الثلاثاء، 15 نوفمبر 2022

Divines: تجليات الكوميديا الإلهية في مجتمعات بائسة

إذا ما قمنا بترجمة عنوان الفيلم الفرنسي القطري Divines للمخرجة الفرنسية/ المغربية الأصل هدى بن يمينة سنجد أن الكلمة تعني "إلهي"، ورغم أن الفيلم يتحدث عن المجتمعات الصغيرة/ الجيتوهات التي تعيش في ضواحي العاصمة الفرنسية باريس، وحياة هذه المُجتمعات المُهمشة تهميشا تاما ومُتعمدا باعتبارهم مواطنين من الدرجة الثالثة، ويتناول الفيلم حياتهم الاقتصادية المتردية، وأثر ذلك على المُجتمع الفرنسي ككل، وما يمكن أن يسوده من عنف وجريمة وانفجار؛ نتيجة هذا التهميش والإفقار، إلا أننا نلمح ثمة نظرة ثقافية مُبطنة في طيات أحداث الفيلم التي تكاد تكون عنيفة وغارقة في الجريمة والإتجار في المخدرات والجنس.

ثمة نظرة ثقافية/ فلسفية لدى المخرجة تريد من خلالها القول: إن ما يحدث في هذه الحياة من فوضى وظلم وجريمة وفساد مجرد كوميديا إلهية، تبعا لمفهوم الشاعر الإيطالي دانتي إليجييري، أو أن الله قد خلق هذا العالم ثم انشغل عنه، إن لم يكن قد تناساه ولم يعد يتذكره؛ الأمر الذي يؤدي إلى المزيد من الظلم والجريمة والعنف والبطش الذي يسود المُجتمعات، فضلا عن توحش الرأسمالية التي تزيد الفقراء إفقارا وبؤسا حتى أنهم يظلون ضائعين في الحياة، لا أمل لديهم في أي شيء سوى محاولة الثراء بأي سبيل حتى لو من خلال التجارة في المخدرات والجنس والجريمة المُنظمة؛ كي يلحقوا بالأغنياء ويصعدوا معهم في السلم الاجتماعي بدلا من معاناتهم وبؤسهم اللذين يلاقونهما على يد هؤلاء الأثرياء.

ربما نلمح هذا المفهوم الذي حاولت المخرجة بثه في طيات أحداث فيلمها بتلقائية، ابتعدت فيها كثيرا عن الأسلوب المباشر وخطابيته، في العديد من المشاهد الدالة على نظرتها الثقافية، أو ما تريد إيصاله للمشاهد لا سيما في مشاهد ما قبل التيترات Avant Titre حينما يبدأ الفيلم على مشهد ضبابي داخل أحد المساجد التي نرى فيها سكان معسكر الغجر وقد اجتمع عدد منهم أمام إمام المسجد الذي يقرأ الفاتحة بصوت عال مهيب ذي صدى، ثم لا يلبث أن يبدأ في شرح معنى الآيات للجالسين أمامه. إن بداية الفيلم من خلال هذا المشهد الافتتاحي، وحرصها على أن يكون ضبابيا مصحوبا بالصوت العالي للمقرئ ذي الرجع العميق للصوت يحمل داخله الكثير من المعاني التي تؤكد على أن المُجتمعات الصغيرة البائسة تؤمن بالأسطورة الدينية، ورغم بؤسها وفقرها الشديد، والظلم الاجتماعي الواقع عليها بسبب تهميشها وعدم الاهتمام بها، إلا أن أفراد هذه المُجتمعات دائما ما يلجأون إلى الماورائيات، أو ما هو أسطوري وغيبي في التغلب على ظروفهم التي يجدون فيها الكثير من الظلم- باعتبار أن كل ما هو غيبي لا بد أن يكون سندا سحريا للتغلب على المأزق الوجودي للإنسان-  أي أنهم يتخذون من فكرة الإله والأديان مجرد مُخدر موضعي يتغلبون من خلاله على ظروفهم القاسية، ولكن، هل إيمانهم المُطلق، ذلك، يؤدي بهم إلى حل مشكلاتهم، أو اهتمام الإله بهم؟!


لعل هذه الفكرة: اللجوء إلى الغيبيات والفكر الأسطوري في مقابل اهتمام الإله بهم هي الفكرة الرئيسة التي تحاول المخرجة بثها بين ثنايا فيلمها من خلال بعض المشاهد والحوارات المتفرقة؛ لتؤكد من خلالها على أن ثمة كوميديا إلهية حقيقية تحدث حولنا في العالم تؤدي إلى المزيد من التجاهل الإلهي لمن يلجأون إليه من الفقراء والبائسين؛ فيزداون فقرا وتعرضا للظلم، بينما يزداد الأغنياء ثراء فاحشا وظلما أكبر لمن هم أقل منهم في السلم الاجتماعي.

في مشهد آخر تحاول المخرجة هدى بن يمينة، من خلاله، التأكيد على فكرتها نرى "دنيا"، التي قامت بدورها شقيقة المخرجة Oulaya Amamra عُليا عمامرة، تقوم بتسليم حقيبة المخدرات لأحد العملاء في بهو إحدى الكنائس؛ فيتبادلان المخدرات والمال بينما يتظاهران بصلواتهما، هنا نرى "دنيا" تقول: سامحني يا رب!

إن شعور "دنيا" بالذنب بسبب تسليم المخدرات في مكان مقدس، حتى لو لم يكن يخص ديانتها المسلمة، ودعائها لله كي يسامحها فيما تفعله يؤكد نفس الفكرة التي تخلص إلى إهمال الإله لهذا العالم رغم محاولة الفقراء التقرب منه والاعتماد عليه في تخليصهم من شرور هذا العالم.


كما لا يفوتنا مشهد ثالث كان من المشاهد المُهمة والدالة في الفيلم حينما باعت "دنيا" المخدرات لأحد الزبائن وحاول السطو عليها واسترجاع العشرين يورو التي أخذتها مقابل المخدر، بل وأخذ المخدر أيضا، حينها نرى "دنيا" تضع النقود في فمها؛ حتى لا يأخذها منها؛ فيوسعها ضربا ولكما في وجهها، وحينما ينصرف نرى "دنيا" تسير في الممر الخالي إلا منها في حالة إعياء وقد تورم وجهها مُلطخا بدمائها بينما يعلو في الخلفية السمعية للمشهد صوت آيات قرآنية حرصت المخرجة على أن يكون لها صدى قويا؛ للتدليل على أن كل هذه الفوضى والعبث الذي يعيش فيه الإنسان مجرد كوميديا إلهية حقيقة لا يمكن الهروب منها بعدما علق الإنسان فيها، وفقد قدرته على مجابهتها؛ فاستسلم لها بالإيمان بكل ما هو غيبي- باعتبار الإله الميتافيزيقي لا بد له أن ينتقم لهم فيما بعد- فمشهد "دنيا" البائس بعدما تورم وجهها وتلطخ بالدماء مع وجود الخلفية السمعية التي انطلقت بالعديد من الآيات القرآنية لا يمكن تفسيرها إلا على وجه العبث والسخرية مما يدور حولنا، بل ومن ظنون الآخرين أيضا، وهو ما يؤكده مرة أخرى مشهد "ميمونة"، التي قامت بدورها الممثلة الفرنسية Deborah Lukumuena ديبورا لوكوموينا، حينما قامت بسرقة الوقود من إحدى السيارات بالتعاون مع "دنيا"، فنراها تبسمل أثناء سرقتها للوقود، وتقرأ بعض الآيات القرآنية، كما نراها تقول لدنيا بينما تتأمل القمر: هذا هو الرب ينظر إلينا، فترد دنيا ساخرة: وكأنه ليس لديه أشياء أفضل ليقوم بها. لكن ميمونة تخبرها بأن الله يمكن إخبار والدها، إمام المسجد، بكل شيء مما تفعلانه، إلا أن دنيا ترد بعقلانية: لا تقلقي، نحن كالغبار في الفضاء وكأننا جراثيم بالنسبة له، أي أنه لا يعلم عنهما شيئا، ولا يراهما، وغير مهتم!


إن هذا الحوار بين دنيا وميمونة- بطلتي الفيلم- يحمل من المعاني الدالة التي تؤكد ما سبق أن ذهبنا إليه، من أن المخرجة ترغب في التأكيد على معنى يفيد بأن الله قد خلق هذا العالم وتناساه؛ الأمر الذي أدى إلى المزيد من الكوميديا الإلهية، والمزيد من العبث؛ فازداد الفقراء فقرا وبؤسا على فقرهم رغم إيمانهم به واللجوء إليه، بينما ازداد الأغنياء ثراء، والظالمين ظلما رغم إعراضهم عنه!

حينما نشاهد هذه المشاهد المتفرقة، وغيرها من الحوارات ونحاول ربطها مع عنوان الفيلم المُلتبس "إلهي" يتأكد لنا أن المخرجة التي تتناول في فيلمها أزمة المجتمعات الصغيرة المُهمشة من المُهاجرين العرب والأفارقة في ضواحي العاصمة باريس، وهي المجتمعات الفقيرة التي يعمل النظام/ المجتمع الكبير على تجاهلها وعدم الاهتمام بها لدرجة أن الشرطة لا تتدخل إلا بعد وقوع جريمة داخل هذه المجتمعات، كانت تقصد من الحديث عنها السخرية مما يدور حولنا في هذا العالم، وكأنه مقدر لهم أن يظلوا في هذه المأساة/ اللعبة الإلهية التي تتجاهلهم- ربما عن عمد- ولا تلتفت إليهم، ولعل ما يؤكد هذا المفهوم بشكل أكبر وجود الموسيقى الأوبرالية  بعمقها ومفهومها المأساوي الذي يقترب من هذا المعنى الذي تريد المخرجة التأكيد عليه.


لكن، إذا ما حاولنا تأمل الفيلم بعيدا عن هذا المعنى الذي حاولت المخرجة بثه بسخرية بين طيات فيلمها؛ سنجدها تحاول التأكيد على أن إهمال جيتوهات المُهاجرين الفقراء، وعدم الاهتمام بهم يؤدي، بالضرورة، إلى تحويل هذه الجيتوهات إلى مجرد قنابل موقوتة لا بد لها أن تنفجر في وجه الجميع لتدمير أنفسهم وتدمير المجتمع المُتجاهل لهم من حولهم، أي أن الخسارة لا بد لها أن تطول الجميع في هذه الحالة، وبالتالي فالمخرجة هنا تحاول التحذير من الإهمال المُتعمد للمهاجرين الذين يشعرون بالمزيد من الظلم الاجتماعي والبؤس والفقر الشديدين اللذين لا يؤديا بهم في نهاية الأمر إلا إلى طريق واحد وهو طريق الجريمة المنظمة في المخدرات والجنس والعنف، ثم الانفجار الذي يطيح بكل شيء من حولهم.

يتحدث الفيلم عن "دنيا"، التي تحتل المساحة الأكبر من مشاهده، وصديقتها "ميمونة"- ابنة شيخ المسجد في معسكر الغجر الذي تعيشان فيه- ورغم التدين الذي يشعر به بعض أبناء هذا المعسكر إلا أن المجتمع فيه يسوده العنف والفوضى والإتجار بالمخدرات والجنس والفقر الشديد الذي نراه واضحا على العشش التي يسكن فيها أبناء المعسكر من المهاجرين بجوار أحد المشاريع الإسكانية، أي أن المخرجة تعمل على بيان التناقض الكبير بين المجتمع الرأسمالي الاستهلاكي بثرائه الفاحش الذي يجاور مجتمع العشش والفقر المدقع ببؤسه وعدم وجود أي أمل لدى أبنائه في أفق أوسع، أو صعود أحدهم في السلم الاجتماعي إلا من خلال الأعمال المنافية للقانون والتي يمكن لها أن تُدر عليهم الكثير من المال معرضين أنفسهم وغيرهم للخطر والسقوط الاجتماعي للجميع.

المُخرجة المغربية الفرنسية هدى بن يمينة

هذا الفقر وعدم وجود أي أمل لأبناء هذا المجتمع جعل دنيا لا يمكن لها التفكير سوى في كيفية الوصول إلى المال وجمعه من خلال أي سبيل أيا كان؛ وهو الأمر الذي يجعلها تقول لصديقتها ميمونة: أترين يدي؟ هذه اليد ستجلب الذهب؛ لأنني ملكة العالم، وهو بالفعل ما نراه في مشهد تال حينما نرى ميمونة ودنيا ترتديان الزي الإسلامي- الخمار- من أجل السرقة من السوبر ماركت ثم بيع حصيلتيهما فيما بعد من سرقتيهما لزملائهما في المدرسة الثانوية؛ لاكتساب المال، وهو ما نلاحظه أيضا منذ اللقطات الأولى في الفيلم؛ حيث تتابع "دنيا" تاجرة المخدرات- ريبيكا التي قامت بدورها الممثلة الفرنسية Jisca Kalvanda جيسيكا كالفاندا- ورجلها الذي يعمل معها في بيع المخدرات- سمير الذي قام بدوره الممثل الفرنسي Yasin Houicha ياسين حويشة- وتعمل على تأمل عالميهما راغبة في الدخول إليه من أجل المال؛ الأمر الذي يجعلها تراقب سمير لتعرف أين يخفي المخدرات التي يحصل عليها من ريبيكا؛ ومن ثم تسطو عليها كي تثبت لريبيكا شجاعتها وجسارتها، ومقدرتها على العمل معها، وإثبات أن مخدراتها ستكون في يد أكثر أمانة من سمير الذي لا يحافظ عليها؛ وهو ما يجعل ريبيكا بالفعل تُعجب بدنيا وتوافق على أن تعمل معها في توزيع المخدرات وسرقة الوقود.

تجر دنيا ميمونة إلى العمل معها في توزيع المخدرات وسرقة الوقود، وتكتسبان المزيد من المال بالفعل، وهو المال الذي تحاول دنيا إخفائه أعلى كواليس المسرح البلدي الذي كانت تراقب من خلاله أحد الراقصين- المُعجبة به- والذي يتدرب للاشتراك في فرقة المدينة، ويعمل في ذات الوقت كحارس في السوبر ماركت الذي تسرق منه.

الممثلة الفرنسية جيسيكا كالفاندا

إن عدم إيمان دنيا بالمجتمع الكبير من حولها هو ما يجعلها رافضة أن تكون خادمة لهذا المجتمع غير المؤمن بها والمُتجاهل لها هي وأسرتها وكل من يعيش معها في معسكر الغجر؛ وبالتالي نراها في مدرستها الثانوية حينما تحاول معلمتها تعليمها كيف تكون موظفة استقبال جيدة تثور على معلمتها رافضة لها وما تلقنه لها؛ لتسخر منها وتقول لها: إن هذه الأمور ليست ذات فائدة، ولا يمكن أن تعود عليها بنفع؛ لأنها لم تعد عليها نفسها- المعلمة- بأي شيء سوى المزيد من الإفلاس، فلا راتبها كاف لها من أجل إيجار شقتها ومصاريفها، ولا هي تمتلك أي شيء من المال كي تعيش حياة كريمة، ثم تترك الفصل الدراسي غاضبة مُصرة على عدم العودة إليه مرة أخرى، أي أنها تكفر وترفض ما يحاول المجتمع أن يلقنه لها لتكون عضوا صالحا فيه إيمانا منها أن هذ التعليم، مع وجود المزيد من التجاهل والتهميش، لا يمكن أن يعود عليها بأي فائدة عملية في حياتها؛ لأنه لن يكسبها المال الذي سيجلها تتخطى درجتها الاجتماعية والفقر الشديد الذي تعيش فيه هي ووالدتها التي تعمل مجرد نادلة في بار هو أقرب إلى بيوت الدعارة، بينما لا تفيق من شرب الخمر.

تحاول ريبيكا- تاجرة المخدرات- التي يعمل لديها الكثيرون من الرجال في تجارتها تعليم دنيا كيفية ارتداء حذاء بكعب عال بدعوى أن الشرطة لا يمكن لها أن تشك في امرأة ترتدي كعب عال، ورغم صعوبة مشي دنيا في حذاء له كعب إلا أن ريبيكا تقسو عليها وتصر على تدريبها؛ كي تستغلها في الكثير من الأمور الأخرى لا سيما أن ريبيكا لا ترى في حياتها سوى المال وجمعه، وهو ما نلاحظه في قولها لميمونة: لماذا يبقى الفقير فقيرا؟ فترد ميمونة: لأن الأغنياء يأخذون كل شيء، لكن ريبكا تؤكد لها قائلة: لا، لأن الفقير لا يجرؤ. يجب أن تجرؤي؛ لتكوني غنية، يجب أن تتخيلي المال وسيأتي نحوك. وهو ما تؤكد عليه المخرجة في مشهد آخر يُدلل على أن جميع أبناء المعسكر لا يشغلهم سوى جمع المال بأي طريقة من أجل النجاة من حياتهم البائسة حينما تقول ريبيكا: الجنس، الخمر، المخدرات، يمكن كسب المال بسهولة، وتؤكد رغبتها في السفر إلى تايلاند وفتح بار للدعارة هناك من أجل المزيد من المال.

الممثلة الفرنسية ديبورا لوكوموينا

إذن، فنحن أمام مجتمع شديد التفسخ بسبب فقره المدقع وتهميشه من قبل الجميع، هذا الفقر يؤدي بأبناء هذا المجتمع إلى التجارة في كل شيء، وأي شيء، بل يدفع أبنائه إلى المزيد من العنف تجاه المجتمع الأكبر والدولة، حتى أنهم يدخلون في مواجهات شغب عديدة مع الشرطة التي تتجنب دخول حيهم، كما أن رجال الإطفاء يرفضون الدخول إلى أحيائهم مهما كان المصاب؛ لأنهم دائما ما يلقون عليهم الحجارة ويهاجمونهم في فعل عدواني شديد الشراسة.

إن حصول دنيا وميمونة على مبالغ كبيرة من المال نتيجة عملهما مع ريبيكا يجعلهما يتخيلان نفسيهما يركبان إحدى السيارات الفيراري في مشهد من أهم مشاهد الفيلم، وهو المشهد الذي برعت فيه المخرجة هدى بن يمينة بشكل كبير حينما حاولت تأطير صورتيهما في لقطة متوسطة بينما تتخيلان أنهما داخل "الفيراري" ترتديان النظارات الريبان الغالية وتجولان في المدينة وقد أصبحتا ثريتين، بل نبدأ بالفعل نسمع من خلال هذا المشهد المُتخيل العديد من المؤثرات الصوتية التي تؤكد ما يتخيلانه- من صوت الفرامل، إلى صوت موتور السيارة، إلى صوت سرعة احتكاك عجلاتها بالإسفلت- إلى أن تصلا أمام الفيلا التي تخصهما وتوزعان الكثير من المال على من حولهما. هذا المشهد كان من أهم مشاهد الفيلم التي تؤكد على أن السعي خلف المال، وتجاهل الحياة الصالحة داخل المجتمع هو الحلم الوحيد الذي من الممكن أن يكون الشاغل الأول لأبناء المهاجرين الذين يلاقون الكثير من الظلم الاجتماعي. ولأن ريبيكا ترغب في المزيد من المال، ولأنها ترى في دنيا البيضة التي تبيض لها ذهبا بجمالها وفتنتها- رغم صغر سنها كمراهقة- فهي تُعدها من أجل الإيقاع "برضا" تاجر المخدرات الذي كان يمدها من قبل بالبضائع، والذي أوشى بها للشرطة فيما قبل. ولأن رضا لا يثق في أي أحد في الدنيا حتى أمه؛ فهو يحتفظ بأمواله في منزله، وقد أخبر ريبيكا من قبل حينما كان في حالة سكر شديد أنه يخفي 100000 يورو داخل منزله؛ لذا فهي تريد من دنيا أن تعمل على إغوائه والذهاب معه إلى منزله من أجل سرقة هذا المبلغ الضخم.

بالفعل تذهب دنيا إلى النادي الليلي الذي يسهر فيه رضا مع العاهرات، وحينما يلمحها ترقص يتعلق بجمالها ويحاول النيل منها لكنها تتركه وتذهب، وحينما لا تجد سمير في انتظارها بسيارته كما اتفقت معه تعود إلى المنزل؛ لتفاجأ به يضاجع أمها. تحاول دنيا الانتقام من سمير بحرق سيارة أمه، وتبدأ في استفزاز الشرطة حينما تصل؛ الأمر الذي يؤدي إلى الكثير من أعمال الشغب وتوقيفها هي وميمونة مما يجعل ريبيكا تصفعها وتطردها من العمل معها. لكن نتيجة إلحاح رضا في رغبته بدنيا تستدعيها ريبيكا مرة أخرى وتطلب منها أن تهاتفه لتذهب معه في موعد إلى منزله. لكنها حينما تحاول التفتيش عن المال أثناء وجوده في الحمام يضبطها ويظل يلكم وجهها محاولا الاعتداء الجنسي عليها؛ فتدافع عن نفسها وتضربه على رأسه بآلة حادة حتى تقضي عليه وتستطيع التوصل إلى المبلغ الضخم الذي تقسمه بينها وبين ميمونة وأمها، ثم تحاول الهرب مع حبيبها الراقص بعيدا عن المعسكر.

الممثلة الفرنسية عليا عمامرة

ربما يظن المشاهد هنا أن الفيلم قد انتهى بالفعل بعدما حصلت دنيا على المبلغ الضخم، وحاولت الهروب ووصلت بالفعل إلى محطة القطار، أي أن الشر من الممكن له أحيانا أن ينتصر على كل القيم، وهو ما تهيأ له المشاهد بالفعل اعتقادا منه أن الفيلم قد انتهى عند هذا الحد، لكننا نُفاجأ بالمخرجة تستمر في الإمعان في قسوتها، وتعمل على إكمال الأحداث حينما تصل رسالة فيديو إلى هاتف دنيا من ريبيكا تهددها فيها أنها ستقتل ميمونة، صديقتها، التي احتجزتها. هنا تعود دنيا إلى ريبيكا محاولة إعطائها جزءا من المبلغ، وحينما تغضب ريبيكا طالبة منها باقي المبلغ ترفض دنيا؛ فتسكب ريبيكا عليها البنزين مُهددة لها بحرقها، لكن سمير يخمن أن المال عند أمها ويذهب لإحضاره. هنا تنعت ريبيكا دنيا بأنها لقيطة، ولأن الكثيرين بالفعل كانوا ينعتونها بهذا اللقب بسبب أمها التي تضاجع أي رجل من الممكن أن تقابله؛ فلقد أغضبها الأمر وهاجمت ريبيكا التي حاولت الدفاع عن نفسها بإلقاء القداحة المشتعلة على دنيا الغارقة ملابسها بالوقود، لكن دنيا تتفادى القداحة التي تسقط على الأرض المتشربة بالبنزين؛ ومن ثم يشتعل المخزن المُحتجز فيه ثلاثتهم- دنيا، وريبيكا، وميمونة- تحاول كل منهن الهرب، وتنجح ميمونة في كسر فتحة التهوية، لكنها لا تستطيع الخروج منها بسبب ضخامتها. تخرج كل من ريبيكا ودنيا محاولة إنقاذ صديقتها، ورغم أن سيارات الإطفاء وصلت إلى مكان الحريق إلا أنهم يرفضون التدخل أو محاولة إنقاذ ميمونة إلا بعد وصول الشرطة؛ لأن أهل المعسكر دائما ما يقذفونهم بالحجارة. تتوسل دنيا لرجال الإطفاء من أجل إنقاذ صديقتها، لكنهم لا يهتمون في الوقت الذي ينفجر فيه المخزن الممتلئ بالوقود المسروق لتحترق ميمونة.

لعل هذه المشهد الختامي الذي راحت فيه ميمونة ضحية الأحلام والمال كان من أهم المشاهد الذي نرى فيه دنيا تصرخ غير مُصدقة طالبة من صديقتها أن تسامحها، بينما يصل رجال الشرطة وتبدأ مجموعة من أعمال الشغب الواسعة بين رجال الشرطة وسكان المعسكر الذين يهاجمونهم ويلقون عليهم الحجارة في مشهد يُدلل على الانفجار الكبير لهذه المجتمعات الصغيرة البائسة التي لا بد لها أن تنفجر في نهاية الأمر لتدمير المجتمع الكبير بالكامل نتيجة تجاهله لهم والمساهمة في المزيد من إفقاره. أي أن المخرجة تعمل على تمرير رسالة تؤكد أن إهمال مجتمعات المهاجرين في أوروبا لا بد أن يفضي إلى انفجارهم في وجه الجميع عاملين على تدمير أنفسهم وتدمير الدول التي تستضيفهم وتعمل على تهميشهم، كما كان المشهد تأكيدا من المخرجة على قسوة الحياة التي يلاقيها أبناء المهاجرين؛ وبالتالي فهم لا يمكن لهم أن يجدوا أي انفراجة في حياتهم حتى لو كانت من خلال الأعمال المُخالفة للقانون؛ لأن القدر يقف دائما لهم بالمرصاد، والكوميديا الإلهية تترصدهم أينما كانوا وكأنهم في حلقة مُغلقة مُحاصرين فيها. إلا أن أهمية المشهد الأخير في الفيلم كانت في الأداء الصادق والحقيقي والفني الذي أدته الممثلة عُليا عمامرة، التي تؤكد من خلاله موهبتها التمثيلية الضخمة التي من الممكن الاستفادة منها في العديد من الأفلام السينمائية الأخرى.

قد يبدو الفيلم الفرنسي Divines للوهلة الأولى من الأفلام الراغبة في الحديث عن المهاجرين والفقراء في المجتمعات والدول الغنية باعتبارهم مجرد سرطان يتوغل من أجل تدمير هذه المجتمعات، لكن النظرة العميقة للأحداث تؤكد أن الفيلم يرغب في لفت النظر إلى أن عدم الاهتمام بهذه البؤر الاجتماعية الصغيرة الآخذة في الانتشار والنمو لا يؤدي بأبنائها إلى تدمير أنفسهم فحسب، بل إلى تدمير المجتمع المحيط بالكامل، أي أن الخسارة هنا تطول الجميع بسبب عدم الاهتمام والرعاية الكافية، وربما كان الدليل على ذلك أن الدولة حينما تركت معسكر الغجر- كمثال- يغرق في فوضاه الاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية أضحى هذا المعسكر مجرد قنبلة موقوتة انفجرت في وجه الجميع من أجل تدمير كل شيء، أي أن هذا المجتمع الصغير كان يمتلك بذور فنائه وفناء من يحيطونه بسبب إهمالهم.

لكن، لعل الملاحظة الأهم في الفيلم، وهي ما اعتمدت عليها المخرجة في بناء عالمها الفيلمي؛ هي أنها عملت على قلب الهرم الاجتماعي المُعتاد والكلاسيكي الذي نألفه جميعا؛ ومن ثم كان عالمها الفيلمي هو عالم نسوي بامتياز، ليس بمعنى محاولة الانتصار للمرأة والدفاع عن قضاياها أو ظلمها في مجتمعها، بل رأينا أن جميع الشخصيات في الفيلم هي مجرد شخصيات نسائية، وأن النساء هن المُسيطرات على المجتمع، بل يمتلكن من السمات والصفات السيكولوجية ما يجعلهن شديدات الشراسة والسطوة والعنف على الآخرين، وبالتالي رأينا النساء يتميزن بالعنف والقوة والقيادة في مقابل الرجال الذين رأيناهم بشكل أكثر لطفا واستكانة وطواعية وانقيادا تحت قيادة النساء، أي أن المجتمع هنا بات مقلوبا ربما لأن المرأة التي فطنت إلى عدم وجود أحد يحميها؛ قد قررت تبادل الدور مع الرجال لحمايتهم وقيادتهم والسيطرة عليهم، بل والإنفاق عليهم في مجتمع نسوي جديد، فالفيلم يتحدث عن مجتمع نسوي نرى فيه المرأة هي المحرك الأساس له، وهن المُسيطرات على كل شيء حتى في تحريك الجريمة والسيطرة عليها، ولعلنا لاحظنا العديد من الأمور التي تؤكد على ذلك منها أن الرجل في الفيلم هو من يمارس الرقص ويرغب في الاشتراك في المسابقات بينما النساء لا يفعلن ذلك. كما نلاحظ قول حبيب "دنيا" لها: هل يدهشك رؤية رجل يرقص؟ فضلا عن قول ريبيكا لدنيا: الرجال مثل الكلاب حينما يرونك خائفة يلتهمونك، كما لا ننسى المشهد الذي نرى فيه ريبيكا تداعب رجلها بضربه بقوة على مؤخرته وكأنها تغازله- فالمعهود أن هذا الفعل هو فعل ذكوري يمارسه الرجل أحيانا تجاه الأنثى- كذلك خشية سمير الكبيرة من ريبيكا هو وغيره من الرجال.

كل هذه الملاحظات في تركيبة المجتمع الجديد الذي تتحدث عنه المخرجة تُدلل على أنها رغبتها في التأكيد على أن النساء من الممكن لهن أن يقدن المجتمع حتى في العنف الشديد، ولعل اشتراك المخرجة في كتابة السيناريو أعطاها المزيد من المساحة والحرية من أجل تشكيل العالم الفيلمي كما ترغبه هي.

إن الفيلم الفرنسي Divines رغم تأكيده الكبير على معاني الصداقة بين النساء، وهي المعاني التي كانت واضحة بين كل من دنيا وميمونة، إلا أنه يكاد يكون من أهم الأفلام السينمائية التي تحذر المجتمعات الرأسمالية من الإهمال والتهميش اللذين يلاقيهما المهاجرين العرب والأفارقة إلى أوروبا؛ لأن هذا الإهمال والإفقار الشديد والتجاهل لا بد له أن يتحول مع الوقت إلى قنبلة موقوتة ستنفجر في أي لحظة في وجه الجميع مُدمرة لهم، وربما كان هذا الفقر والبؤس الشديدان هما السبب في أن الفيلم يُعرف أيضا باسم Mexico في إشارة إلى حياة البؤس التي يعيشها أبناء هذه المجتمعات التي لا تلقى الاهتمام الكافي من الإله الذي يلجأون إليه؛ فيتحول الأمر إلى سخرية عميقة من هذه الكوميديا الإلهية الحادثة من حولنا!

 

محمود الغيطاني

مجلة "نقد 21".

عدد نوفمبر 2022م.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق