الخميس، 30 مايو 2019

الملاك التائه.. إشكالية السرد الحائر

ربما كانت القصة القصيرة بشكلها الكلاسيكي الذي كتبه نجيب محفوظ، وإحسان عبد القدوس، وغيرهما من كتاب الأربعينيات والستينيات من القرن الماضي تمتلك في خواصها الكثير من السمات المميزة لها، وهي السمات التي تختلف عن تطور آليات السرد وشكله واللعب به فيما بعد؛ فالقصة القصيرة التي كتبها هذان الكاتبان وغيرهما- باستثناء يوسف إدريس- كانت تميل إلى خصائص وسمات الرواية أكثر؛ حيث الجملة الطويلة، المرتخية- إذا جاز لنا التوصيف- ذات النفس الطويل، وهي من خصائص السرد الروائي، كما نلاحظ في هذه القصص أنها غير مكثفة على الموضوع الذي يتحدث فيه القاص، بل هناك الكثير من التفريعات والتشعبات التي قد تجعله يدخل في حكاية أخرى بعيدة تماما عن الحكاية الأصلية ثم سرعان ما يعود إلى حكايته الأساسية التي بدأ بها قصته، أي أن القص كانت له تفرعات كثيرة من الممكن أن يتفرع إليها ثم يعود إلى خطه الأساس، ورغم أن هذه التفرعات كانت تبدو لها صلة بالموضوع الرئيس- وهي صلة بعيدة جدا- إلا أن القص- الذي لا يحتمل كل هذا التشابك، والتفرع، والتأمل- في حقيقته لم يكن مكتملا؛ ومن ثم لم يلتفت إليه أحد لعدم نضجه.
ربما لهذا السبب لم يبرع محفوظ، وعبد القدوس ومن حذا حذوهما في القصة القصيرة واقتصر إنتاجهما المميز في الرواية فقط، خلافا ليوسف إدريس الذي احترف كتابة القصة وحده، وتربع على عرشها في هذه الفترة، وبرع فيها؛ حيث اعتمد- إلى حد بعيد- التكثيف، وقصر الجملة السردية، وجعل القصة أشبه بالومضة، أو فلاش الكاميرا الذي سرعان ما يختفي بمجرد وميضه، لكنه يترك أثرا فنيا لا ينمحي؛ فلم نر إدريس يحاول أن يخرج عن الموضوع الرئيس الذي يتحدث عنه في قصته ليذهب إلى موضوع آخر قريب الصلة أو بعيدها عن قصته الأساسية، ولعل هذا ما جعل إدريس حيا في مجال القصة القصيرة حتى اليوم.
لكن مع انتهاء القرن الماضي بكل ما له وما عليه، ومع تطور فنون السرد تطورا كبيرا لم نكن نتخيله- إذا ما كنا لم نزل في قرنهم الماضي-؛ حيث أخذت فنون السرد الكثير من الفنون الأخرى لاسيما السينما، وغيرها من الفنون، وأصبح السرد لدى الكثيرين من الكتاب مجرد لعبة ممتعة من الممكن لهم أن يجربوا فيها كل أنواع التجريب؛ ليبتكروا أشكالا جديدة في السرد الروائي والقصصي، بل بات التحليق عاليا في سماء التجريب والتجديد سمة من سمات السرد الأدبي. نقول: إنه مع انتهاء هذا القرن بأشكاله الفنية والسردية تماما؛ بات ما كتبه هؤلاء يمثل تاريخ السرد المصري، أو العربي. نستدل منه على كيفية البداية والتطور؛ ومن ثم فنحن كنقاد لا نستطيع اليوم- مثلا- تناول هذه الأعمال الأدبية من خلال المعايير الآنية التي نعرفها للفنون السردية وإلا نكون قد ظلمنا كثيرا هذه الأعمال وأصحابها؛ فهذه الأعمال حينما يتناولها النقد اليوم لا بد أن يراعي الناقد الفترة التاريخية التي كُتبت فيها ومن ثم فهو يقيمها من خلال فترتها التاريخية وليس من خلال فترته الآنية.
أما إذا ما رأينا كاتبا اليوم يكتب القصة القصيرة بنفس آليات القصة الستينية التي رأيناها لدى محفوظ أو عبد القدوس؛ فلا بد أن تنتابنا الدهشة من هذا الكاتب الذي ما زال يعيش في فنيات القرن الماضي وكأنه لم يطلع حتى اليوم على ما وصل إليه السرد الأدبي من تطور كبير من حيث الشكل، والبناء، واللغة السردية؛ وبالتالي سيكون هذا الكاتب أشبه بأهل الكهف الذين خرجوا من الكهف فجأة ليبدأوا في التعامل مع المجتمع المحيط بآلياتهم وثقافتهم القديمة؛ وبالتالي يفقدون قدرتهم على التواصل مع من يحيطهم، وتنشأ أزمة عدم فهم كل منهما للآخر. كذلك الحال بالنسبة لهذا الكاتب/ الكهفي الذي سيفقد القدرة الحقيقية على التواصل مع القارئ لأنه ينطلق من منطلق ماضوي يختلف تماما عن المنطلق الذي ينطلق منه القارئ اليوم.
مثل هذه الأمور والأفكار كانت تدور في ذهني أثناء قراءة المجموعة القصصية "الملاك التائة" للقاص أشرف ضمر الذي اعتمد الشكل القديم في سرده القصصي بشكل نموذجي، ولم يحاول الخروج من إطاره في أي قصة من قصص المجموعة؛ فبدا لنا محفوظيا، أو قدوسيا بامتياز؛ فلا تجديد، ولا محاولة للتلاعب، أو تكثيف السرد، أو حتى محاولة لتقصير الجملة لتبدو جملة قصصية وليست جملة روائية.
لعل أهم ما يلفت الانتباه في هذه المجموعة القصصية أنها قد كُتب على غلافها توصيف "قصص"؛ لأننا حينما نبدأ في قراءتها قصة بعد الأخرى سيتبين لنا أنها تصلح للانتماء إلى جنس الرواية منها عن القصص القصيرة؛ فالعالم الرابط بين القصص جميعا واحد لا يختلف، سواء من حيث الزمان، أو المكان/ روض الفرج، أو حتى الشخصيات التي تأتي في كل قصة كما هي في القصة التي سبقتها وبنفس أسماءها وبنفس مكونات الشخصية وكينونتها، أي أننا نستطيع- تجاوزا إلى حد ما- اعتبار هذه المجموعة رواية تم تقسيمها- من دون ترتيب واحترام للتسلسل الزمني- إلى مجموعة من الأقسام التي يحمل كل قسم منها عنوانا مستقلا بذاته، وإن كان العالم الفني هو نفس العالم من حيث السارد، والأب، والأصدقاء، والأم، والجيران، والإخوة، والمقهى، وحي روض الفرج، ومقام سيدي الحلي ودرويشه، وغير ذلك من مفردات العالم الفني الذي يتحدث فيه القاص؛ ولعل هذا ما جعلنا نتساءل: ما الداعي لأن يكتب القاص صفة "قصص" على الغلاف، وما الداعي الحقيقي الذي جعله يقسم هذا العالم إلى ست قصص تحمل كل منها عنوانا مستقلا بدلا من تقديمها كرواية مع بعض التعديلات في البناء والزمن؟
إن القصص الست إذا ما أجري عليها بعض التعديلات البنائية في فن السرد، والالتفات إلى البناء الزمني تصبح رواية، ورواية جيدة جدا، أما أن يتم تقسيمها بمثل هذا الشكل؛ فهو ما أفسدها فنيا، ولم يكن في صالحها مطلقا، وبات بمثابة ليّ عنق السرد الروائي كي يصبح سردا قصصيا مشبعا بلغة وروح الرواية، وأبعد ما يكون عن القصص القصيرة.
لكن هل معنى ذلك أن القاص أشرف ضمر يفتقد المقدرة السردية؟
إن القارئ المتأمل لمجموعة "الملاك التائه" يتأكد له أن القاص يحمل من الموهبة السردية الكثير جدا مما يؤهله لأن يكون روائيا وليس قاصا؛ كما أن جمله وعباراته، ولغته فيها الكثير من الزخم والثراء سواء على مستوى المفردات، أو على مستوى الإحالات، بل والتوصيف الذي يمكن أن نطلق عليه- هدير السرد- أي أنه يمتلك من القدرة على السرد ما لا يمتلكه الكثيرون من الساردين الذين يقدمون لنا الكثير من الروايات والقصص القصيرة، لكن هذا السرد الشهوي- إذا جاز لنا التعبير- فقد بوصلته تماما ووضعه السارد في إطار لا يناسبه وتناسى إطاره الحقيقي عن عمد أو غير قصد- ربما لأنها الكتابة الأولى له؛ الأمر الذي جعله غير قادر على تمييز الطريق الذي لا بد أن تسلكه هذه المقدرة السردية الهائلة-.
الروائي إحسان عبد القدوس
القارئ لمجموعة "الملاك التائه" سيلاحظ أن الجملة الوصفية الغنية ستأخذه إلى نهايتها رغم طولها، بل إن السرد بالكامل سيستغرق القارئ معه حتى النهاية؛ نظرا للمقدرة التي يمتلكها السارد على فعل ذلك من خلال سرد سلس لن يشعرك لا بطول الجملة، ولا بطول قصص المجموعة، ولا بطول عدد صفحات المجموعة، ولنتأمل: "في البداية ظنته حلما في غفوتها، لكنها سمعت نباح جرو صغير، ثم اسمها يتكرر بصوت أبي واهنا ضعيفا مقترنا بالطرقات البطيئة الثقيلة، عندما فتحت الباب بلهفة حقيقية هالها ما رأت، لم تكن حالة أبي مزرية فحسب، لقد كان شبحا عائدا من كارثة، شعر رأسه طويل كذلك لحيته، الشعر كله كان قذرا ومغبرا ومليئا بالرمال والدماء، ومنكوشا تماما مثل إنسان بدائي من العصر الحجري، عيناه غائرتان زائغتان وبهما دموع متكلسة، في يمناه سلاحه الفارغ والرمال ملتصقة بفعل العرق على مقبضه، وفي يسراه جرو صغير متسخ، وفي إحدى قدمي أبي كانت فردة من بيادة لها لسان مشقوق مثل لسان الأفعى، وخارج من رباطها الطويل المقطوع، وفي القدم الأخرى جورب ممزق من عند الكعب والأصابع، بينما كان الأفرول الزيتي العسكري على جسده مهترئا يشبه الأسمال وبلا أزرار ومليئا بالبقع السوداء وملطخا بالدماء والشحم من أثر الزحف والانبطاح على إسفلت يونيو الجحيمي الملتهب أثناء الانسحاب"، من هذا الاقتباس تتضح لنا الجمل الوصفية الطويلة جدا غير المتناسبة مع السرد القصصي رغم أنها تبدو غير ثقيلة، بل وبارعة في التوصيف، ولعل الجملة السردية الطويلة/ الروائية، واستغراق الكاتب في العديد من الأحداث المتشعبة في القصة الواحدة هو ما جعل القصص طويلة جدا بالنسبة إلى القصة القصيرة فنجد القصة الواحدة قد تصل إلى أربعين صفحة، وهذا عدد كبير جدا من الصفحات بالنسبة للسرد القصصي؛ لذلك كانت المجموعة عبارة عن ست قصص فقط بلغت 186 صفحة من السرد.
في قصة "أوشا" التي استقى الكاتب عنوانها من اسم ماركة قديمة لماكينات الخياطة، يتحدث السارد من خلال ضمير المتكلم- وهو الضمير المسيطر على كل قصص المجموعة- عن ذكريات الحرب والهزيمة والنكسة، ثم الاستنزاف والانتصار في 1973م من خلال أبيه المحارب الذي ظل مجندا تسع سنوات كاملة من الحرب، وأمه التي كانت تعاني غياب الأب وتعمل على الماكينة ليل نهار من أجل الإنفاق على أسرتها. يتناول السارد الحرب بشكل فيه قدر كبير من الإنسانية وإن كان قد تعرض- بشكل يخلو من المباشرة ويتسق مع السرد الفني- إلى وهم الانتصار في حرب 1967م وحقيقة النكسة: "فجأة ينقطع الإرسال عن أم كلثوم وتتبدل الأغنية إلى مارشات عسكرية حماسية، ونشرات إخبارية مكثفة عن الحرب التي بدأت، وعن طائرات العدو التي سقطت وعن الجيش العربي الذي يزحف إلى تل أبيب لإبادتها الآن، وعن توغل القوات داخل إسرائيل، فجأة تنقلب الدنيا رأسا على عقب فتزغرد أمي وتهرول إلى الحارة حافية لتجد الجميع فرحا بالنصر وإبادة العدو، بل من فرط حماس فتح الله البقال، الشاب الصعيدي اليافع الذي لم يمر شهر على استقراره في الحارة، وزع الكازوزة مجانا على الجميع احتفالا بسحق الأعداء"، إذا ما تأملنا هذا المشهد الذي يصور الانتصار، وهو الانتصار الذي تم الإعلان عنه بشكل رسمي من خلال الإذاعة الرسمية التي أكدت زحف الجيش العربي إلى تل أبيب، وتوغل القوات داخل إسرائيل، ثم تأملنا المشهد التالي سيتضح لنا فداحة الأكذوبة التي كذبتها الدولة والقوات المسلحة على الشعب في نكسة 1967م حينما يقول الأب بعد عودته مهزوما: "إحنا ما اتهزمناش، ما حاربناش أصلا عشان نتهزم، اليهود خدونا على خوانة، عارفة؟ لما كنا راجعيين وبننسحب وماشيين في عز شمس يونيو على إسفلت العريش اللي زي الجحيم- ما احنا كان لازم نمشي عالأسفلت عشان ما نتوهش ونضيع في الصحرا- كانوا بيضربونا بالطيارات، يحرقونا بالنابالم، كنا كلنا بننبطح عالأرض على بطننا وشحم الإسفلت وسخونته بعد ما ساح من الشمس والنابالم بياكل صدورنا". هنا يتأكد لنا من خلال الاقتباسين أن ثمة خديعة كبرى حدثت في حرب النكسة، وهذه الخديعة كان مصدرها نظام عبد الناصر الذي كذب على المواطنين بالانتصار والتوغل في إسرائيل رغم أنهم كما أكد جميع الجنود لم يحاربوا أساسا كي ينهزموا.
هذا الشكل من الهزيمة لم يؤد بأبي السارد إلا إلى الكثير من الهواجس لدرجة أنه حينما استمع إلى اسكتش "عودة الندل" لثلاثي أضواء المسرح في الراديو يسأل زوجته بتوجس: "هو إحنا أندال عشان انسحبنا؟ تفتكري كلمة عودة الندل دي يقصدونا إحنا بيها؟ فجأة يثور ويضرب الجدار بقبضته القوية، يبكي وهو يتساءل بحسرة: طب كنا نعمل إيه يعني؟ ما هم اللي قالوا لنا انسحبوا وارجعوا، يا ريتني كنت مت قبل ما أشوف الذل ده كله!". أي أن الهزيمة الحقيقية كانت من القيادات العليا وليس من الجنود الذين كانوا راغبين في استمرار القتال حتى الموت.
في قصته "دانتيل ليلى مراد" ثمة نوستالوجيا أو محاولة حقيقية للهرب من الوقت الآني تسيطر على الكاتب الذي يبدأ قصته من بيته في روض الفرج ومحاولته للنوم بينما يستمع إلى حديث أمه وجارتيها أم كريستين، والخالة جارية اللتين تعرفنا عليهن في القصة الأولى، ونلاحظ أن القاص هنا يهدر الكثير من السرد عن حكايات الأم والجارتين، ثم لا يلبث أن ينتقل إلى الحديث عن الحارة والبقال الذي يعيش فيها ويعطي بضاعته لأهل الحارة بالدين قبل أن ينتقل إلى الخيط السردي الأساسي الذي كتب قصته من أجله، وهو تخيل ليلى مراد حينما يبدأ في الخلود إلى النوم حيث تهبط إليه من السماء لتأخذه معها إلى عالمها الخاص بها وتغازله هي وصديقاتها، بل وتتعامل معه باعتباره أنور وجدي، ويتضح لنا من القصة أن الكاتب يريد في النهاية أن يخلص إلى أن زمن ليلى مراد وأنور وجدي كان أكثر لباقة، وتهذيبا وتمسكا ببروتوكولات التعامل مع الآخرين، بل وأنضج فنا وثراء من الزمن الذي يعيش فيه الكاتب في وقته الآني، نلاحظ أن الكاتب يبرع في وصف مشاهده مع ليلى مراد في عالمها ويصور العالم كله بالأبيض والأسود - تعبيرا عن عالمها الماضي- بينما هو الوحيد الملون بينهن؛ لذلك كن معجبات بألوانه الزاهية. يتضح التضاد بين الزمن الماضي وزمن السارد الآني حينما نقرأ: "أشدها بعنف من يدها، وتعتقد أنني سأخطفها كما فعلتْ هي، بل ربما اعتقدت أنني ذاهب بها إلى عش الغرام، تغني لي: على مهلك يا وحيد، على مهلك حاسب على مهلك، واحدة واحدة علشان النار اللي في قلبك تفضل قايدة. أتوقف، أنظر إليها في عينيها مباشرة، أخبرها وأنا أقسم لها: طب والله العظيم تلاتة بالله العظيم أنا لست وحيد هذا، أنا لا أنتمي إلى زمنك وعالمك الجميل يا ليلى، أنا همجي للغاية، قبيح جدا وأنتمي لعالم ملون مليء بالقمامة والفساد، عالم شن حروبا وحرك ثورات وخاض معارك دموية ولا أخلاقية، ولم يجن من ذلك كله شيئا ذا قيمة، بل عاد مكللا بالهزيمة والانكسار، لم يعد هناك أفندية ومدموزيلات بل عندي في عالمي نصابون ونخاسون وأكلة لحوم بشر ومصاصو دماء وعاهرات رخيصات، حتى موسيقاكم الناعمة تلك استبدلناها بمدافع مهرجانات صاخبة وأغان بشعة".
في هذا الاقتباس يتضح لنا حالة النوستالوجيا المسيطرة على السارد؛ ومن ثم كان هذا الحنين إلى عالم ليلى مراد، أو ما نُطلق عليه زمن الفن الجميل، حيث اللياقة والأدب والتهذيب المفتقدين الآن في عصرنا الحالي، لكن الكاتب فضل بدلا من الدخول في هذا العالم مباشرة الثرثرة التي لا داعي لها ولا علاقة فنية لها بهذا العالم حينما تحدث حديثا طويلا عن أمه والجارات والحارة التي يسكنها ثم ينتقل إلى هذا العالم الذي عاد منه باستيقاظه من النوم، مستخدما في ذلك جمله السردية الطويلة مخالفا في ذلك أسلوب السرد القصصي المتميز بالجملة البرقية، والروح القصيرة الخاطفة التي تبدو وكأنها وخز الإبر.
في قصة "امرأة برائحة الليمون" يهتم القاص بالحديث عن الجارة "الخالة جارية" صاحبة البيت الذي يسكن فيه وجارة الأم، وهي الشخصية التي تم ذكرها من قبل في القصتين السابقتين في العديد من المواقف، وإن كان في هذه القصة يهتم بها وبتفاصيل حياتها منذ جاءت من قريتها طفلة صغيرة ليزوجها أخوها لعبد الهادي "تخليص حق" حينما تعسر الأخ في سداد دينه لعبد الهادي. نلاحظ في هذه القصة أن السارد يهتم كثيرا بالتأريخ للمكان والاهتمام بتفاصيله مما لا يمكن أن يتناسب مع القصة القصيرة؛ فالقصة غير معنية بتفاصيل الأمكنة والتأريخ لها، كما بدا لنا السرد وموضوعه متأثرا كثيرا بالقصة المحفوظية التي تهتم بالحارة وتفاصيل المعيشة فيها؛ فنعرف من خلال القصة حياة الخالة جارية، ومقتل زوجها، ثم انتقال ملكية المنزل إليها بميراث زوجها، وكيف وجدت نفسها من دون من يعيلها فاضطرت أن تصنع عصير الليمون لتبيعه لأهل الحارة.
تشعب السرد إلى الكثير من الحكايات التي قد تُنسي القارئ الموضوع الأساس هو ما نلاحظه بوضوح في قصة "حديقة السيدة الأولى"؛ فثمة العديد من الحكايات التي لا رابط حقيقي بينها، كما أن السرد لا يسير في اتجاه واحد بل يتشعب إلى الكثير من الاتجاهات؛ الأمر الذي يؤثر بالسلب على القصة رغم أن القاص لديه النفس الحكائي الطويل والقدرة على الحكاية المشوقة، لكنه لا يستخدم ذلك في التركيز على قصته الأساسية ويضيع من بين يديه السرد في حكايات أخرى، ما بين حكاية نقل سوق الجملة في روض الفرج وكيف تم ذلك من خلال حصار الشرطة والجيش لعدة أيام، ثم الانتقال إلى الخالة جارية وذكر مقتل زوجها عبد الهادي، ثم الحديث عن عم فتح الله البقال الذي قرأنا عنه في قصص سابقة، فموت والد السارد واعتماد الأم عليه في الدخل، وانتقاله ما بين وظيفة إلى أخرى، ثم انضمامه إلى قصر ثقافة روض الفرج، وقصته مع الأصدقاء الذين تعرف عليهم في قصر الثقافة ومحاولاتهم في الكتابة وفشلهم وغير ذلك.
ثمة ملاحظة مهمة في هذه القصة هي: إن الكاتب لجأ أحيانا إلى المباشرة والتقريرية مما لا يتناسب مع الفن السردي سواء كان قصصيا، أو روائيا حينما نقرأ حديث كمال عن رواد وسط البلد: "كلهم فنانون فاشلون مثلنا، الفارق بيننا وبينهم أننا نعترف بتواضع موهبتنا وفشلنا على المستوى الإبداعي ويشفع لنا أننا نحب الفن والأدب ونتعلق به ونقرأ ونحاول الكتابة، أما الموبوءون بوسط البلد، فلا يعترفون بضآلتهم، ويرون في أنفسهم دائما أنهم جاءوا كوكبنا عن طريق الخطأ، وأن نوبل والأوسكار والميوزيك آوورد وسائر الجوائز العالمية تلك، دائما تضل طريقها إليهم، وأن كل من صارحهم بحقيقتهم أو اختلف معهم- ولو في نقاش بسيط- جاهل ورجعي، إنهم ينشدون الحرية لهم فقط دون سواهم، يريدون أن يحطموا ثوابت الأمة بأن يسحقوها بأحذيتهم، يريدون أن يغيروا العالم، صحيح، لكن ليس للأفضل، ولا للأسوأ- من باب الأمانة- فقط يريدون تغييره بطريقتهم هم ليناسبهم وحدهم، وليذهب غيرهم للجحيم، يتجاذبون فيما بينهم- بل ويتخاطفون بأقنعة جميلة- كل من ترك قريته وجاء إلى القاهرة طلبا للعلم أو العمل، سواء من الشباب الغض أو البنات العفيفات، وبين عشية وضحاها يحولونهم إلى نسخ مشوهة منهم، تحت ادعاء الانفتاح والحرية، ثم يتركونهم للبحث عن ضحية جديدة، والأخيرون سذج يستحقون ما يجري لهم تحت ادعاءات في ظاهرها الحق والحب والجمال والآداب العظيمة، وفي باطنها الانفلات الأخلاقي والخمور والمخدرات والجنس بل والشذوذ والإلحاد أحيانا، لن أبالغ لو صارحتك بأنهم يتمثلون لي في صورة مصاصي الدماء، أو على الأقل القتلة التسلسليين ذوي النمط الواحد في القضاء على فرائسهم، ألم أقل لك إن الجهل وانعدام الضمير والأخلاق، كلها أشياء تختصر نفسها هنا وتقدمها تحت اسم مستعار "نخبة وسط البلد"؟".
أشرف ضمر
هذا الاقتباس حينما نقرأه نشعر أننا أمام مقال ينتقد أحوال وسط البلد وليس أمام سرد قصصي حتى لو جاء على لسان أحد الشخصيات القصصية مبدية رأيها فيما يدور حولها. صحيح أننا لا ننكر صحة هذا الكلام الذي كثيرا ما يثرثر به الكثيرون من المثقفين في وسط البلد أيضا، وصحيح أننا نعلم كل ما سبق أن قرأناه، لكن هذا الحديث مكانه ليس السرد القصصي ولا الروائي، بل مقالات الرأي أو جلسات الثرثرة في المقاهي فقط، أما السرد الفني فهو بعيد كل البعد عن مثل هذا الحديث، وإذا ما رغبنا في التعبير عنه لا يمكن ذلك إلا من خلال أحداث وشخصيات ومواقف تستطيع التعبير عن كل هذه الصفات من دون ذكرها بشكل مباشر، بل من خلال الأحداث والمواقف فقط؛ كي يصل هذا المفهوم إلى القارئ في النهاية.
في قصة "المجذوب والديك المسيحي" يعود القاص إلى الحديث عن الحارة في روض الفرج ذاكرا الشخصيات التي سبق أن عرفناها في القصص السابقة، ويركز هذه المرة أيضا على الخالة جارية التي يرى أحد المجذوبين المقيمين على عتبة مقام سيدي الحلّي أن الولي قد أخبره بمن قتل عبد الهادي زوج الخالة جارية، وأنه يحتاج إلى ديك مسيحي كي يذبحه ويبقر بطنه ليخرج منها بالدليل الذي سيدله على القاتل، وينتقل السارد إلى الخالة أم كريستين التي تجعل ابنتها تسرق الديك المسيحي لتعطيه لجارتها الخالة جارية كي تعرف من الذي قتل زوجها، ويتوصل الدرويش في النهاية إلى أن جابر شقيقها هو من قتل عبد الهادي. يحكي السارد هذه القصة الطويلة على لسان الطفل الصغير- وهو السارد الأساس في جميع القصص من خلال مراحل عمرية مختلفة- حينما يدخل إلى مقام سيدي الحلّي وينغلق عليه الباب حينما لا ينتبه إليه أحد، ويرى من خلال كشاف صغير مجموعة كبيرة من الأوراق التي دون فيها الدرويش الحكاية بالكامل، لكن رغم حيوية السرد الذي يتميز به أشرف ضمر إلا أن سرده لا يمكن له أن يتناسب مع السرد القصصي، بل مع الرواية فقط.
في القصة الأخيرة "الملاك التائه" يعود السارد إلى الحديث عن الحارة والأب الذي حارب في حرب 1973م، ورفيقه في الحرب، وكيف خرجا من الجيش وعملا في الداخلية لفترة ثم استقالا وعملا في المقاولات وغير ذلك، وكيف أفلس الأب فيما بعد وباع سيارته وبيته وذهب زوجته وكل شيء قبل موته، ويتحدث عن أشقائه وزواجهم، وعن زواجه وأن الأم طلبت منه أن يشتري لنفسه سيارة وأوصته أن يشتري سيارة أبيه التي سبق أن باعها قبل الموت، وكيف أن السارد حاول تحقيق أمنية أمه وظل يبحث عن السيارة في محاولة مستحيلة ليرى عليها صورة الملاك التي كان يراها صغيرا على زجاجها وغير ذلك من الحكايات الكثيرة. نلاحظ هنا أن السارد يكرر العديد من الحكايات التي سبق أن حكاها في القصص السابقة بسبب أن الشخصيات تتكرر؛ الأمر الذي يجعله يذكر بعض الحكايات بشكل مبتسر في إحدى القصص ثم يعود ويفصلها في قصة أخرى، وهو ما يدلل على أن هذه القصص كانت أصلح للرواية منها عن السرد القصصي، حيث تتميز بعالم ثري كان من الممكن أن يكون رواية جيدة ومحكمة من خلال هذه القدرة السردية الهائلة التي يتميز بها السارد.
تأتي المجموعة القصصية "الملاك التائه" للقاص أشرف ضمر كمجموعة حائرة بين السرد الروائي والسرد القصصي، فلا هي تمتلك مقومات القصة القصيرة، ولا هي انحازت بقوة إلى الرواية بل ظلت في منطقة معتمة ما بين الجنسين الأدبيين غير قادرة على الانتماء إلى أي منهما؛ بسبب إصرار الكاتب- الذي ليس لديه ما يبرره- على جعلها مجموعة قصصية، أو ظنا منه أنها بهذا الشكل قد تكون متتالية قصصية، وإن كان هذا السرد في حقيقته صالحا لأن ينتمي إلى جنس الرواية أكثر من القصة مع الأخذ في الاعتبار مراعاة البناء السردي والزمني لتكون رواية متكاملة لاسيما أن المؤلف يمتلك من القدرة الحكائية والتعبيرية والأسلوبية واللغوية الشيقة الكثير ما يؤهله إلى كتابة رواية جيدة، وإن كنا تساءلنا عن السبب الذي يجعل الكاتب متجاهلا دائما لقواعد الإدماج في اللغة حينما يكتب "في ما" بدلا من "فيما"، أو "عن ما" بدلا من "عما"، أو "عن من" بدلا من "عمن".



محمود الغيطاني

مجلة عالم الكتاب.
عدد مايو 2019م.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق