هذا اللون من الكتابة- الفاتر- هو ما سنراه في المجموعة القصصية "مخطوطة البصاص بعد كابوسه الأخير" للقاص السوداني عادل سعد يوسف، وهو اللون الذي نؤكد على أنه لا يمكن لنا تحديد موقفنا تجاهه سواء بالسلب أم بالإيجاب.
في قصته "زاوية بصرية، أو مريم، مريم الطويلة، الطويلة الطوية جدا" سنُلاحظ حرص القاص هنا على الإدهاش بداية من العتبة الأولى للنص- العنوان- ولا يمكن لنا إنكار نجاحه في هذا الإدهاش من هذا العنوان الغريب والطويل الذي لجأ إليه رغم غرابته، وعدم تقبله للوهلة الأولى، لكن- مع تقبل العنوان- ومحاولة تخطي عتبة النص الأولى؛ سيفاجئنا القاص برغبته العمدية في استخدام آليات قص قد تبدو مُهندسة، وتم الاجتهاد عليها، ومُختارة بعناية من أجل التجديد في الشكل والبناء القصصي كأن يقوم بتقطيع سرده القصصي إلى مقاطع، كل مقطع منها بعنوان مُستقل؛ الأمر الذي يحيل المُتلقى إلى شكل السيناريو السينمائي والتقنيات السينمائية في الكتابة؛ فنقرأ مثلا: "زاوية بصرية من نافذة المكتبة"، و"زاوية بصرية من نافذة المكتبة إلى الزقاق"، و"زاوية بصرية إلى الخارج"، و"زاوية بصرية إلى الداخل"، و"زاوية بصرية تنافي كل الزوايا السابقة".
إن هذه العناوين التي يعتمد عليها الكاتب كمُنطلقات سردية في قصه من شأنها الإمساك بتلابيب القارئ باعتبارها شكل من أشكال التجديد على مستوى السرد والبناء القصصي، بلا والتلاعب أيضا؛ ومن ثم تجذب انتباهه للسرد- وهو المطلوب أساسا لكل من يقدم أي شكل من أشكال الفن- ولكن، هل نجحت هذه الآليات في إكساب ما يكتبه القاص روحه الفنية- وهو الأمر الذي لا يتأتى لأي كاتب إلا من خلال موضوعه وصدقه فيما يقدمه، والمُغامرة الفنية؟
يتحدث القاص هنا عن مريم الطويلة التي يتابعها السارد بضمير المُتكلم داخل القصة، لكنه يظل يدور في فراغات ومشاهد مُختلفة لا يعنيها سوى وصف حالة مريم في رواحها ومجيئها في أوقات مُختلفة من اليوم، وتأثير ذلك على السارد المُتابع لها؛ لينتهي الأمر به إلى الفراغ؛ حتى أن القارئ لا بد له أن يتساءل حين انتهائه من القصة: وماذا بعد؟
صحيح أن الكاتب هنا كان يمتلك اللغة الجيدة السليمة، والأسلوبية السردية الجيدة، وقدرته على وصف المشاهد والحالة، لكنه لم يفض بنا إلا للفراغ في نهاية الأمر، ولنقرأ في مشهده الأول: "إنها حافلة الركاب الصباحية تسكب عمال يومية، طلبة، نساء، وبعض انفعالات تقفز من عيون مُنهكة. من خلف الحافلة يظهر كرسي مُتحرك يميل قليلا إلى اليسار، ويهتز كمن يعاني مُتلازمة باركنسون الزائدة، جمهرة من الحمالين يضعون قفافا كبيرة ومُكتنزة، سماسرة يساومون ويمارسون مكرهم بقصدية تامة، طفل يضرب بأقدامه الأرض ويشد ثوب امرأة تمر بقربه، المرأة تمطر الميدان بلعنات كافية لملء سجله التاريخي حتى جده العاشر، ثم تجمع ثوبها الذي انحسر إلى وسطها. الرجل الذي يقف على الرصيف المُقابل يُصاب بانشراح ذكوري ماطر". ربما نُلاحظ من خلال الاقتباس السابق الذي بدأ به القاص قصته أنه يكاد أن يرسم لقطة عامة Full Shot بتقنيات السينما، وهي التقنيات التي اعتمدها في اختيار عناوين مقاطعه القصصية، أي أنه يعي جيدا ما يفعله؛ الأمر الذي جعل الشكل/ العناوين، والمضمون/ طريقة السرد مُتطابقتين تماما، كما لا يمكن إنكار أن القاص يمتلك أسلوبا قصصيا جيدا فيما يكتبه، لكن، رغم هذا الوعي بالعملية الكتابية يظل السرد القصصي مسلوب الروح/ فاترا غير قادر على جذب المُتلقي إليه، ولعل ذلك يتضح لنا فيما سيأتي.
ينتقل القاص بعد رسم لقطته العامة/ البانورامية لما يدور في هذا المشهد إلى الحديث عن مريم الطويلة جدا فيقول: "لمريم الطويلة، الطويلة، الطويلة جدا فتنة لا تضاهيها النساء القصار، مثلا هذه الضحكة التي تشبه إشارة السيمافور تظل مُعلقة حتى استواء المسافة دافئة خضراء ومُشعة بهالة تتحكم في استقرار مزاجي المُتأثر بها فيبدو كطاقية (درويش في ساحة حمد النيل) يُبحر صعودا لا مُتناهيا ومُتناغما مع (وحوحة) الطبل في قفصه الصدري". يستمر الكاتب هنا في وصف مريم الطويلة ويُعدد محاسنها لدى السارد، لكنه حينما ينتقل إلى المشهد/ المقطع الثاني من قصته سنلاحظ أن السارد يستمر في وصف مريم، لكن هذه المرة من خلال مُتابعتها بينما تمشي في الزقاق غير مُلتفتة لأحد وكأنما لا يعنيها الكون؛ فيصف لنا الطقس الماطر، والشوارع الموحلة اللذين لم يمنعا مريم من الخروج للمشي في الزقاق: "كانت مريم الطويلة، الطويلة، الطويلة جدا لا تعبأ بالطقس المُتقلب، تبدأ سيرها المُعتاد، تقطع الشارع دون هرولة، تمشي كسارية بين الباعة المتجولين كفردوس غامض، تسبقها رائحة تفضح رغبات لا تتحدث إلا لها، وفي صمت موّار تعقد مُقارنة تؤكد خسارة امرأة أخرى"، ويستمر السارد في مُتابعتها ليصف تأثيرها عليه، ولا يلبث أن ينتقل إلى مشهد ثالث نظن فيه أنه سيقدم لنا جديدا، أو يحاول تحريك الحدث القصصي بينه وبين مريم، أو بينها وبين آخرين، لكننا سنُلاحظ أنه لا يقدم جديدا أكثر من الاسترسال في المُتابعة والحديث عنها وعن تأثيرها عليه فقط، حتى أنه لو لم يقم بتقطيع المشاهد مُستخدما العناوين لما تأثر السرد القصصي في أي شيء، ولظل الحال كما هو عليه في المشهد السابق؛ فيقول في مشهده الثالث بعدما يخبرنا أنه قد ترك المكتبة في الرابعة عصرا: "أشعة الشمس العمودية تُعطل ذهني، ترتفع درجة حرارة التوقع، ينفتح الباب، أنتفض مُلامسا عُنقها المُطل كصرخة، لا تنتبه لوجودي، وبزفرة أُطفئ رغبتي ثم أعود بوخزات نشيد الصراخ عليها. هكذا كنت أنا ومريم، مريم الطويلة، الطويلة، الطويلة جدا يخترقنا نصل المحاورة حتى الزوايا المخمورة في الليل، نحقن ميثاق سريتنا الليلي بتخفٍ تام وعليه نسفك دماء العبارات في الشتم، أشتمها لاعنا مُمكناتها المُستحيلة، تشتمني وتذر رفات جنوني، ونشهق بالبكاء"!
هل قدم الكاتب جديدا أو تحرك بالسرد القصصي إلى الأمام أو الخلف؟ لا، بل ظل على توقفه بالحدث السردي، وبات كل ما يقدمه من سرد أشبه بحالة شعرية من المُمكن أن يأتي بها أي شاعر مع الاختلاف في طريقة تقديم الحالة الشعورية بين السرد القصصي والكتابة الشعرية؛ لذلك تنتهي القصة بقول الكاتب: "بعيدا عما تُريك له الزوايا، تعود بك الدوائر إلى المركز لتعرف نفسك المحصورة بين وجعتين، هكذا تعالج مريم الحنين الذي يقفز من أضلعي بضحكة، أتربص بها وهي تُحدد الوقت بدقة مُتناهية، ثم ترمي بنفسها كشجرة مهوقني. أُطلق زفرتي وألتقطها. وبالرغم مما حدث وما سيحدث، تتميز مريم الطويلة، الطويلة، الطويلة جدا بقلة رغباتها الخالصة"، وبعض النظر عن استخدامه لمُفردة "وجعتين" بدلا من "وجعين"، إلا أننا سنُلاحظ أن الكاتب ظل على حالته التي بدأ منها سرده لينتهي عندها من دون أن يتحرك بالحدث السردي مُطلقا، ورغم أن السرد- في الكتابة بشكل عام- من المُمكن له أن يتوقف عند حدث بعينه لا يتخطاه؛ ومن ثم نقرأ في النهاية قصة جيدة، إلا أننا لاحظنا هنا أن الكاتب لم يقدم لنا شيئا اللهم إلى محاولة السارد في القصة تأمل مريم والحديث عنها ووصفها وتأثير وجودها أو رؤيتها عليه فقط من دون أن يفضي بنا إلى أي شيء آخر، أي أن الكاتب لو كان قد استغل هذه الحالة الشعورية في قصيدة شعرية لكان لها من الوقع في نفس المُتلقي ما هو أفضل من وقعها في نفس قارئ السرد القصصي؛ لأنه هنا قد تركنا في مُنتصف الطريق ما بين القبول والرفض، ما بين الاقتراب والتماهي مع سرده، وبين الابتعاد والتساؤل عما يريد تقديمه أو قوله، حتى لكأن الفكرة لدى الكاتب غير مُكتملة، ولم تنضج بالقدر الكافي رغم امتلاكه لآليات السرد القصصي من جُمل قصيرة لاهثة مُتلاحقة، وأسلوبية جيدة، ولغة سليمة، ومقدرة على رسم المشهد، بل واستخدام آليات سردية من شأنها اجتذاب المُتلقي وجعله في صفه، ورغم أنه حاول هنا إعادة تشكيل العالم الذي يتحدث عنه، والسمو به من الواقعي إلى ما هو شعوري يخصه هو ومريم وحدهما إلا أنه لم ينجح في إكساب نصه روحا تنتشله من الثبات والفتور الذي كان ما يميزه حتى كلمته الأخيرة.
في قصة "ثرثرة ذاتية لكرسي مُدولب" يتناول القاص أثر اختلاف وجهات النظر في الحياة، ويؤكد من خلالها أن هذا الاختلاف يجرنا بشكل يقيني إلا حقيقة مفادها عدم وجود يقين حقيقي في أي شيء؛ فليست الأشياء، بالضرورة، كما قد تبدو لنا، بل هي تبدو لنا على شاكلة ما قد تكون مُهمة أو غير ذات فائدة، بينما تبدو للآخرين بشكل مُختلف عما نراه نحن، ونتيقن أنه صحيح.
إذن، فلا يقين في أي شيء، ولعلنا نُلاحظ أن الكاتب هنا يكاد أن يكون قابضا على فكرته التي يرغب في الانطلاق من خلالها، لكن رغم قبضه على الفكرة هذه المرة إلا أن السرد يظل فاترا لا روح فيه؛ فالسارد في القصة يتحدث عن إحدى الشخصيات التي أفنت حياتها بالكامل في العملية التعليمية كمُدرس للعديد من الأجيال المُختلفة، ورغم إخلاصه الكبير لعمله وتفانيه فيه، وهو ما يستوجب تكريمه على هذا الفعل إلا أنه في النهاية لا يجد المُقابل، بل مُجرد معاش لا يسد جوعه، ويعاني من شظف العيش، بل ولا يوجد أي تكريم في اللحظة التي يخرج فيها إلى المعاش!
يتناول الكاتب هذه الفكرة من خلال نفس الآلية السردية الحريصة على تقطيع السرد إلى مقاطع، وإن كان في هذه القصة قد تخلى عن وضع العناوين إلى هذه المقاطع مُكتفيا بالتقطيع فقط، فيكتب في مقطعه الأول: "ما أن تمر بقربه وتشمله بتحية صباحية حذرة يسيل منها أسى شاسع الخطوات، يُفاجئك بمسروداته ويقتنص عجالة أمرك، يفتتح حكاياته بعبارته الأليفة والمُهذبة، ويمضي في طلاقة حكاء إفريقي عجوز، يغمض عينيه، يرفع سبابته ويقول لك: يا صديقي، يحق لك أن تصدق أو لا تصدق، لقد ساقتني دوافع كثيرة لهذه المهنة. قررت يوما أن أفاجئه بحكايته التي حفظتها عن ظهر حسرة، سأرويها له من وجهة نظري، وبها أضع حدا لحكايات مُنتهية الصلاحية وأُسلمه إلى خرس مُطبق". إن السارد هنا يؤكد لنا أن هذا الرجل الذي أفنى حياته بالكامل في العملية التعليمية كثيرا ما يشكو للآخرين من زملائه حاله، وما وصل إليه بحكاياته الكثيرة عما فعله وعاناه من أجل الإخلاص لهذه العملية التعليمية، ولكن رغم ذلك لم يجد في النهاية ما يستحقه؛ لذلك يحرص السارد الذي كثيرا ما استمع إلى هذه الحكايات على أن يصدمه بأن كل ما يراه هذا الرجل من حكايات ونضالات خاضها بأمانة من أجل عمله مُجرد هراء لا قيمة له من وجهة نظره، فإذا ما كان هذا الرجل يرى فيما فعله واجبا وشرفا لا بد أن يُثاب عليه، فغيره من الناس لا يرون ذلك، لهذا نقرأ في المقطع الثاني بعدما يدفع السارد بأوراقه إلى الرجل في اليوم التالي، ويبدأ الرجل في القراءة: "الجبهة المُتغضنة واللون الحائل على محاجر العينين، والخيارات المسفوحة على دروب الصبر الطويل، حالات التفسخ، تكشيرتك المُلازمة لوجودك الراكض خلف سراب المُرتبات التي لا تفي صحن لوعتك الكابية، ولا تشفع للنعوت المكتوبة على (دوسيه) العمل ذي اللون الأصفر، والشهادات التي سهرت ليلات تحصد غلتها، وأنت تعلم أن سوس الوظيفة لعق درجاتها فتركها عديمة الجدوى وأُغلقت حناجر أطفال السنة الثالثة، وهي المُمتدة كأعشاب الجروف". إن السارد هنا يمهد لصدمة الرجل بنفي أهمية كل ما فعله في حياته، لذلك يستكمل بقوله: "ثلاثون عاما تمضي مُشددا على حوْجة وطن للتماسك الأكبر، لانطلاقة في الممرات الفاصلة بين شكل الحياة والموت. ثلاثون عاما أو يزيد هي كل ترسانتك النقدية، ما تبقى لك من أحاسيس رثة لجنون الأحلام، والتعلق بطرق غير مُعبدة ومُؤدية إلى هلاك قريب. ثلاثون عاما عشتها كقربة منفوخة بعويلك الوطني وغموض القضايا لأرض منسية من المُدخرات المنهوبة بتتابع لا نهائي".
إن السارد هنا يحيل كل ما كان يراه الرجل من نضال إلى مُجرد هباء منثور لا قيمة له؛ لذلك يستمر قائلا: "ثلاثون عاما حاملا حقيبتك الصغيرة بين أصقاع الريف والمُدن، بين أجراس النحاس بأحجامها المُختلفة ودفاتر التحضير وجدول الحصص اليومي، وأكذوبة الانضباط التي تلتزم بها وحدك دون سائر خلق الله. لا بد لهذا الماراثون الطويل من نهاية". ألا نلاحظ هنا أن الكاتب يقبض على فكرته هذه المرة لكنه رغم قبضه عليها يكاد السرد القصصي أن يتحول إلى مُجرد كتابة صالحة لتضمينها في مقال رأي يتحدث من خلاله عن وجهة النظر المُخالفة لمن يرون أنفسهم قد أفنوا حياتهم من أجل أوطانهم، أو من أجل العملية التعليمية؟
يستمر السرد على هذا المنوال واستعراض وجهة النظر المُخالفة التي كتبها السارد في الأوراق التي قدمها إلى الرجل إلى أن ينتقل إلى المقطع الأخير من قصته لنقرأ: "رفع بصره عن الورق: يا صديقي، يحق لك أن تصدق أو لا تصدق. (صمت)، لقد كنت أقل تهذيبا. بينما راحت دمعة تهم بالسقوط من عينيه". رغم بداية القصة من خلال مقطع سردي قصصي، وتحوله إلى سرد صالح للتضمين في مقال رأي صحفي، إلا أن القاص يظل مُنتبها إلى أنه يكتب القصة القصيرة؛ لذلك يعود في المقطع الأخير إلى الإمساك بسرده القصصي مرة أخرى لينهي السرد بطريقة قصصية، لكن رغم هذه المحاولة تظل القصة فاترة لا روح فيها.
في قصة "السيناريو اليومي لفضة الحلبية" ثمة حيوية في الحدث القصصي نلمحه هذه المرة رغم أن الكاتب، هنا، يهدف من وراء سرده إلى تصوير حياة الفقراء الراكدة الثابتة التي لا يمكن أن نلمح فيها أي شيء جديد، وكأنها مُجرد بركة ماء آسنة يتحول فيها هؤلاء الفقراء إلى مُجرد كائنات مجهرية تحيا داخل هذه البركة! فيحرص على تقطيع سرده كعادته إلى العديد من المقاطع السردية، وهي المقاطع التي يتابع فيها "فضة الحلبية" في يوم كامل من أيامها المُتشابهة مع بعضها البعض منذ استيقاظها من نومها حتى عودتها إلى بيتها من أجل الاستعداد ليوم جديد؛ فنقرأ في مقطعه الأول- وكأنما يرسم لنا لقطة بانورامية، أو لقطة شاملة: "منذ أن وطئت أقدامهم هذه المدينة بحميرهم وقرودهم والوشوم المضروبة على سواعدهم، يحترفون المهن الصغيرة، كصناعة أواني القهوة والسمكرة وتبييض القدور النحاسية التي تشبه ألوان بشرتهم، وتجارة الحمير. النساء يمتهن (الشحدة) ويضربن الودع، وينبسن بكشف البخت المائل. فضة الآن وبالتحديد في الخامسة والثلاثين من عمرها، تنفجر بأنوثة كاوية، تجوب المدينة كشجرة باباي تزدهي بما تكور من ثمارها، يذهب جلبابها بعيدا في الصراخ من معالم جسدها، لها حجلان فضيان يسوّران ساقيها ويصرخان برنة مقصودة، خُلقت بشفتين مُتأوهتين ولسان كشفرة".
إن الكاتب هنا يرسم السمات العامة لشخصيتة القصصية التي سيتابعها سرديا حتى آخر جُملة في قصته؛ لذلك يصف لنا استيقاظ فضة، ومزجها الزيت والجاز من أجل فرك شعرها به، وتحضيرها لما تبيعه مما تضعه في قفتها، ثم لا تلبث أن تخرج من بيتها مُتجهة إلى إحدى الحارات ويبين لنا أن الرجال يتحرشون بها، لكنها ترد عليهم بغلظة وتسبهم، وتطلب من أحد البقالين الذين يعرفونها أن يمنحها أوقية من السكر فيعطيها إياها راضيا من دون مُقابل عطفا عليها، وذهابها إلى أحد البيوت كي تبيع لسيدة البيت شيئا مما في حوزتها، ومعرفة البخت لها ولابنتها من خلال الودع، وبعدما تتفق مع المرأة على سعر الأشياء التي تشتريها منها تطلب منها بعضا من السُكر والشاي، وهو ما تمنحه إياها المرأة برضى أيضا، ومن دون مُقابل، إلى أن تعود إلى بيتها لتجد زوجها يتناول طعامه من البيض المقلي؛ فنقرأ: "تعود فضة للبيت مساء. أبو عارف يضع صحن البيض المقلي أمامه مُقرفصا في مُنتصف الغرفة، تتلقف فضة هذه الفرصة لتبدأ في نتف شارب يومه الكث و(تنقي شعيره) من ضحكات نهارية بمقهى الكرْسنّي. يا ستي مريم شوفي الراجل الضلالي، أخد بيض الجدادة، جِدادي نِنّي عيني. يا بتْ الـ... يصيح أبو عارف. يجد الأولاد فرصة سانحة؛ فيسطون على مُدخرات القفة ويسرقون من محفظتها المُلقاة بعض مالٍ لغدٍ يحتفون فيه بتأجير دراجة لساعة واحدة. يتعالى صياحهم، يفترشون عنفهم اللغوي والجسدي، تحمل الشبابيك الاستغاثات لآذان الجيران التي اعتصمت بمقولة (أَضَانْ الْحَامِلْ طرْشا) ثم اعتادت على شظايا ألسنتهم كأنها جزء من استمرارية وجودهم، وكأن المساء منصة لتصحيح أخطاء النهار".
إن هذا المقطع السردي الذي يختتم به القاص قصته يُدلل من خلاله على الرتابة التي يحياها هؤلاء الفقراء الذين لا يجدون قوت يومهم، والذين لا يشعرون بمُتعة الحياة وكأنهم لا يعيشونها. نُلاحظ أن القاص هنا استطاع تحريك الحدث القصصي والتعبير عنه بشكل جيد، حتى أنه نجح في بناء عالم قصصي وتشكيله من خلال وجهة نظره التي تخصه كقاص يتأمل حياة هؤلاء البشر، ولعل هذه الحيوية التي لاحظناها في السرد قد أبعدت القص إلى حد ما من فتوره، رغم أن القصة تميل إلى الرتابة مع جودتها، ولكن، ربما كانت رتابة القصة تأتي من رتابة العالم الذي رغب القاص هنا في التعبير عنه، وبالتالي تكون مُتناسبة مع ما يتعرض إليه من عالم قصصي.
في قصة "نظرة جائعة" سيتبين لنا أنها من أكثر قصص المجموعة فنية وانطلاقا في آفاق أرحب مما يبتعد بها عن الرتابة ويمنحها الكثير من الحيوية القصصية، ولعل هذه الحيوية التي سنُلاحظها في هذه القصة تُدلل على أنه كلما كان الانطلاق بخيال الكاتب إلى آفاق أرحب، والاستعداد للمُغامرة في السرد، كلما اكتسب هذا السرد صدقه وعفويته ودفئه، وبات أقرب إلى التلقي بشكل أفضل. يتناول الكاتب هنا قصة عادية وإن كان قد انتشلها من عاديتها بميله إلى السيريالية في السرد، وهي السيريالية الساخرة التي أكسبت القصة فنيتها الحقيقية حيث يتحدث عن عبد المحمود المحولجي الذي يتم استدعائه إلى الإدارة من أجل التحقيق معه بتهمة تأخير أحد القطارات لمدة ساعة كاملة، ورغم أن عبد المحمود كمحولجي لا يمتلك أي مقدرة على تأخير أي قطار؛ لأنه تصله الأوامر هاتفيا بفتح الطريق أو إغلاقه أمام أي قطار كي يستمر في طريقه أو يتوقف، إلا أنهم قد استدعوه للتحقيق في تأخير هذا القطار. يظل عبد المحمود يفكر في كيفية مقدرته على فعل ذلك إلى أن يدخل غرفة التحقيق ويُفاجأ بما يوجه إليه من اتهامات: "أنت يا عبد المحمود تسببت في تأخير قطار (مُشترك) بورتسودان بتاريخ 12/ 7/ 1975م ساعة كاملة عن موعد وصوله المُقرر وفق جدول سير القطارات المُعلن، وعليه تم استدعاؤك لتبين الأسباب التي حدت بك لهذا الفعل والذي يُعد سابقة خطيرة لم يشهدها تاريخ السكة الحديد منذ إنشائها"، لعل مثل هذ الاتهام العجيب المُوجه إلى عبد المحمود مثير للكثير من السخرية؛ فالرجل لا يمكن له أن يفتح الخط أمام أي قطار أو يغلقه إلا بعد تلقي الأوامر بذلك من ناظر المحطة، أي أنه إذا كان قد حدث ولم يفتح الطريق أمام القطار؛ فالسبب المُباشر في ذلك لا يمكن أن يكون هو، بل ناظر المحطة الذي لم يعطه الأمر بفتح الطريق أمام القطار؛ لذلك يحاول عبد المحمود الدفاع عن نفسه بنفي هذه التُهمة المُوجهة إليه والتي لا يمكن له أن يقوم بها إلا من خلال الأوامر المُوجهة إليه، لكن عضو لجنة التحقيق الثالث يقول له: "يا عبد المحمود، أتذكر حين وضعت التحويلة على الخط الصحيح الذي عبره سيمر القطار خارجا ومُغادرا المحطة؟ نعم. ثم نزلت من كشك التحويلة مُتجها نحو عربات القطار؟ نعم. في هذه الأثناء رفعت نظرتك الجائعة والمحرومة لعربة الدرجة الثانية. نعم. كانت على شباك العربة فتاة صبوحة الوجه، باختصار كانت جميلة جدا، فالتقت نظرتك بنظرتها، فحدثت نفسك قائلا: ما أجملها، وتمنيت، وتمنيت، وتمنيت. بدأت الدهشة ترتسم على ملامح عبد المحمود مثل شروخ استعصى على الدهر محوها، فار الدم في عروقه ناشرا قوافل من النهش المُميت، انفلت منها عبد المحمود مُتسائلا: كيف يا سيدي لنظرتي الجائعة والمحرومة أن تؤخر قطارا لمدة ساعة كاملة؟!"
علنا نلمح، هنا، سيريالية الموقف وعبثيته الساخرة؛ مما أكسب القصة الكثير
من الحيوية، لكن القاص يستمر في هذه العبثية الفنية التي يقصدها، والتي يقصد من
ورائها السخرية مما يدور في مُجتمعاتنا العربية من بيروقراطية وعدم المقدرة على
تحمل المسؤولية؛ ومن ثم إلقاء الأخطاء على من هم أضعف، أو في منزلة أقل؛ باعتبار
أنهم غير قادرين على الدفاع عن أنفسهم، لذلك يقول رئيس اللجنة: "هذه النظرة
يا عبد المحمود أثارت غضب خطيب الفتاة؛ فلم يتحمل أن يُنظر لخطيبته بهذه الصورة
غير المعهودة، وخصوصا أن عينك اليسرى بالتحديد أحدثت أثرا على خدها الأيمن، ولما
كنت أنت مُتجذرا في يسارية النظرة، ومُشاكسا ليمينية الخد، هنا بدأ وضعك الطبقي في
الظهور، مما جعل خطيب الفتاة أن يشتعل غضبا وغيرة، وقرر أن يعود ليقتص منك، فجر
(الباكم)، وأفرغ الهواء عن القطار، ومن ثم أسلمه للتوقف، وهذا أمر بدهي يا عبد
المحمود، وأحسب أنك قادر على تقييم الموقف. ما هو الموقف يا سيدي؟ تساءل عبد
المحمود. رد عضو اللجنة الثاني الذي التزم الصمت طيلة فترة التحقيق. ها أنت تعود
لطبيعتك المراوغة. أي طبيعة مراوغة يا سيدي؟! ثم دعني أفترض أن النظرة الجائعة
المحرومة قد حدثت بالفعل، وهذا أمر طبيعي وشائع. لكن أن ينزع أحدهم (الباكم) بسبب
النظرة فقط، هذا أمر لا يحدث أبدا! ولأنه أمر لا يخطر ببال أحد؛ تُحملك اللجنة
مسؤوليته كاملة، ومع أننا خولنا للتحقيق معك ورفع قرارات هذه اللجنة في مدة يومين
لا أكثر، رأت اللجنة أنك المُتسبب الوحيد في تأخير القطار"!عادل سعد يوسف
ألا نُلاحظ هنا أن مقدرة القاص على الانطلاق بسرده إلى آفاق سردية سيريالية قد أكسبت السرد الكثير من الحيوية والفنية؟ إن المُحققين هنا يتحدثون معه وكأنما كانوا معه، ورأوا نظرته المُشتهية للفتاة، وشعروا بما يشعر به من مشاعر، بل وتبلغ السخرية هنا مداها حينما يقول له المُحقق: "وخصوصا أن عينك اليسرى بالتحديد أحدثت أثرا على خدها الأيمن، ولما كنت أنت مُتجذرا في يسارية النظرة، ومُشاكسا ليمينية الخد، هنا بدأ وضعك الطبقي في الظهور"، إنها السخرية من الوضع القائم في السودان، سواء على المستوى الاجتماعي، أو المستوى الأيديولوجي، وهي سخرية مُبكية في حقيقتها، وتذكرنا بالأفلام السيريالية الساخرة التي برع فيها المُخرج الراحل رأفت الميهي الذي كان يسخر من المُجتمع بالاستعلاء عليه، والنظر إليه من الخارج فيما يشبه المسخرة- أي تحويل المُجتمع بالكامل إلى مسخرة اجتماعية وأيديولوجية وفكرية وسياسية.
إذن، فالقصة هنا تكاد أن تكون من أجود القصص التي كتبها الكاتب، بل وتتميز بالكثير من الحيوية خلافا لما سبق أن قدمه لنا من قصص داخل هذه المجموعة؛ لذلك يحرص على إنهائها بما يتناسب مع هذا الجو السيريالي الذي خاض فيه حينما يكتب: "تم إغلاق المحضر الخاص بالتحقيق الخاص بتأخير قطار مُشترك بورتسودان في تمام الساعة 15:40 بتوقيت سكك حديد السودان. بإمكانك الانصراف. خرج عبد المحمود ساخطا ولاعنا، نظر إلى الرصيف الملئ بالمُسافرين، تنهد بعمق، دلق غضبه على الخديوي إسماعيل الذي فكر في مد خطوط السكك الحديدية جنوبا، خطى خطوات عابرا تشابك الخطوط الحديدية، أثارت انتباهه الملوينة التي لم تستقر في وضعها الصحيح، تحرك نحوها، وبحركة ماهرة أعاد الخط ليعبر عليه القطار القادم". إن هذا المقطع القصصي الذي ختم به الكاتب قصته يمعن من خلاله في السخرية المريرة مما يحدث من حولنا؛ فعامل التحويلة الذي تم التحقيق معه وتوجيه مثل هذا الاتهام الذي لا علاقه له به إليه، هو في حقيقته مواطن صالح، وعامل مُجتهد، ولا يمكن له أن يتغاضى عن واجبه مهما كان الظلم الموجه إليه من رؤسائه، ورغم أنه لا يمتلك الدفاع عن نفسه أمامهم مهما وجهوا له من اتهامات، إلا أنه رغم خروجه من التحقيق مظلوما ومُدانا، حينما رأى أن "الملوينة" لم تستقر في وضعها الصحيح- وهو ما يخص غيره من العمال، ولا يخصه كعامل كان في التحقيق في هذا الحين- مما قد يؤخر القطار، أو يؤدي إلى كارثة خروجه عن الخط الحديدي؛ عمد إلى تصحيح وضعها، ولعل في هذا الفعل ما يعمق من أثر السخرية والعبثية التي رأيناها في هذه القصة.
في قصة "امرأة كالوقت المُناسب" ينفرط السرد القصصي من بين يدي الكاتب ليتحول إلى مُجرد مونولوج داخلي طويل لا معنى له، وأقرب إلى الدفقة الشعورية المُتناسبة مع الشعر أكثر منه إلى السرد القصصي، لذلك سنُلاحظ أن الكاتب بات يهوّم في الفراغ ليتحدث عن فستان فوشي تلبسه امرأة مرت من أمامه؛ لتذكره بحبيبته البعيدة ومن ثم يبدأ في التغزل بهذا الفستان الفوشي الذي يذكره بها. يبدأ القاص قصته بقوله: "هناك، ذات مساء بين الساحة العامة ومبنى الشفخانة، كان الشارع أكثر رحابة، ينحدر بشكل طفيف على الظلال التي يفئ بها فستانك، ويرمي عناقيده وعوده عند أقدامنا، كنت أستشعر دفئك في الحكايات اليومية، وكنت مأخوذا بالاحتفال، وكانت يداك تُبشران بأنوثة تضئ الأرصفة. هذا ما كان ينبغي أن أقوله لك في ذلك المساء المُتأرجح بين الساحة العامة ومبنى الشفخانة. هنا، في الساعة الواحدة ظهرا، ستمدد شهر إبريل من خلف النافذة كأحزان منسيات على قارعة أيام طلابية بعيدة، يتمطى ليكمل مشهد النهار المُتساقط على عيون البنايات. أقدام المارة تمسد الإسفلت بطرقات مُنتظمة تطرح همومها عليه، وتتنهد ملء أصابعها أسفا. نظرتي المُعلقة تشيع آهات طويلة تسيل على زجاج النافذة وتتابعها إلى أن تصطدم بالإفريز السُفلي وتتلاشى في دائرة الماء التي بدأت تزحف مُهيئة لنفسها خط انحدار يتحرش بمنفذ الشرفة الوحيد، تحاول بعبث أن تنفض عنها لون الفستان الفوشي الذي شاهدته قبل قليل أمام البناية".
هل استطعنا فهم أي شيء مما قاله الكاتب في الاقتباس السابق الذي بدأ به قصته، وهل قدم لنا شيئا مع كل هذه الثرثرة الشعورية الهائمة؟ إنه هنا غير قادر على القبض على فكرته؛ لذلك يستمر في التهويم والتحليق فيها غير قادر على أن يقدم لنا أي شيء ذا فائدة في نهاية الأمر؛ لذلك سيستمر السرد على نفس هذا المنوال طوال القصة لنقرأ بعد صفحتين، مثلا، ما لا يختلف عما سبق أن رأيناه: "أسقط مرة أخرى في رقعة الفستان الفوشي مُتناسيا كل الأزمات المُتتالية، مُتناسيا سماوات واسعة مع الفقر والقمع ومخالب التشرد، بعد سنوات رحلت معها مقدرة التمييز بين الحزن والفرح المُختلس. هنا، أنا على نافذتي- أحمل جنونا حبكته صُدفة عابرة- يغمرني اللون حتى انتشار ذبذبات التوجس الخائف، تُدغدغ توهجاته المُنعكسة على مرائي النهار وتقذف شبكيتي إلى حدود التجديف بين بحيرات الظنون المُتسعة لآلاف التموجات المُتلاحقة لا حدود لها كبحيرة تتفجر ألغامها".
هل اختلف هذا الاقتباس عن الاقتباس الأول الذي سبق أن قرأناه رغم مرور صفحتين من السرد؟ إنه نفس التهويم في الفراغ الذي لا يمكن أن يؤدي بنا إلا إلى المزيد من الفراغ؛ فالقاص هنا لا يمتلك الفكرة، ويعجز عن القبض عليها؛ الأمر الذي حوّل سرده إلى مُجرد مونولوج غير مفهوم ولا قيمة سردية له. إذن، لم لا نقرأ اقتباسا آخر بعد مرور صفحة أخرى علّه يقول لنا شيئا: "هناك، تتذكر هذا اللون الفوشي وتلك الرسومات، بالأحرى اللمسات، وأنت تُخاتل إعجابك بما يحمله من رُمانتين ذهبيتين تعلمان كل ما ادخرته من مكر حائق بهما. آه أيتها البعيدة كطيف لا ينتهي، أنت الآن تتماهين مع ذكريات وأحلام بعيدة كنستها أيدي أزمنة عقوق، وتسقطين أحجارك في بركتها، تحفرين جداول تنزف ليلة بلون قمحي ينز عسلا من مرافئ خصرها الأخاذ. كانت تلتف بفستانها الفوشي كما تلتفين أنت أيتها البعيدة كطيف لا ينتهي".
إن الكاتب يصر هنا على تهويماته المُحلقة به في الفراغ البعيد؛ ومن ثم لا يمكن لنا أن نخرج من هذا السرد الهلامي المسلوب الهيكل بأي معنى يريد إيصاله لنا، اللهم إلا أنه كان يرغب في كتابة قصيدة شعرية ما، وأخطأ سبيله إلى السرد القصصي للتعبير عن حالته الشعورية التي لم تتناسب مع السرد؛ لأنه في النهاية لم يقدم لنا أي قصة، ولا حتى أي قصيدة شعرية.
في قصة "استقالة بصفاء بيروقراطي" يعود الكاتب مرة أخرى إلى امتلاك الفكرة التي يرغب في الحديث فيها، بل ويكسبها مرونة وحيوية سردية- رغم مُباشرتها إلى حد ما- لكنها تعبر إلى حد بعيد عن مأساة شخصية، ومرثية للوطن، وهي المرثية التي يعاني منها مُعظم المواطنين في مُعظم الأقطار العربية، وهي الحزن على ما آل إليه الوطن من خراب رغم تحرره من استعماره؛ مما يحدو بالبعض إلى الرغبة في التخلي عن هذا الوطن الذي يأكل كرامتهم، وإنسانيتهم، ولا يمكن أن يتقدم بآمالهم وأحلامهم إلى الأمام رغم حبهم له، وانتمائهم إليه، إلا أنه يكاد أن يقتلهم على المستويين المادي والمعنوي.
كعادة الكاتب في كتابة قصصه نراه يرسم مشهدا بانوراميا للحالة أو الحدث الذي يتحدث عنه في بداية سرده؛ لينطلق من هذا المشهد إلى تفصيل السرد القصصي؛ لذلك نقرأ في بداية قصته: "ولأنني وصلت مُتأخرا وقفت في المُؤخرة، في مُؤخرة الصف كما طُلب مني، يديّ مُكدسة بأوراقي الشخصية، تتلألأ عليها أختام التوثيقات، نُسخ أصلية ومُصورة، وعدد من الإيصالات المالية، أوراق تثبت انتمائي العاطفي المُطلق. كانت الحدود المرسومة بيني وبين الذي أمامي تضيق وتتسع تبعا لحركة العابرين، تدفعني أكتافهم عن الممر بلكزة حارة على صدري ويمضون دون اعتذار يخفف من غضبي، أطأطئ رأسي وأبتلعها مُكرها وأغمغم. النهار كما هو النهار في هذه الأيام التي تنقضي في انتظار غير مُثمر، جسدي يتصلب لحظة بعد لحظة، حرارتي تبدأ في الارتفاع التدريجي، أنا على وشك غيبوبة أكيدة، غشيتني الهلاوس، يزداد الفيضان البشري، أنفاسي تتهدج، أجلس على الأرض، ينضح عرقي غزيرا، قررت ترك الأمر برمته والمُغادرة نهائيا، ولأني فكرت كثيرا مضى الذي أمامي مسافة كافية لمرور سيارة".
إن الكاتب هنا يرسم المشهد الكلي للحدث وكأنه يمسك بين يديه كاميرا سينمائية يحرص من خلالها على التقاط لقطة عامة لما يحدث، ثم يبدأ في تفصيلها فيما بعد من خلال السرد. نعرف أن السارد في القصة سوداني الجنسية يحمل من القهر والأحلام المُحبطة الكثير، ولذلك يتذكر الخُطب الرنانة التي كثيرا ما سمعها فيما قبل عن السودان وتحررها والرغبة في بنائها لتكون من الدول القوية التي تمتلك كرامتها ومقدرتها على التغيير، لكن بعد مرور العشرات من التحرر من الاستعمار لم تزل السودان كما هي تخوض في الجهل والفساد، والانهيار، بل وتقتل في السودانيين كل آمالهم ومقدرتهم على الحياة، وهو الأمر الذي جعله يائسا من هذا البلد الذي يحبه لكنه يشعر تجاهه بالكثير من الحزن والاستياء؛ فجمّع جميع أوراقه الرسمية وذهب إلى إحدى المُؤسسات الرسمية العسكرية ليطلب منهم الموافقة على التنازل عن هويته!
يكتب القاص: "حملت الريح الصاخبة أوراق الشجر وبعض الحصى، وذرّته بكتحة مُتعمدة، وخلفها قذفت بتحية علم عبر أصوات صبية من سور مدرسة تقع خلف المبنى بمسافة وجيزة. لماذا يحيون العلم الآن؟ عادة ما تُنشد هذه التحية صباحا، بالتحديد في الطابور الصباحي، تنامى إلى سمعي صوت مُعلم عرفته من مخارج حروفه وحماسته المُزعجة: ليس أسعد في تاريخ السودان وشعبه من اليوم الذي تتم فيه حريته، ويستكمل فيه استقلاله، تتهيأ له جميع مقومات الدولة ذات السيادة، ففي هذه اللحظة، الساعة التاسعة تماما من اليوم الموافق أول يناير 1956م- 18 جمادي الثانية 1375ه- نُعلن مولد جمهورية السودان الأولى الديمقراطية المُستقلة ويرتفع علمها المُثلث الألوان ليخفق على رُقعته، وليكون رمزا لسيادته وعزته. تذكرت بجلاء تام، هذا الجزء من خطاب إسماعيل الأزهري في حفل رفع العلم، نظرت إلى التاريخ، إذا هو السابع من يناير 1997م، إذن ما يزال الاحتفال بهذا اليوم مُستمرا، وأنا الوحيد من أصابتني الهواجس بأنهم قد تناسوا عامدين هذا الجزء من التاريخ، خشيت أن يُضاف إلى سلسلة البدع المُلغاة من مُخطط المناهج المدرسية، توهجت بأسى طفيف".
سنلاحظ في هذا الاقتباس أن الروائي يسوق حديثه عن تحرر السودان من الاستعمار، ويذكر التاريخ وما قيل في هذه الخطبة التي ذكرها ليصنع المُفارقة بين ما كان مأمولا فيما قبل، وما صار عليه السودان في الوقت الحالي؛ فلم يحدث أي تغيير، بل ماتت الكثير من الآمال والأحلام لأبناء هذا الوطن، وتحول الأمر من سيئ إلى أسوأ بدلا من الأحلام الوردية التي كان يبتغيها أبناء السودان؛ لذلك فالسارد- الشاعر بالكثير من الاستياء- يرغب في التخلي عن انتمائه الرسمي لوطنه، يرغب في التحرر من الكثير من الإخفاقات التي يتعرض لها في وطنه، يأمل في عدم إهانته مرة أخرى، في شعوره بأنه إنسان مثله في ذلك مثل باقي البشر، ومن أجل التأكيد على ما وصل إليه الحال في السودان يسوق العديد من المشاهد أثناء تأمل الشخصية الساردة في انتظارها لدورها في الطابور الطويل: "حينما بدأ النهار يسحب شمسه نحو نهاية الدوام، كان الصف المُرعب يزداد تدفقا، وكانت العجوز الجالسة تحت شجرة النيم، تنكش ما تبقى لها من عمر وتوزعه على أكياسها الصغيرة من الفول والتسالي وترسم لا مبالاة مُختلطة بامتعاض يضرب بجذوره في عُمق المشاهد نفسها، في الشوارع نفسها منذ أن غادر الخواجة شارع فيكتوريا. أكاد أجزم دون تردد أنها كانت إحدى النساء الجميلات، وأنها كانت مُشتهاة من رجال كثيرين، وأنها ألهمت شاعرا ما ومات كمدا بعد قصيدة يتيمة، دون أن يظفر بأحد الأرنبين. هذه المدينة تخيفني، بلغ بي الملل درجة عالية من الضياع، لا أجد مُبررا يعينني على الاستمرار، إذن سأقدم استقالتي وليكن ما يكن".
ربما تبدو لنا الفكرة هنا شديدة السيريالية، وهي بالفعل كذلك؛ فكيف يمكن لنا تقديم استقالتنا من أوطاننا، وهي ليست وظيفة في حد ذاتها بقدر ما هو شيء مزروع فينا منذ خلقنا؟ لكن الكاتب هنا يفترض إمكانية الاستقالة من هذا الوطن الذي يهيننا ويدمرنا على كل المستويات؛ كي نبحث عن وطن أفضل منه، أو حتى يتوقف عن استنزافنا حتى النهاية؛ لذلك حينما يصل السارد إلى باب المكتب أخيرا وينتهي الطابور الطويل أمامه يدخل إلى الضابط ليطلب منه إعفائه من كونه مواطنا سودانيا، وكأنه يقدم استقالته بالفعل؛ الأمر الذي يصيب الضابط بالدهشة العارمة: "وضعت رجلي اليمني على مدخل المكتب، صفعتني ضحكة الضابط، ارتد رأسي للوراء، جمعت غضبي وملفي ووضعته أمامه على المنضدة، ولما كانت ملامحي صارمة، بانت على وجهه جدية عسكرية، أخذ الملف، قلب أوراقه ورقة ورقة، وبكل هدوء مُصطنع رفع بصره قائلا: تمام، كل هذه الأوراق مُكتملة. فتح درج المكتب وسحب عددا من الأوراق، شبك يديه ووضع ساعديه على المكتب وأسند ذقنه، تردد قليلا ثم سأل بطريقة بائخة: ما هو المطلوب؟ المطلوب- سعادتك- إعفائي من هذه الأوراق وما يترتب عليها من التزامات قانونية ودستورية، إلخ، إلخ. كيف؟ هكذا. ماذا سيحدث إذا تم إعفاؤك منها؟ هذا موضوع آخر. بسط أوراقا على المكتب، وأعطاني قلما وقال: هذه أوراق إعفائك. أشار إلى نهاية كل ورقة طالبا توقيعي بالاستلام"!
إذن، فالقاص يستمر مع شخصيته الساردة في التوغل السيريالي للفكرة، ويجعل الضابط يوافق على استقالة الرجل من الوطن؛ لذلك يخرج الرجل بعدما تم إعفائه كمواطن ليتأمل الفوضى من حوله في شوارع السودان، ويتردد في ذهنه الحديث عن الاستقلال والآمال السابقة مرة أخرى: "وقفتُ. وما انفك صوت إسماعيل الأزهري يخترق أذني بوضوح وجلاء: أيها المواطنون الأحرار، بني وطني الأعزة الأبرار، إنني أعلنها من فوق هذا المكان عالية مُدوية بأنكم أصبحتم منذ اليوم أحرارا في دياركم، وسادة على أرضكم، فاستثمروا في نفوسكم معاني الحرية، وحرروا عقولكم من أغلال الجهل والعبودية، وليست الحرية أعلاما تُرفع، ولا هي صكوك تُوقع، بل هي أمان وعزة تملأ أغمضت النفوس وتعمر القلوب"، أي أن الحديث عن وجود وطن يتفاخر به المواطن السوداني ما زال يتردد في نفس السارد الشاعر بالكثير من الحسرة على وطنه الذي لم يتقدم خطوة واحدة من بعد نيله للاستقلال؛ لذلك ينهي قصته بهذا المقطع الشديد المُباشرة: "هل تحقق ذلك؟ سمعت دقات خفيفة في صدري تجاهلتها، تذكرت أنني لم أتناول حبة الضغط اليومية. كان الوقت يدخل حثيثا نحو مساء مخلوط بعطر داكن يستلقي كمكيدة جديدة، أغمضت عيني أكثر، لكن الدقات الخفيفة عادت مرة أخرى بصوت أصبأ من ذي قبل، مُسمرة خطواتي على الإسفلت وهي تصرخ: لا أظن، لا أظن، لا..".
سنُلاحظ أن الكاتب هنا قد نجح بالفعل في صياغة قصة جيدة يستطيع من خلالها التعبير عن الحسرة الشديدة التي يشعر بها المواطن السوداني على ما آل إليه السودان بعد الاستقلال من تدمير لآمال المواطن السوداني، وتحويله إلى جثة تمشي على قدمين، لكن، رغم نجاحه في ذلك، ورغم انغماسه في الأحداث السيريالية التي من شأنها أن توصل إلينا المعنى بصدق، إلا أنه لم يكن يمتلك حسن التخلص من قصته، أو لم يصل إلى الطريق الفني السليم من أجل إغلاقها بشكل قصصي فيه من الفنية ما يحافظ على سرديتها القصصية؛ ومن ثم مال بالقصة بأكلمها إلى المُباشرة والسطحية والسذاجة بسبب نهاية قصته، وهو ما أفسد عليه الفكرة والسرد السابق رغم جودته.
إن المجموعة القصصية "مخطوطة البصاص بعد كابوسه الأخير" للقاص السوداني عادل سعد يوسف من المجموعات القصصية التي لا بد لنا من التوقف أمامها في حيرة غير قادرين على اتخاذ موقف حيالها سواء بالسلب أو الإيجاب؛ فالكاتب في حقيقة الأمر يمتلك أدواته السردية، وأسلوبيته، ولغته، ولديه المقدرة على التلاعب بآليات السرد، والاستعارة من الفنون الأخرى كالسينما، لكنه رغم كل ذلك يقدم لنا سردا- في أغلبه- فاترا، خاليا من الروح، اللهم إلا بعض القصص التي نجح بالفعل في امتلاك فكرتها ونجح في تحريك أحداثها بفنية عالية، كما سنلحظ أنه لم ينجح في ذلك إلا في القصص التي انطلق من خلالها إلى آفاق أرحب وأكثر فنية، أي في حال تحرره وشطحه في الخيال، وهو الأمر الذي لا بد أن يلجأ إليه أي كاتب من أجل تقديم أعمال فنية جيدة؛ فالشطح في الخيال والخروج عن المألوف من شأنه أن يقدم لنا فنا مُختلفا، وأكثر صدقا.
لكن، لعلنا لاحظنا أن القاص هنا حريص منذ عنوان مجموعته- وليس فقط منذ الصفحة الأولى- على تشكيل جميع حروف كلماته حتى نهاية الصفحة الأخيرة، ولسنا ندري ما هو السبب الذي جعل الكاتب حريصا على التمسك بتشكيل جميع حروف المجموعة بمثل هذا الشكل الذي لا أهمية، ولا ضرورة فنية أو غير فنية له، لا سيما أن هذا التشكيل كان بمثابة العبء على القارئ نفسه الذي سيجد صعوبة كبيرة أثناء القراءة بسبب مثل هذا الشكل غير المألوف، وهو ما لم يفسره الكاتب.
محمود الغيطاني
مجلة عالم الكتاب
عدد يونيو 2022م
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق