الأربعاء، 31 يناير 2018

البر التاني.. المال لا يغني عن الجهل بصناعة السينما


بوستر الفيلم
ثمة سؤال لابد من سؤاله للمخرج علي إدريس والسيناريست زينب عزيز عند مشاهدة فيلمهما الأخير "البر التاني" وهو: هل سبق لأي منكما مشاهدة الفيلم الجزائري "حرّاقة" 2009م Harragas للمخرج مرزاق علواش؟
ربما كان هذا السؤال من الأهمية بمكان قبل الحديث عن فيلم "البر التاني" ومدى فنيته من عدمها؛ نظرا لارتباط موضوع نفس الفيلمين بل وتطابقهما تماما.
يتحدث فيلم علواش عن مجموعة من الشباب الذين يعرضون أنفسهم للخطر حينما يختارون الهجرة في مركب صغير عبارة عن طوف في مغامرة غير محمودة العواقب، ورغم ذلك يفضلون هذه المغامرة على الحياة التي يحيونها في بلادهم آملين بحياة كريمة تتمثل في فعل الهجرة التي تصبح مرادفا للانتحار، ويحاول هؤلاء الشباب عبور البحر المتوسط من "مستغانم" في الجزائر إلي "الميريا" في إسبانيا، وبالتأكيد يمكن للمرء أن يتنبأ بما ينتظرهم هناك، فإما القبض عليهم لدى وصولهم، أو الحياة كمهاجرين غير شرعيين لو تمكنوا من الفرار من حرس السواحل، وذلك في حالة إذا لم يُعثر علي جثثهم على شاطئٍ ما أو أن يُفقدوا إلي الأبد.
رغم أهمية المخرج الجزائري مرزاق علواش في السينما الجزائرية، ورغم أنه من المخرجين الذين قدموا العديد من الأفلام التي كانت بصمة خالدة في تاريخ هذه السينما، إلا أنه حينما قدم هذا الفيلم أخفق كثيرا في تقديم فيلم جيد، وكان من أسوأ ما قدمه على مدى تاريخه الفني الطويل المتخم بأفلام فنية مهمة منها فيلم "عمر قتلاتو الرجلة" 1976م، و"السطوح" 2013م، و"مدام كوراج" 2015م، وكلمة "حراقة" مستخدمة في المغرب العربي للحديث عن المهاجرين غير الشرعيين الذين يحرقون أوراقهم قبل المغادرة حتى يصبح التعرف على أصولهم وإعادتهم إلى بلادهم أمرا معقدا لدى السلطات الأوروبية.
بوستر الفيلم الجزائري حراقة
يأتي سؤالي للمخرج والسيناريست عن رؤيتهما لهذا الفيلم من عدمها نتيجة الإخفاق والفشل الفني الذي مُني به الفيلم الجزائري الذي تحدث عن نفس الموضوع وبطريقة تتشابه مع نفس طريقة علي إدريس إلى حد بعيد؛ حيث سادت الفيلم الجزائري في نصفه الأولى درجة من الرتابة والملل اللذين لا يمكن احتمالهما، وهما نفس الرتابة والملل اللذين سادا فيلم علي إدريس في فيلمه "البر التاني"، كما أن النصف الثاني من الفيلم الجزائري قد تم تصويره بالكامل في البحر مثلما حدث تماما مع فيلم علي إدريس، وإن كان الفيلمان قد فشلا على المستوى الفني في جذب المشاهد، بل جعلاه راغبا في انتهاء الفيلم إثر كل مشهد من مشاهده؛ نتيجة الإيقاع البطئ، والمشاهد غير الفنية المفتقدة للحيوية، ولسذاجة المبررات الفنية، والتقليدية في التناول الفني التي نبعت من تقليدية القصة، مما يدفعنا للتساؤل: لم أراد علي إدريس تكرار الفشل الذي مُني به علواش لفشل آخر يخصه؟!
كما أن قصة الهجرة غير الشرعية بحرا على طوف أو مركب صيد هي فكرة تناولتها السينما المغربية بشكل كبير حتى أنها قتلتها بحثا، ومنها الفيلم المغربي "الأندلس مونامور" للمخرج محمد نظيف وغيره من المخرجين الذين قدموا العديد من الأفلام عن موضوع الهجرة إلا أن معظم الأفلام التي تحدثت عن هذا الموضوع قد باءت بالفشل الفني؛ لأن معظم هؤلاء المخرجين لم يقدموا أي شكل فني في الموضوع واعتمدوا على الجانب الإرشادي والوعظي والتحذيري للشباب المقبلين على هذه الهجرة، أي أنهم أرادوا أن يقولوا لهم في نهاية الأمر: إذا ما أقبلت على هذا الفعل؛ فمصيرك الذي لا شك فيه هو الموت غرقا.
ربما كان هذا الجانب الوعظي أو الإرشادي، أو التحذيري هو أبعد ما يمكن أن يكون بالنسبة لأي شكل من أشكال الفنون، لاسيما فن السينما الذي يعتمد على الصورة ويبتعد تماما عن الخطاب المباشر من صناع الفيلم للمتفرج، لكن الكارثة الحقيقية أن كل من حاول تناول ظاهرة الهجرة غير الشرعية التي تعاني منها مجتمعاتنا العربية آثر أن يكون مباشرا وتقليديا وواعظا؛ مما أدى به في النهاية إلى الوقوع في الفشل الفني تماما، ومن ثم مر فيلمه كأنه لم يكن.
يبدأ فيلم "البر التاني" في قرية من القرى التي يبدو على أهلها الفقر الشديد بشخصية "سعيد" محمد علي- فني تكييفات- الذي يعود إلى قريته وأهله بعد سنوات من الغياب، ويتضح لنا فيما بعد أنه قد ترك عمله؛ لأنه قد شعر بالتعب من هذا العمل؛ لأن صاحب العمل يجعله يحمل الكثير من الأجهزة وكأنه حمالا، ومن ثم استدان مبلغا ماليا كبيرا من أجل الهجرة إلى إيطاليا. هنا يبدو لنا الأمر كما قدمه الفيلم غير مريح أو منطقي لكل من يشاهده؛ فمبرر الهجرة غير الشرعية إلى إيطاليا بالنسبة لسعيد لا يمكن أن نقتنع به لاسيما وأنه هو من ترك العمل لشعوره بالتعب فيه، وبهذا المنطق إذا ما شعر كل شخص بالتعب من عمله وتركه للتفكير في الهجرة سيهاجر كل أبناء الوطن العربي، كما أن سعيد حينما عاد إلى عائلته الفقيرة التي تكسب قوتها من "تقميع" البامية أنفق عليهم ببذخ شديد غير منطقي وغير مبرر مع تقاعده من العمل والاستدانة من أصدقائه من أجل الهجرة، فمن أين كان يأتي بهذه الأموال التي ينفقها على أسرته ببذخ قبل سفره؟ هل هي من الأموال التي استدانها؟ وإذا كان الأمر كذلك فكيف سيسافر بينما هو ينفق مما استدانه بمثل هذا الشكل؟ لاسيما وأن هناك مشهدا آخر رأينا فيه أمه تجمع النحاس- الذي كانت تحتفظ به لبناتها من أجل زواجهن- كي تبيعه وتساعد ابنها سعيد من أجل إكمال المبلغ المطلوب للهجرة. هنا بدت الكثير من النقاط غير المنطقية وغير المبررة في السيناريو الذي كتبته زينب عزيز مما جعلنا نتساءل كثيرا أثناء الفيلم، وهو ما يصرف ذهن المتفرج عن المتابعة من أجل التساؤل، ولعل هذا عيبا خطيرا من عيوب السيناريو التي تجعل المشاهد ينصرف عن المتابعة.
من الفيلم الجزائري حراقة
من خلال المونتاج المتوازي Cross Cutting يستكمل الفيلم قصة الشباب الراغبين في الهجرة غير الشرعية وحيواتهم الفقيرة التي تدفعهم إلى مثل هذه الهجرة، وهنا نرى "مجدي" محمد مهران الذي يعمل نجارا، وليس له أخوة؛ لذلك ترتبط به أمه ارتباطا شديدا، لكنه يرغب في الهجرة رغم رفض أمه، وحينما يمرض مرضا غير مبرر وغير مفهوم ويخبرها الطبيب أنه مرض نفسي ومن ثم عليها أن تطيعه فيما يريده نراه يشفى فجأة من المرض حينما توافق الأم على سفره إلى إيطاليا. هنا لم يكن هناك أي مبرر مقبول من أجل الهجرة إلى إيطاليا سوى أن المخرج والسيناريست يرغبان في هجرة مجدي فقط؛ وبما أنه وحيد أمه فمن الأجدى أن يكون بينهما لونا من الارتباط الذي يجعله غير راغب في تركها لحظة واحدة، كما أن التمهيد الذي حاولته السيناريست من أجل مجدي لم يقنع طفلا بأنه لابد له من الهجرة وترك أمه، لكن الفيلم رغب في هجرة مجدي وبالتالي سافر رغما عن أنف الفيلم والمشاهد غير المقتنع بهذا السفر.
أما الشخصية الثالثة فهي "عماد" عمرو القاضي المتزوج حديثا والذي ينتظر طفلا ولا يجد أي شكل من أشكال العمل؛ مما جعله يلزم منزله طول الوقت مع زوجته لعدم وجود مال، ربما كانت هذه الشخصية هي الشخصية الوحيدة التي اقتنعنا بمبرر هجرتها غير الشرعية حيث لا يوجد القليل من المال الذي يجعله يغادر منزله لأي سبب، كما أن انتظاره لطفل جديد يكون مبررا قويا للسفر مع فقره الشديد، وهنا قامت الزوجة ببيع ذهبها الذي تمتلكه، بالإضافة إلى الذهب الذي ورثته عن أمها بالشراكة مع شقيقاتها بعد أن كتب مجدي "وصولات أمانة" للشقيقات وأزواجهن بالمبلغ وسافر.
من الفيلم الجزائري
لعل متابعة الشخصيات الثلاث التي رسمها السيناريو وهي الشخصيات التي ظل المخرج يقدمها لنا في الجزء الأول من الفيلم؛ من أجل تقديم حياتهم ومبررات سفرهم إلى إيطاليا جعلنا نشعر بالكثير من الممل في النصف الأول من الفيلم البالغ 99 دقيقة، لاسيما أن استعراض هذه الشخصيات وحياتها قد استهلك ما يقرب من الخمسين دقيقة في نصف الفيلم الأول، مما دفع الفيلم للوقوع في الرتابة والممل والإيقاع الثابت الذي لا يتحرك، كما أن الفيلم لم يكن يقدم أي جديد من أجل تنامي السيناريو ودفعه إلى الحيوية، بل هناك العديد من القصص المتوازية التي لا تلتقي مع بعضها البعض ولا تتشابك؛ الأمر الذي جعلنا نرغب في انتهاء الفيلم بأي شكل من الأشكال، أو محاولة المخرج تقديم أي جديد من خلال العلاقات بين الشخصيات، أو الانتقال بالشخصيات إلى البحر من أجل أن يكتسب قدرا من الحيوية.
كما أن الفقر الشديد الذي قدمه المخرج في فيلمه وعدم المقدرة على الحصول على أي شكل من أشكال المال بالنسبة للقرية بالكامل كان من الأمور المبالغ فيها كثيرا. صحيح أننا نعلم بوجود عدد ضخم من المصريين يعيشون في حالة فقر مدقع، ولكن ليس بمثل هذه الشكل المبالغ الذي حاول وصفه وتقديمه، أي أننا شعرنا بالمخرج يحاول اللعب على مشاعر الجمهور من أجل استدرار شفقته وتعاطفه مع الأبطال بأي شكل، وهي طريقة لا تنتمي إلى فن السينما؛ لأن التعاطف مع الأبطال لا يكون بمثل هذا الشكل من المبالغة بقدر تقديم عمل فني يستطيع السيناريو المتنامي من خلاله اجتذاب المشاهد والتعاطف الحقيقي مع شخصياته.
من الفيلم الجزائري
ذهب بنا الظن في النصف الثاني من الفيلم أنه سيكون أكثر حيوية ويتغير إيقاعه إلى ما هو أفضل، لكن السيناريو الذي تشوبه الكثير من العيوب أدى إلى فشل هذا الظن، فمركب الصيد الذي تم التصوير فيه في عمق البحر لم يبدُ لنا مركبا من أجل تهريب العمالة بطريق غير شرعي بقدر ما بدا لنا ديكورا مصنوعا في عمل فني؛ فالممثلين والمجاميع جالسة تتسامر مع بعضها البعض من أجل حكي الحكايات بينما تتخلل هذه الحكايات بعض "الفلاشات باكات" Flash Back التي لم يكن هناك أي داع لها إلا إكمال الثغرات في السيناريو التي كانت موجودة في النصف الأول من الفيلم، كما أن السيناريو وقع في العديد من الأخطاء كذلك؛ فقبل ركوب الجميع في المركب طلب منهم المهرب إعطائه كل أوراقهم والأموال المصرية التي معهم بحيث لا يبقى معهم سوى الدولارات فقط حتى إذا ما تم القبض عليهم لا يتم التعرف على هوياتهم، ولكن بمجرد الصعود إلى المركب نجد أحدهم يقف ليخبر الجميع أن من يرغب في الاطمئنان على أهله من خلال الموبايل عليه أن يدفع خمسة جنيهات مقابل المكالمة، فمن أين أتوا بالأموال المصرية وهم على عرض المركب بعد تسليم هذه الأموال المصرية، وكيف يمكن إتمام مكالمة من خلال الهاتف المحمول في عمق البحر؟ وكيف ظل الهاتف المحمول يعمل في حين أن الجميع قد نزل بملابسه بالكامل إلى عرض البحر من أجل الصعود إلى المركب؟ أي أن الهاتف لابد أن يكون قد تلف إذا ما تغاضينا عن أنهم في عمق البحر وبالتالي لا توجد شبكات للاتصال.
كذلك مشهد تسرب المياة إلى عمق المركب من خلال ثقب ما لم يكن مقنعا حينما تحدث قبطان المركب بشكل مفتعل فيه الكثير من الأداء المسرحي ليخبر معاونه أنه ما كان يجب أن يؤجر هذه المركب المتهالكة وكان من الأجدى به أن يؤجر مركبا أخرى أكثر حداثة، هنا بات الأمر وكأن المخرج والسيناريست يريدان إخبارنا بالأمر لكنهما لم تكن لديهما طريقة فنية من خلال الأحداث والصورة لفعل ذلك فلجآ إلى هذا الشكل المفتعل والمباشر من أجل الحديث إلى الجمهور مباشرة وهو من الأخطاء التي تُضعف كثيرا من فنيات الفيلم وتجعله مباشرا، كما أننا نعرف جميعا أن سبب غرق المراكب أثناء رحلات الهجرة غير الشرعية لا يكون بسبب ثقب في المركب، لكنه يكون بسبب المئات من الأشخاص الذين ينحشرون متكدسين على هذه المراكب، أي أن السبب الأساس في الغرق يكون الحمولة الزائدة، ولكن بمثل هذا الشكل الذي قدمه علي إدريس نجد أن الأمر خاضعا للقضاء والقدر، ومن ثم إذا لم يُثقب المركب كان من الممكن أن يصل الجميع إلى البر التاني بسلام، وتوتة توتة خلصت الحدوتة.
حاولنا أثناء مشاهدتنا لفيلم "البر التاني" إيجاد أي شكل من أشكال السينما الممتعة التي يمكن أن نتعاطف معها ومن ثم القول أن هذا الفيلم من الأفلام الجيدة، ولكن السيناريو المهلهل الملئ بالتناقضات الذي كتبته زينب عزيز، والإخراج السيئ نتيجة الانقياد للسيناريو منذ البداية جعلنا غير قادرين على التماس أي عذر لفريق العمل بالكامل، صحيح أن أداء الممثل محمد علي ليس سيئا للغاية وأنه يستطيع أن يكون ممثلا جيدا مع الوقت، ومع أخذ دورة تدريبية في الأداء، لكن بدا لنا الفيلم في النهاية وكأنه فيلم هواة لأول مرة يعملون في مجال السينما بداية من المخرج والسيناريست، انتهاء بالممثلين الذين اشتركوا في هذا العمل، فلا روح سينمائية تستطيع أن تجتذبنا إليها ولا اختلاف في التقديم يتجاوز التقليدية من الممكن أن نندمج معه، مما جعلنا نتيقن أن صناعة السينما لا يمكن لها أن تكون صناعة جيدة بمجرد توافر المال من أجل صناعتها، بل لابد من فهم هذه الصناعة من جانبها الفني أولا قبل الإقبال عليها، ولعل الحسنة الوحيدة التي رأيناها في الفيلم هو التصوير في عمق البحر الذي تميز بتقنيات فنية عالية.






 محمود الغيطاني

مجلة الشارقة الثقافية
عدد يناير 2018م

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق