة الإعلامية الكبرى السياسية التي تتلاعب بالعقول مقابل رواتب شهرية ضخمة، ورشاوي، حتى أن هناك أسماء عملاقة تسقط بسهولة من خلال هذه الأكاذيب والتوجيه للرأي العام، وهناك أشخاص ينبتون من فراغ ليتصدروا المشهد الثقافي أو السياسي ببساطة؛ لأن السلطة تريد ذلك ومن خلال التلاعب بالعقول من خلال الإعلام وأذرعه من أمثال رحال.


مجرد ما قرأ رحال هذا الخبر عن وفيق الدرعي شعر بالحقد الشديد ومن ثم بدأ لعبته التي سينجرف فيها فيما بعد بعدما تروقه، لكنه سيصبح فيما بعد ركنا ركينا من هذه اللعبة رغما عنه حينما ترغمه السلطة السياسية على أن يؤدي هذا الدور كما يرغبون هم، وكما يحبون توجيه الرأي من خلاله. نقول أن رحال بعدما فرغ من قراءة هذا الخبر كتب معلقا تحت الخبر في الجريدة الإليكترونية: "الاسم: قاعدي سابق. عنوان التعليق: شعرية الوشاية. قرأت باهتمام مقالكم حول أمير شعراء الفروماج المدعو وفيق الدرعي الذي تُوج بجائزة ابن الونان لهذا العام، وفاجأني أن كاتب المقال أغفل محطة أساسية في مساره وهي العمالة للمخابرات ولم يوضح أثرها في شعره. فمناضلو كلية الآداب بجامعة القاضي عياض بمراكش وهم يعرفون شاعركم الملفق- أريد أن أقول الملفق- خير المعرفة خبروه أساسا كنعصر مخابراتي كان مدسوسا على مناضلي الاتحاد الوطني لطلبة المغرب. فلماذا تم إغفال هذا الجانب المهم جدا من سيرة الرجل؟ فالشاعر ابن بيئته، ومن ألِف التعاون مع المخابرات والوشاية بالمناضلين الشرفاء وكتابة التقارير البوليسية عنهم لا يمكنه أن يتخلص تماما من هذه الخلفية أثناء ذهابه إلى القصيدة. لذا نرجو من النقاد جازاهم الله عنا خير الجزاء أن ينتبهوا في دراساتهم المقبلة إلى هذا الجانب من شخصية شاعرنا ويدبجوا لنا دراسة حول "شعرية الوشاية عند وفيق الدرعي". ورحم الله ابن الونان مرة أخرى، فقد أعدتم قتله اليوم بمنح جائزة تحمل اسمه لجاسوس جبان"، لعل هذا التعليق الذي دبجه رحال ردا على المقال الذي قرأه عن وفيق الدرعي كان يحمل الكثير من الكذب والبهتان الذي اتهم فيه الشاعر بما لم يكن فيه؛ محاولة منه أن يعمل على تدميره بالكامل وينال منه من دون أي سبب سوى حقده الأسود الدفين تجاه كل من هو أفضل منه، كما أنه لم يكتف بما كتبه بل برع في الاستمرار وانتحال العديد من الأسماء المستعارة الأخرى ليكتب التعليق تلو الآخر عن الشاعر تحت المقال، وكأن هناك العديد من الأشخاص الذين يعرفون عن الشاعر ما لا يعرفه غيرهم واتحدوا جميعا على تدميره، في حين أن رحال هو الوحيد الذي يكتب كل هذه التعلقيات التي ستنال من الشاعر وسمعته.

كتب رحال تعليقا آخر: "الاسم: ولد المواسين. عنوان التعليق: فخر واعتزاز. لا يسعني كأحد أبناء حومة المواسين إلا أن أعلن فخري واعتزازي وأنا أتلقى هذا الخبر السعيد. ابن حومتي يفوز بأهم جائزة شعرية في بلادنا. أكاد أطير من الفرح. لذا اسمحوا لي أن أقدم أحر التهاني للكوميسير السراج ولكل عائلة الدرعي في المواسين على هذا الإنجاز. فمن كان يظن أن وفيق الذي كنا نسميه "وفيقة" أيام الطفولة، وكثيرا ما كنا ننزع عنه تُبّانه في حمام الحومة ونعبث بمؤخرته ونحن صغار، سيصير شاعرا كبيرا؟ لذا أعتذر يا وفيقة –عفوا يا وفيق- عن كل ما حصل في الحمام أيام زمان وتأكد من أنني ندمت أشد الندم ومعي كل أبناء الحومة. قد نسينا تلك الأمور ونسأل الله المغفرة، ونحن اليوم فخورون بك معتزون بموهبتك. وفقك الله ومتمنياتنا لك بالمزيد من التألق"، ثم لم يلبث رحال أن اخترع العديد من الشخصيات الأخرى التي لا وجود لها في الحقيقة وإن أخذ أسماء حقيقة منتحلا إياها للتعليق، ومنهم الأستاذ عبد المقصود الطاهري الذي سبق أن قام بتدريس الأدب المغربي لرحال في الجامعة؛ فكتب على لسانه: "الاسم عبد المقصود الطاهري. عنوان التعليق: شعر أم شعير؟ بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين وبعد، أولا أتحفظ بشدة على التعليقين المنشورين أعلاه. فأنا لا تهمني علاقة الشاعر المذكور بجهاز المخابرات، ولا بغيره من أجهزة الدولة السرية والعلنية. كما لا أحب أن نتورط في حديث المؤخرات. سواء كان الشاعر فحلا من الفحول أو مجرد مخنث بلا شرف ولا رجولة. فهذه السفاسف لا تشغل بال الناقد العلامة والدارس البحاثة. ما يعنيني أصلحكم الله هو الشعر ذاته. هل ما يكتبه المدعو وفيق الدرعي شعر أم شعير؟ هل هو من الكلام الموزون المقفى الذي يغذي الروح والوجدان أم مجرد طعام للحمير؟ هذا هو السؤال الذي أطرحه باستنكار على اللجنة المشبوهة التي انزلقت بجائزة ابن الونان الرفيعة إلى هذه المهاوي الوضيعة. بل وأطرح سؤالي على وفيق الدرعي نفسه هو وأمثاله من أشباه الشعراء: هل بهذيانكم المريض واستعاراتكم الذهنية وكلامكم المعمّى عن "مسلخ الفراشة" و"الطيور التي تنبح على رغوة النشاز" و"بروتوكولات الفر الهندسي" و"المومياءات اللائي يمارسن الجنس على مرأى من العدم" سنحرر فلسطين ونعيد للأمة العربية عزتها وكرامتها؟ لا وألف لا. ثم هل اطلعتم على الشعر المغربي الذي تريدون اليوم التسلل إلى حياضه والترامي على رياضه؟ هل تعرف ابن الونان يا وفيق الدرعي؟ هل تعرف نابغة وقته وسحبان زمانه أبا العباس أحمد بن محمد بن الونان الفاسي الملقب بأبي الشمقمق؟ هل تعرف الرجل الذي فزت اليوم بجائزة تحمل اسمه؟ لا جواب لدي، ببساطة لأنني أحدس أن لا جواب لديك. فافرحوا بشعيرهم بعدما طردتم الشعر من مملكة الهراء التي أسستموها على أنقاض القصيدة، ولا حول و قوة إلا بالله"، ثم لم يلبث رحال أن اخترع المزيد من الشخصيات التي ظلت تكيل الكثير من الاتهامات إلى الشاعر وتنسب إليه ما ليس فيه.

ربما حرصنا هنا على الكثير من الاقتباسات الطويلة من هذه التعليقات؛ نظرا لأهميتها في تسيير حركة السرد الروائي فيما بعد، ولأنه من خلال هذه التعليقات سينبني العالم الروائي بالكامل لهذه الرواية التي تريد في حقيقة الأمر الحديث عن صناعة الوهم في عقول الآخرين وتوجيه الرأي العام من خلال الوهم إلى التخلص من العديدين ممن لا ذنب لهم، وهذا هو ما سيلتقطه النظام السياسي ليتلاعب به فيما بعد بإحكام حتى أنهم سيلتقطون رحال ويرغمونه على فعل ذلك دائما تجاه العديدين ممن سيشير عليهم النظام السياسي من أجل النيل منهم وتحطيمهم والقضاء عليهم، كذلك استخدام اللعبة بشكل معكوس بالمديح لبعض الأسماء التي تنيع من الفراغ كي تصبح من أهم الأسماء الموجودة على الساحة الثقافية أو الاجتماعية أو السياسية أو الإعلامية المغربية، أي أن النظام من خلال رحال ومن هم مثله بتعليقاتهم النارية باتوا أذرعا مهمة في سقوط أنظمة وصعود أنظمة أخرى تبعا لما تمليه السلطة السياسية الفاسدة عليهم، ولعلنا نلمح المزيد من الوضاعة والإيغال في الفساد والتزييف وانتحال الشخصيات للحديث باسمها وتزوير كل شيء حتى يصبح الإنسان غير قادر على تمييز الحقيقة من عدمها فيما فعله رحال بعد ذلك حينما كتب تعليقا آخر لكن باسم وفيق الدرعي هذه المرة: "الاسم: وفيق الدرعي. عنوان التعليق: وظلم ذوي القربى أشد مضاضة. لم أتصور أيها الإخوة أن تسددوا إلى صدري كل هذه السهام في يوم مشهود توقعت احتفاءكم خلاله معي بالجائزة التي شرفني بها إخواني في رابطة الشعر المغربي. آلمني جدا أن يعود بعض الأصدقاء إلى الدفاتر القديمة للتقليب فيها. لا أريد أن أناقش كل ما قيل. لكن، بربكم أليس من حق الإنسان أن يُخطئ  في صباه ويفاعه؟ وهل من الجريمة في شيء أن يكون للواحد منا قريب في جهاز الأمن؟ هل يكفي ذلك لنتهمه بالعمالة للمخابرات؟ ثم نحن أبناء اليوم أيها الإخوة. وحتى إذا افترضنا أن شخصا أخطأ في فترة سابقة من حياته، أولم يقل نبينا الكريم بأن "الإسلام يجُبُّ ما قبله". إنني فعلا حزين في يوم ظننت أنني سأكون خلاله أسعد مخلوق على وجه الأرض. حزين بشكل لا يُصدق".

أعتقد أن المزيد من الاقتباس من الرواية في نفس هذا الموضوع من الأهمية بمكان ما يوضح لنا كيف يمكن تزييف الحقائق وتشكيل الرأي العام، ويصبح الجميع يعيشون في وهم حقيقي مصدقين إياه؛ فبمجرد ما يكتب رحال هذا التعليق على لسان وفيق الدرعي نفسه سيشاهد تعليقا لشخصية اسمها كريمة بعنوان "أعداء النجاح" ستبدي فيه امتعاضها من هذه التعليقات الصادرة عن مجموعة من الحسدة الحاقدين. هنا نقرأ: "تعالي أيتها القحبة، لقد وقع نقبك على كنيف. ليست كريمة وحدها من يشغل بال رحال الآن، بل الخوف من توالي التفاعلات العاطفية. لذلك قرر الرد السريع الماحق، بصرامة وحزم، على هذه المغرمة الولهانة ليسد الطريق على أي انحراف بالنقاش عن الوجهة التي رُسمت له. الاسم: حبيب قديم. عنوان التعليق: الهوى غلاب. مساء الخير كريمة. ستعرفين من يخاطبك بمجرد قراءتك لهذا التعقيب. أنا الشخص الذي ظل يحبك بصدق وتفان لمدة خمس سنوات قبل أن تُديري له ظهر المجن وتخونيه مع ذلك السافل وفيق الدرعي. ولكم حزنت لما علمت من صديقتك صفاء أنه سرعان ما رماك رمية الكلاب بعدما قضى وطره منك. لكنني حزنت أكثر وأنا أرى أنك ما زلت مغرمة به وتدافعين عنه باستماتة رغم كل ما اقترفه في حقك. صحيح أن الحب أعمى والهوى غلاب"، وهكذا سهر رحال على اختراع العديد من الشخصيات الأخرى التي تدبج المزيد من الاتهامات التي ستعمل على تدمير الشاعر تماما وتكوين أسطورة غير حقيقية مسيئة له؛ الأمر الذي سيجعل وزير الثقافة يمتنع عن حضور حفل الشاعر لتسليمه الجائزة، بل وعدم ذهاب الشاعر أيضا لحفل تسليمه الجائزة؛ الأمر الذي سيجعل الجميع يستاءون من الشاعر ويصدرون بيانا ضده لعدم لياقته.

من خلال ما حدث وساقه عدنان في روايته ينبني العالم الحقيقي لرواية "هوت ماروك"، هنا يتم خطف رحال فجأة من مجهولين ليجد نفسه في معقل الأمن حيث يعرفون عنه كل ما يقوم به من كتابات وتعليقات بأسماء مستعارة، بل ويطلبون منه أن يستمر في ذلك مؤكدين له أن هذا سيكون عمله الجديد والسري معهم مقابل عشرة آلاف درهم كراتب شهري، ولكن شريطة ألا يهاجم أو يعلق إلا على من يرغبون له أن يعلق عليه، أي أنهم يتخلصون من خصومهم باستخدام رحال وغيره من المجهولين ببث الشائعات غير الحقيقية لتدمير خصوم السلطة، وهذا ما يؤكده الضابط حكيم العميد حينما يقول لرحال: "ليس هذا كل شيء يا رحال.. ولد الشعب يتحامل على نعيم كثيرا، يتجاسر عليه بمناسبة ومن دونها. صحيح أنه كاتب متعجرف، مغرور قليلا وأحيانا يبالغ. لكنه موهوب، والكثيرون يحبون أسلوبه. والأهم أنه شخي يُوحى إليه. هل فهمت قصدي؟ هذا الرجل يُوحى إليه. لذا عليك من الآن فصاعدا أن تعتبره نبيا مرسلا. هل يُناقَشُ حديث الأنبياء؟ ربما يحتاج بعض الشرح والتفسير، أحيانا قليلا من الإيضاح والتعليل. وهو دور يمكن أن يضطلع به ولد الشعب فيما بعد"، من خلال ما يقوله الضابط حكيم هنا يتأكد لنا أن كل ما حولنا زائف زيفا حقيقيا، وأننا لا يمكن لنا في هذه الحالة تصديق أي شيء حولنا؛ فحتى الكاتب الشهير الذي يكتب في السياسة والأحوال الاجتماعية للمجتمع متخذا صفوفهم ومتحدثا باسمهم وكأنه يحارب الفساد من أجل المزيد من الصلاح السياسي الاجتماعي لم يكن سوى ذراع من أذرع السلطة التي توجهه بكتابته أينما شاءت وللوجهة التي تريدها، ومقابل ذلك فهي تعمل على حمايته ككاتب وإعطائه المزيد من الشهرة بالدفاع عنه وتنجيمه بشكل أكبر. الرجل يُوحى إليه. أي أن كل ما يقوم بكتابته في موضوعات الفساد السياسي والاجتماعي وغيرها تأمره بها السلطة السياسية الفاسدة في الأساس من أجل توجيه الرأي العام حسبما تريد، والسلطة أيضا هي من تعطيه المستندات على الفساد لتصفية من ترغب من خصومها.

هل نستطيع أن نجد خلافا لما نراه في هذا العالم الروائي الثري وبين ما نراه في حياتنا اليومية في المنطقة العربية بأسرها؟

بالتأكيد لا، فما نقرأه هو ما يحدث بالفعل في الكواليس السياسية والإعلامية وكل مكان، ولعل عدد الصحفيين والإعلاميين ورؤساء التحرير وغيرهم من العرب الذي هم مجرد ذراع من أذرع السلطات السياسية العربية الفاسدة ما يؤكد لنا ذلك، كما أن هؤلاء جميعا يعملون على تزييف الوعي بمهارة من حولنا كل يوم، وهو ما يجعل من إبراهيم التنوفي، لاعب كرة القدم السابق وصاحب محلات التنوفي للحلويات، مدير تحرير أهم جريدة وطنية مستقلة عن الدولة والحكومة والأحزاب والنقابات والجمعيات ولوبيات المال والأعمال، أي أن السلطة تقوم بإغلاق صحف لا ترغبها وتعمل على إفلاسها وتشريد الصحفيين فيها، كي تنشئ صحفا أخرى جديدة بالصحفيين الذين ترغبهم، والذين يعملون من أجل خدمتها لتوجيه الرأي العام كما ترغب السلطة الفاسدة.

هنا تكون الصحافة وجميع وسائل الإعلام، وجميع الأقلام التي تكتب مكرسة تكريسا كاملا من أجل الفساد والإفساد خلف قناع الوطنية ومحاربة الفساد في حين أنهم يساهمون فيه، وهذا ما جعلهم يهاجمون الكاتب أمين الرفاعي حينما كتب مقالا صادقا فعملوا على تدميره: "كتب أمين الرفاعي مقالة نارية حول الرشوة التي يرفضها الجميع مبدئيا، لكن الكل يتعايش معها وكأنها قدر لا يُرد. كان مقالا غاضبا. صادرا عن وعي شقي لمناضل اعتزل العمل الحزبي مبكرا وغادر العمل النقابي مباشرة بعد التقاعد لينشط ضمن دينامية المجتمع المدني في مجال محاربة الرشوة. كان يمكن التسامح مع المقال لأنه صادر عن غيرة ومواطنة صادقة من شخص لم يسبق له أن ادعى الثورية ولا انحاز إلى التطرف. لكن تعزيز المقال بمعطيات دقيقة حساسة دفع جهات ما إلى تأديب الرفاعي لتجعله عبرة لمن يعتبر. ومرة أخرى، وُزعت المهام بين كل من رئيس الجوق نعيم مرزوق وكوراله المعروف. وما ترى عينك إلا النور. كل الخطايا التي ارتكبها أو يُتخيل أن يرتكبها شخص مر من نفس مسار الرفاعي في وزارة العدل تم تجميعها في مقال خبيث لنعيم مرزوق كل جملة فيه رصاصة تقتل جملا. ثم توالت التعليقات كالسهام"، هنا يصبح الجميع عرضة للتدمير إذا لم يكن في ركاب الدولة، ويصبح من نثق في كتابتهم من كتاب وإعلاميين باعتبارهم يحاربون الفساد الحقيقي، هم من يعملون على تدمير الوطن وإفساده بالكذب على الجميع وتضليلهم من أجل السلطة الفاسدة، وهذا ما نراه حينما ينشئ النظام السياسي حزبا جديدا باسم الأخطبوط من جميع التيارات في المجتمع المغربي، ويقدمه للمجتمع باعتباره حزبا يرغب في الإصلاح فقط، بل ويتخذ من أحد المفسدين عضوا ركينا فيه يعمل على تمويله ماليا مقابل التغاضي عن فساده مثل: "كان مهدي آيت الحاج، الملياردير ووحش العقار المعروف بتورطه في العديد من قضايا الفساد المالي، قد عاد إلى دائرة الضوء قبل أشهر. ملفان ثقيلان أمام المحكمة متابعتهما إلى الآخر حسب المساطر الجاري بها العمل كانت كفيلة بزلزلة امبراطوريته العقارية والزج به وراء القضبان. لكن يبدو أن المفاوضات التي أجراها مع الأخطبوط والتي بموجبها تعهد آيت الحاج بتمويل جزء من حملة الرقم الجديد في الانتخابات المقبلة في منطقته، على أن يرشحه الحزب كوكيل للائحته في مدينته جعلت الملفين يُركنان إلى حين في انتظار أن يُقبرا نهائيا"!


لكن لأن هذه الملفات تقع في يد نعيم الكاتب الذي يكتب ويعيش في ركاب السلطة، ولأنه ظن أن هذه الملفات ستكون في صالح من يعمل لحسابهم وستكسبه المزيد من المصداقية والشهرة لدى القراء المخدوعين فلقد كتب مقالا ناريا فضح فيه آيت الحاج وامبراطوريته؛ الأمر الذي أدى إلى اعتقاله أو اختفائه قسريا؛ مما جعل منه بطلا في نظر الناس وباتوا يطالبون بحريته. هنا استغلت السلطة السياسية الفاسدة الأمر لصالحها أيضا رغم انقلاب معادلتها من خلال خطأ نعيم؛ فاضطرت إلى التضحية بآيت الحاج بعدما كانت تعمل على حمايته، والوقوف إلى جانب نعيم وتضخيم بطولته في نظر الناس والمجتمع باعتباره قلما حرا يدافع عن المجتمع والصحافة الحرة بعدما كانت تزمع التضحية به؛ فيزوره جواد المسؤول من قبل السلطة عن تجنيده لصالحها في المعتقل ويطمئنه بقوله: "من الطبيعي أنك ستقدم للمحاكمة. ماذا تظن؟! إنما، نحن نتابع الموضوع فلا تقلق. فقط عليك أن تستوعب الأوضاع بشكل أفضل. أنت لم تعد نعيم مرزوق كاتب الأعمدة المنزوي في شقته بشارع أنفا يُدبج مقالاته اليومية ويتلقى اللايكات وتعليقات الإطراء وانتهى الموضوع. أنت اليوم مادة دسمة للصحافة الوطنية والدولية ولسجالات السياسيين خلال الحملة الانتخابية. الكل منشغل بقضيتك. في الداخل والخارج، خصوصا في الخارج. أنت الآن رمز لحرية الصحافة في المغرب، وعليك أن تتصرف بناء عليه، إنما بانضباط هذه المرة. لم يعد مسموحا لك بالخطأ. سيستأنفون التحقيق معك اليوم أو غدا صباحا على أبعد تقدير. لا تغير أقوالك. ارفض التجاوب مالم يحضر محاميك، وابق مصرا على عدم الكشف عن مصادرك. تذرع بشرف المهنة وما شابه من الفذلكات. أتصور أنك ستعرض على أنظار العدالة بعد ثلاثة أيام. في المحكمة، ستجد عشرات المحامين يؤازرونك. انف عنك كل التهم الموجهة إليك وقل أن محاكمتك هي محاكمة لحرية التعبير بالمغرب، ثم ارفع شارة النصر أمام عدسات المصورين وانه الحكاية. دورك صغير ومحدد، يجب الإلتزام به حرفيا، لكن عليك أن تلعبه بإتقان"!

هنا يتضح لنا قدر الخديعة التي يعيش فيها الجميع؛ فكل من هم في الوطن مخدوعون من قبل السلطة السياسية، وكل شخص من أبناء الإعلام الفاسد أو حتى أبناء المجتمع المحيط يلعب دوره في الفساد من أجل خديعة الآخرين، كل حسب مقدرته ودوره المرسوم له؛ فإذا كان الكتاب والإعلاميين والصحفيين يقومون بالدور الأهم والأكبر في هذه الخديعة، فهناك رحال وأمثاله من المواطنين الأقل الذين يلعبون أدوراهم في التخديم على الأشخاص السابقين من أجل تعضيدهم والعمل على إحكام الخدعة الكبرى التي تعيشها كل المجتمعات العربية وليس المغرب فقط.

ربما كان ما يؤخذ على رواية "هوت ماروك" الاستخدام الواسع للمحكية الدارجة المغربية في الحوار؛ الأمر الذي يجعل القارئ غير المغربي غير قادر على فهم أجزاء مهمة من الرواية بسبب الحوار العامي لاسيما وأن الدارجة المغربية شديدة الصعوبة ولا يمكن فهمها لغير أهلها، وقد رأينا أن الكاتب لو كان قد لجأ إلى تفصيح الحوار بدلا من كتابته بالعامية المغربية لكان من الأفضل له كثيرا حتى يستطيع القارئ غير المغربي التواصل معه لاسيما وأن هذه الدارجة كانت تُخرجنا من الاستمرار في القراءة والاستغراق معها بمتعة بسبب عدم القدرة على الفهم أو محاولة الفهم مثل: "هذي أنا بعدا اللي غي مرا وماقارية ما فاهمة ما نبغيهاش لك. واخا يطلبوك ويرغبوك آ وليدي يا رحال ف مدرسة المعلمين ويرموا عليك العار ما كنتش غا نخليك تمشي ليها. فين تمشي؟ للجايحة؟ اللهم هاذ القنيفيذة االي جبتي لي بلا خبار بلا شوار، ولا الدّيعان ف الصحاري والقفار"، ومثل ذلك أيضا قوله: "راه هامد في بيتك. برّحت حتى عييت. بغيتو يجي يشرب غي كويّس ديال آتاي، حلف ما يجاوبني. ما عرفت مالو وْلاّ كايضربها بصقلة"، وغير ذلك الكثير جدا من جمل الحوار التي كانت تقف كحجر عثرة عن استكمال الاستغراق في قراءة الرواية.

رواية "هوت ماروك" للروائي المغربي ياسين عدنان من أهم الروايات التي كُتبت مؤخرا في السرد الروائي العربي؛ نظرا لهدير السرد الذي يمتلكه عدنان ويقدمه لنا ببساطة؛ فضلا عن كشفه لكيفية تزوير كل شيء وتوجيه الرأي العام حسبما تريد السلطة السياسية الفاسدة، ولعل شخصية رحال من الشخصيات الروائية التي لا يمكن لذاكرة القارئ، أو ذاكرة الأدب نسيانها بعدما نجح عدنان في تخليدها أدبيا رغم نفورنا الكبير منها.

 

محمود الغيطاني

مجلة مصر المحروسة.

عدد نوفمبر 2022م.

الثلاثاء، 15 نوفمبر 2022

Divines: تجليات الكوميديا الإلهية في مجتمعات بائسة

إذا ما قمنا بترجمة عنوان الفيلم الفرنسي القطري Divines للمخرجة الفرنسية/ المغربية الأصل هدى بن يمينة سنجد أن الكلمة تعني "إلهي"، ورغم أن الفيلم يتحدث عن المجتمعات الصغيرة/ الجيتوهات التي تعيش في ضواحي العاصمة الفرنسية باريس، وحياة هذه المُجتمعات المُهمشة تهميشا تاما ومُتعمدا باعتبارهم مواطنين من الدرجة الثالثة، ويتناول الفيلم حياتهم الاقتصادية المتردية، وأثر ذلك على المُجتمع الفرنسي ككل، وما يمكن أن يسوده من عنف وجريمة وانفجار؛ نتيجة هذا التهميش والإفقار، إلا أننا نلمح ثمة نظرة ثقافية مُبطنة في طيات أحداث الفيلم التي تكاد تكون عنيفة وغارقة في الجريمة والإتجار في المخدرات والجنس.

ثمة نظرة ثقافية/ فلسفية لدى المخرجة تريد من خلالها القول: إن ما يحدث في هذه الحياة من فوضى وظلم وجريمة وفساد مجرد كوميديا إلهية، تبعا لمفهوم الشاعر الإيطالي دانتي إليجييري، أو أن الله قد خلق هذا العالم ثم انشغل عنه، إن لم يكن قد تناساه ولم يعد يتذكره؛ الأمر الذي يؤدي إلى المزيد من الظلم والجريمة والعنف والبطش الذي يسود المُجتمعات، فضلا عن توحش الرأسمالية التي تزيد الفقراء إفقارا وبؤسا حتى أنهم يظلون ضائعين في الحياة، لا أمل لديهم في أي شيء سوى محاولة الثراء بأي سبيل حتى لو من خلال التجارة في المخدرات والجنس والجريمة المُنظمة؛ كي يلحقوا بالأغنياء ويصعدوا معهم في السلم الاجتماعي بدلا من معاناتهم وبؤسهم اللذين يلاقونهما على يد هؤلاء الأثرياء.

ربما نلمح هذا المفهوم الذي حاولت المخرجة بثه في طيات أحداث فيلمها بتلقائية، ابتعدت فيها كثيرا عن الأسلوب المباشر وخطابيته، في العديد من المشاهد الدالة على نظرتها الثقافية، أو ما تريد إيصاله للمشاهد لا سيما في مشاهد ما قبل التيترات Avant Titre حينما يبدأ الفيلم على مشهد ضبابي داخل أحد المساجد التي نرى فيها سكان معسكر الغجر وقد اجتمع عدد منهم أمام إمام المسجد الذي يقرأ الفاتحة بصوت عال مهيب ذي صدى، ثم لا يلبث أن يبدأ في شرح معنى الآيات للجالسين أمامه. إن بداية الفيلم من خلال هذا المشهد الافتتاحي، وحرصها على أن يكون ضبابيا مصحوبا بالصوت العالي للمقرئ ذي الرجع العميق للصوت يحمل داخله الكثير من المعاني التي تؤكد على أن المُجتمعات الصغيرة البائسة تؤمن بالأسطورة الدينية، ورغم بؤسها وفقرها الشديد، والظلم الاجتماعي الواقع عليها بسبب تهميشها وعدم الاهتمام بها، إلا أن أفراد هذه المُجتمعات دائما ما يلجأون إلى الماورائيات، أو ما هو أسطوري وغيبي في التغلب على ظروفهم التي يجدون فيها الكثير من الظلم- باعتبار أن كل ما هو غيبي لا بد أن يكون سندا سحريا للتغلب على المأزق الوجودي للإنسان-  أي أنهم يتخذون من فكرة الإله والأديان مجرد مُخدر موضعي يتغلبون من خلاله على ظروفهم القاسية، ولكن، هل إيمانهم المُطلق، ذلك، يؤدي بهم إلى حل مشكلاتهم، أو اهتمام الإله بهم؟!


لعل هذه الفكرة: اللجوء إلى الغيبيات والفكر الأسطوري في مقابل اهتمام الإله بهم هي الفكرة الرئيسة التي تحاول المخرجة بثها بين ثنايا فيلمها من خلال بعض المشاهد والحوارات المتفرقة؛ لتؤكد من خلالها على أن ثمة كوميديا إلهية حقيقية تحدث حولنا في العالم تؤدي إلى المزيد من التجاهل الإلهي لمن يلجأون إليه من الفقراء والبائسين؛ فيزداون فقرا وتعرضا للظلم، بينما يزداد الأغنياء ثراء فاحشا وظلما أكبر لمن هم أقل منهم في السلم الاجتماعي.

في مشهد آخر تحاول المخرجة هدى بن يمينة، من خلاله، التأكيد على فكرتها نرى "دنيا"، التي قامت بدورها شقيقة المخرجة Oulaya Amamra عُليا عمامرة، تقوم بتسليم حقيبة المخدرات لأحد العملاء في بهو إحدى الكنائس؛ فيتبادلان المخدرات والمال بينما يتظاهران بصلواتهما، هنا نرى "دنيا" تقول: سامحني يا رب!

إن شعور "دنيا" بالذنب بسبب تسليم المخدرات في مكان مقدس، حتى لو لم يكن يخص ديانتها المسلمة، ودعائها لله كي يسامحها فيما تفعله يؤكد نفس الفكرة التي تخلص إلى إهمال الإله لهذا العالم رغم محاولة الفقراء التقرب منه والاعتماد عليه في تخليصهم من شرور هذا العالم.


كما لا يفوتنا مشهد ثالث كان من المشاهد المُهمة والدالة في الفيلم حينما باعت "دنيا" المخدرات لأحد الزبائن وحاول السطو عليها واسترجاع العشرين يورو التي أخذتها مقابل المخدر، بل وأخذ المخدر أيضا، حينها نرى "دنيا" تضع النقود في فمها؛ حتى لا يأخذها منها؛ فيوسعها ضربا ولكما في وجهها، وحينما ينصرف نرى "دنيا" تسير في الممر الخالي إلا منها في حالة إعياء وقد تورم وجهها مُلطخا بدمائها بينما يعلو في الخلفية السمعية للمشهد صوت آيات قرآنية حرصت المخرجة على أن يكون لها صدى قويا؛ للتدليل على أن كل هذه الفوضى والعبث الذي يعيش فيه الإنسان مجرد كوميديا إلهية حقيقة لا يمكن الهروب منها بعدما علق الإنسان فيها، وفقد قدرته على مجابهتها؛ فاستسلم لها بالإيمان بكل ما هو غيبي- باعتبار الإله الميتافيزيقي لا بد له أن ينتقم لهم فيما بعد- فمشهد "دنيا" البائس بعدما تورم وجهها وتلطخ بالدماء مع وجود الخلفية السمعية التي انطلقت بالعديد من الآيات القرآنية لا يمكن تفسيرها إلا على وجه العبث والسخرية مما يدور حولنا، بل ومن ظنون الآخرين أيضا، وهو ما يؤكده مرة أخرى مشهد "ميمونة"، التي قامت بدورها الممثلة الفرنسية Deborah Lukumuena ديبورا لوكوموينا، حينما قامت بسرقة الوقود من إحدى السيارات بالتعاون مع "دنيا"، فنراها تبسمل أثناء سرقتها للوقود، وتقرأ بعض الآيات القرآنية، كما نراها تقول لدنيا بينما تتأمل القمر: هذا هو الرب ينظر إلينا، فترد دنيا ساخرة: وكأنه ليس لديه أشياء أفضل ليقوم بها. لكن ميمونة تخبرها بأن الله يمكن إخبار والدها، إمام المسجد، بكل شيء مما تفعلانه، إلا أن دنيا ترد بعقلانية: لا تقلقي، نحن كالغبار في الفضاء وكأننا جراثيم بالنسبة له، أي أنه لا يعلم عنهما شيئا، ولا يراهما، وغير مهتم!


إن هذا الحوار بين دنيا وميمونة- بطلتي الفيلم- يحمل من المعاني الدالة التي تؤكد ما سبق أن ذهبنا إليه، من أن المخرجة ترغب في التأكيد على معنى يفيد بأن الله قد خلق هذا العالم وتناساه؛ الأمر الذي أدى إلى المزيد من الكوميديا الإلهية، والمزيد من العبث؛ فازداد الفقراء فقرا وبؤسا على فقرهم رغم إيمانهم به واللجوء إليه، بينما ازداد الأغنياء ثراء، والظالمين ظلما رغم إعراضهم عنه!

حينما نشاهد هذه المشاهد المتفرقة، وغيرها من الحوارات ونحاول ربطها مع عنوان الفيلم المُلتبس "إلهي" يتأكد لنا أن المخرجة التي تتناول في فيلمها أزمة المجتمعات الصغيرة المُهمشة من المُهاجرين العرب والأفارقة في ضواحي العاصمة باريس، وهي المجتمعات الفقيرة التي يعمل النظام/ المجتمع الكبير على تجاهلها وعدم الاهتمام بها لدرجة أن الشرطة لا تتدخل إلا بعد وقوع جريمة داخل هذه المجتمعات، كانت تقصد من الحديث عنها السخرية مما يدور حولنا في هذا العالم، وكأنه مقدر لهم أن يظلوا في هذه المأساة/ اللعبة الإلهية التي تتجاهلهم- ربما عن عمد- ولا تلتفت إليهم، ولعل ما يؤكد هذا المفهوم بشكل أكبر وجود الموسيقى الأوبرالية  بعمقها ومفهومها المأساوي الذي يقترب من هذا المعنى الذي تريد المخرجة التأكيد عليه.


لكن، إذا ما حاولنا تأمل الفيلم بعيدا عن هذا المعنى الذي حاولت المخرجة بثه بسخرية بين طيات فيلمها؛ سنجدها تحاول التأكيد على أن إهمال جيتوهات المُهاجرين الفقراء، وعدم الاهتمام بهم يؤدي، بالضرورة، إلى تحويل هذه الجيتوهات إلى مجرد قنابل موقوتة لا بد لها أن تنفجر في وجه الجميع لتدمير أنفسهم وتدمير المجتمع المُتجاهل لهم من حولهم، أي أن الخسارة لا بد لها أن تطول الجميع في هذه الحالة، وبالتالي فالمخرجة هنا تحاول التحذير من الإهمال المُتعمد للمهاجرين الذين يشعرون بالمزيد من الظلم الاجتماعي والبؤس والفقر الشديدين اللذين لا يؤديا بهم في نهاية الأمر إلا إلى طريق واحد وهو طريق الجريمة المنظمة في المخدرات والجنس والعنف، ثم الانفجار الذي يطيح بكل شيء من حولهم.

يتحدث الفيلم عن "دنيا"، التي تحتل المساحة الأكبر من مشاهده، وصديقتها "ميمونة"- ابنة شيخ المسجد في معسكر الغجر الذي تعيشان فيه- ورغم التدين الذي يشعر به بعض أبناء هذا المعسكر إلا أن المجتمع فيه يسوده العنف والفوضى والإتجار بالمخدرات والجنس والفقر الشديد الذي نراه واضحا على العشش التي يسكن فيها أبناء المعسكر من المهاجرين بجوار أحد المشاريع الإسكانية، أي أن المخرجة تعمل على بيان التناقض الكبير بين المجتمع الرأسمالي الاستهلاكي بثرائه الفاحش الذي يجاور مجتمع العشش والفقر المدقع ببؤسه وعدم وجود أي أمل لدى أبنائه في أفق أوسع، أو صعود أحدهم في السلم الاجتماعي إلا من خلال الأعمال المنافية للقانون والتي يمكن لها أن تُدر عليهم الكثير من المال معرضين أنفسهم وغيرهم للخطر والسقوط الاجتماعي للجميع.

المُخرجة المغربية الفرنسية هدى بن يمينة

هذا الفقر وعدم وجود أي أمل لأبناء هذا المجتمع جعل دنيا لا يمكن لها التفكير سوى في كيفية الوصول إلى المال وجمعه من خلال أي سبيل أيا كان؛ وهو الأمر الذي يجعلها تقول لصديقتها ميمونة: أترين يدي؟ هذه اليد ستجلب الذهب؛ لأنني ملكة العالم، وهو بالفعل ما نراه في مشهد تال حينما نرى ميمونة ودنيا ترتديان الزي الإسلامي- الخمار- من أجل السرقة من السوبر ماركت ثم بيع حصيلتيهما فيما بعد من سرقتيهما لزملائهما في المدرسة الثانوية؛ لاكتساب المال، وهو ما نلاحظه أيضا منذ اللقطات الأولى في الفيلم؛ حيث تتابع "دنيا" تاجرة المخدرات- ريبيكا التي قامت بدورها الممثلة الفرنسية Jisca Kalvanda جيسيكا كالفاندا- ورجلها الذي يعمل معها في بيع المخدرات- سمير الذي قام بدوره الممثل الفرنسي Yasin Houicha ياسين حويشة- وتعمل على تأمل عالميهما راغبة في الدخول إليه من أجل المال؛ الأمر الذي يجعلها تراقب سمير لتعرف أين يخفي المخدرات التي يحصل عليها من ريبيكا؛ ومن ثم تسطو عليها كي تثبت لريبيكا شجاعتها وجسارتها، ومقدرتها على العمل معها، وإثبات أن مخدراتها ستكون في يد أكثر أمانة من سمير الذي لا يحافظ عليها؛ وهو ما يجعل ريبيكا بالفعل تُعجب بدنيا وتوافق على أن تعمل معها في توزيع المخدرات وسرقة الوقود.

تجر دنيا ميمونة إلى العمل معها في توزيع المخدرات وسرقة الوقود، وتكتسبان المزيد من المال بالفعل، وهو المال الذي تحاول دنيا إخفائه أعلى كواليس المسرح البلدي الذي كانت تراقب من خلاله أحد الراقصين- المُعجبة به- والذي يتدرب للاشتراك في فرقة المدينة، ويعمل في ذات الوقت كحارس في السوبر ماركت الذي تسرق منه.

الممثلة الفرنسية جيسيكا كالفاندا

إن عدم إيمان دنيا بالمجتمع الكبير من حولها هو ما يجعلها رافضة أن تكون خادمة لهذا المجتمع غير المؤمن بها والمُتجاهل لها هي وأسرتها وكل من يعيش معها في معسكر الغجر؛ وبالتالي نراها في مدرستها الثانوية حينما تحاول معلمتها تعليمها كيف تكون موظفة استقبال جيدة تثور على معلمتها رافضة لها وما تلقنه لها؛ لتسخر منها وتقول لها: إن هذه الأمور ليست ذات فائدة، ولا يمكن أن تعود عليها بنفع؛ لأنها لم تعد عليها نفسها- المعلمة- بأي شيء سوى المزيد من الإفلاس، فلا راتبها كاف لها من أجل إيجار شقتها ومصاريفها، ولا هي تمتلك أي شيء من المال كي تعيش حياة كريمة، ثم تترك الفصل الدراسي غاضبة مُصرة على عدم العودة إليه مرة أخرى، أي أنها تكفر وترفض ما يحاول المجتمع أن يلقنه لها لتكون عضوا صالحا فيه إيمانا منها أن هذ التعليم، مع وجود المزيد من التجاهل والتهميش، لا يمكن أن يعود عليها بأي فائدة عملية في حياتها؛ لأنه لن يكسبها المال الذي سيجلها تتخطى درجتها الاجتماعية والفقر الشديد الذي تعيش فيه هي ووالدتها التي تعمل مجرد نادلة في بار هو أقرب إلى بيوت الدعارة، بينما لا تفيق من شرب الخمر.

تحاول ريبيكا- تاجرة المخدرات- التي يعمل لديها الكثيرون من الرجال في تجارتها تعليم دنيا كيفية ارتداء حذاء بكعب عال بدعوى أن الشرطة لا يمكن لها أن تشك في امرأة ترتدي كعب عال، ورغم صعوبة مشي دنيا في حذاء له كعب إلا أن ريبيكا تقسو عليها وتصر على تدريبها؛ كي تستغلها في الكثير من الأمور الأخرى لا سيما أن ريبيكا لا ترى في حياتها سوى المال وجمعه، وهو ما نلاحظه في قولها لميمونة: لماذا يبقى الفقير فقيرا؟ فترد ميمونة: لأن الأغنياء يأخذون كل شيء، لكن ريبكا تؤكد لها قائلة: لا، لأن الفقير لا يجرؤ. يجب أن تجرؤي؛ لتكوني غنية، يجب أن تتخيلي المال وسيأتي نحوك. وهو ما تؤكد عليه المخرجة في مشهد آخر يُدلل على أن جميع أبناء المعسكر لا يشغلهم سوى جمع المال بأي طريقة من أجل النجاة من حياتهم البائسة حينما تقول ريبيكا: الجنس، الخمر، المخدرات، يمكن كسب المال بسهولة، وتؤكد رغبتها في السفر إلى تايلاند وفتح بار للدعارة هناك من أجل المزيد من المال.

الممثلة الفرنسية ديبورا لوكوموينا

إذن، فنحن أمام مجتمع شديد التفسخ بسبب فقره المدقع وتهميشه من قبل الجميع، هذا الفقر يؤدي بأبناء هذا المجتمع إلى التجارة في كل شيء، وأي شيء، بل يدفع أبنائه إلى المزيد من العنف تجاه المجتمع الأكبر والدولة، حتى أنهم يدخلون في مواجهات شغب عديدة مع الشرطة التي تتجنب دخول حيهم، كما أن رجال الإطفاء يرفضون الدخول إلى أحيائهم مهما كان المصاب؛ لأنهم دائما ما يلقون عليهم الحجارة ويهاجمونهم في فعل عدواني شديد الشراسة.

إن حصول دنيا وميمونة على مبالغ كبيرة من المال نتيجة عملهما مع ريبيكا يجعلهما يتخيلان نفسيهما يركبان إحدى السيارات الفيراري في مشهد من أهم مشاهد الفيلم، وهو المشهد الذي برعت فيه المخرجة هدى بن يمينة بشكل كبير حينما حاولت تأطير صورتيهما في لقطة متوسطة بينما تتخيلان أنهما داخل "الفيراري" ترتديان النظارات الريبان الغالية وتجولان في المدينة وقد أصبحتا ثريتين، بل نبدأ بالفعل نسمع من خلال هذا المشهد المُتخيل العديد من المؤثرات الصوتية التي تؤكد ما يتخيلانه- من صوت الفرامل، إلى صوت موتور السيارة، إلى صوت سرعة احتكاك عجلاتها بالإسفلت- إلى أن تصلا أمام الفيلا التي تخصهما وتوزعان الكثير من المال على من حولهما. هذا المشهد كان من أهم مشاهد الفيلم التي تؤكد على أن السعي خلف المال، وتجاهل الحياة الصالحة داخل المجتمع هو الحلم الوحيد الذي من الممكن أن يكون الشاغل الأول لأبناء المهاجرين الذين يلاقون الكثير من الظلم الاجتماعي. ولأن ريبيكا ترغب في المزيد من المال، ولأنها ترى في دنيا البيضة التي تبيض لها ذهبا بجمالها وفتنتها- رغم صغر سنها كمراهقة- فهي تُعدها من أجل الإيقاع "برضا" تاجر المخدرات الذي كان يمدها من قبل بالبضائع، والذي أوشى بها للشرطة فيما قبل. ولأن رضا لا يثق في أي أحد في الدنيا حتى أمه؛ فهو يحتفظ بأمواله في منزله، وقد أخبر ريبيكا من قبل حينما كان في حالة سكر شديد أنه يخفي 100000 يورو داخل منزله؛ لذا فهي تريد من دنيا أن تعمل على إغوائه والذهاب معه إلى منزله من أجل سرقة هذا المبلغ الضخم.

بالفعل تذهب دنيا إلى النادي الليلي الذي يسهر فيه رضا مع العاهرات، وحينما يلمحها ترقص يتعلق بجمالها ويحاول النيل منها لكنها تتركه وتذهب، وحينما لا تجد سمير في انتظارها بسيارته كما اتفقت معه تعود إلى المنزل؛ لتفاجأ به يضاجع أمها. تحاول دنيا الانتقام من سمير بحرق سيارة أمه، وتبدأ في استفزاز الشرطة حينما تصل؛ الأمر الذي يؤدي إلى الكثير من أعمال الشغب وتوقيفها هي وميمونة مما يجعل ريبيكا تصفعها وتطردها من العمل معها. لكن نتيجة إلحاح رضا في رغبته بدنيا تستدعيها ريبيكا مرة أخرى وتطلب منها أن تهاتفه لتذهب معه في موعد إلى منزله. لكنها حينما تحاول التفتيش عن المال أثناء وجوده في الحمام يضبطها ويظل يلكم وجهها محاولا الاعتداء الجنسي عليها؛ فتدافع عن نفسها وتضربه على رأسه بآلة حادة حتى تقضي عليه وتستطيع التوصل إلى المبلغ الضخم الذي تقسمه بينها وبين ميمونة وأمها، ثم تحاول الهرب مع حبيبها الراقص بعيدا عن المعسكر.

الممثلة الفرنسية عليا عمامرة

ربما يظن المشاهد هنا أن الفيلم قد انتهى بالفعل بعدما حصلت دنيا على المبلغ الضخم، وحاولت الهروب ووصلت بالفعل إلى محطة القطار، أي أن الشر من الممكن له أحيانا أن ينتصر على كل القيم، وهو ما تهيأ له المشاهد بالفعل اعتقادا منه أن الفيلم قد انتهى عند هذا الحد، لكننا نُفاجأ بالمخرجة تستمر في الإمعان في قسوتها، وتعمل على إكمال الأحداث حينما تصل رسالة فيديو إلى هاتف دنيا من ريبيكا تهددها فيها أنها ستقتل ميمونة، صديقتها، التي احتجزتها. هنا تعود دنيا إلى ريبيكا محاولة إعطائها جزءا من المبلغ، وحينما تغضب ريبيكا طالبة منها باقي المبلغ ترفض دنيا؛ فتسكب ريبيكا عليها البنزين مُهددة لها بحرقها، لكن سمير يخمن أن المال عند أمها ويذهب لإحضاره. هنا تنعت ريبيكا دنيا بأنها لقيطة، ولأن الكثيرين بالفعل كانوا ينعتونها بهذا اللقب بسبب أمها التي تضاجع أي رجل من الممكن أن تقابله؛ فلقد أغضبها الأمر وهاجمت ريبيكا التي حاولت الدفاع عن نفسها بإلقاء القداحة المشتعلة على دنيا الغارقة ملابسها بالوقود، لكن دنيا تتفادى القداحة التي تسقط على الأرض المتشربة بالبنزين؛ ومن ثم يشتعل المخزن المُحتجز فيه ثلاثتهم- دنيا، وريبيكا، وميمونة- تحاول كل منهن الهرب، وتنجح ميمونة في كسر فتحة التهوية، لكنها لا تستطيع الخروج منها بسبب ضخامتها. تخرج كل من ريبيكا ودنيا محاولة إنقاذ صديقتها، ورغم أن سيارات الإطفاء وصلت إلى مكان الحريق إلا أنهم يرفضون التدخل أو محاولة إنقاذ ميمونة إلا بعد وصول الشرطة؛ لأن أهل المعسكر دائما ما يقذفونهم بالحجارة. تتوسل دنيا لرجال الإطفاء من أجل إنقاذ صديقتها، لكنهم لا يهتمون في الوقت الذي ينفجر فيه المخزن الممتلئ بالوقود المسروق لتحترق ميمونة.

لعل هذه المشهد الختامي الذي راحت فيه ميمونة ضحية الأحلام والمال كان من أهم المشاهد الذي نرى فيه دنيا تصرخ غير مُصدقة طالبة من صديقتها أن تسامحها، بينما يصل رجال الشرطة وتبدأ مجموعة من أعمال الشغب الواسعة بين رجال الشرطة وسكان المعسكر الذين يهاجمونهم ويلقون عليهم الحجارة في مشهد يُدلل على الانفجار الكبير لهذه المجتمعات الصغيرة البائسة التي لا بد لها أن تنفجر في نهاية الأمر لتدمير المجتمع الكبير بالكامل نتيجة تجاهله لهم والمساهمة في المزيد من إفقاره. أي أن المخرجة تعمل على تمرير رسالة تؤكد أن إهمال مجتمعات المهاجرين في أوروبا لا بد أن يفضي إلى انفجارهم في وجه الجميع عاملين على تدمير أنفسهم وتدمير الدول التي تستضيفهم وتعمل على تهميشهم، كما كان المشهد تأكيدا من المخرجة على قسوة الحياة التي يلاقيها أبناء المهاجرين؛ وبالتالي فهم لا يمكن لهم أن يجدوا أي انفراجة في حياتهم حتى لو كانت من خلال الأعمال المُخالفة للقانون؛ لأن القدر يقف دائما لهم بالمرصاد، والكوميديا الإلهية تترصدهم أينما كانوا وكأنهم في حلقة مُغلقة مُحاصرين فيها. إلا أن أهمية المشهد الأخير في الفيلم كانت في الأداء الصادق والحقيقي والفني الذي أدته الممثلة عُليا عمامرة، التي تؤكد من خلاله موهبتها التمثيلية الضخمة التي من الممكن الاستفادة منها في العديد من الأفلام السينمائية الأخرى.

قد يبدو الفيلم الفرنسي Divines للوهلة الأولى من الأفلام الراغبة في الحديث عن المهاجرين والفقراء في المجتمعات والدول الغنية باعتبارهم مجرد سرطان يتوغل من أجل تدمير هذه المجتمعات، لكن النظرة العميقة للأحداث تؤكد أن الفيلم يرغب في لفت النظر إلى أن عدم الاهتمام بهذه البؤر الاجتماعية الصغيرة الآخذة في الانتشار والنمو لا يؤدي بأبنائها إلى تدمير أنفسهم فحسب، بل إلى تدمير المجتمع المحيط بالكامل، أي أن الخسارة هنا تطول الجميع بسبب عدم الاهتمام والرعاية الكافية، وربما كان الدليل على ذلك أن الدولة حينما تركت معسكر الغجر- كمثال- يغرق في فوضاه الاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية أضحى هذا المعسكر مجرد قنبلة موقوتة انفجرت في وجه الجميع من أجل تدمير كل شيء، أي أن هذا المجتمع الصغير كان يمتلك بذور فنائه وفناء من يحيطونه بسبب إهمالهم.

لكن، لعل الملاحظة الأهم في الفيلم، وهي ما اعتمدت عليها المخرجة في بناء عالمها الفيلمي؛ هي أنها عملت على قلب الهرم الاجتماعي المُعتاد والكلاسيكي الذي نألفه جميعا؛ ومن ثم كان عالمها الفيلمي هو عالم نسوي بامتياز، ليس بمعنى محاولة الانتصار للمرأة والدفاع عن قضاياها أو ظلمها في مجتمعها، بل رأينا أن جميع الشخصيات في الفيلم هي مجرد شخصيات نسائية، وأن النساء هن المُسيطرات على المجتمع، بل يمتلكن من السمات والصفات السيكولوجية ما يجعلهن شديدات الشراسة والسطوة والعنف على الآخرين، وبالتالي رأينا النساء يتميزن بالعنف والقوة والقيادة في مقابل الرجال الذين رأيناهم بشكل أكثر لطفا واستكانة وطواعية وانقيادا تحت قيادة النساء، أي أن المجتمع هنا بات مقلوبا ربما لأن المرأة التي فطنت إلى عدم وجود أحد يحميها؛ قد قررت تبادل الدور مع الرجال لحمايتهم وقيادتهم والسيطرة عليهم، بل والإنفاق عليهم في مجتمع نسوي جديد، فالفيلم يتحدث عن مجتمع نسوي نرى فيه المرأة هي المحرك الأساس له، وهن المُسيطرات على كل شيء حتى في تحريك الجريمة والسيطرة عليها، ولعلنا لاحظنا العديد من الأمور التي تؤكد على ذلك منها أن الرجل في الفيلم هو من يمارس الرقص ويرغب في الاشتراك في المسابقات بينما النساء لا يفعلن ذلك. كما نلاحظ قول حبيب "دنيا" لها: هل يدهشك رؤية رجل يرقص؟ فضلا عن قول ريبيكا لدنيا: الرجال مثل الكلاب حينما يرونك خائفة يلتهمونك، كما لا ننسى المشهد الذي نرى فيه ريبيكا تداعب رجلها بضربه بقوة على مؤخرته وكأنها تغازله- فالمعهود أن هذا الفعل هو فعل ذكوري يمارسه الرجل أحيانا تجاه الأنثى- كذلك خشية سمير الكبيرة من ريبيكا هو وغيره من الرجال.

كل هذه الملاحظات في تركيبة المجتمع الجديد الذي تتحدث عنه المخرجة تُدلل على أنها رغبتها في التأكيد على أن النساء من الممكن لهن أن يقدن المجتمع حتى في العنف الشديد، ولعل اشتراك المخرجة في كتابة السيناريو أعطاها المزيد من المساحة والحرية من أجل تشكيل العالم الفيلمي كما ترغبه هي.

إن الفيلم الفرنسي Divines رغم تأكيده الكبير على معاني الصداقة بين النساء، وهي المعاني التي كانت واضحة بين كل من دنيا وميمونة، إلا أنه يكاد يكون من أهم الأفلام السينمائية التي تحذر المجتمعات الرأسمالية من الإهمال والتهميش اللذين يلاقيهما المهاجرين العرب والأفارقة إلى أوروبا؛ لأن هذا الإهمال والإفقار الشديد والتجاهل لا بد له أن يتحول مع الوقت إلى قنبلة موقوتة ستنفجر في أي لحظة في وجه الجميع مُدمرة لهم، وربما كان هذا الفقر والبؤس الشديدان هما السبب في أن الفيلم يُعرف أيضا باسم Mexico في إشارة إلى حياة البؤس التي يعيشها أبناء هذه المجتمعات التي لا تلقى الاهتمام الكافي من الإله الذي يلجأون إليه؛ فيتحول الأمر إلى سخرية عميقة من هذه الكوميديا الإلهية الحادثة من حولنا!

 

محمود الغيطاني

مجلة "نقد 21".

عدد نوفمبر 2022م.