في فيلمه The Hunt الصيد، أو Jagten حسب عنوان الفيلم الأصلي في لغته الدانماركية نلاحظ أن فينتربرج يلتزم في هذا الفيلم مثلا باستخدام الإضاءة الطبيعية فقط من دون اللجوء إلى إضاءة الاستوديوهات أو استخدام أي لمبات إضاءة، كما يستخدم الكاميرا المحمولة المُتحركة التي لا بد لها من إعطاء إيحاء بحياة الكاميرا وتوترها تبعا للمشهد الذي يتم تصويره، ولجأ إلى التصوير أيضا في الأماكن الطبيعية والحقيقية، لكنه لا يلتزم مثلا بشرط عدم اللجوء إلى الموسيقى التصويرية والاعتماد على الأصوات الطبيعية الحية فقط، أو الضجيج المُحيط، بل لجأ إلى استخدام الموسيقى في فيلمه، صحيح أنه لم يعتمد عليها اعتمادا كبيرا، بل كان مُقتصدا في استخدامها والاعتماد عليها، لكنه خالف قاعدة من أهم القواعد التي تميز سينما الدوجما عن غيرها من السينمات الأخرى.
إذن، فتوماس فينتربرج- كمُؤسس رئيس لجماعة دوجما 95- أهم الحركات السينمائية الأوروبية- لم يكن مُلتزما بالشروط التي وضعوها لهذه الحركة السينمائية، بل كان التزامه بها مُتراوحا طيلة الوقت في أفلامه التي قدمها.
في بلدة صغيرة يعيش رجالها أوقات لهوهم على صيد الغزلان بالبنادق في الغابة المُحيطة بهم، وتناول الكحوليات في تجمعات وسهرات ذكورية كبيرة تخلو من النساء- حيث مُعظم أهل البلدة يعرفون بعضهم البعض ويرتبطون بعلاقات صداقة وثيقة؛ نظرا لصغر البلدة- نعرف أن شبابها من الذكور لا يمكن لهم مُشاركة رجالها في الصيد إلا حينما يبلغ الشاب منهم سن الرشد، ويُمنح رخصة للصيد؛ فيقومون جميعا بالاحتفال الصاخب به وإهدائه بندقية من أجل مُشاركتهم في الأمر- دلالة على أنه قد بات رجلا.
إن مُجتمعا بمثل هذا الشكل هو في حقيقته مُجتمع مُفرط في ذكوريته، بالغ العُنف، قابل للانفجار في أي لحظة؛ لأن بذور العُنف والشراسة كامنين داخله يتحينان اللحظة المُناسبة لهذا الانفجار. هذا الأمر قد يحدث فجأة لمُجرد شائعة لا دليل عليها، ولا يمكن التأكد من صحتها حتى لو أكدت الشرطة براءة من تم توجيه الشائعة إليه؛ فالمُجتمع هنا قد وجد ضالته التي يمكن صب بركان عنفه الكامن داخله عليها؛ وبالتالي سيظل المُتهم مُذنبا للأبد ليصبوا عليه غضبهم، وسبابهم، وعنفهم الجسدي الدامي، وعدائهم الذي قد يوصلهم في النهاية إلى قتله رغم براءته.
إنها سمات المُجتمعات الذكورية العنيفة التي قد تُمارس العنف على أقرب الناس إليها؛ لمُجرد تفريغ شحناتهم المقموعة داخلهم، كما يبدو الأمر من ناحية أخرى- وهذا هو الأهم- أن المُجتمعات مهما تقدمت في طور مدنيتها وتحضرها وتقدمها تظل النسبة الغالبة منها في طور القطيع والغوغاء؛ حيث يستطيعون إشاعة وبث الفوضى واللاقانون، وعدم احترام أي شيء- حتى لو أكد القانون عدم وجود جريمة- والاتفاق على إدانة شخص بريء إذا ما اتفقوا على ذلك محاولين عزله عن المُجتمع، أو مُمارسة عنفهم الجسدي عليه، أو حتى مُحاولة قتله في اعتقاد منهم أنهم يفعلون الصواب، ويحاولون حماية المُجتمع رغم أنهم لا يقومون سوى بسلوك غوغائي لا يمكن تقبله، يعمل على تقويض المُجتمع في حقيقة أمره.
يؤكد فينتربرج على هذا المُجتمع الذكوري منذ اللقطة الأولى في فيلمه حينما نرى لوكاس وثيو وبرون وغيرهم من رجال البلدة من الأصدقاء مُجتمعين أمام إحدى البحيرات للسباحة عاريين تماما.
يعمل توماس فينتربرج على التأسيس لعالمه الفيلمي منذ اللقطات الأولى فنرى لوكاس- قام بدوره المُمثل الدانماركي Mads Mikkelsen مادس ميكلسن- من أقرب الأصدقاء لصديقه ثيو- قام بدوره المُمثل الدانماركي Thomas Bo Larsen توماس بو لارسن- لذلك نراه طوال الوقت معه في منزله بين أسرته.
إن طول علاقة الصداقة بين كل من لوكاس وثيو، ونشأتهما معا منذ الصغر؛ تجعل كل منهما يعرف خصال، وردود أفعال، وكل شيء عن الآخر، حتى أن ثيو حينما يسأل لوكاس عن علاقته مع طليقته ويخبره لوكاس أن كل شيء على ما يرام يقول له ثيو: أعرفك حينما تكذب؛ أنت ترمش.
إذن، فثمة صداقة متينة بين الرجلين يهتم المُخرج ببيانها للمُشاهد من أجل المشاهد التالية في فيلمه؛ حيث المُفارقة بين الصديقين فيما بعد حينما تتطور الأحداث، صحيح أن لوكاس لديه صداقات مع جميع رجال القرية، وهي علاقات صداقة قوية لا سيما مع برون- قام بدوره المُمثل الدانماركي Lars Ranthe لارس رانثاي- لكن علاقة الصداقة التي تربطه بثيو تختلف كثيرا، وهي والأكثر متانة وقدما.
نعرف أن لوكاس مُطلق من زوجته التي تحتفظ بحضانة الأبناء، بل وتمنعه كثيرا من رؤية أبنائه إلا نادرا. ابنه الأكبر ماركوس- قام بدوره المُمثل الدانماركي lasse fogelstrøm لاس فوجلستروم- يرغب في الحياة معه، وتكاد أمه أن توافق على ذلك، كما نعرف أنه كان يعمل مُدرسا في إحدى المدارس التي أُغلقت، لكنه وجد عملا جديدا كمُدرس في روضة أطفال المدينة لأبناء أصدقائه جميعا، وهو من الشخصيات التي يعشقها الأطفال ويرتبطون به ارتباطا شديدا حتى أنهم ينتظرون قدومه يوميا إلى الروضة، وهذا ما أكده المُخرج في غير مشهد من مشاهد الفيلم للدلالة على أهمية العلاقة التي تربطه بأطفال البلدة بالكامل، وأنهم لا يستطيعون قضاء يومهم من دون وجود لوكاس.
يرتبط لوكاس بعلاقة صداقة قوية بكلارا- قامت بدورها المُمثلة الدانماركية Annika Wedderkopp أنيكا ويدركوب- ابنة الخمس سنوات، وابنة صديقه الأقرب ثيو. وهي الطفلة التي يريها أخوها المُراهق، على لوحه الإليكتروني، صورا بورنوغرافية لفتيات وأعضاء ذكورية ضخمة؛ مما يجعل خيالها ينشط في هذا الاتجاه؛ لذلك حينما نرى لوكاس ذات مرة مُنهمكا في اللعب مع الأطفال في الروضة بينما تتابعهم كلارا، تضع قلادة على شكل قلب في ورقة وتطويها لتكتب عليها اسمها، ثم تنخرط بين الأطفال وتضعها في جيب لوكاس ثم تقبله في فمه.
ينهض لوكاس مُستدعيا كلارا ويخبرها بأمر القلادة، لكنها تنكر بأنها من وضعتها له في جيبه، وحينما يخبرها بأن اسمها مكتوبا عليها تؤكد له أنها ليست صاحبة القلادة وربما أراد أحدهم أن يصنع منه أضحوكة، هنا يلومها لأنها قبلته في فمه ويحاول أن يشرح لها بأن الصغار لا يجب عليهم فعل ذلك؛ فتستاء منه وتخبره بأنه يكذب؛ ومن ثم ينطلق خيالها ضده بشكل انتقامي مُتضافرا مع الصورة البورنوغرافية التي رأتها على لوح أخيها الإليكتروني؛ لذلك حينما تراها جريث/ مُديرة الروضة- قامت بدورها المُمثلة الدانماركية Susse Wold سوسة وولد- في نهاية اليوم تجلس في الظلام وحيدة مُنتظرة قدوم أحد والديها لاصطحابها؛ تخبرها كلارا بأنها تكره لوكاس؛ فترد عليها مُندهشة: اعتقدت أنكما أصدقاء، فتقول لها: لا، أبدا، إنه غبي، وليس جميلا، ولديه قضيب؛ فتضحك جريث قائلة: كباقي الرجال، كأبي وشقيقك تورستن، لكن الطفلة تقول: نعم، ولكنه قوي كأداة ضغط؛ فتسألها جريث بقلق: ماذا حدث؟ لترد الفتاة: أعطاني هذا القلب، لكني لا أريده.
ثمة مُلاحظات مُهمة هنا لا بد من التوقف أمامها هنيهة: أولها مُلاحظة حوار الطفلة مع جريث؛ فهي حينما تحاول تبرير كرهها للوكاس نلاحظ أنها لا تجد المُبرر المُقنع الذي من المُمكن أن يدفعها لكرهه؛ وبالتالي نراها تقول بكلمات مُتقطعة محاولة التفكير بين كل واحدة منها: إنه غبي، وليس جميلا، وحينما لا تجد جملة جديدة أكثر إقناعا لهذه الكراهية التي تدعيها تقول: ولديه قضيب، أي أن الفتاة حينما حاولت البحث عن مُبرر أقوى في ذهنها، أو مُخيلتها لم تجد شيئا، لكنها تذكرت الصورة البورنوغرافية التي أراها لها أخوها، وهي صورة صادمة لفتاة في الخامسة؛ ومن ثم فقد أسقطت هذه الصورة التي تملأ خيالها على لوكاس من أجل كراهيته، أو تبرير الكراهية لجريث، أما المُلاحظة الثانية فهي: إمعان الفتاة في الكذب الذي يشعله ويقويه خيالها الخصب؛ ومن ثم نراها تدعي أن لوكاس هو من أعطاها قلادة القلب رغم أنها كانت ملكها هي، وهي من وضعتها له في جيبه كهدية، أو كدليل على حبها له، لكنه حينما قام بتأنيبها على تقبيلها له في الفم تغيرت مشاعرها تجاهه بالغضب، وهي المشاعر التي أطلقت عليها الكراهية.
إذن، فخيال الأطفال الجامح من المُمكن له أن يؤدي بهم إلى ادعاء أمور لم تحدث؛ ومن ثم تُحدث الكثير من الكوارث بسبب هذه الادعاءات. تشعر جريث بالكثير من القلق بسبب ما قالته كلارا ولا تستطيع التوقف عن التفكير فيه مُعتقدة أن لوكاس قد تحرش بالفتاة جنسيا وأخرج لها قضيبه؛ لذلك تستدعيه في اليوم التالي وتخبره أن أحد الأطفال قد أخبرها بأنه قد رأى قضيبه، وهو الأمر الذي يشعره بالكثير من الدهشة والصدمة، لكنه لا يستطيع الدفاع عن نفسه أو فعل أي شيء سوى النفي، وهنا تطلب منه جريث أن يأخذ إجازة في الأيام القادمة إلى أن تقوم بحل الأمر.
تستدعي جريث أحد الأطباء النفسيين الذي يتحدث مع كلارا؛ فتنفي في البداية كل ما قالته، لكنه مع محاولة الضغط على الفتاة تعود وتؤكد ما قالته، وبأنها قد رأت قضيب لوكاس بالفعل! هنا تخبر جريث أم الفتاة/ أجنيس- قامت بدورها المُمثلة الدانماركية Anne Louise Hassing آن لويز هاسينج- بالأمر، كما تخبر جميع أهالي البلدة في اجتماع مجلس الآباء بأن لوكاس قد تحرش جنسيا بالفتاة وعليهم أن يتأكدوا من وجود أي علامات تحرش لدى أطفالهم كالتبول في الفراش، أو الشعور بالصداع؛ لأنه ربما تحرش بآخرين ولا يعلم أحد!
لا تكتفي جريث بما فعلته من دون وجود أي دليل، بل تُهاتف طليقة لوكاس وتخبرها بأنه مُتحرش جنسي بالأطفال؛ الأمر الذي يجعل ابنه ماركوس يُهاتفه باكيا ويخبره بما سمعه، لكن الأب يؤكد له أن الأمر مُجرد كذبة، وعليه ألا يصدق ما يُقال.
في هذا التوقيت كان لوكاس قد بدأ يرتبط عاطفيا بزمليته الأجنبية في الروضة ناديا- قامت بدورها المُمثلة السويدية Alexandra Rapaport ألكسندرا رابابورت- ولما تتشكك في لحظة أنه قد فعل ذلك بالفعل حينما يجمع جميع أهل البلدة على الأمر ويحكموا عليه اجتماعيا من دون وجود أي دليل مُعتمدين في ذلك على الهراءات التي اختلقتها الطفلة فقط؛ تقوم بسؤاله، لكنه ينفعل غاضبا ويقوم بطردها من منزله وإخبارها بأنه لا يريد رؤيتها مرة أخرى ما دامت تصدق أنه مُتحرش جنسي بالأطفال.
يتجه لوكاس إلى منزل ثيو من أجل الحديث معه، لكن ثيو يخبره في نهاية الأمر بأنه سيطلق رصاصة على رأسه إذا ما كان قد لمس ابنته بالفعل- لا بد أن نلاحظ هنا أن ثيو الذي يعرف لوكاس جيدا لطول صداقتيهما، ويعرف الأوقات التي يكذب فيها والأوقات التي يكون صادقا فيها لم ينتبه إلى كلام صديقه، بل اعتمد على كلام الفتاة فقط؛ ومن ثم تخلى عن لوكاس وصدق أنه من المُمكن له أن يعتدي على ابنته-
تتحول القرية بالكامل إلى عداء لوكاس والعمل على نبذه اجتماعيا فيما عدا صديقه برون الذي يصدقه ويشد من أزره، ويصل ابنه ماركوس للحياة معه، وحينما يتجه ماركوس إلى السوبر ماركت يخبرونه هناك بأن أباه غير مُرحب به في السوبر ماركت؛ لذا على الشاب أن يخبر أباه بذلك حتى لا يذهب للتسوق مرة أخرى. يعود ماركوس غاضبا إلى البيت لكنه يرى أباه وقد اقتيد مع ضباط الشرطة إلى القسم لاستجوابه.
حينما لا يجد الفتى مُفتاح باب المنزل؛ يتجه إلى منزل ثيو ليسأله عن نسخة بديلة للمُفتاح، لكنه يؤكد له أنه لا يمتلك أي نسخة، وحينما يدخل الشاب للحديث مع ثيو طالبا منه عدم التخلي عن أبيه، يرى كلارا ويحاول سؤالها عما رأت والسبب في أنها تكذب، لكن والديها يثوران عليه ويمنعانه من الحديث معها، هنا ينفعل الشاب؛ فيطرده ثيو وغيره من رجال القرية الذين كانوا ضيوفا في البيت، بل ويقومون بالاعتداء على ماركوس بدنيا.
يذهب ماركوس إلى منزل برون الذي يرحب به ويطمئنه على أبيه ويؤكد له أنه سيخرج ولا يمكن أن يُدان؛ لأن الأطفال يتحدثون عن أريكة وسرداب ما، وحينما فتش رجال الشرطة المنزل لم يجدوا أي سرداب في المنزل. في اليوم التالي يتم إطلاق سراح لوكاس الذي لا يوجد ضده أي دليل اتهام على الإطلاق؛ لذلك فهو بريء، لكن رغم هذه البراءة التي تؤكدها الشرطة، إلا أن المُجتمع بالكامل قد تحول إلى مجموعة من الغوغاء الذين يصدقون ما يرغبون في تصديقه، ويكذبون ما يحلو لهم؛ لذلك يصرون على إدانة لوكاس وعزله اجتماعيا، والتعامل معه باشمئزاز، وعنف لفظي وجسدي أيضا في إشارة من المُخرج بأن المُجتمعات في أغلبها مجموعة من الغوغاء التي لا يمكن لها أن تحترم القانون، أو تحاول أن تُعمل عقلها من أجل الوصول إلى النتائج الصحيحة أو الحقائق، وتصل بهم غوغائيتهم إلى أن يقوموا بخنق كلبته وإلقائها أمام باب بيته كشكل من أشكال الانتقام والإرهاب له.
يتجه لوكاس إلى السوبر ماركت من أجل ابتياع بعض المُشتريات، لكنهم يرفضون إعطائه أي شيء، بل ويقومون بالاعتداء البدني العنيف عليه، ويقومون بحمله وإلقائه في الخارج، لكنه يمتلك من الصبر والشخصية القوية القادرة على المُواجهة؛ ما يجعله ينهض ويدخل مرة أخرى ليلكم الرجل الذي ضربه برأسه في أنفه، ثم يُصرّ على أن يأخذ مُشترياته ويدفع ثمنها.
إن اليوم الذي تم فيه الاعتداء على لوكاس كان ليلة عيد الميلاد، وحينما يعود إلى بيته غارقا في دمائه بسبب الضرب يقوم بغسل وجهه وارتداء بدلة فاخرة، ويتجه إلى الكنيسة التي يجتمع فيها جميع سكان البلدة الصغيرة مُحتفلين ليواجههم بشجاعة مُتحدية.
ربما كان مشهد الكنيسة من المشاهد المُهمة والدالة في الفيلم؛ ومن ثم كان المُخرج حريصا على تقديمها لبيان أثرها على لوكاس، والتأكيد على غوغائية المُجتمع وتخلي ثيو عن صديقه الأقرب؛ فحينما دخل لوكاس الكنيسة التفت الجميع إليه مُندهشين باشمئزاز، كما أنه حينما حاول الجلوس على أحد المقاعد قامت السيدة التي كانت تجلس بجواره بخوف واشمئزاز وكأنها تحاول تجنب أحد الأمراض المُعدية، وظل ثيو ينظر إلى صديقه نظرات طويلة صامته. لكن حينما بدأ الاحتفال ودخل أطفال الروضة من أجل تقديم أغنية دينية ومنهم كلارا، ظل لوكاس ينظر لثيو نظرات طويلة مُتأملة لائمة حزينة وقد اغرورقت عيناه بالدموع، لكنه لم يستطع امتلاك زمام نفسه أو رباطة جأشه؛ وبالتالي قام مُتجها إلى ثيو ليصيح فيه غاضبا سائلا إياه: هل ترغب في الحديث معي، في أن تقول أي شيء؟ ثم يطلب منه أن ينظر في عينيه جيدا ويخبره إذا ما كان يرى فيهما شيئا- في إشارة منه إلى أن ثيو يعرفه إذا ما كان يكذب- يزداد انفعال لوكاس الذي يرى الجميع يظلمونه بهذا الشكل ويحكمون عليه بما يرغبونه ويعتقدونه؛ فيقوم بضرب ثيو بقسوة حتى ينزف وجهه ويخرج من الكنيسة.
حينما يجتمع أهل البلدة في منزل ثيو للاحتفال بعيد الميلاد يشعر بالكثير من الذنب والحنين إلى صديقه؛ لذلك يأخذ طعاما وزجاجة من الكحول ويتجه إلى منزل لوكاس الذي كان نائما؛ فيوقظه طالبا منه أن يتناول الطعام ويخرج زجاجة الكحول من جيبه كي يشربا مع بعضهم البعض. يطلب منه لوكاس الانصراف لكنه يخبره بأنه يرغب في البقاء والشرب معه، مما يُدلل على أنه قد صدق صديقه في أنه لم يعتد على ابنته أو يتحرش بها.
بعد هذا المشهد مُباشرة يكتب المُخرج على الشاشة بعد مرور عام؛ لنرى لوكاس
يهبط من سيارة ومعه ناديا وابنه ماركوس عائدين إلى البلدة مرة أخرى في إشارة إلى
أنه قد غادرها، بينما يستقبله جميع سكان القرية بترحاب- في إشارة إلى أنهم تأكدوا
من براءته من هذه التُهمة الشائنة- ونعرف أنهم يستعدون للاحتفال ببلوغ ماركوس سن
الرجال، وحصوله على رخصة صيد، وبأنه قد بات رجلا مثلهم يحق له مُشاركتهم في الصيد،
ويهديه برون بندقية صيد مُؤكدا له أن أباه هو من اشتراها له، بل ويطلبون منه مُشاركتهم
الشراب ما دام قد بات رجلا. الممثل الدانماركي مادس ميكلسن
ينتقل المُخرج إلى الغابة حيث نرى لوكاس وماركوس وبرون وغيرهم من رجال البلدة في رحلة صيد الغزلان، لكن أثناء تجول لوكاس في الغابة تنطلق فجأة رصاصة بجانب رأسه مُباشرة، وحينما ينحني مُتجها ببصره إلى مكان انطلاقها يرى ظل أحدهم واقفا ومن خلفه ضوء الشمس الذي يحجب الرؤية الواضحة عن وجه من أطلق الرصاص الذي ينصرف حينما يراه لوكاس، ويغلق المُخرج فيلمه على هذه اللقطة!
إن مشهد النهاية الذي حرص عليه المُخرج الدانماركي توماس فينتربرج يكاد أن
يكون مُلخصا بليغا لكل أحداث الفيلم الذي بلغ الساعتين من الزمن؛ فرغم أننا رأينا
جميع أهل البلدة يستقبلون لوكاس مُرحبين به بعد عام، ورغم أنهم يحتفلون ببلوغ ابنه
مبلغ الرجال في إشارة إلى أنهم قد تأكدوا من براءة لوكاس، إلا أن قانون القطيع
والغوغاء ما زال مُستمرا لم ينته بعد، فهناك من يُصرّ على إدانة لوكاس رغم تأكد
الجميع من براءته ورغم أن القانون قد برأه منذ البداية، وربما كان من حاول قتله هو
صديقه ثيو- هل نذكر تهديد ثيو له بأنه سيطلق رصاصة على رأسه من أجل ابنته؟- صحيح
أننا لم نر وجه من حاول قتله، ولم نعرفه، إلا أن ثيو لم يظهر بين الرجال الذاهبين
في رحلة الصيد مع ابنه ماركوس، فإذا ما أضفنا التهديد السابق من المُمكن أن يكون
هو من قام بهذا الفعل.المُخرج الدانماركي توماس فينتربرج
إن الفيلم الدانماركي الصيد للمُخرج توماس فينتربرج من الأفلام المُهمة والحساسة والواعية التي تعمل على نقد المُجتمع الأوروبي لا سيما الدانماركي مُؤكدا من خلال فيلمه على أن المُجتمعات مهما بلغت درجتها من التحضر والتقدم، فإنها تحمل داخلها غوغائيتها وفوضويتها اللتين تعملان على تصديق ما ترغبه، ومُحاكمة الآخرين حسب الأهواء، وعدم احترام القانون، بل والتأكيد على أن الأطفال من المُمكن جدا لهم أن يكذبوا- وهم في الغالب يكذبون ويؤلفون الحكايات والقصص- لكن الآباء دائما ما يرون أن أطفالهم لا يمكن لهم الكذب أبدا؛ الأمر الذي يؤدي إلى الكثير من الكوارث بسبب هذه المُخيلة والكذب المُقنع. كما لا يفوتنا المشهد الذي قالت فيه كلارا لأمها: لم يفعل شيئا، لقد اختلقت هذا، هذا كل شيء، الآن كل الأطفال يتحدثون عن هذا، هذا ليس مُمكنا، لكن الأم ترد عليها: عزيزتي: إنه صعب الفهم، لكن يمكنه أن يحدث، عقلك يفضل أن ينسى ما حدث، إنه ليس من الجيد أن نُعيد التفكير، ولكنه حصل، ونحن سعيدون جدا أنك قلت لنا هذا! أي أنه رغم تأكيد الفتاة لأمها أنها قد اختلقت الحكاية وأنا كذبت، لكن الأم، التي لم تر أي شيء، تُصرّ على حدوث الأمر وتؤكد لابنتها أنه قد حدث بالفعل وأنها فقط تحاول أن تنسى ما حدث لها في إشارة من المُخرج وتأكيد منه على سيطرة التفكير الغوغائي على الجميع.
إن البطل الرئيس في فيلم الصيد للمُخرج توماس فينتربرج هو المُمثل الدانماركي مادس ميكلسن الذي أدى دوره بإتقان وبراعة وفهم جعله من أفضل الأدوار التي من المُمكن رؤيتها على الشاشة لشخص مُتهم مظلوم غير قادر على إثبات براءته من هذه التُهمة الشائنة، كما أدت الفتاة أنيكا ويدركوب دورها بطبيعية وتلقائية رغم صغر عمرها بشكل لا يمكن أن نشك فيه أنها تؤدي دورا أمام الكاميرا وتقوم بتمثيله، كذلك المُمثل لاس فوجلستروم الذي أدى دور ابن لوكاس المُراهق، أي أن الفيلم كان يتضمن مُباراة حقيقية في الأداء بين جميع المُمثلين؛ ما جعل الفيلم شديد التلقائية والصدق في كل ما رأيناه، كما أن السيناريو المُهم الذي شارك المُخرج في كتابته كان من السيناريوهات البليغة التي تعمل على انتقاد السلوك الاجتماعي للمُجتمع بشكل قاسٍ فيه الكثير من السخرية مما يحدث من حولنا.
محمود الغيطاني
مجلة الشارقة الثقافية
عدد مارس 2024م
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق