الثلاثاء، 14 مايو 2019

نمط من الأُسر.. حول أخلاقيات الفقر والتبني

يأتي الفيلم الأرجنتيني A Sort of family نوع من الأُسر أو Una especie de familia تبعا للعنوان الأصلي للفيلم- الذي شارك في إنتاجه كل من الأرجنتين، والبرازيل، وفرنسا- كنوع من الدراما العائلية التي هي بمثابة الصرخة المفزعة في وجه مافيا التجارة بالأطفال باسم التبني بسبب الفقر والعوز الشديد في بعض المجتمعات؛ مما يدفع أفرادها إلى الحمل فقط من أجل بيع أطفالهم كي يستطيعون مواجهة الفقر الذي يأكل حياتهم ويقضي على أي أمل لهم في العيش معيشة كريمة وإنسانية.
هؤلاء الأفراد الذين يعيشون هذا الفقر المدقع يؤمنون تماما بأنهم لا يمتلكون أي شيء، وأن حياتهم بالكامل عرضة للبيع والشراء ما داموا لا يمتلكون المال، ولعل هذا المعنى كان واضحا بشكل جلي حينما قالت مارسيلا Yanina Avila يانينا أفيلا- الأم البيولوجية- لمالينا Barbara Lennie باربارا ليني- من ستقوم بالتبني-: من يملك المال يملك كل شيء، نحن لا نملك أي شيء أبدا، أي أن الفقر والعوز الذي يعانون منه قد جعلهم مستسلمين تماما لما يعانونه؛ ومن ثم فهم يبيعون أي شيء من أجل المقدرة على استمرار الحياة، حتى لو كان البيع لأطفالهم الذين يعمدون أن يأتوا بهم للحياة من أجل بيعهم ومساعدتهم على استمرار حياتهم لمدة أخرى من خلال المال الذي يتلقونه مقابل هؤلاء الأطفال.
يبدأ المخرج Diego Lerman دييجو ليرمان الذي اشترك في كتابة السيناريو مع السيناريست Maria Meira ماريا ميرا فيلمه بمشهد يكاد يكون هو المشهد الأهم في الفيلم؛ لأنه سيكون المحرك الأساس لأحداث السيناريو فيما بعد، أي أنه اعتمد على المشهد الأول اعتمادا كاملا لجذب المشاهد والتأسيس لفيلمه حينما نرى الطبيبة مالينا متوقفة بسيارتها في منتصف طريق ما بينما تُفكر بعمق وقلق والكثير من التردد لاتخاذ قرار ما لا نعرفه، لكن القلق الشديد الذي يبدو عليها يجعلنا ننتبه إليها لمعرفة هذا القرار الذي ستتخذه، ولعل المخرج دياجو ليرمان قد أثبت من خلال هذا المشهد حرفيته كمخرج قادر على اجتذاب انتباه المشاهد وجعله منساقا لما يقدمه الفيلم؛ حيث يبدأ المشهد والشاشة مظلمة تماما بينما نسمع في الخلفية صوتا عميقا ومتضخما للأمطار التي تهطل، وصوت مساحتى السيارة المتحركتين ذهابا وإيابا، أي أنه كان يعمل على تهيئتنا من خلال الصوت العميق بينما الشاشة مظلمة تماما، ثم ينتقل إلى مالينا الجالسة في سيارتها في أحد الطرق بينما تفكر بعمق وقلق، لتخرج من السيارة وتظل تتحرك حولها ذهابا وإيابا دليلا على قلقها وترددها الشديد إلى أن تستقل سيارتها وتذهب بها.
من خلال هذا المشهد الطويل نسبيا نجح المخرج دييجو ليرمان التأسيس لانطلاق أحداث فيلمه الذي يتحدث عن حالات التبني ومخالفة القانون، والتبعات الأخلاقية المترتبة على هذا الفعل، حيث نعرف أن مالينا طبيبة في منتصف العمر ترغب في تبني طفل بعد أن وُلد طفلها ميتا، ومن ثم تتفق مع طبيب في إحدى القرى الأرجنتينية الفقيرة في مقاطعة ميسيونس على أن تتبنى طفلا من الأمهات الفقيرات الكثيرات اللاتي يحملن ويكن غير قادرات على إعالة أطفالهن، ورغم أن مالينا تدرك جيدا أن إجراءات التبني يشوبها الكثير من الشبهات غير القانونية، إلا أن رغبتها في التبني والأمومة تغلبها للمضي قدما في الأمر؛ مما يورطها في شبكة معقدة من المشاكل.
تتجه مالينا إلى القرية وحدها حيث يرفض زوجها ما تفعله، وهناك تقابل الطبيب كوستاس Daniel Araoz دانيال أروز الذي اتفق معها على الأمر، وأخبرها أن مارسيلا على وشك الولادة، وبالفعل تلد مارسيلا وتظن مالينا أنها قد حصلت على الطفل ولم يبق لها سوى إجراءات التبني. هنا تكتشف أنها ضالعة في مستنقع موحل لتجارة الأطفال حينما يظهر أحد أقارب الأم مارسيلا ويدعي أن زوج مارسيلا قد حدث له حادث في البرازيل حيث دهس أحدهم وسُجن، وبالتالي فعلى مالينا أن تساعد أسرة مارسيلا بمبلغ عشرة آلاف دولار.
تكتشف مالينا أنها وقعت في عصابة فعليا تعمل على ابتزازها، وباتت أمام خيارين: إما أن تعود إلى بيونيس آيرس حيث تعيش من دون الطفل، أو تدفع العشرة آلاف دولار وتأخذ الطفل معها، أي أن الأمر تحول إلى صفقة مالية؛ الأمر الذي يجعلها تثور غاضبة عليهم جميعا وتقول لهم: إنها لم تأت إلى هنا من أجل شراء طفل، بل من أجل تبنيه، وأنهم لم يتفقوا على ذلك من قبل، لكن القريب يُصرّ على دفعها للمبلغ، كما يخبرها أيضا أنها لا يمكن لها استلام الطفل إلا إذا كان زوجها موجودا.
تفكر مالينا مليا في الأمر وتمنعها أخلاقياتها من الاستمرار قدما في هذه الصفقة غير الأخلاقية لكن الطبيب كوستاس يحاول إقناعها بقوله: هل تظنين أني أفعل ذلك من أجل المال فقط؟ أرى الأطفال يموتون في المشفى. الفقر هو أكبر مأساة على الدوام يا دكتورة، هنا وهناك وفي كل مكان. ولأنها ترغب فعليا في الطفل تتأثر بما قاله لها الطبيب، ومن ثم تُعيد التفكير في الأمر، وتحاول إقناع زوجها بإعطائها العشرة آلاف دولار إلا أنه يؤكد لها أن هذا ابتزاز وأنها وقعت في عصابة للمتاجرة بالأطفال، وإذا ما دفعت لهم اليوم لن يكون هذا هو نهاية ابتزازها من قبلهم، لكنها تُصرّ وتخبره أنها لن تعود إلى بيونيس آيرس من دون الطفل؛ مما يدفعه للرضوخ لرغبتها والذهاب إليها.
تظن مالينا أن الأمر قد انتهى عند هذا الحد، لكنها تكتشف أن إجراءات التبني لا يمكن لها أن تنتهي إلا من خلال ادعاء زوجها بأن الطفل هو ابنه البيولوجي حينما تخبرها الممرضة: ستسجلين الطفل باعتباره ابن زوجك ومارسيلا، ثمرة علاقة قام بها خارج الزواج، ستذهبين إلى المحاكم في بيونيس آيرس بعد عامين لتسجلينه باسمك مقابل الوقت الذي أمضيته لرعايته وحمايته.
هنا تشعر مالينا أن الأمور تتعقد أكثر مما ينبغي، وأنها تدخل في متاهة غير قانونية وغير أخلاقية مُحاطة بالكذب والتواطؤ من الجميع، لكنها تضطر للموافقة حينما تقول لها الممرضة: إذا رفضت ولم تأخذينه؛ فهناك أزواج كثيرون ينتظرون دورهم!
يصبح الأمر واضحا تماما أمام مالينا، وبالتالي بات اتخاذ القرار يخصها وحدها، فإما دفع المال والموافقة على شروطهم غير القانونية، أو العودة من دون الطفل، ولأنها لا تتخيل إمكانية عودتها من دون طفل ستضطر للموافقة صاغرة على كل ما يطلبونه.
يصل ماريانو Claudio Tolcachir زوج مالينا إلى القرية ومعه المبلغ المطلوب، وهنا يُفاجأ بأن الطفل لا بد له من التسجيل باسمه باعتباره الأب الحقيقي له من علاقة غير رسمية، لكنه أمام إلحاح الزوجة يرضخ بدوره ويدخلا الدائرة لاسيما بعدما رأى الطفل وشعر بتعلقه به مثلما تعلقت به الزوجة.
أثبت لنا المخرج دييجو ليرمان قدرته على إدارة الفيلم في العديد من المشاهد، ولعل المشهد الذي كان مطلوبا فيه من مارسيلا/ الأم البيولوجية الخروج بالطفل حاملة إياه من المستشفى للذهاب من أجل تسجيل الطفل كان من المشاهد المهمة والمفصلية والمؤثرة في الفيلم؛ حيث رفضت مارسيلا رفضا قاطعا حمل الطفل بين يديها أو مجرد النظر إليه بينما هي تبكي قائلة: هذا غير عادل، لا أرغب في حمله. بينما مالينا ترجوها بأن تحمله أثناء الخروج والتسجيل حتى لا تثير الشبهات حول إجراءات التبني.
إن هذا المشهد الذي أدته الممثلة يانينا أفيلا كان من المشاهد القوية التي برعت في أدائها؛ حيث رفضها الصارم في مجرد النظر للطفل أو حمله حتى لا تتعلق به، لاسيما أنه سيفارقها بعد لحظات إلى غير عودة، ولعل مشهد حملها للطفل بعد إرغامها والخروج به من المشفى كان من المشاهد المعبرة حيث تحمل الطفل بين يديها وكأنه لا يخصها غير راغبة في النظر إليه حتى لا تتعلق به؛ ومن ثم تتراجع عن الصفقة التي تُعد بالنسبة لها حيوية من أجل استمرار الحياة والحصول على المال.
يؤكد لنا الفيلم أن المجتمع بالكامل في هذه القرية يتواطأ على مخالفة القانون والمعايير الأخلاقية، وهو ما تورط فيه كل من مالينا وزوجها ماريانو؛ فالمحامية والطبيب، والممرضة، والموظفين الذين يقومون بإنهاء إجراءات التبني، والأم الحقيقية وأسرتها جميعا لهم نصيب من هذه الصفقة التي تتم، وجميعهم سينالون قدرا من المال المدفوع في الطفل، أي أن المجتمع بالكامل قد بات يتاجر في الأطفال يساعدهم في ذلك من يقوم بالتبني؛ لأنه يصبح شريكا ضالعا في هذه الجريمة التي يسببها الفقر الذي يعاني منه المجتمع.
ينتهي الزوجان من إجراءات التبني ويتجهان للعودة إلى بيونيس آيرس مطمئنان ومعهما الطفل، لكنهما يفاجآن في الطريق بنقطة تفتيش؛ الأمر الذي يجعلهما خائفان؛ لأنه إذا كان بالفعل الأب البيولوجي للطفل فأين الأم البيولوجية، ولِمَ ليست معهما، وحينما تقول له مالينا: سنخبرهم أنها في المشفى وستلحق بهما يقول لها: هل تعتقدين أن الشرطة ستصدق ذلك؟ كل من كانوا في القرية متواطئين فيما حدث، ويعرفون أنه ليس قانونيا، تفكر مالينا في رشوة الشرطة لكن الزوج يرفض تماما حتى لا يتورطا في المزيد من المشاكل؛ فتخفي الطفل أسفل الكرسي الخلفي للسيارة وتغطيه وتضع فوقه القفص الذي فيه قطهما.
حينما توقفهما الشرطة يستمعون إلى صوت في خلفية السيارة، ويكتشفون الطفل؛ الأمر الذي يؤدي إلى اعتقالهما. ربما كان الحوار الذي دار بين الزوجين في الاحتجاز من النقاط المحورية والمهمة في أحداث السيناريو وتوضيح العديد من الفجوات؛ فنحن لا نفهم السبب في تشبث الزوجة بالطفل واستماتتها عليه بهذا الشكل، لكن حينما يثور الزوج ماريانو على مالينا بسبب توريطهما في الأمر وتقول له: أنت تلومني على موت ابننا، فيرد عليها: ماذا؟ لقد وُلد ميتا، لم أقل أبدا أنها غلطتك، كنا سييءالحظ، هذا كل ما في الأمر. هنا نفهم السبب الرئيس لأفعال الزوجة، أي أن الزوجة تتعلق تعلقا مرضيا بتبني هذا الطفل رغم مخالفتها لأخلاقياتها وللقانون بسبب ظنها أن الزوج يلومها على موت طفلهما، وهو الأمر الذي يُفسر إصرارها منذ بداية الفيلم على التبني رغم أنها- من خلال سلوكها- يبدو لنا أنها لا توافق على ما تفعله في قرارة نفسها.
يخرج الزوجان من الاحتجاز ويتم توقيف الطبيب كوستاس والمحامية عن أي إجراءات تبني مرة أخرى، ويذهب الطفل إلى أحد الملاجئ، وبينما نرى مالينا في سيارتها عائدة إلى بيونيس آيرس وحيدة تتوقف فجأة لتعود مرة أخرى إلى القرية وقد عزمت على أمر ما. تذهب مالينا إلى الملجأ وتدعي أنها قد أرسلتها المحكمة لرؤية الأطفال في الملجأ والاطمئنان عليهم، ولأن المشرفة على الملجأ لا تصدقها تطلب منها الانتظار حتى تتصل بالمحكمة وتتأكد من الأمر. توافق مالينا وترى الطفل فتأخذه وتهرب به مورطة نفسها أكثر في المزيد من المخالفات القانونية.
تتجه مالينا بالطفل إلى أمه مارسيلا التي تسكن على حدود المدينة في الصحراء في بيت من أعواد النخيل وأبواب من الصفيح، حيث يصور المخرج حياة مارسيلا غير الآدمية التي لا يمكن أن تُحتمل، ولكن مارسيلا بمجرد رؤيتها لمالينا تطلب منها الذهاب، إلا أن مالينا ترجوها أن تتدخل للتحدث إليها، وفي الداخل تحكي لها ما حدث، وتخبرها أنها لم يعد لها من الممكن أن تعود بالطفل معها، كما أنها لم تستطع ترك الطفل في الملجأ؛ ومن ثم سرقت الطفل وعادت به إليها؛ لأنها الأولى به من الآخرين.
ترفض مارسيلا رفضا تاما أخذ الطفل قائلة لها: أنت ترين كيف أعيش، لا مكان هنا لطفل جديد، لكن مالينا تحاول الاقتراب منها ووضع الطفل بين يديها؛ لتتلقاه الأم بمضض وتبدأ في تأمله.
إن مشهد تناول مارسيلا لطفلها والانطلاق به خارجة من العشة الصفيح للخارج حيث الصحراء، وتحركها ذهابا وإيابا بشيء غير قليل من القلق والتردد بين مشاعرها كأم ترغب في الحصول على طفلها والاحتفاظ به، وبين رفضها أخذ الطفل مرة أخرى بسبب الفقر الشديد وعدم قدرتها على إعالته كان من المشاهد المؤثرة في الفيلم الذي يتحدث عن جريمة الفقر في حق الجميع بما فيهم الأمهات اللاتي يبعن أطفالهن لعدم القدرة على الحياة؛ ومن ثم تستسلم مارسيلا وتخرج ثديها للطفل لترضعه بينما تقف مالينا دامعة متأملة لهما.
الفيلم الأرجنتيني نوع من الأُسر A Sort Of Family من الأفلام المؤلمة القاسية والصادقة التي نجح فيها مخرجها دييجو ليرمان في عرض الفقر وما يؤدي إليه من التجارة بكل شيء، محذرا من العوز الذي يفضي إلى تشوهات نفسية ومجتمعية تؤدي للتجارة في الأطفال باسم التبني وتكوين شبكات من المافيات التي تكون مستعدة للقضاء على كل المُثل من أجل المال فقط.



محمود الغيطاني
مجلة كافيين
العدد الأول






ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق