الاثنين، 15 أبريل 2024

كل شيء عن أمي: السينما العابرة للنوع!

في الفيلم الإسباني All About my Mother كل شيء عن أمي، أو حسب العنوان الأصلي للفيلم Toda Sobre mi Madre للمخرج الإسباني بيدرو ألمودوفار Pedro Almodóvar ثمة مُلاحظة مُهمة، لا يمكن لنا تجاوزها، عمل المُخرج على التركيز عليها، وهي قدرة النساء على التسامح والتجاوز مهما كانت الإساءات التي وُجهت إليهن، بل والقدرة على إعادة توجيه المسار مرة أخرى من دون أي غضب أو رغبة في الانتقام ممن أساءوا إليهن، وكأنما المُخرج يرغب في التأكيد على أن النساء هن الأكثر تفهما في العالم، والأقدر على الاحتواء والتماس الأعذار للجميع؛ بسبب مشاعرهن الفياضة والحقيقية والصادقة، القادرة على احتواء الجميع من حولهن، أي أن ألمودوفار رغب من خلال فيلمه رغبة صادقة في توجيه التحية لجميع نساء العالم، وهذا ما قرأناه على الشاشة في نهاية الفيلم حينما قرأنا: "إلى بيتي ديفيز، وجينا رولاندز، ورومي شنايدر، وإلى كل المُمثلات اللاتي مثلن في أعمالهن دور المُمثلات، وإلى كل النساء اللاتي يعملن في مهنة التمثيل، وإلى الرجال الذين يمثلون ويصبحون نساء، وإلى كل النساء اللاتي يردن أن يصبحن أمهات، إلى أمي".

ألمودوفار هنا يرغب رغبة صادقة في تحية جميع نساء العالم بانحيازه إليهن، ومنهن أمه؛ لذلك يفكر من خلال عواطفهن، ويشعر بشعورهن، ويعيش عالمهن، وآلامهن، ومُعاناتهن، وحياتهن اليومية، بل وانكساراتهن، ونجاحاتهن. يتمثلهن تماما ليس من خلال الأنثى نفسها فقط في المقام الأول، بل من خلال عبوره للنوع، وتعبيره عن الرجال الذين يتحولون إلى نساء ويفكرون من خلال منطق ومشاعر وعواطف المرأة أيضا.

ربما نلحظ في مُعظم أفلام ألمودوفار رسائله وتحاياه الكثيرة التي يوجهها لعالم السينما والتمثيل، وهو ما نراه في العديد من أفلامه، وكأنه دائما ما يصنع أفلامه من بقايا الأفلام الأخرى، أو بالاعتماد على وجودها والاحتفاء بعالم السينما؛ لذلك نرى هنا تحيته لفيلم "كل شيء عن حواء" All About Eve للمخرج الأمريكي Joseph L. Mankiewicz جوزيف ليو مانكيويتس 1950م الذي اهتم به ألمودوفار أيما اهتمام؛ حتى إن المُشاهد قد يظن فيلم ألمودوفار "كل شيء عن أمي" مُجرد مُحاكاة ساخرة لهذا الفيلم المُهم في تاريخ السينما العالمية، بل سنراه أيضا من خلال فيلمه يهتم اهتماما كبيرا بالتمثيل، وهو ما رأيناه من خلال حرصه على الحديث عن مسرحية "عربة اسمها الرغبة" A Streetcar Named Desire للمسرحي الأمريكي Tennessee Williams تنيسي ويليامز، وهي المسرحية التي كانت تؤديها في الفيلم كل من "أوما" التي أدت دورها ببراعة المُمثلة الإسبانية Marisa Paredes ماريسا باريديس، و"تينا" التي أدت دورها المُمثلة الإسبانية Candela Peña كانديلا بينا، أي أن المُخرج الحريص على صناعة سينما مُختلفة يعيش داخل عالم السينما حتى من خلال مُعظم ما قدمه من أفلام.


هذا الاهتمام بعالم السينما داخل أفلامه هو ما يعتمد عليه في تقديم شخصيته الرئيسية مانويلا- أدتها ببراعة المُمثلة الإسبانية Cecillia Roth سيسيليا روث- التي تحتل أحداث الفيلم بالكامل، وتدور الأحداث من خلالها وحولها، فنعرف أنها أم وحيدة تعمل مُمرضة في إحدى مُستشفيات مدريد، ومسؤولة قسم التبرع بالأعضاء لمن توافيهم منيتهم؛ حيث تعمل على إقناعهم بالتبرع بأعضاء ذويهم من الراحلين. لها ابن في السابعة عشرة من عمره هو ستيبان- قام بدوره الممثل الإسباني Eloy Azorín إلوي أزورين- وهو يحلم بأن يكون كاتبا؛ لذلك نراه دائما ما يكتب في دفتره الخاص يومياته، وكل ما يحدث في حياته أو يفكر فيه، ولعل مشهد اجتماع الأم مع ابنها في المساء لمُشاهدة فيلم "كل شيء عن حواء" رغم أنهما شاهداه أكثر من مرة من أهم المشاهد التي تؤكد على اهتمام المُخرج بتضمين السينما داخل فيلمه، وهو ما قد يدفعنا للقول: إن ألمودوفار رغب في تقديم فيلمه من خلال المُحاكاة الساخرة لهذا الفيلم.


يحاول ستيبان أن يكتب مشهدا تمثيليا لأمه؛ لرغبته في أن يراها تمثل أمامه؛ حيث تمثل أمام زملائها من الأطباء في قسم التبرع بالأعضاء مشهدا تمثيليا تقوم فيه بدور زوجة فقدت زوجها بينما يقوم الأطباء بإقناعها بالتبرع بأعضائه، وهو نفس الدور الذي تقوم به في حياتها الواقعية، لكننا سنشاهدها فيما بعد وقد جلس إليها زملاؤها لإقناعها بالفعل من أجل التبرع بقلب ابنها ستيبان الذي سيموت في حادث سيارة يوم عيد ميلاده السابع عشر بعدما يخرجا من المسرح بعد مشاهدة عرض مسرحية "عربة اسمها الرغبة"، وانتظار ستيبان للمُمثلة المشهورة أوما كي يحصل على توقيعها في دفتره، لكنها حينما تخرج من المسرح تسرع بركوب تاكسي وتتجاهله حينما يدق لها على زجاج النافذة؛ الأمر الذي يجعله يركض خلفها فتخرج إحدى السيارات من شارع جانبي وتصدمه أمام أمه.


ربما كان مشهد اصطدام السيارة بستيبان من أهم المشاهد التي تُعبر عن مقدرة بيدرو ألمودوفار على التعبير من خلال الكاميرا بشكل فيه من الحرية والذكاء ما قد يفوت على غيره من المُخرجين؛ فحينما اصطدمت به السيارة لم يقدم المُخرج المشهد من خلال وجهة نظر الأم أو المُشاهد، بل من خلال ستيبان نفسه الذي تم صدمه؛ لذلك لم نر مشهد الاصطدام، بل سمعنا صوت الارتطام وانقلاب الكاميرا إلى أن استقر الفتى على الأرض، أي أن المُخرج يريد أن يقدم لنا المشهد من خلال وجهة نظر ستيبان نفسه، وليس من خلال وجهة نظر الأم التي تتابعه، أو وجهة نظر المُشاهد، وهو ما رأيناه مرة أخرى حينما كان الفتى يكتب مُذكراته؛ حيث تركز الكاميرا على يده المُمسكة بالقلم، ولا نرى- من خلال صورة قريبة- سوى يده التي يخط بها، أي أنه قادر على توجيه الكاميرا من خلال زوايا ووجهات نظر مُختلفة؛ مما يمنحه الكثير من الحرية في تصوير وجهات النظر المُتباينة.

توافق مانويلا على التبرع بقلب ابنها لأحد المرضى، وتبدأ في رحلة عكسية إلى مدينة برشلونة التي كانت قد تركتها إلى مدريد مُنذ حوالي ثمانية عشر عاما هربا من زوجها الذي لا يعلم شيئا بأمر ابنه؛ فتعود مرة أخرى من أجل البحث عن أبيه وإخباره بأمر موت الابن، ولعلنا هنا نُلاحظ أسلوبية ألمودوفار التي كثيرا ما رأيناها في العديد من أفلامه حيث اهتمامه الكبير بالألوان الصاخبة في تصويره؛ للدلالة على الحياة وما يدور فيها من صخب، هو ما تجلى لنا في المشهد العلوي لمدينة برشلونة بألوانها المُحددة الصارخة فضلا عن سيادة هذه الألوان في كل مشاهد فيلمه، رغم أنه يقدم من خلف هذا الصخب الكثير من المآسي والقصص المُبكية، وكأنه يرغب في التأكيد على أنه رغم كل ما يدور في الحياة من بؤس إلا أنها تستمر في صيرورتها، لا يمكن إيقافها؛ لذلك لا بد من التكيف مع ما يحدث فيها لأنها لا يمكن لها أن تتوقف.


يبدأ ألمودوفار في تقديم نُدف من حكاية مانويلا، وهو في سرده السينمائي حريص على عدم تقديم حكايتها بشكل كلي، بل يبث الحكايات تلو الأخرى من خلال مشاهده حتى تكتمل لنا الحكاية الكلية في نهاية الفيلم؛ فتبدأ مانويلا في محاولة البحث عن زوجها بالذهاب إلى أحد الأماكن على تخوم المدينة حيث تجتمع فيه العاهرات والمثليون وطالبو المُتعة، وهناك تقابل بالصدفة أجرادو المتحولة جنسيا- قامت بدورها المُمثلة الإسبانية Antonia San أنطونيا سان- والتي كانت صديق زوجها وقامت بعملية تكبير لثدييها مع الاحتفاظ بعضوها الذكري مع زوجها في فرنسا. تنقذ مانويلا أجرادو من يد أحد الأشخاص الذي كان يعتدي عليها بدنيا، وتحاول تمريضها من الإصابات التي أصابتها جراء العنف الجسدي، وتعرف منها أن زوجها المتحول جنسيا "لولا"- المُمثل الإسباني Toni Cantó توني كانتو- بات مُدمنا للهيروين، وأنه قد اختفى بعدما سرق كل مُتعلقات أجرادو مُنذ عدة شهور، رغم إيواء أجرادو له في بيته.


تحاول أجرادو إيجاد عمل لمانويلا؛ فتأخذها معها إلى إحدى دور الرعاية التي تقدم الرعاية للعاهرات والمُخنثين الذين يعانون من العنف الجسدي، وتدعي أجرادو أن مانويلا تعمل معها في مجال الدعارة، وتقابلا الراهبة روزا- قامت بدورها المُمثلة الإسبانية Pénelope Cruz بينلوبي كروز- التي نذرت حياتها من أجل تقديم المُساعدة للجميع، وتعرفا منها أنها حاولت مُساعدة لولا على الشفاء من الإدمان مُنذ أربعة أشهر، لكنها اختفت فجأة. تحاول روزا بالفعل إيجاد عمل لمانويلا كخادمة في بيت أبويها، لكن أمها ترفض قبول مانويلا باعتبارها داعرة لا يمكن لها أن تعمل في بيتها، ونلاحظ العلاقة المتوترة بين روزا وأمها التي لا توافق على عمل ابنتها في مُساعدة الداعرات والمُخنثين.

تعرف مانويلا أن المُمثلة الشهيرة أوما سيكون لها عرضا لمسرحية "عربة اسمها اللذة" في برشلونة؛ فتحجز مقعدا لها، وآخر لابنها المتوفي الذي كان يشاركها في كل شيء، وهناك تتعرف على أوما التي تطلب منها أن تعمل معها كمُساعدة. تقبل مانويلا عرض العمل، وفي إحدى المرات تتغيب حبيبتها/ زميلتها المُمثلة نينا بسبب تناولها جرعة كبيرة من المُخدرات عن العرض المسرحي الذي هو على وشك البدء، ولأن مانويلا كانت قد مثلت هذا الدور مُنذ عشرين عاما في إحدى فرق الهواة التمثيلية، وهو الدور الذي أدى لتعارفها على زوجها قديما؛ فلقد طلبت من أوما أن تؤدي دور نينا هذه الليلة، وتنجح نجاحا كبيرا على خشبة المسرح؛ الأمر الذي يؤدي إلى مُعاداة نينا لها، لكن مانويلا تحكي لأوما السبب في معرفتها وحفظها لهذا الدور، وقصة موت ابنها بسبب رغبته في توقيعها ثم تتركها. تعرف مانويلا من روزا أنها حامل من لولا، وأنه قد أصابها بعدوى الإيدز بعد مُعاشرته لها؛ الأمر الذي يجعلها تترك العمل مع أوما؛ لتتفرغ للعناية بروزا التي تترك دار الرعاية وتقيم معها في شقتها. هنا تذهب أوما لمانويلا للاعتذار لها وإعطائها مُستحقاتها على فترة العمل معها، وهناك تتعرف على أجرادو التي تعمل مع أوما كبديل لمانويلا.


تلد روزا طفلا تُطلق عليه ستيبان، لكنها تموت أثناء الولادة، وتتولى مانويلا رعاية الطفل الذي هو ابن زوجها وروزا الذي لا بد من الاهتمام به لأنه قد انتقلت إليه العدوى بالإيدز من أمه، لكن الأطباء يعطونه الكثير من المُضادات الحيوية. أثناء مراسم دفن روزا تشاهد مانويلا لولا فتلومها على ما فعلته بروزا، وحينما تبدي لولا رغبتها في رؤية الطفل تخبرها مانويلا أن ستيبان ليس طفله الأول، وأنه كان لديه ابن آخر بنفس الاسم منها ومات مُنذ عدة أشهر، لكنها لا تحرمه من رؤية الطفل الذي تأخذه إليه، بل وتعطيه أيضا صورة ابنهما الذي مات.

تضيق مانويلا بطريقة مُعاملة أم روزا لها، بل وخوفها الشديد من انتقال الإيدز إليها من حفيدها؛ الأمر الذي يجعلها تهرب بالطفل إلى مدريد مرة أخرى، لكنها بعد عامين تعود إلى برشلونة ومعها الطفل الذي نجح في تنحية الإيدز والشفاء منه تماما، حيث ينعقد مُؤتمرا طبيا في برشلونة من أجل بحث حالة الطفل، وهناك تذهب لمُقابلة أجرادو وأوما التي هجرتها حبيبتها نينا وتزوجت من أحد الرجال لينهي ألمودوفار فيلمه بتوجيه تحيته للعديد من النساء ومنهن أمه.


ربما نُلاحظ في الفيلم جانبا مأساويا كبيرا لجميع شخصياته من النساء، لكن رغم هذه المأساوية والمُعاناة والآلام التي تحيطهن جميعا نلمح جانبا كوميديا ساخرا يقدمه المُخرج من خلال شخصية أجرادو العابرة للجنس؛ فرغم كل مآسيها ومُشكلاتها التي تعاني منها، سواء من خلال سرقة لولا لكل مُتعلقاتها وتركها مُفلسة، أو عملها في الدعارة من أجل المعيشة، أو اعتداءات الرجال المُتكررة عليها بالعنف الجسدي بعدما يمارسون معها الجنس إلا أننا نراها من الشخصيات المرحة في الفيلم، والتي أكسبت الأحداث الكثير من البهجة، ولعل مشهدها حينما منحت مانويلا أحد الأثواب من أجل مُقابلة روزا في بداية الفيلم وإقناعها بأن مانويلا داعرة كي تساعدها نرى فيه مانويلا تسألها: هل هذا الفستان بالفعل ماركة شانيل؛ فترد عليها أجرادو بسُخرية مرحة: من أين لي بشانيل حقيقي في ظل وجود هذا الجوع في العالم؟ كما رأيناها في مشهد آخر حينما تغيبت كل من أوما ونينا عن العرض المسرحي تخرج على خشبة المسرح- حتى لا تفقد الجمهور- وتقدم لهم عرضا يخصها وحدها لتحكي لهم فيه بسُخرية مرحة عن قصة حياتها المأساوية، ورحلتها في التحول من رجل إلى امرأة، وعدد العمليات التجميلية التي أجرتها وتكاليفها من أجل أن تكون أنثى كاملة وجميلة.


إن العالم النسوي النقي الذي يقدمه ألمودوفار، وانحيازه للمرأة جعل الفيلم يكاد يخلو تماما من الشخصيات الذكورية؛ فجميع المُمثلين في الفيلم من النساء فيما عدا شخصية الابن ستيبان الذي رحل مُبكرا في بداية الفيلم، وشخصية والد روزا المُصاب بالزهايمر، والذي كانت شخصيته غير جوهرية أو مُهمة في أي شيء، أي أن الفيلم هو فيلم نسوي بامتياز، حتى الشخصيات الذكورية الفاعلة في الفيلم لم يقدمها المُخرج بصورة ذكورية خالصة، بل كانت شخصيات عابرة للجنس تتخذ من سلوك المرأة سلوكا لها؛ فتفكر بطريقتها، وتتصرف مثلها، وترتدي ملابسها، وتشعر بشعورها، بل واكتسبت أثداء مثلها، أي أن المُخرج حريص كل الحرص على أن يكون عالم فيلمه عالما أنثويا خالصا، وهو ما جعله حريصا على التعبير عن عالم الأمومة من خلال شخصياته النسائية التي قدمها؛ فالمُدقق في الأحداث سيجد أن مُعظم الشخصيات تميل إلى الأمومة. أم روزا التي على خلاف دائم معها وتحاول رأب الصدع بينهما لكنها تفشل، والمُمثلة المسرحية الشهيرة أوما المُرتبطة بعلاقة عاطفية مع زميلتها نينا، لكنها في نفس الوقت تشعر تجاهها بأمومة وتحاول رعايتها دائما وجعلها تبتعد عن إدمان المُخدرات، وروزا التي تشعر بأمومتها تجاه الداعرات والمتحولين اللاتي ترعاهن من العنف الجسدي للرجال في المُجتمع، فضلا عن أن روزا نفسها تحمل من لولا لتصبح أما، لكن الشخصية الأهم هي مانويلا التي كانت أما من خلال ابنها الراحل ستيبان، ثم رعايتها لروزا فيما بعد واهتمامها بها لتحتل مكان أمها، ثم تبنيها لابن روزا بعدما تموت ليصبح الطفل ابنها، أي أن المُخرج هنا يدور في عالم من الأمومة لمُعظم شخصياته، وكأنه يرغب في التعبير عن هذا العالم الرحيم، أو التأكيد على الرحمة الكبيرة التي يتحلى بها العالم الأنثوي.


ثمة مُلاحظة مُهمة نلاحظها في سينما ألمودوفار، وهي أن قضية الجنسانية/ الهوية، أو العبور الجنسي من الأمور التي تلح على عالمه السينمائي؛ حتى أننا نكاد نرى عابري الجنس في مُعظم أفلامه، وإن اختلفت أسباب هذا العبور من فيلم لآخر، لكنه دائما ما يقف في صف الجانب الأنثوي، وهو الجانب الأضعف جسديا دائما- الأقوى نفسيا- والواقع عليه الكثير من العنف الجسدي من الجانب الذكوري، حتى أن المتحولين جنسيا من الذكورة إلى الأنوثة نراهم في عالمه السينمائي وقد وقع عليهم أيضا الكثير من الظلم والعنف والإيذاء، وكأنه يريد التأكيد على أن الجانب الذكوري في المُجتمع- في مُعظم الوقت- لا يتميز سوى بالفظاظة والإيذاء تجاه الأنثى حتى لو كانت رجلا تم عبوره الجنسي، أي أن العنف ضد المرأة واقع دائما باعتبارها الحلقة الأضعف اجتماعيا وبدنيا، وهو بذلك يُعد من أهم المُخرجين النسويين في التعبير عن عالم المرأة ونقل عالمها وما تعانيه، ولعل هذا ما رأيناه في الفيلم في مشهد العنف الجسدي من أحد الرجال واعتدائه على أجرادو بعد مُمارسة الجنس معها، رغم أن أجرادو من المتحولين جنسيا- ولا يخفى علينا تأكيد المُخرج على المقدرة اللامتناهية لدى النساء في التسامح مع الجميع مهما كان الاعتداء أو الظلم الواقع عليهن؛ فرغم أن الرجل قد اعتدى بدنيا على أجرادو وشوه وجهها، إلا أنها تتسامح معه، وتتعامل معه بحنو بعدما تضربه مانويلا بحجر على رأسه، وتقوم بإرشاده إلى من يعتني ويهتم به بعد إصابته.

المُخرج الإسباني بيدرو ألمودوفار

هذا العالم من التسامح الذي لا ينتهي لدى النساء نراه مرة أخرى في مقدرة روزا على مُسامحة لولا التي ضاجعتها ونقلت إليها الإيدز ثم تركتها هاربة، فرغم أن ما فعلته لولا قد حكم على روزا بالموت الذي لا مناص منه إلا أنها لم تكن تقبل عنها أي إساءة في حديث مانويلا، وكانت تتحدث عنها بمحبة، وهو ما رأيناه أيضا في تسامح مانويلا مع لولا/ زوجها المتحول فيما بعد؛ فرغم أن لولا قد عاد من فرنسا، قديما، بأثداء مع احتفاظه بعضوه الذكوري إلا أن مانويلا حينها لم تحاول هجرانه أو تركه، بل استمرت معه في الحياة كرجل في هيئة أنثوية، وهو ما عرفناه حينما قالت لروزا: إن النساء سيفعلن أي شيء كي يتجنبن الوحدة، فترد عليها روزا: إن النساء أكثر تسامحا، وهذا شيء جيد، لكن مانويلا تقول باستياء: إننا حمقاوات، وشبه سحاقيات- في إشارة منها إلى أنها قبلت الحياة مع رجل في هيئة أنثوية، وجسد أنثى، كما أن روزا قبلت أن تضاجع نفس الرجل الذي هو في صورة أنثى- ولكن رغم إساءات لولا الكثيرة في حق مانويلا، وهو ما لخصته في قولها: كان يقضي يومه وهو يرتدي بكيني ضيق، ويضاجع أي شخص يقابله، لكنه كان يتشدد ويضيق عليها إذا هي ارتدت بكيني، أو حتى فستانا قصيرا، الوغد، كيف يمكن لشخص أن يتصرف بذكورية مُفرطة وهو يمتلك زوجين من الأثداء؟!

نقول رغم هذه الإساءات الكثيرة والمُتكررة من لولا باتجاه مانويلا إلا أنها قد سامحتها بمُجرد مُقابلتها، وشعرت بالحنان تجاهها؛ وهو الأمر الذي جعلها تحضر لها طفلها من روزا لرؤيته، كما منحتها صورة ابنهما الراحل للاحتفاظ بها، بل وجعلتها تطلع على مُذكرات ابنهما الذي كان يشعر بحياته فارغة حينما كتب في مُذكراته: ليلة أمس أرتني أمي صورة لها حينما كانت شابة، كان نصف الصورة ضائعا، لم أشأ أن أخبرها أن حياتي تفتقد هذا النصف أيضا- في إشارة منه إلى أبيه الذي لا يعلم عنه أي شيء سوى أنه قد مات يوم مولده- أي أن التسامح الكبير لمانويلا تجاه لولا قد جعلها لا تذكر لابنها أي شيء عن حياة أبيه وعبوره للجنس، وعمله في الدعارة وإدمانه حتى لا تعمل على تشويه صورة الأب لدى الابن، أي أن المُخرج هنا مُنحاز بالكامل إلى عالم النساء الذي يراه مُجرد عالم من الرحمة والتسامح الذي رأيناه لدى جميع الشخصيات في الفيلم.

المُمثل الإسباني إلوي أزورين

لكن، رغم العالم الفيلمي المُهم الذي يتحدث عنه ألمودوفار، ورغم حرفيته الكبيرة في تقديم شخصياته التي لا بد للمُشاهد أن يتعاطف معها جميعا حتى لو كان يرفضها أو يرفض سلوكها، فضلا عن حرفيته في اختيار الألوان والزوايا التي تلتقط من خلالها الكاميرا للمشهد، والسيناريو المُحكم الذي كتبه ونفذه ببراعة إلا أننا لاحظنا اعتماد المُخرج في أحداث فيلمه على المُصادفة أكثر من مرة؛ فحينما عادت مانويلا إلى برشلونة للبحث عن زوجها بعد موت ابنها ستقابل أجرادو صديق زوجها السابق بالمُصادفة، وهذه المُصادفة هي التي ستسوقها للعديد من المُصادفات الأخرى لاكتمال الأحداث؛ ومن هنا تتعرف على روزا التي تعرف لولا، بل سنكتشف فيما بعد أن روزا حامل من لولا الزوج السابق لمانويلا ومن هنا تلتقي مصائرهما معا، كما أن المُمثلة الشهيرة التي كان تجاهلها لستيبان في مدريد سببا في موته ستكون موجودة في برشلونة من أجل عرض مسرحي جديد، وهي مُصادفة ثالثة لالتقاء مصيري كل من مانويلا وأوما، كذلك حينما أخذت مانويلا لروزا في تاكسي للذهاب إلى المشفى الذي ستلد فيه؛ تطلب روزا من السائق أن يمر من خلال ميدان ميدنيسيل لتلقي عليه نظرة أخيرة حيث كانت تلعب في هذا الميدان حينما كانت طفلة، وحينما يتوقف السائق في الميدان ترى والدها المُصاب بالزهايمر مع كلبه، وكأن المُخرج أراد لها أن ترى والدها لآخر مرة، وتلك مُصادفة رابعة، وفي مشهد دفن روزا تعثر مانويلا على لولا أخيرا وتقابلها حينما تأتي لولا إلى المقابر بعد علمها بموت روزا، وتلك مُصادفة خامسة، وحينما تأخذ مانويلا طفل روزا إلى البار كي تراه لولا يتصادف أن أم روزا كانت تسير بجوار باب البار ويحاول كلبها الدخول إلى البار؛ فتعمل على منعه وتشاهد مانويلا والطفل مع لولا؛ الأمر الذي يجعلها تعترض على تقبيل شخص غريب لحفيدها وتعرف أنها لولا والد الطفل، وتلك مُصادفة سادسة، أي أن بيدرو ألمودوفار قد اعتمد في بنائه الفيلمي بالكامل على المُصادفات التي كان لا بد منها من أجل إكمال أحداثه كيفما رغب، ورغم أن هذه المُصادفات المُتكررة قد تُضعف من منطقية أحداث الفيلم، إلا أن المُخرج قد حرص على تقديمها بشكل من العفوية التي قد تجعل المُشاهد قادرا على تقبلها باعتبارها طبيعية وليست مُتعمدة من المُخرج؛ مما أكسب الفيلم المزيد من العفوية.

المُمثل الإسباني توني كانتو

إن المقدرة الفنية التي يتميز بها ألمودوفار وبراعته في التعبير من خلال الكاميرا واختصار الكثير من الأحداث والثرثرات المُباشرة تتجلى في مشهدي رحلة مانويلا من مدريد إلى برشلونة في بداية الفيلم، ثم المشهد التالي في نهايته حينما تأخذ الرحلة بالعكس؛ ففي كلا المشهدين يجعل المُخرج القطار الذي تستقله مانويلا يدخل في نفق طويل في نهايته ضوء، وهو خير تعبير بصري قدمه المُخرج؛ حيث قصد منه المهبل الأنثوي الذي تخرج منه الحياة في نهاية الأمر، أي أن المُخرج كان حريصا كل الحرص، وقادرا من خلال الصورة الذكية على التعبير عن العالم المُغرق في نسويته والانغماس فيه، سواء من جانب الموضوع الذي يتناوله، أو من جانب التقنيات السينمائية التي قدمها للتعبير عن هذا الموضوع.

إن فيلم "كل شيء عن أمي" يكاد يكون من أهم أفلام المُخرج الإسباني بيدرو ألمودوفار التي عبر من خلالها عن المرأة وعالمها الدافئ ومقدرتها على التسامح مهما كان الإيذاء والعنف الواقع عليها من قبل الآخرين.

 

 

 

محمود الغيطاني

مجلة "نقد 21".

عدد إبريل 2024م.

 

 

 

 

 

 

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق