الاثنين، 5 سبتمبر 2022

لماذا تحاول الهروب مما تعرف أنه لا يمكنك الهروب منه؟ لأنك جبان.. إرهاصات سينما الدوجما!

إن المُتابع للسينما التي يقدمها المُخرج الدانماركي Lars Von Trier لارس فون ترير وما تثيره من جدل، وانقسام كبيرين من حولها، فضلا عن الدهشة والاستفزاز اللذين يسببهما المُخرج نتيجة ما يقوم بصناعته من أفلام، قد ينحو باتجاه التساؤل عما كان يفعله هذا المُخرج في سنوات عمره المُبكرة، وفيما كان يفكر، وكيف كان يقضي وقته في سنوات طفولته ومُراهقته، وكيف وصل إلى هذا المستوى السينمائي الشديد الخصوصية الذي يحرص من خلاله على تدمير صناعة السينما بشكلها التقليدي- سواء على مستوى الأفكار أو الأسلوب- في سبيل سينما جديدة ومُختلفة ذات جمالية تخصه وحده- هو ومن اتبعه فيما بعد من مُخرجين آمنوا واقتنعوا ببيان الدوجما Dogme الثوري الذي أطلقه عام 1995م.

إذا ما حاولنا مُتابعة لارس فون في سنوات عمره المُبكرة لعرفنا أنه كان يقضي طفولته ومُراهقته في صناعة الأفلام- قام المُخرج بصناعة فيلمه الأول The Trip to Squash Land رحلة إلى أرض القرع عام 1967م، أي وهو في الحادية عشرة من عمره، وهو الفيلم الذي لم يتعد الدقيقتين- أي أنه مُهتم بالسينما، وصانع لها بالفطرة مُنذ سنواته المُبكرة، ولعل هذا الاهتمام المُبكر بالسينما هو ما أكسبه فرادته في صناعتها، وتميزه على صُناع السينما من حول العالم.

لنا أن نتخيل طفلا- لم يبلغ بعد- لا يعنيه سوى صناعة الأفلام بدلا من أن يعيش طفولته، وسواء كانت هذه الأفلام ناضجة- على مستوى الفكر أو الأسلوب- بالمعنى الفني لصناعة السينما، أم لا فالمُفارقة التي لا يمكن إنكارها أن الطفل ترير قد قام بصناعة الأفلام مُنذ طفولته، وهو لم يكتف بصناعة فيلمه الأول فقط وهو في الحادية عشرة، بل استمر في تقديم المزيد منها طوال فترة مُراهقته إلى إن التحق بالمدرسة الوطنية للسينما في الدانمارك National Film School of Denmark وتخرج فيها مُقدما مشروع تخرجه Images of Liberation صور التحرير 1982م الذي كان أول فيلم مدرسي دانماركي يتم توزيعه بشكل مُنتظم، ويتم عرضه في قسم البانوراما في مهرجان برلين السينمائي الدولي الرابع والثلاثين، بل ويحصل على جائزة أفضل فيلم في ميونيخ، كما كان من أكثر أفلام المُخرج تعبيرا عن أسلوبيته السينمائية الخاصة التي سنراها فيما بعد- عاملا على تطويرها- في ثلاثيته الأولى Europa Trilogy ثلاثية أوروبا!

إذن، فنحن أمام مُخرج يتنفس السينما، يعيشها، يتمثلها محولا إياها إلى حياة كاملة، وهو ما جعله يقوم بصناعة فيلمه Why Try to Escape From Which You Know You Can’t Escape From? Because You Are Coward لماذا تحاول الهروب مما تعرف أنه لا يمكنك الهروب منه؟ لأنك جبان 1970م، أي أنه لم يكن قد تعد الرابعة عشر من عمره بعد حينما قام بصناعة هذا الفيلم، وهو الفيلم الذي يحمل الكثير من الكابوسية السيريالية المُعبرة عن عوالم لارس فون، فضلا عن الدعابة المُؤذية التي تميزه، بالإضافة إلى البذور الأولى لأحد أهم شروط بيانه الثوري Dogme 95، وهي الكاميرا المحمولة على الكتف بما لها من جماليات خاصة بالنسبة للمُخرج، أي أن ترير كان يحمل في ذهنه- أو لاوعيه- شروط بيانه الثوري الفني الذي أطلقه بعد خمسة وعشرين عاما من صناعة هذا الفيلم!


في هذا الفيلم تتبدى لنا أجواء ترير الكابوسية بشكلها السيريالي من خلال صدم إحدى السيارات لشخص ما كان يقود دراجته لتلقيه على جانب الطريق؛ فيحاول أحد الشباب اللحاق به من أجل إنقاذه، لكنه حينما يتأكد من أنه قد مات يشعر بالذعر والخوف الشديدين مما يجعله يحاول الابتعاد عن الجثة، هاربا منها، فيظل يعدو بشكل مُخيف وكأنه يهرب من شيء يطارده، بينما تتابعه الكاميرا المحمولة على الكتف باهتزازت عنيفة مُعبرة عن الحالة النفسية التي يشعر بها؛ فنراه يعبر الكثير من الطرق بينما يشعر بالتعب الشديد الممتزج بالخوف؛ الأمر الذي يجعله يقع مُستنفدا لطاقته، لكنه سُرعان ما ينهض مُتابعا عدوه ليسبح في أحد الأنهار هاربا من شيء ما، ويدخل إلى إحدى الأراضي الزراعية محاولا الاختباء بين مزروعاتها، بينما ينتقل ترير من خلال القطع المُونتاجي ما بين مُتابعة الشاب الهارب تارة، والجثة تارة أخرى، حيث نراها على جانب الطريق وقد أحاطتها الشموع في طقس جنائزي مرة، ومرة أخرى نرى الجثة تنهض من مكانها مُلثمة لتبدأ بالفعل في مُطاردة الشاب الهارب الذي حاول إنقاذها في بداية الفيلم!

إن هذا الجو الكابوسي السيريالي يقدمه ترير بشكل لاهث، حتى أننا، كمُشاهدين، سنشعر بأنفاسنا تتلاحق مع أحداث الفيلم الذي لم تتعد مُدة عرضه الثماني دقائق، شاعرين بالكثير من الذعر الذي يشعر به الشاب الهارب، مُتسائلين عن كيفية نهوض الجثة، وسبب مُطاردتها لهذا الشاب، فضلا عن تساؤلنا عن معنى الكلمات المُصاحبة لشريط الصوت، والتي نستمع من خلالها إلى صوت جهوري يقولها فيما يشبه الخطبة، لا سيما أنها كلمات مأخوذة من الإنجيل مع الكثير من التعديل عليها، فنستمع للصوت يقول: احمنا وجميع أحبائنا، يا رب احمنا، نحن خطاة لا يستحقون، وقد أخطأنا واقترفنا الشر. استر وجهك عن خطايانا وامح لنا آثامنا من أجل يسوع. يا رب، إلهنا، نشكرك على كلمتك ومعموديتك. احتفظ بكنيستك على الأرض ونحن بداخلها. امنحنا قوتك لنبذ الشيطان، وأعماله، وطرقه!


ربما كان مصدر دهشتنا من هذه الكلمات- التي قد تبدو جنائزية مُناسبة للحدث الذي نتابعه- أننا نعرف جيدا بأن لارس فون من أكبر الساخرين من الأديان وفكرة الإيمان- سواء بها أم بالله ذاته- ومن ثم تبدو هذه العبارات الإيمانية مُتناقضة إلى حد كبير من أيديولوجية لارس فون التي يؤمن بها، والتي نعرفها عنه من خلال عالمه السينمائي بالكامل، لا سيما وأنه يتعمد السُخرية دائما من فكرة الله والإيمان بالأديان، لكنها من جانب آخر قد تعبر عن الشر والخطايا التي يرتكبها الإنسان، لا سيما أن الفيلم في وجه من وجوهه إنما يعبر عن الشر المُطلق والمجاني الذي يمارسه الإنسان!

قد تبدو لنا فكرة الفيلم غامضة إلى حد كبير، وهو ما يجعلنا نتساءل: هل ثمة حادث حدث بالفعل أكسب الشاب الذي حاول مُساعدة المُصاب كل هذا الخوف والذعر مما جعله يهرب؟ أم أن الأمر لا يعدو أكثر من دعابة مُؤذية من الشاب الذي يبدو لنا مُصابا- لا سيما أنه قد نهض فيما بعد مُطاردا للشاب الذي حاول إنقاذه؟

إذا ما حملنا الفيلم على وجهه الأول- حادث حقيقي- سيكون بمثابة فيلم كابوسي فيه الكثير من السيريالية عن جثة تُطارد مُنقذها، وهو بهذا المعنى يحمل الكثير من مشاعر الرعب والخوف التي نشعر بها في أحلامنا وكوابيسنا، وبذلك يكون ترير قد نجح بالفعل في تصوير عالم الأحلام وما نشعر به من خلاله بالكثير من الأحاسيس الغامضة، والمشاعر المُخيفة، لكن إذا ما حاولنا تفسير الفيلم على وجهه الثاني- الدعابة المُؤذية- أي أن المُصاب لم يكن مُصابا بالفعل، ورغب في إخافة الشخص المُنقذ له لمُجرد التسلية- رغم عدم معرفته به- فسيكون الفيلم مُتناسبا إلى حد بعيد مع عالم لارس فون الساخر والمُؤذ للكثيرين من المُشاهدين، والمُنتقد دائما لكل ما يحيط به، وهو ما يتعمد فعله إلى حد كبير في عالمه السينمائي، ورأيناه في العديد من الأفلام، أي أنه يرغب من خلال هذا المنحى التعبير عن الأذى الإنساني المجاني الذي يمارسه الكثيرون من البشر في حياتهم، وهو ما يتفق مع إدانته الدائمة للمُجتمعات، وشرها المُطلق والمجاني- على عكس ما يبدي أفرادها- الذي يراه ترير دائما في المُجتمع من حوله، وهو ما قدمه لنا فيما بعد في جل أفلامه السينمائية، لا سيما ثلاثيته Golden Heart Trilogy القلب الذهبي.

المخرج الدانماركي لارس فون ترير

إن التعبير البصري/ الأسلوبي عما يقصده ترير- سواء كان الوجه الأول للفيلم، أم وجهه الثاني- كان ناجحا إلى حد بعيد من خلال استخدامه للكاميرا المحمولة على الكتف باهتزازها الشديد والمُربك الذي أصابنا بالكثير من التوتر أثناء مُتابعة الشخصيتين- المُنقذ الهارب، والجثة المُطاردة- فضلا عن المُوسيقى المُصاحبة التي ساهمت في المزيد من التوتر والشعور بحالة من اللهاث الشديد، وحرصه على تضخيم صوت أنفاس المُنقذ اللاهثة، بالإضافة إلى الصوت الجهوري- المُخيف إلى حد ما- الذي كان يلقي الكلمات الدينية/ الجنائزية بشكل هو أقرب إلى الخطابة.

لكن، ألا تؤكد لنا أسلوبية ترير التي لجأ إليها في تصوير فيلمه- الكاميرا المحمولة على الكتف واهتزازاتها العنيفة- إلى تفكيره المُبكر في شروط بيانه الثوري Dogme 95 حتى وإن لم يكن مُنتبها إلى صياغتها في شكلها الصارم الذي أعلنه علينا فيما بعد كبيان ثوري وجمالي في صناعة السينما؟

ربما كان هذا الفيلم من الأهمية التي لا يمكن إنكارها في مسيرة لارس فون ترير الفنية المُبكرة؛ فهو يؤكد على أن الطفل لارس فون- 14 عاما حين صناعة الفيلم- عاش حياته مُفكرا في كيفية صناعة سينما مُختلفة، ورغم أنه كان- على الأرجح- غير مُنتبه لفنية ما يفعله، أو أنه يحمل فكرا سينمائيا مُختلفا سيتبلور فيما بعد فيما يصنعه من أفلام، وبيانه الثوري، إلا أن الفيلم يجعلنا نتوقف أمامه طويلا لتشابهه الفني الكبير مع السينما التي سيكرسها المُخرج فيما بعد سواء من ناحية الأفكار التي يؤمن بها، أو من حيث الأسلوبية التي سيعمل على تطويرها والوصول بها إلى شكل فني أكثر نضجا يخصه وحده.

هنا تكون النهاية التي أنهى بها المُخرج فيلمه مُتناسبة تماما مع عالمه السينمائي الذي سنراه في المُستقبل، وإذا ما تأملنا هذه النهاية لرأينا الجثة المُطاردة للمُنقذ تنجح في الوصول إليه والاختباء بين المزروعات في الأرض الزراعية التي سيهرب إليها المُنقذ ليُفاجأ بوجودها أمامه مما يجعله ينهار واقعا على الأرض.


إذا ما حاولنا تفسير هذه النهاية على الوجه الأول للفيلم- وقوع حادث تصادم- سيكون ترير قد نجح في التعبير عن العالم الكابوسي الذي يرغب في التعبير عنه، حيث تُطارد الجثة للمُنقذ، لكنه يقع في براثنها في نهاية الأمر، وهو ما يُعبر عنه العالم الحلمي الذي نراه في كوابيسنا، وبذلك يكون انهيار المُنقذ إلى جوار الجثة بمثابة الاستسلام لها. لكننا إذا ما حاولنا تفسيرها على الوجه الثاني- الدعابة المُؤذية- وهو الوجه الأكثر قربا إلى عالم المُخرج المُدين للمُجتمعات وإيذائها المجاني الدائم، سيكون المُخرج قد نجح إلى حد بعيد في التعبير عن هذا الإيذاء؛ ومن ثم سيكون انهيار المُنقذ إلى جوار الجثة بمثابة الإغماء، أو الموت من فرط الخوف، والصدمة التي أدت إليها تلك الدعابة السخيفة التي يحلو للكثيرين من أفراد المُجتمع أن يلعبونها لمُجرد الرغبة المجانية في إيذاء الآخرين!

إن الفيلم الدانماركي "لماذا تحاول الهروب مما تعرف أنه لا يمكنك الهروب منه؟ لأنك جبان" للمُخرج لارس فون ترير من أفلامه المُبكرة التي تؤكد لنا على أن ترير كان يحمل مُنذ طفولته المُبكرة بذور أسلوبيته الجمالية السينمائية، فضلا عن أيديولوجيته الفكرية التي يصنع من خلالها الأفلام، وهو ما أدى به في نهاية الأمر إلى أن يكون مُفكرا سينمائيا، أكثر من كونه مُجرد صانع للسينما.

 

محمود الغيطاني

مجلة الشارقة الثقافية

عدد سبتمبر 2022م

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق