هل من الممكن للناقد إطلاق الأحكام المُطلقة في الهواء فيما يخص المشاعر
والانطباعات من دون الاعتماد على التحليل الذي يؤكد، من خلاله، نظرته في حب فيلم
ما أو كرهه؟
بالتأكيد أن النقد والمنطق العقلي لا يقبلان مثل هذه الأحكام المُطلقة، كما أن هذه الأحكام لا يمكن لها الاتساق مع التفكير النقدي في المقام الأول، أي أن هذه الجملة الافتتاحية حول حب فيلم ما أو كرهه لا بد لها من الخضوع للعقل والتأمل للتدليل على صواب الحُكم من عدمه، لكن مجرد مشاهدة فيلم للمخرج الدانماركي Lars Von Trier لارس فون ترير- المُدقق لدرجة الهوس فيما يصنعه من سينما صادمة وعميقة وفنية- قد تجعلنا نُطلق هذه الصيحة الشعورية، أو العاطفية للوهلة الأولى رغم أنها مجرد صيحة لا محل لها من الإعراب النقدي.
في فيلم يتوغل بقسوة في أعماق النفس البشرية، حيث المناطق المُظلمة البعيدة منها والتي لا ندري عنها شيئا داخلنا، يحاول المخرج الدانماركي لارس فون ترير كشف أنفسنا أمام هذه المشاعر والعمل على مواجهتها رغم أن هذه المواجهة تحمل في داخلها الكثير من القسوة السادية، لكنها تكشف لنا ما لا ندريه عن أنفسنا، حيث النفس الإنسانية المُعقدة في تداخلاتها الشعورية، والتي تجعلنا نرى، أحيانا، بعض التصرفات وردود الفعل غير المُنتظرة، المُوغلة في انحرافها، التي تصدر من بعض الأفراد الذين لا يمكن لهم أن يقوموا بمثل هذه التصرفات المُفاجئة التي هي ساكنة في أعماقهم المُظلمة ولا يدرون عنها شيئا، وإن كانت تتحين الفرص والمواقف المُناسبة للخروج فجأة؛ حيث يؤكد في فيلمه Antichrist عدو المسيح، أو المسيح الدجال أن ثمة جانبا عميقا داخلنا قد يجعل الإنسان يشعر بمشاعر متناقضة من الكراهية والمقت الشديدين غير المُبررين تجاه من يحبهم، ولا يتصور الحياة من دونهم، وهي المشاعر التي قد تدفعه لقتل من يحبه لمجرد التأكد من البقاء معه وعدم هجره، أو الرحيل عنه!
إذن، فالفيلم من هذا الجانب هو رحلة سيكولوجية سينمائية تحمل في داخلها الكثير من التأمل لأعماق النفس البشرية الغريبة والغامضة، والأكثر من الفلسفة، والأعمق من الفن سواء على المستوى البصري، أو مستوى الموضوع الذي يقدمه.
يقدم المخرج فيلمه من خلال شخصيتين اثنتين فقط هما بطلا الفيلم: الممثل الإيطالي الجنسية الأمريكي الأصل Willem Dafoe وليام ديفايو، أو "هو"- حيث عمد المخرج إلى عدم تسميه بطليه- والممثلة الفرنسية الجنسية الإنجليزية الأصل Charlotte Gainsbourg تشارلوت جانسبورج "هي"، فيبدأ فيلمه من خلال استخدامه ألوان الأبيض والأسود والحركة البطيئة Slow Motion- التي تمنح المُشاهد الفرصة من أجل تأمل الحدث الذي يدور أمامه ويعمل على التركيز فيه- للزوجين اللذين يمارسان الجنس المحموم انطلاقا من الحمام وامتدادا لكل مكان في المنزل، ولعل بداية المخرج بمثل هذا المشهد لفيلمه كان من أجود ما قدمه سواء على المستوى البصري؛ حيث نرى قطرات الماء المُتساقطة في الحمام، وندف الثلج المُتساقطة في الخارج من خلال النافذة، والانتقال بين هذه المشاهد والممارسة الحميمة إلى طفلهما "نيك" الذي يستيقظ ويفتح بوابة الأطفال ليتجول في الشقة ويقف لهنيهة أمام غرفة أبويه متأملا لهما، غير مُدرك لما يفعلانه، وصولا إلى اعتلائه لكرسي أمام النافذة وسقوطه منها خارجها في نفس اللحظة التي تصل فيها الأم للأورجازم؛ حيث حرص المخرج على الانتقال على وجهها المنتشي في اللحظة التي لامست فيها جثة الطفل للأرض في الخارج.
نقول إن أهمية هذه اللقطة الطويلة التي بدأ بها المخرج فيلمه كانت من الأهمية التي لا يمكن تجاهلها على المستوى البصري والإتقان في تصويرها، أو حتى على مستوى الموضوع الذي يتشكل أمامنا؛ حيث العشق اللامتناهي بين الزوجين، والمُمارسة الجنسية التي تحمل في بعض دلالاتها معنى تولد حياة جديدة في نفس اللحظة التي تنتهي فيها حياة أخرى هي حياة ابنهما، وما يمكن أن يترتب على هذه اللحظة من شعور عميق بالذنب فيما بعد، وهو ما سنراه لدى الأم.
يحرص لارس فون، كعادته، إلى تقسيم فيلمه إلى مجموعة من الأقسام التي تحمل كل منها عنوانا، وكأنه يقدم لنا كتابا فنيا نقرأه ونستمتع بفعل القراءة فيه؛ لذلك يبدأ فيلمه بالمشهد السابق الذي كان بعنوان "تمهيد"، وكأنه يقدم لنا، هنا، بالفعل مُقدمة كتابه الذي سيقسمه فيما بعد إلى عدة فصول يحرص في كل فصل منه على تطور الحكاية للوصول بها إلى ذروتها الفنية، كما لا يفوتنا تركيز الكاميرا في هذا المشهد على ثلاثة تماثيل يحمل كل منها اسم معين: "الأسى أو الحزن"، و"الألم"، و"اليأس"، وهي نفس عناوين فصول الفيلم التي رأيناها فيما بعد، أي أن المخرج، هنا، حريص كل الحرص على تقديم العديد من الدلالات والرموز من خلال مشاهده، وهي الرموز التي ستتكشف لنا فيما بعد مع استمرار الأحداث.
ربما نلاحظ في هذا المشهد حرص المخرج في التركيز على مشهد القضيب الذكري يخترق مهبل المرأة، ولعله في هذا الحرص على تقديم هذا المشهد يعمل على العديد من الإحالات والتفسيرات الفرويدية التي تُفيد بشعور المرأة الدائم بعقدة الإخصاء، أو شعورها بحسد القضيب الذي تفتقده، والذي يخترقها دائما. هذا المشهد من الممكن ربطه فيما بعد مع مشهد اختراق سمانة زوجها لوضع القضيب الحديدي داخله، باعتبار سمانته مهبل والقضيب الحديدي عضو ذكوري، كما يمكن ربطه بمشهد سحقها لعضو زوجها قرب نهاية الفيلم- حيث المرأة التي تحسد القضيب من خلال التفسير الفرويدي؛ الأمر الذي دفعها لسحق عضوه- للتدليل على أهمية هذا المشهد في فيلم لارس فون، وتفسير سبب تركيزه على مشهد الاختراق الجنسي في بداية الفيلم الذي لا يمكن تفسيره باعتباره مجرد مشهد مجاني، بل يحمل داخله الكثير من الدلالات الفنية والفكرية.
بمجرد انتهاء هذا المشهد- التمهيد الذي يبني عليه المخرج فيلمه- ينتقل إلى جنازة الطفل- المشهد الوحيد الذي رأينا فيه شخصيات أخرى غير الأبوين على طول مدة الفيلم- حيث نرى الأبوين يسيران في الجنازة، وفي الحين الذي نرى فيه الزوج مُنهارا تماما باكيا- في مقدرة منه على التعبير عن أزمته وعاطفته بشكل طبيعي- تكون الزوجة صامتة تماما لا يبدو على وجهها أي تعبير وكأن ملامحها قد فقدت أي شكل من أشكال الحياة كتمثال من الشمع إلى أن تسقط مُغشيا عليها.
يبدأ المخرج هنا الفصل الأول من فيلمه/ كتابه الفني حيث يكتب على الشاشة: القسم الأول: الأسى، وهو القسم الذي نرى فيه الزوجة قد ذهبت في غيبوبة استمرت لمدة شهر كامل في المشفى بينما يحاول الزوج مُساندتها إلى أن تعود لحياتها الطبيعية، ولعلنا نلاحظ هنا أن لارس فون قد نجح- إلى حد بعيد- منذ اللحظة الأولى لبداية فيلمه في إدخالنا إلى عالمه الفيلمي المُغلق تماما على ذاته وما يدور فيه من مشاعر وأفكار؛ حتى أننا، كمُشاهدين، سنتماهى مع عالمه للدرجة التي لا يمكن لنا فيها تخيل عالم آخر خارج هذا العالم الذي يدور أمامنا، أي أنه يمتلك من المهارة التي تجعله كمخرج قادرا على حبسنا داخل هذا العالم النفسي الذي سنشعر بوطأته على نفوسنا بحيث لا يمكن لنا التخلص منه.
ثمة العديد من الرسائل والدلالات التي يحرص لارس فون على بثها من خلال مشاهده وأحداث فيلمه التي تدور أمامنا، هذه الرسائل المُبطنة التي قد تمر علينا من دون الانتباه إليها- باعتبارها ليست ذات قيمة فنية- سيتضح لنا مع مرور الأحداث أنها ذات صلة وثيقة بموضوع الفيلم؛ ومن ثم تعمل على تفسير الكثير من السلوكيات الغامضة التي تلجأ إليها الزوجة؛ فحينما يعترض الزوج، الذي يعمل مُعالجا نفسيا، على أن الطبيب يعطيها الكثير من العقاقير المُخدرة للتغلب على حزنها العميق تقول له: ثق بوجود من هو أفضل منك، كذلك حينما تخبر الزوج بأن الطبيب ينصح بألا يعالجها هو- كمعالج نفسي- باعتباره زوجها يرد عليها: أوافق من حيث المبدأ، فترد: لكنك أذكى من المبدأ نفسه، أليس كذلك؟
أليس ثمة مُلاحظة مُهمة هنا- من خلال حديثها معه- وهي شعور الزوجة تجاه الزوج بتفوقه عليها وبغضها لمثل هذا الشعور بالتفوق وضيقها به، وهو الأمر الذي يردنا مرة أخرى إلى النظرية الفرويدية في شعور المرأة بالنقص، أو الإخصاء، أو الحسد القضيبي أمام الرجل؟
هذا الشعور الفرويدي يؤكد عليه المخرج غير مرة بشكل يبدو لنا عرضيا وعاديا، وإن كان يحاول من خلاله بث العديد من الرسائل، كأن يدخل عليها الزوج المُهتم بها، والمُساند لها من أجل الخروج من أزمتها النفسية ويحاول تقبيل خديها؛ فتعرض عنه الأمر الذي يُدلل على الاستياء منه، وهو الاستياء الذي لا يوجد له ما يمكن أن يبرره من زوج يقف إلى جوار زوجته في محنتها.
إن استياء الزوجة غير المُبرر من الزوج، أو شعورها بتفوقه عليها- من خلال المعنى الفرويدي- يتجلى في غير موقف؛ حيث تحاول إيهامه بالتقصير؛ من أجل إشعاره بعقدة الذنب تجاه ما حدث، وكأنها من خلال تعميق هذا الشعور داخل الزوج ستشعر بالتفوق عليه، أو ستعمل على إسقاط مشاعر الذنب التي تكبلها وتشعر بها؛ كي تتخلص منها وتملأ بها زوجها. فشعورها بالذنب يتجلى في إخبار الزوج أن خطأ موت الطفل كان خطأها هي، أولا لأنها لم تنتبه إليه وكانت مشغولة عنه مع الزوج في ممارسة الجنس، ثانيا: قولها له: إنها كان من الممكن لها إنقاذه حيث كانت تعلم أن الطفل يستيقظ كثيرا أثناء نومه ويزحف خارج سريره ويمشي بينما يظنه الزوج نائما بعمق؛ حيث كان بإمكانه فتح بوابة الأطفال والخروج منها، كذلك في أنها قد لاحظته يقف أمام الشباك في اللحظة التي قاربت فيها الوصول إلى نشوتها الجنسية، لكنها لم تسرع إلى إنقاذه!
إن معرفة الزوجة بهذه الأمور التي كان يجهلها الزوج يحملها الكثير من مشاعر الذنب التي تحاول التخلص منها، وهي لن تتخلص منها إلا بإسقاطها على الزوج الذي تستاء منه إما بسبب إحساسها الفرويدي بالتفوق الجنسي، أو إحساسها بتفوقه لأنه يخضع كل شيء في حياته للعقل محاولا تجاهل المشاعر المحضة التي تؤدي إلى العديد من التخيلات والتوصيفات غير المقبولة منطقيا أو عقليا؛ فهو مثلا يؤكد لها محاولا مُساندتها فيما تمر به: إن الحزن ليس مرضا، بل هو رد فعل طبيعي وصحي، لا يمكنك التخلص منه، وليس عليك فعل ذلك. نلاحظ هنا أن الزوج لا يحاول الإساءة إليها بقدر محاولته الوقوف إلى جانبها للمرور من محنتها، لكنها ترى في مثل هذه الثقة في تحليل الأمور ما يجعلها تستاء منه أكثر من ذي قبل، وبالتالي تعمل على إشعاره بالكثير من الذنب وإثقاله بالكثير من الهموم كي تشعر بالتفوق عليه، وهي رغبة غير مُتعمدة منها، وإن كان عقلها غير الواعي يدفعها إليها دفعا من أجل إيذائه النفسي؛ فتقول له: لطالما كنت بعيدا عني وعن نيك، وحينما أفكر في هذا أراك بعيدا جدا؛ الأمر الذي يجعله يطلب منها بعقلانية المُحلل النفسي ذكر أمثلة على ما تدعيه فتقول: لقد فقدت عزيزا على سبيل المثال بينما لا يبدو عليك ذلك كوالد أو حتى كزوج- لعلنا نتذكر انهياره النفسي وبكاءه في جنازة ابنهما، أي أنه كان قادرا على التعبير عن مشاعره السيئة والتخلص منها في حين أنها لم تفعل ذلك؛ الأمر الذي أوقعها في أزمتها النفسية- كما تستمر في حديثها بقولها: وفي صيف نيك الأخير لم تكن معه، أنا لم أعجبك في حياتي إلا الآن وقد أصبحت مريضتك، لكنه يرد عليها بهدوء: في الواقع لقد كان ذلك تلبية لرغبتك؛ حيث أردتِ الهدوء كي تكتبي.
لا تكتفي الزوجة بمثل هذه الاتهامات التي تسقطها على الزوج البرئ منها، بل تتهمه أنها حينما أخبرته بموضوع أطروحتها العلمية التي تعدها؛ وصف موضوع الأطروحة بالسطحية، لكنه يؤكد لها أنه لم يفعل ذلك، فترد عليه: ربما لم تستخدم تلك الكلمة، لكن هذا ما كنت تعنيه؛ وفجأة وجدت أن الموضوع بالفعل سطحيا، أو حتى أشبه بكذبة، أي أنها تحاول جاهدة تحميله بالكثير من مشاعر الشعور بالذنب تجاهها هي وطفلهما من أجل إثقاله بهذا الشعور، وكأنما المريض يعمل على إسقاط كل أخطائه على معالجه النفسي للتخلص من العبء النفسي الذي يشعر به.
ألا نلاحظ هنا الكثير من الشعور العدواني تجاه الزوج من قبل الزوجة، وهو الشعور الذي لا مُبرر له؟
فهي تحاول دائما تعليق تقصيرها تجاه العديد من الأشياء- مما يشعرها بالذنب- على الزوج؛ ففشلها في إكمال أطروحتها العلمية التي تُعدها جعلها تتهم الزوج بأنه قد سخف من الأمر رغم أنه لم يفعل، لكنها في قرارة نفسها، أو في مشاعرها العميقة تمتلك هذا الإحساس الذي يمكن لنا أن نرده إلى إحساسها بتفوقه الجنسي عليها من المنظور الفرويدي. هذا السلوك الأشبه بالعدوانية- غير المُدرك منها- تجاه الزوج هو ما يتجسد في إيذائه جسديا حينما ترغب في ممارسة الجنس معه، ويحاول التمنع باعتبار أن المُعالج النفسي لا يجب له ممارسة الجنس مع مريضه؛ فنراها تعضه في حلمته بقسوة لتجرحه، وهو الأمر الذي بدا في ظاهره عفويا غير مقصود، وإن كانت قد قصدته على المستوى العميق من الشعور.
نلاحظ هنا أن الزوجة لديها رغبة هوسية في الممارسة الجنسية؛ للتغلب على قلقها ومشاعر الحزن العميق، وكأنما الجنس هنا يُعد معادلا موضوعيا للاتزان الطبيعي للمشاعر العميقة من الحزن، لكننا لا يمكن لنا التوقف عند هذا التأويل فقط؛ حيث يحمل الجنس في معناه الدلالي الأعمق معنى الحياة، أي أنها لديها رغبة عارمة في الانغماس في الحياة- حيث المعنى الدلالي للجنس- وتعويض الحياة الأخرى التي انتهت وخبا بريقها- أي الابن الذي مات- وكأنما ممارسة الجنس هنا وهوسها به هو إعادة خلق حياة جديدة بعد الحياة المفقودة.
ألا نلاحظ هنا أننا أمام فيلم يحاول النظر في طبيعة المرأة وتقلباتها من حال إلى آخر؟
لا يمكن إنكار أن المخرج الدانماركي لارس فون ترير يتأمل بعمق في تقلبات المرأة التي قد تبدو غير مفهومة للكثيرين، وهو من خلال هذا التأمل يعمل على صدمة جمهوره من خلال العديد من المشاهد والمواقف القاسية، غير المُنتظرة التي يسوقها من خلال فيلمه.
يحاول الزوج معرفة الأشياء التي تُشعر زوجته بالخوف الشديد، ويضع أمامها العديد من الاحتمالات إلى أن تذكر له أنها تخاف من الغابة، وهو الأمر الذي يثير دهشته؛ حيث يمتلكان كوخا في الغابة يطلقان عليه اسم عدن- في إحالة من المخرج إلى جنة عدن المفقودة- وهي دائما من كانت تُلح على الزوج في الذهاب كثيرا إلى الغابة؛ ومن ثم فخوفها الشديد من الغابة بالنسبة له مثير للدهشة، هنا يعرض عليها الذهاب إلى الغابة من أجل التخلص من خوفها المرضي الذي تشعر به، وأثناء ذهابهما بالقطار يطلب منها أن تسترخي في مقعدها وتغمض عينيها وتتخيل نفسها في الغابة حيث كوخهما/ عدن ويطلب منها إخباره بما تراه. هنا يتألق المخرج لارس فون بصريا في نقل تخيلها على الشاشة، فيبدو لنا مشهد الخيال بعبورها للجسر في الغابة بمثابة لوحة تشكيلية جمالية رسمها المخرج بإتقان من خلال الكاميرا التي تنقل إلينا خيالها، وهو الأمر الذي تتميز به سينما لارس فون المُولع بتحويل مشاهده السينمائية إلى لوحات فنية ذات دلالات جمالية بصرية مُتميزة؛ الأمر الذي يجعل المُشاهد لا يمكن له أن يرى المشهد إلا باعتباره حلما حقيقيا يعيش فيه بالفعل، كما لا يفوتنا هنا أن المخرج كان حريصا على تصوير هذا التخيل من خلال التصوير البطئ الذي يعطي المُشاهد الكثير من المُهلة لتأمل ما يدور أمامه.
يصل الزوجان إلى الغابة ويتابع الزوج مشاعر الخوف الشديد التي تشعر بها الزوجة أثناء مرورهما على الجسر، ويعمل على مساعدتها، هنا ينتقل المخرج إلى القسم/ الفصل الثاني من فيلمه الذي عنونه بعنوان: الألم: حين تسود الفوضى، لكننا نلاحظ أن هذا القسم من الفيلم لا يبدأ إلا بعد رؤية الزوج لغزالة تلد بينما جنينها الميت مُعلق في مؤخرتها، وهو شكل من أشكال الرمز التي تحيلنا إلى الحياة الناقصة، أو الحياة التي تولد ميتة، كما لا يخفى على المُشاهد رمزية المشهد التي ترتبط بطفلهما الذي فقداه.
نلاحظ في الغابة أن الزوج يحاول جاهدا مُساعدة الزوجة من أجل عبور أزمتها والتغلب على شعور الخوف الذي تشعر به، وينجح بالفعل في هذه المُهمة؛ فنراها تستيقظ ذات صباح لتعبر الغابة أمام الزوج من دون خوف، كذلك عبورها للجسر الذي كانت تخشاه، وتخبره بسعادة أنها قد شُفيت من تخوفاتها وهواجسها التي كانت تشعر بها، لكن الزوج يحتضنها متوجسا قلقا بسبب هذا الانقلاب المفاجئ؛ الأمر الذي يجعلها تقول غاضبة: من الصعب أن تكون سعيدا لأجلي، أليس كذلك؟!
ألا يؤكد لنا ذلك أن الفيلم هنا بمثابة بحث سينمائي فني في تأمل طبيعة وتقلبات المرأة غير المفهومة؟ فرغم أنه هو من يعمل على مُساندتها وعلاجها وعبور أزمتها النفسية، إلا أنها دائما ما تحاول اتهامه بعدم الاهتمام بها، أو عدم السعادة من أجلها رغم أنه السبب الرئيس فيما وصلت إليه، لكن هذه التقلبات الغامضة ستتضح لنا فيما بعد بشكل أكثر عمقا وحدة مما بدت لنا؛ فهذه الطبيعة/ الغابة التي تشعر تجاهها بالكثير من التوجس والخوف تحاول وصفها لزوجها بمجموعة من العبارات الإنشائية التي لا تخضع للعقل، كأن تقول له أنها تستطيع سماع صوت الطبيعة وهي تموت، وأن ثمار الجوز التي تتساقط في كوخهما من الشجر المحيط بهما كانت تراها تموت، ولكن، لأنه يخضع دائما الأمور للتفكير النقدي والمنطقي، ولعقلانيته الشديدة في مواجهة ما تصفه من مشاعرها، ومحاولة منه في رد الأمور إلى التفكير المُنظم يرد عليها أن ما تقوله غير عقلاني؛ الأمر الذي يجعلها تثور عليه وتدفعه بعنف ضاربة إياه وكأنما هي رغبة منها في مقاومة هذا العقل الذي يشعرها بتفوقه عليها، وهو العقل الذي يمنطق المشاعر؛ فيفقدها دفئها وحميميتها؛ لذلك تقول له: إن الطبيعة بكل ما تراه فيها من قلق وخوف هي كنيسة الشيطان!
إن حديث المخرج هنا عن الطبيعة المحيطة- التي تخشاها الزوجة- لا يحتمل هذا المعنى المُباشر فقط، بل يمكن سحبه على الطبيعة البشرية أيضا التي تتماهى في النهاية مع الطبيعة الأنثوية، أي أن هذه الطبيعة المُخيفة المُتقلبة التي نراها من حولنا، هي في الحقيقة المعادل الموضوعي لطبيعة الأنثى التي تكاد أن تتطابق معها في تبدلها وقسوتها، وجمالها، وتدميرها أيضا؛ لذلك تخبره بأن النساء لا يتحكمن في أجسادهن، بل تتحكم بها الطبيعة، وهي في ذهابها لمثل هذا التأويل الغريب، تريد أن تؤكد له أن الشر هو جزء أصيل داخل الأنثى- بما أن الطبيعة هي التي تتحكم في أجسادهن، والطبيعة حسبما ذهبت هي كنيسة الشيطان الذي هو المرأة- وهذا الشر هو ما اكتسبته المرأة من الطبيعة المُحيطة بها، بل وتخبره أن أطروحتها التي كانت حول العديد من الفظائع التي ارتكبت بحق النساء في القرون الوسطى كان السبب فيها طبيعة الشر داخل المرأة، وهو الأمر الذي يجعله يشعر بالكثير من الدهشة لمثل هذا التفسير الذي ذهبت إليه.
إن التحولات النفسية غير المفهومة والتقلبات العديدة التي تحدث للزوجة هنا
لا تنتهي، ويبدأ الزوج في اكتشاف امرأة أخرى لم يكن يعرفها من قبل، وكأنه لم يعش
معها سابقا؛ لذلك نراها تمارس معه جنسا محموما بينما تعتليه وتطلب منه أن يضربها
بقسوة حتى تتألم، لكنه يرفض الذهاب معها في رغبتها مؤكدا لها أنه يحبها. هنا تثور
عليها وتتهمه بأنه لا يحبها ما دام لا يرغب في تحقيق رغبتها، ومن ثم تتركه وتنطلق
خارجا إلى الغابة عارية؛ لنراها تمارس عادتها السرية تحت إحدى الأشجار، وحينما
يلحقها الزوج ويراها تمارس عادتها السرية يضطر إلى صفعها بقوة- مُحققا لها رغبتها-
فتطلب منه المزيد من القسوة في الضرب؛ وبالتالي تسمح له بإكمال العملية الجنسية
التي لم تكتمل.المخرج الدانماركي لارس فون ترير
إن بكاءها الهستيري أثناء ممارسة الجنس، ثم طلبها منه أن يضربها للشعور بالألم هو دليل على شعورها العميق بالذنب، وهو الشعور الذي لا ينتهي داخلها، الأمر الذي يدفعها للرغبة في التطهر من هذا الإحساس بطلبها من الزوج أن يضربها، ولعل المخرج لارس فون قد قدم هذا المشهد بشكل من الإبداع الفني ما يجعله مُنطبعا لفترة طويلة في ذهن المُشاهد؛ حيث يمارسان الجنس في عمق الغابة تحت الشجرة بينما تظهر من حولهم الكثير من الأيدي العارية في مشهد أقرب إلى الحلم، واللوحة الفنية.
هنا ينتقل المخرج إلى القسم الثالث من الفيلم حيث يكتب على الشاشة: اليأس: إبادة جماعية للنساء، وهو القسم الذي يأتي بعدما يرى الزوج ثعلبا يخبره بأن الفوضى ستسود، ولعل لجوء لارس فون إلى جعل الثعلب يتحدث ويخبره بمثل هذا الأمر من الأمور التي لا يمكن تقبلها عقلانيا، كما أن المُشاهد لن يستطيع تأويلها بسهولة، ولكن إذا ما لاحظنا الأسلوب الفيلمي الذي صنع من خلاله المخرج فيلمه، وهو الأسلوب الذي كان يميل في التصوير إلى الإيحاء بالحلم وعدم الحقيقة؛ سيتبين لنا أن هذا المشهد يكاد أن يكون مشهدا تخيليا أو حلميا- الأمر الذي يجعلنا نستطيع تقبله- أي أن الزوج هنا بات يعيش في حلم أو كابوس أدى به إلى هذه الهلاوس التي جعلته يرى الثعلب يحادثه مُخبرا إياه بما سيحدث لاحقا، هذه الهلاوس أو الأحلام أثناء اليقظة تسبب فيها وطأة مرض زوجته الذي لا ينتهي، بل يتحول إلى العديد من الإحالات المُختلفة، أي أنه يحلم رغم أنه- كمعالج نفسي- يرى أن الأحلام في علم النفس الحديث لا وجود لها؛ فقد مات فرويد، وهو الأمر الذي فسره لنا المخرج بفنية حينما تهطل عليه الأمطار الغزيرة بمجرد إخبار الثعلب له، وكأنه يفيق من هلاوسه أو أحلام اليقظة.
يلتفت الزوج إلى الخطاب الذي وصله من المشفى الذي شرح جثة ابنهما، ويقرأ أن التقرير يفيد بوجود تشوهات في قدم الابن لا يُعرف سببها، وحينما يصعد إلى الخزانة العلوية من كوخهما/ عدن يجد أطروحة بحثها غير المُكتمل، كما يلاحظ احتفاظها بالكثير من الرسوم التي تصور اعتداءات وحشية حدثت من الرجال على العديد من النساء في العصور الوسطى، وأثناء بحثه يجد الكثير من الصور لطفلهما ويلاحظ في كل الصور أنه كان يرتدي حذائه بالمقلوب، وهو ما يفسر سبب التشوه في قدميه الذي أشار إليه تقرير المشفى. حينما تعثر الزوجة على التقرير يحضر لها إحدى صور ولدهما ليسألها عن سبب ارتدائه الحذاء مقلوبا، وهل كانت تعمد إلى ذلك، لكنها أكدت أنها بالضرورة لم تكن تقصد؛ فيتأكد أنها تمتلك الكثير من الرغبات والمشاعر المُضطربة العدوانية تجاه كل ما هو ذكوري، وحينما ينزوي من أجل تأكيد ملاحظته النفسية في ورقة ملاحظاته تخشى الزوجة في هذه اللحظة أن يفارقها أو تفقده؛ الأمر الذي يجعلها تضربه على ظهره بقوة؛ فيفقد توازنه ويسقط أرضا، إلا أنها تمد يدها لإخراج عضوه الذكري وتعتليه بهوس جنسي عدواني صارخة فيه أنه لن يفارقها أو يتخلى عنها، وحينما يحاول التأكيد لها أنه لن يفعل، تصرخ بأنها لا تصدقه وتتناول جذعا من الخشب وتضربه بقوة قاتلة في عضوه الذكري.
ألن نلاحظ مرة أخرى هنا تأكيد النظرية النفسية لفرويد التي تفيد فكرة
الإخصاء، أو الحسد القضيبي؛ الأمر الذي جعلها تدمر عضوه بجذع الخشب؟ الممثل وليام ديفايو
تلاحظ الزوجة أن عضو زوجها الذي راح في غيبوبة قصيرة ما زال منتصبا فتتلقفه بيدها لتجعله يستمني إلا أنه يقذف دما بدلا من قذفه منيا؛ نتيجة تحطيمها لجهازه التناسلي. تُسارع الزوجة بفك حجر الطحن الثقيل وتثقب سمانة زوجها بمثقاب حديدي؛ لتدخل العمود الحديدي لحجر الطحين داخل سمانته وتحكم ربطه من الناحية الأخرى بصامولة، ثم تتخلص من المفتاح أسفل الكوخ، في محاولة منها من أجل منعه من فراقها أو فقدانه، ثم تخرج إلى الغابة.
إذا ما عدنا إلى بداية الفيلم للتركيز على مشهد اختراق القضيب لمهبلها، ثم انتهينا إلى الثقب الذي أحدثته في سمانة زوجها، ثم إدخالها إصبعها بالكامل في الثقب الذي أحدثته في ساق الزوج، وإدخال القضيب الحديدي داخلها بعد ذلك، ربما سيتضح لنا المفهوم الفرويدي للفيلم الذي قصده المخرج هنا، كما أن الثقب الذي أحدثته الزوجة في ساق زوجها يحمل في دلالته الأعمق صلب المسيح الذي حدث معه ما يشبه هذا الفعل الذي مارسته الزوجة تجاه زوجها.
حينما يفيق الزوج يحاول فك حجر الطحين الثقيل من ساقه، لكنه يعجز لإحكامه فيجر نفسه خارج الكوخ محاولا الهروب منها، لكنها حينما تعود تكتشف اختفائه فتبدأ في البحث عنه بهيستيريا مرضية، ولعلنا نلاحظ أنها أثناء البحث عنه تصيح عليه بالكثير من السباب، ثم لا تلبث أن تسأله: ألم تخبرني بأنك لن تتركني وحدي؟ أي أننا هنا أمام هيستيريا نسائية تشعر بالخوف الشديد من الوحدة أمام هلاوسها وتخوفاتها، وهي الهيستيريا التي تؤدي بها إلى إيذاء زوجها، وتكاد أن تقتله لمجرد ظنها أنه قد يهجرها.
تنجح الزوجة في العثور عليه، وتساعده في العودة إلى الكوخ بجره على الأرض، وحينما يصلا تُقبل شفتية ثم تبكي مخبرة إياه: إن المرأة الباكية هي المرأة الماكرة، خائنة سيقانها، خائنة أفخاذها، خائنة أثداؤها، أسنانها، شعرها، وصوتها!
يبدو لنا الأمر هنا وكأنما المخرج يتخذ موقفا معاديا للمرأة باعتبارها أصل الشرور في العالم- وهو تفسير ديني أحيانا ما نراه في بعض الديانات الإبراهيمية- لا سيما حينما نرى سلوكها العنيف والدموي لمجرد تفكيرها في هجرها وتركها وحيدة، لكننا إذا ما تأملنا الأمر بروية وهدوء أكبر سيبدو لنا أن ما فعلته الزوجة يكاد أن يكون تصرفا طبيعيا جدا لامرأة هيستيرية تعاني نفسيا بعد وفاة ابنها؛ الأمر الذي أدى إلى عدم اتزانها النفسي، والشعور الدائم بالخوف، فضلا عن خشيتها من فقدان زوجها أيضا وبقائها وحيدة، أي أن ما ذهب إليه المخرج لارس فون لم يكن يحمل داخله أي شكل من أشكال التجني أو العداء تجاه المرأة بقدر ما كان يعتمد على المنطق النفسي الذي من الممكن أن يقود النساء إلى مثل هذا الشكل من الهيستيريا.
تخلع الزوجة بنطالها وتستلقي بجوار الزوج المُنهك الذي لا يستطيع الحركة بسبب حجر الطحين المُعلق في ساقه، وتشد يده لتضعها في مهبلها محاولة الاستمناء مُتخيلة أثناء استمنائها شكل ولدها وهو يقع من الشرفة بينما كانت تمارس الجنس مع الزوج؛ الأمر الذي يجعلها تنشج في البكاء، وتطلب من الزوج احتضانها؛ لتمسك مقصا بيدها وتقطع به بظرها بقسوة ليندفع الدم الغزير في إسقاط مهم من المخرج على عقدة الإخصاء الفرويدي من جهة، وأن رغبتها الجنسية كانت هي السبب في موت ابنها وإهمالها له.
هنا ينتقل المخرج إلى القسم/ الفصل الرابع من فيلمه: المتسولون الثلاثة،
حيث أخبرته: حينما يجتمع المتسولون الثلاثة لا بد لأحد ما أن يموت، أي أنها ستقتله
حينما يجتمع الغزال رمز الحزن، والغراب رمز اليأس، والثعلب رمز الألم، كما تفيد
أساطير القرون الوسطى في أوروبا التي تؤكد على الموت في اللحظة التي يجتمع فيها
هؤلاء الثلاثة من الأعمدة التي تعبر عن البؤس الإنساني.الممثلة تشارلوت جانسبورج
حينما تقطع الزوجة بظرها وتذهب فيما يشبه الغيبوبة يسمع الزوج صوت الغراب أسفل الخشبية الأرضية للكوخ؛ فيدقها بكوعه إلى أن تنكسر؛ الأمر الذي يحرر الغراب ويجد المفتاح الذي أخفته الزوجة؛ فيأخذه ليفك صامولة حجر الطحين المخترق سمانته، لكن الزوجة تلاحظه فتغرس المقص في ظهره، إلا أنه يستخرجه من ظهره ويواصل التخلص من حجر الطحين؛ ليطبق بكلتا يديه على عنقها حتى يخنقها تماما، ويحرق جثتها في الغابة أمام الكوخ.
لا نلبث هنا أن نرى لارس فون يعود إلى أسلوبيته التي بدأ بها فيلمه حيث التصوير البطئ بالأبيض الأسود في مشهد حلمي فنرى الزوج يسير في الغابة مُتكئا على جذع شجرة، ومُنهكا تماما كرجل حطمته طبيعة الأنثى المُتقلبة، بينما يبحث عن طعامه الذي يبقيه حيا في الطبيعة الأم، ألا نلاحظ هنا شيئا من الإسقاط على قصة آدم وحواء؟
بالتأكيد من الممكن لنا الذهاب إلى مثل هذا التأويل، لا سيما أن المخرج كان حريصا على تبطين فيلمه بالكثير من الرسائل والدلالات والتأويلات التي لن ينتبه إليها سوى المُشاهد المُدقق لما يدور أمامه؛ فالفيلم منذ بدايته لا يضم سوى شخصيتين- هو، وهي- لم يكن لهما اسما، كما أنهما يعيشان في الغابة/ المُعادل الموضوعي للجنة، فضلا عن أنهما يمتلكان كوخا صغيرا وسط الغابة يطلقان عليه عدن، في إشارة منهما إلى جنة عدن، كما نراهما في معظم مشاهد الفيلم عاريين يمارسان الجنس لا سيما المشهد الأهم لممارستهما الجنس عاريين تحت شجرة وسط الغابة. أي أن الفيلم يحمل داخله من الثقافة المُوغلة ما يمكن أن يكون ثقيلا على وعي المشاهد ومُرهقا له.
ربما يبدو لنا فيلم عدو المسيح/ المسيح الدجال للمخرج الدانماركي لارس فون ترير في أحد تأويلاته أنه كان مجرد خيال بالكامل لا علاقة له بالواقع المعيش، أي أن كل الأحداث التي دارت في الغابة كانت مجرد خيال أو حلم حلمته الزوجة ولم يحدث فعليا حينما كانا متجهين إلى الغابة في القطار وطلب منها إغماض عينيها، وتخيل نفسها في الغابة من أجل القضاء على تخوفاتها، حيث قال لها: تخيلي، وأخبريني بما ترينه، أي أن هذا الخيال استمر معها حتى نهاية الفيلم رغم أن المخرج لم يُصرح لنا بذلك في النهاية، لكن الارتكان إلى مثل هذا التأويل له مشروعيته في محاولة تفسير ما حدث؛ حيث أن كل الأحداث كانت تبدو لنا بمثابة الحلم الكابوسي البعيد عن الواقع؛ ساعد في ذلك هوس المخرج في تصوير العديد من هذه الأحداث في شكل حلمي، وهو ما رأيناه في مشهد النهاية حينما نرى عددا لا متناهي من النساء اللاتي ظهرن فجأة من حوله في الغابة، وكأنما قدر الرجل أن يظل دائما مُحاطا بالنساء مهما عملن على تدمير حياته من خلال سلوكهن الهيستيري غير المفهوم.
إن فيلم عدو المسيح في حقيقته فيلم يميل إلى صالح المرأة في تبرير تصرفاتها غير المفهومة والغامضة على الكثيرين منا؛ ومن ثم لا يمكن الذهاب إلى أنه فيلم يعادي المرأة باعتبارها أصل الشر في العالم، بل هو فيلم يتأمل بعيدا في أعماق النفس الإنسانية لا سيما النساء، ويحاول تفسير تصرفاتهن، وردود أفعالهن غير المتوقعة والسبب فيها، ورغبتهن القاتلة في عدم الشعور بالوحدة.
محمود الغيطاني
مجلة "نقد 21"
عدد سبتمبر 2022م.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق