الأربعاء، 11 يناير 2023

طار فوق عش المجانين.. وفكرة تحطيم المُؤسسات

في مشهد من أهم المشاهد التي ستظل عالقة في ذاكرة المُشاهد لفترة ليست بالقصيرة، حتى أنها قد تُعد تلخيصا لمحتوى الفيلم الأمريكي One Flew Over The Cuckoo’s Nest طار فوق عش المجانين للمُخرج التشيكي الأصل الأمريكي الجنسية Miloš Forman ميلوش فورمان، نرى الزعيم- قام بدوره المُمثل الأمريكي Will Sampson ويل سامبسون- يضع الوسادة على وجه راندل ماكميرفي- قام بدوره المُمثل الأمريكي Jack Nicholson جاك نيكلسون- الخائر القوى تماما بعد تعذيبه بالعديد من الجلسات الكهربائية محاولا خنقه والتخلص من حياته، رغم الألم والحب الشديد الذي يشعر بهما الزعيم تجاه راندل، وسُرعان ما يهرب من المُستشفى بعد التخلص من حياة راندل ليستمتع بحريته بعيدا عن هذا المكان الكابوسي الذي يفقد جميع نزلائه حيواتهم وأحلامهم، وآمالهم، وخيالاتهم، وحيويتهم داخله!

إن هذا المشهد الذي أنهى به المُخرج فيلمه بقدر ما كان صادما، وبقدر ما فيه من قسوة؛ بسبب الصداقة القوية التي ربطت بين الزعيم وراندل، وحب كل منهما للآخر وتقاربهما، واتفاقهما على الهروب من المشفى إلى كندا، بقدر ما كان انتصارا حقيقيا للحرية وانطلاق الروح وتخلصها من أسر الخوف، والخضوع الذي يعيشه جميع نزلاء المشفى، فضلا عن أنه كان الثمرة الحقيقية للجهد الكبير الذي بذله راندل من أجل تخليص زملائه- من المجانين- للثورة على المُؤسسة الرسمية، واكتساب الإرادة والحرية، ووهج الروح الذي فقدوه لفترة طويلة طوال مُدة إقامتهم في هذا المكان الجحيمي الذي يبدو في ظاهره مكانا من أجل علاجهم رغم أنه في حقيقته مُجرد مكان يعمل على قتل أرواحهم، وسلب حيواتهم، وحريتهم، بل وعقولهم أيضا، وبث الكثير من الخوف والرعب داخل نفوسهم!


في عام 1975م قدم المُخرج ميلوش فورمان فيلمه المُهم في تاريخ السينما العالمية، حتى اليوم، وهو الفيلم الذي ما زال يحتفظ بحيويته وطزاجته حتى أنه قد يُخيل إلينا بأنه قد صُنع لتوه، ولم يمر عليه كل هذه الفترة من الزمن؛ نظرا لاهتمامه بمُناقشة مفهوم الحرية، والتمرد، ورفض القوانين المُقيدة لحرية الإنسان، والثورة على المُؤسسات الرسمية التي تبدو في ظاهرها ديمقراطية رغم ديكتاتوريتها القاسية التي تعمل على خنق الإرادات والروح الحرة المُنطلقة؛ فتطفئها حتى تزوى تماما ويتحول الإنسان من جراء فعلها إلى مُجرد شيء خارج عن حدود العقل، مُغيب تماما في عالم آخر عدمي لا قيمة له، وكأنما قد ذاب في الفراغ.

إذن، ففورمان هنا يتأمل مفهوم الحرية والتمرد، مفهوم الانطلاق إلى آفاق أرحب، مفهوم امتلاء المرء بالطاقة العاتية التي تجعله مُحبا وعاشقا للحياة، مفهوم الثورة على القيود التي قد تُكبلنا وتمنعنا عن مُمارسة حياتنا بسعادة وحرية، وهو ما أكسب الفيلم طزاجته التي ما زلنا نستشعرها فيه حتى اليوم.

يدور الفيلم في مشفى للأمراض النفسية والعقلية، وهو المشفى الذي تسيطر عليه المُمرضة راتشيد- قامت بدورها المُمثلة الأمريكية Louise Fletcher لويز فليتشر- الحريصة على تطبيق القواعد واللوائح المُنظمة للمكان بشكل صارم، وبثلجية وهدوء أعصاب، وعدم الشعور بالذنب نابع من يقينها بأنها تقوم بعملها كما ينبغي عليها أن تقوم به من أجل مصلحة نزلاء المصحة، أي أنها تطبق القواعد بحرفيتها، وليس من خلال اللجوء إلى روح هذه القواعد؛ الأمر الذي يجعلها تدفع نزلاء المشفى إلى المزيد من المرض النفسي والاعتلال، بدلا من العمل على مُساعدتهم في تخطي أزماتهم النفسية!


لا يمكن لوم المُمرضة راتشيد هنا فيما تفعله، وبالتالي فالمُشاهد لا يمكن له أن يشعر بالكراهية تجاهها؛ لأنها غير مُدركة بفداحة ما تقوم به تجاه نزلاء المصحة، بل ترى أنها تفعل كل ما تفعله لصالحهم- رغم أن الحقيقة تؤكد عكس ما تقوم به- بجلساتها النفسية اليومية، والحرص على إعطائهم العلاج الذي يؤدي إلى زيادة أزماتهم النفسية والعقلية التي يمرون بها، وبالتطبيق الصارم للقواعد المُجحفة في حقهم. إذن فهي ترى الأمر من وجهة نظر أخرى مُغايرة تجعلها تشعر بالرضى عن نفسها، وبما تقوم به، رغم أنه يؤدي إلى سلبهم جميعا لعقولهم وأرواحهم، وجوهرهم، والدفع بهم إلى خارج حدود العقل تماما.

يصل راندل ماكميرفي إلى المصحة بعدما تحوله إدارة السجن الذي كان نزيلا فيه إليها؛ للتأكد من مدى سلامة قواه العقلية. نُلاحظ أن ماكميرفي يمتلك روحا مُنطلقة، وثابة، وإقبالا غير طبيعي على الحياة يجعله مُتمردا على كل ما يحيطه لا سيما القواعد والقوانين؛ لذلك يراه كل من حوله مُشاغبا راغبا في تدمير كل شيء، مثيرا للفوضى أينما حلّ، رغم أنه لا يرغب سوى في مُمارسة حريته، وتحرير روحه، ومُمارسة حياته بشكل يليق بها، وبالطاقة الهادرة الكامنة فيه تجاه الحياة.


يبلغ ماكميرفي 38 عاما، وهو مُتهم في قضية اغتصاب قاصر عمرها خمسة عشر عاما، لذلك في نقاشه مع مُدير المصحة نسمعه يقول له: لقد كان سنها 15 عاما، لكنها تبدو وكأنها على وشك أن تتم الخامسة والثلاثين، وهي قد أخبرتني أن سنها 15 عاما، ولقد كانت راغبة بشدة في ذلك، هل تعرف ما أقصده؟ أنا بالكاد استطعت إغلاق زمام البنطال، ولكن بيني وبينك، لقد كان عمرها بالفعل خمسة عشر عاما، ولكن حينما ترى هذه السيقان الجميلة أمامك مُباشرة فلا أظن أنه جنون على الإطلاق أن تفعل ذلك.

ألا نُلاحظ هنا أن ماكميرفي يمتلك من الإدراك والعقل ما يجعله بعيدا تماما عن دائرة الجنون، أو غياب العقل، أو حتى مُجرد الادعاء؟ إنه ما أكده للطبيب/ مُدير المصحة حينما سأله عما إذا ما كان يشعر بالجنون؛ فرد عليه ماكميرفي بأنه عاقل تماما، بل إن عقله هو مُعجزة العلم الحديث، أي أنه لم يدع الجنون، وبالتالي فالدفع به من قبل إدارة السجن إلى هذا المكان كان فيه الكثير من الظلم له لمُجرد أنه لا يلتزم بالقواعد والقوانين، ويثير الكثير من الفوضى والشغب بين زملائه في السجن، وهو ما لم يعتاده رجال السجون في أحد السُجناء من قبل.


إن ذهاب ماكميرفي إلى المصحة كان كفيلا بتدميره، والدفع به إلى الجنون الحقيقي رغم سلامة قواه العقلية، لكنه لم يستسلم لما يتم مُمارسته على نزلاء المصحة، بل كان مُتمردا على القوانين والقواعد، حتى أنه قد دفع غيره من المجانين إلى الثورة على كل ما يحيط بهم، وعدم الاستسلام والرضى، بل كان حريصا على تعريفهم مفهوم الحرية الذي لا يعرفونه بدلا من الرضوخ لما يُمارس تجاههم، ونجح كثيرا في علاجهم بطريقته، وجعلهم يقبلون على الحياة بحب من خلال أسلوبه في التعامل معهم، وأخذهم مأخذ الجدية بدلا من اعتبارهم مُجرد مجانين لا يدركون ما يدور من حولهم.

يقدم لنا المُخرج، من خلال فيلمه، العديد من النماذج المُختلفة من المجانين؛ فنرى بيلي- قام بدوره المُمثل الأمريكي Brad Dourif براد دوريف- الشاب الذي ما زال في مُقتبل العمر حتى أنه لم يتم العشرين من عمره، لكنه يعاني من التلعثم وصعوبة الكلام بشكل طبيعي؛ نتيجة العديد من الأزمات النفسية، وهاردنج- قام بدوره المُمثل الأمريكي William Redfield وليام ريدفيلد- الزوج الذي يعاني العديد من الأزمات النفسية بسبب شكه الدائم في سلوك زوجته وخيانتها له، ومارتيني- قام بدوره المُمثل الأمريكي Danny Devito داني ديفيتو- الرجل الشديد الحساسية تجاه كل ما يدور من حوله، والمُتعاطف مع الجميع، وغيرهم من النماذج النزيلة في هذه المصحة التي تحكمها المُمرضة راتشيد بشكل غير قليل من الصرامة والثلجية والقسوة باعتبارها تؤدي وظيفتها وواجبها كما ينبغي لها أن تقوم به؛ لذلك لا تشعر بأي ذنب أو ثقل في ضميرها تجاههم.


تحاول راتشيد يوميا عقد جلسات علاج نفسي جماعي تحاول من خلاله جعل النزلاء الحديث عن أنفسهم، بل والضغط عليهم من أجل الحديث؛ اعتقادا منها أن ما تفعله يساعدهم على تجاوز أزماتهم، وشفائهم، كما تحرص على مُمارستهم تمارين يومية سقيمة، وإعطائهم مجموعة من الأدوية التي ترى فيها علاجهم رغم أن هذه الأدوية تؤدي إلى مُضاعفة حالتهم المرضية وتجعلها أكثر سوءا مما كانت عليه؛ لذلك نراها أثناء إحدى جلسات العلاج النفسي الجماعي تقول: السيد هاردنج وضح أن زوجته جعلته يشعر بعدم الراحة؛ لأنها كانت تجتذب أنظار الرجال في الشارع. وتحاول جذب الآخرين من المرضى للحديث عن أنفسهم، لكنهم يمتنعون عن الاشتراك في ذلك مُفضلين الاستماع فقط.

نُلاحظ أن ماكميرفي مُنذ اللحظة الأولى التي دخل فيها المصحة يشعر بعدم الراحة، والرغبة في مُمارسة حياته بحرية غير خاضع للقواعد والقوانين؛ فيعلم النزلاء جميعا لعب الورق، ويحول المصحة إلى صالة صغيرة للمُقامرة، وهو ما يسعدهم كثيرا ويكسبهم المزيد من الحيوية، كما يشعر بالكثير من الضيق لأن المُمرضة راتشيد تُصرّ دائما على تشغيل الموسيقى للمرضى بصوت عال جدا؛ الأمر الذي يجعل من يرغب في الحديث إلى غيره مُضطرا إلى رفع صوته إلى درجة كبيرة كي يسمعه الآخر؛ لذا يقول لها: هل من المُمكن خفض صوت المُوسيقى حتى يستطيع أي اثنان هنا التحدث؟ لترد عليه بثلجية: المُوسيقى لكل فرد هنا سيد ماكميرفي. فيقول: أعلم، لكن هل من المُمكن، بعد إذنك، إخفاضها قليلا حتى لا يضطر الفتيان للصياح؟ فتقول: ربما ما لا تُدركه تماما أننا لدينا الكثير من كبار السن في هذا العنبر الذين لا يمكنهم سماع المُوسيقى إذا ما خفضنا الصوت أكثر من ذلك، هذه المُوسيقى هي كل ما لديهم.


إن هذا الحوار القصير الذي دار بين كل من راتشيد وماكميرفي يُدلل لنا على قدر البيروقراطية وعدم الفهم اللذين تتمتع بهما راتشيد في إدارة المصحة؛ فالمُوسيقى بالفعل تمنع أي اثنين من الحديث بشكل طبيعي، أو سماع بعضهما البعض، لكنها رغم ذلك ترفض إخفاضها مُتجاهلة صخبها بدعوى أن كبار السن لا بد لهم من أن يستمعوا إليها، وكأنها بإزعاجها للآخرين بمثل هذه الشكل من الضجيج تؤدي واجبها تجاه الآخرين!

لا يكتفي ماكميرفي بإصراره على مُمارسة حياته بشكل طبيعي فيه الكثير من الإقبال على الحياة ورفض القوانين التي قد تحد من حريته واستمتاعه بالحياة، بل يعمل على مُساعدة من حوله من المجانين على حب حيواتهم ومُمارستها بإقبال وبهجة، ففضلا عن تعليمهم لعب الورق والرهانات، وهي اللعبة التي شعروا معها بالكثير من المُتعة، نراه يحرص على تعليمهم لعب كرة السلة في ملعب المصحة، بل يلجأ إلى تعليم الزعيم اللعب معهم ومُشاركته لهم رغم أن الزعيم لا يسمع ولا يتكلم، لكنه لا يشعر بالملل من مُساعدته على الاشتراك معهم وتعليمه حب الحياة، فنراه في الملعب يضع الكرة بين يديه ويشير إليه بيديه من أجل وضع الكرة في مرماها؛ فيشعر رجل الأمن بالدهشة قائلا له: ماكميرفي، لماذا تكلمه بحق الجحيم؟! إنه لا يستطيع سماع أي شيء. ليرد عليه: أنا لا أتحدث إليه، أنا أكلم نفسي، إن ذلك يساعدني على التفكير. فيقول الحارس: نعم، لكن ذلك لا يساعده في شيء. فيقول ماكميرفي: حسنا، إنه لا يضره أيضا، أليس كذلك؟


إن إصرار ماكميرفي على تعليم الزعيم، ضخم الجثة كجبل مُتحرك، رغم يقينه بأنه لا يسمعه يُدلل على أنه راغب في جذب جميع نزلاء المصحة إلى الحياة ومُمارستها بدلا من الانزواء بعيدا عنها، أو انسحابهم منها، أي أنه قادر على منح الآخرين الكثير من طاقته التي يمتلئ بها حد التخمة، كما لا يفوتنا جملته التي قالها للحارس في الحوار السابق حينما قال له: أنا لا أتحدث إليه، أنا أكلم نفسي، إن ذلك يساعدني على التفكير. إن هذه الجملة التي حرص عليها ماكميرفي تدل على أنه يقاتل من أجل الحفاظ على صحته العقلية وعدم الانغماس مع باقي المرضى فيما يحدث من حوله، أو الدفع به إلى الجنون ليكون مثلهم؛ فجميع المُمارسات التي تتم مُمارستها على النزلاء لا يمكن لها أن تؤدي بهم إلا إلى طريق واحد، وهو الخروج بعيدا عن حدود العقل؛ لذلك فهو يحاول التغلب على هذه المُمارسات بتحديها، ورفضها، بل وكسر القواعد والقوانين، والحديث إلى الزعيم الذي لا يسمع ولا يتكلم، وهو ما يجعل الزعيم- الذي يعيش دائما في عزلة عن الآخرين- قريبا منه، مُحبا له رغم أنه غير قادر على التواصل معه.


إن المُمارسات الصارمة التي تتم مُمارستها ضد النزلاء تتضح لنا بشكل جلي وقاس في إحدى جلسات العلاج النفسي حينما يقول ماكميرفي للمُمرضة: اليوم كما تعلمين أو لا تعلمين، لا يهم، هو افتتاح بطولة العالم، ما أريد اقتراحه هو تغيير تفاصيل العمل اليوم كي نستطيع مُشاهدة المُباراة. لكنها ترد ببرود: حسنا سيد ماكميرفي، إن ما تطلبه هو تغيير جدول وُضع بعناية شديدة. فيقول: بعض التغيير لا يضر أبدا، صحيح؟ بعض التنوع. لكنها تقول: ليس هذا صحيحا بالضرورة، بعض الرجال في العنبر يأخذون أوقاتا طويلة للاعتياد على الجدول، وتغييره الآن من المُمكن أن يجدونه مُربكا جدا. ليرد غاضبا: تبا للجدول، يمكنهم العودة للجدول بعد البطولة، أنا أتحدث عن بطولة العالم أيتها المُمرضة. فتقول: حسنا، على أي حال لا سبيل لأن نستكمل هذا الطلب، كيف الحال إذا ما أخذنا الأصوات وتركنا الأغلبية تقرر؟

إن راتشيد لديها من اليقين بأن جميع النزلاء لديهم من الخشية والتردد وعدم امتلاك الإرادة الحرة ما يجعلهم غير قادرين على الانسياق خلف ماكميرفي- رغم حبهم له- فيما يرغبه؛ لذلك حينما يوافق على التصويت لا يجد من يؤيده من المرضى في تغيير الجدول اليومي سوى اثنين فقط وهو ما يشعره بالإحباط.

المخرج التشيكي الأصل الأمريكي الجنسية ميلوش فورمان

لكن لأن النزلاء يشعرون تجاهه بالكثير من الحب والإعجاب يطلب أحدهم في الجلسة التالية إعادة التصويت مرة أخرى، وحينها يرفع تسعة من النزلاء أيديهم كدليل على موافقتهم وتأييدهم لطلب ماكيرفي، لكنها تصدمهم بقولها أن العنبر فيه 18 نزيلا، وأنها في حاجة إلى المزيد من الأصوات كي توافق على طلبهم؛ مما يجعل ماكميرفي يشعر بالغبن والدهشة الشديدة؛ لأن باقي النزلاء لا يدركون ما يدور حولهم من أمور بل إن عقولهم مُغيبة تماما. يسرع ماكميرفي محاولا إقناع الآخرين للتصويت معهم، لكنهم لا يدركون شيئا، وأخيرا يلجأ للزعيم الذي ينضم إليهم، لكنها ترفض رغم ذلك!

مع رفض راتشيد يشعر ماكميرفي بغضب شديد، لكنه يحاول دائما التغلب على الظروف المُحيطة به، والتي قد تدفعه إلى الجنون، أو الوقوع في أسر أزمة نفسية مثلما يعاني من حوله من النزلاء. إنه غير راغب في فقد روحه لحيويتها؛ لذلك يتغلب على غضبه بجلوسه أمام التلفاز محاولا تخيل نفسه يشاهد إحدى المُبارايات ويبدأ في التعليق عليها، ويصيح فرحا لرؤيته أحد الأهداف؛ الأمر الذي يجعل المجانين يندمجون معه وكأنهم بالفعل يشاهدون المُباراة ويبدأون في التصايح معه؛ مما يحيل المكان إلى فوضى لا يمكن السيطرة عليها.

الممثل الأمريكي براد دوريف

إنه الإقبال على الحياة ومُمارستها في أفضل صورها من خلال الطاقة العظيمة التي يحيا بها ماكميرفي، وهي الطاقة التي يبثها فيمن يحيطون به من نزلاء المصحة؛ فيمنحهم قدرا كبيرا من الحياة والرغبة في مُمارستها بسعادة وإقبال، بل والتغلب على مشاكلهم النفسية التي يعانون منها، لذلك حينما يراهم يتشاجرون على أوراق اللعب يفتح عليهم المياه ليغرقهم جميعا مُستمتعا ضاحكا، أي أنه يمتلك من عشق الحياة ما يجعله يقابل كل ما يواجهه من صعوبات بالضحك والسُخرية.

لا يكتفي ماكيرفي بالفوضى التي أثارها في المصحة مُنذ دخلها، بل يحاول أيضا الهروب وتهريب النزلاء معه من أجل الاستمتاع برحلة حرة بعيدا عن النظام والقيود المفروضة عليهم؛ فيهرب من المصحة أثناء استعداد النزلاء لرحلة خارجها، ويقود الأتوبيس هاربا بهم، ليذهب إلى بيت صديقته كاندي- قامت بدورها المُمثلة الأمريكية Mews small ميوز سمول- مُصطحبا إياها معهم في رحلتهم، ثم يقوم بسرقة أحد اليخوت والدخول به إلى البحر من أجل رحلة صيد!

ربما كان هذا المشهد من المشاهد المُهمة في الفيلم؛ لأن حارس اليخوت حينما يتشكك فيهم يذهب إليهم مُستفسرا عن هوياتهم؛ فيؤكد له ماكميرفي بأنهم من مصحة الولاية وأنهم مُجرد أطباء ذاهبين في رحلة صيد، بل ويقدم كل واحد منهم إلى الحارس باسمه باعتباره طبيبا! يتجه ماكميرفي باليخت إلى عرض البحر، ويساعدهم جميعا على الصيد، وحينما يعود من الرحلة يكونوا بالفعل قد اصطادوا كمية لا بأس بها من الأسماك، لكن أفضل ما قام به أنه قد عاد بجميع النزلاء وقد شعروا بالكثير من السعادة والحيوية، وحب الحياة، والإقبال عليها، وهو الشعور الذي لم يشعروا به من قبل، أي أن ما يقوم به ماكميرفي من فوضى، وكسر للقواعد والقوانين هو في حقيقته طريقة ناجعة لعلاج النزلاء ومُساعدتهم على تخطي أزماتهم، بل إنه يبث داخلهم روح التمرد من أجل اقتناص الحياة التي يفتقدونها.

الممثل الأمريكي جاك نيكلسون

تجتمع إدارة المصحة راغبة في إعادة ماكميرفي إلى السجن مرة أخرى؛ لاقتناعهم بأنه ليس مجنونا، لكن المُمرضة راتشيد- التي تمارس عملها بشكل صارم يفتقد للروح والفهم- ترفض ذلك، وترى بأنه في حاجة إلى العلاج قائلة: إذا أعدناه على أنه مُشاغب سيكون الأمر مُجرد طريقة أخرى لرمي أعبائنا على الآخرين!

إن يقينها بأنها تفعل الصواب، يجعلها ترفض عودته للسجن، رغم أن ما تقوم به لا بد له أن يدفعه في النهاية إلى حافة الجنون الحقيقي. يشعر راندال ماكميرفي بالكثير من المسؤولية تجاه زملائه من نزلاء المصحة، وهو ما يجعله حريصا على مُشاركتهم في كل شيء، وتوعيتهم إلى معنى التمرد، والحياة، وكسر الروتين والقوانين المفروضة عليهم، أي أنه حريص على بث الحياة الحقيقية في نفوسهم. لذلك حينما يضرب ماكميرفي أحد الحراس دفاعا عن مارتيني الذي تمنع عنه راتشيد سجائره وكأنها تمنع الحلوى عن أحد الأطفال، يضربه حارس آخر محاولا تقييده، وهو الأمر الذي يدفع الزعيم الضخم الجثة يدافع عن ماكميرفي الذي يحبه الجميع. هنا يتم تقييدهم وإعطائهم جلسات صدمات كهربائية من أجل السيطرة عليهم. لكن ماكميرفي يكتشف أن الزعيم ليس أصما ولا أبكما، بل هو قادر على الحديث والاستماع، لكنه فضل أن ينعزل وحده، ويدعي ذلك بدلا من الاشتراك في هذا الجنون الذي يدور من حوله. يتفق ماكميرفي مع الزعيم على الهروب والاتجاه إلى كندا، ويوافق الزعيم.

حينما يعود ماكميرفي من الجلسة الكهربائية ويشترك في جلسات المُمرضة للعلاج النفسي يكتشف أن العديد من النزلاء موجودين في المصحة باعتبارهم متطوعين، وأن القليلين منهم هم من يتواجدون رغما عنهم لا سيما المُغيبين تماما؛ لذلك ينفعل عليهم لا سيما على بيلي/ الشاب اليافع المُتلعثم قائلا بغضب: إنك مُجرد فتى صغير، ماذا تفعل هنا؟! المفروض أن تكون بالخارج في سيارتك المكشوفة تُعاكس الفتيات الجميلات، وتُضاجع النساء، ماذا تفعل هنا بحق السماء؟! رباه! أعني أنكم يا رفاق لا تفعلون شيئا سوى الشكوى من كيف أنكم لا تطيقون هذا المكان، وليست لديكم الشجاعة للخروج منه؟ ماذا تعتقدون أنفسكم بحق الله؟! مجانين أو شيء من هذا القبيل؟! حسنا، أنتم لستم كذلك، إنكم لستم بأجن من أي وغد عادي يسير في الشارع مُطمئنا.

الممثل الأمريكي داني ديفيتو

لكنهم كانوا قد تم تدجينهم، واعتادوا الخضوع والانصياع لقواعد المصحة الصارمة؛ ومن ثم بات العالم الخارجي بالنسبة إليهم جميعا شيئا مُرعبا غير قادرين على المُشاركة فيه، أو الحلم به.

ينتظر ماكميرفي في إحدى الليالي انصراف المُمرضة ويقوم بمُهاتفة كاندي طالبا منها الاتجاه إلى المصحة هي وإحدى صديقاتها وجلب بعض الشراب معها، كما يتفق مع الزعيم على الهروب من المصحة في تلك الليلة. وبالفعل ينجح في إغراء الحارس الليلي للسماح لكاندي وصديقتها بالدخول حينما يخبر الحارس بأنه يستطيع مُضاجعة صديقة كاندي. هنا يقيم ماكميرفي حفلا من اللهو والشراب والمُتعة لجميع زملائه من نزلاء المصحة في هذه الليلة، وهو الحفل الذي كان بمثابة العلاج النفسي لهم جميعا، والخروج بهم من أزماتهم؛ لذلك تنفك عقدة لسان الشاب اليافع بيلي الذي لم يكن من المُمكن له الحديث بسهولة. إلا أنه حينما تعرف على كاندي وأُعجب بها وحادثها، بل وضاجعها في نهاية الليلة تحت ضغط من ماكميرفي نراه يتحدث بانطلاق ومن دون أي لعثمة، أي أن ماكميرفي قد ساعده على الشفاء من وهمه/ مرضه بدفعه لمُمارسة الحياة الطبيعية، والاحتفال بها.

لكن هل هرب ماكميرفي من المصحة في تلك الليلة كما خطط للأمر؟ في الصباح نرى ماكميرفي مُستلقيا بجوار النافذة التي فتحها من أجل الهروب مع الزعيم، كما نرى المصحة قد تحولت إلى فوضى عارمة إثر الاحتفال الليلي الذي مارسه النزلاء بفضل ماكميرفي. أي أنه فضل البقاء معهم في النهاية رغم أهمية الحرية التي كان يتشوق إليها، لكن رغم قيمة هذه الحرية بالنسبة له رأى أن صداقته مع النزلاء أهم بكثير منها؛ لذلك فضل البقاء معهم من أجل دفعهم إلى المزيد من الرغبة في الحياة والحرية.

الممثلة الأمريكية لويز فليتشر

حينما تكتشف المُمرضة راتشيد ما حدث، وتعرف أن الشاب بيلي قد مارس الجنس مع كاندي توبخه وتهدده بأنها ستخبر والدته بما كان؛ الأمر الذي يجعله ينتحر خشية. لكن ماكميرفي بمُجرد ما رأى بيلي مُنتحرا يسرع غاضبا باتجاه راتشيد محاولا قتلها خنقا، عازما على الانتقام للفتى وكل نزلاء المصحة، إلا أن الحراس يتكاثرون عليه ليغيب عن الوعي.

يتم إنقاذ راتشيد التي تصاب بكسر في العنق فقط، وتعود إلى مُمارساتها الصارمة تجاه نزلاء المصحة وكأن شيئا لم يكن، وبما أنها تقوم بعملها مُعتقدة أنه الصواب؛ فهي لا تشعر بأي ذنب تجاه ما حدث، وفي نفس الوقت يمارس الأطباء العديد من الجلسات الكهربائية على ماكميرفي، وهي الجلسات التي تفقده عقله تماما، بل والمقدرة على الحركة أو الوقوف على قدميه، أي أنه يتحول إلى مُجرد جثة لا روح فيها سوى الأنفاس التي تخرج من فمه؛ لذلك حينما يراه الزعيم بمثل هذه الصورة يشعر بالألم الشديد ويرى أن موت ماكميرفي وتحرير جسده أفضل له من أن يظل بمثل هذا الشكل المسلوب الحياة الذي حوله إليه الأطباء بمُمارساتهم واضطهادهم له؛ فيضع الوسادة على وجهه مُقيدا إياه حتى يلفظ أنفاسه تماما، ثم يقوم بتحطيم النافذة والهروب من المصحة لينتهي الفيلم على مفهوم الحرية الذي بذره ماكميرفي في الزعيم، ومفهوم التمرد الذي بذره في جميع النزلاء.

الممثل الأمريكي وليام ريدفيلد

إن مفهوم الحرية والرغبة الحقيقية في الحياة كان هو الهدف الذي يقصده المُخرج ميلوش فورمان من خلال فيلمه. هذا المفهوم هو ما نُلاحظه في قول الزعيم لماكميرفي: أبي كان كبير الحجم، كان يفعل ما يحلو له، لهذا اضطهده الجميع، آخر مرة رأيت فيها والدي كان قد أُصيب بالعمى من الشُرب وسط أشجار الأرز، وفي كل مرة كان يضع فمه على الزجاجة لم يكن يشرب منها، بل كانت هي التي تشرب منه حتى تهدل جسده، وتجعد، واصفر لونه حتى صارت الكلاب لا تعرفه. فيسأله ماكميرفي: لقد قتلوه، أليس كذلك؟ ليقول الزعيم: أنا لم أقل أنهم قتلوه، لقد اضطهدوه فقط كما يضطهدونك الآن!

إن هذا الحوار المُهم الذذي دار بين الزعيم وماكميرفي يلخص لنا مفهوم الفيلم الذي قدمه المُخرج التشيكي الأصل ميلوش فورمان، فهو لا يتحدث عن الجنون، ولا عن مجموعة من المجانين في إحدى المصحات النفسية، بل هو يتحدث عن الحرية التي يتم قمعها، واضطهاد من يمارسها لدرجة دفعه إلى الجنون، أو الموت، أو فقده لحيويته وروحه ليمسي مُجرد جسد لا حياة فيه، وهو ما حدث لوالد الزعيم لأنه أصر على مُمارسة حياته بحرية، وهو أيضا ما كان مصير ماكميرفي الذي أصر على الحياة كما يحلو له من دون قيود، أي أن فيلم "طار فوق عش المجانين" هو فيلم يؤكد لنا بأن التنازل عن الكثير من السُلطة للحكومات لا بد أن يقتل الإنسان فينا، ويعطيهم الفرصة في قتلنا وفقدنا لأرواحنا وانطلاقها، هو أمر يقتل فينا جوهرنا الحقيقي والتوق للحرية. إنه أحد أهم الأفلام الذي يؤكد على ضرورة مُعاداة وتحطيم المُؤسسات التي تعمل على التحكم في حيواتنا، وإرادتنا، وانطلاقنا باسم القانون أو القواعد، ولعل إصرار ماكميرفي الدائم على إثارة الفوضى وكسر القوانين المُقيدة له دليل على أن الحرية أغلى بكثير من أي فكرة للسيطرة حتى لو كان ثمن هذه الحرية هو فقد حياته وتدميرها تماما كما حدث معه في النهاية من قبل أطباء المصحة. لكننا سنُلاحظ أن قتل الزعيم لماكميرفي في نهاية الأمر كان هو الحل المُناسب والصحيح، رغم قسوته الشديدة، لأن الصدمات الكهربائية المُركزة والمُتتالية التي مارسها الأطباء على ماكميرفي لم تتركه سوى جثة خاوية فاقدة للحياة. مُجرد جسد من دون روح، أو إرادة، وبما أن ماكميرفي هو من بث مفاهيم الحرية، والانطلاق، وعشق الحياة، والتمرد، والرفض، والتحدي داخل الزعيم وغيره من النزلاء، كان لا بد للزعيم من قتل ماكميرفي من أجل تحرير روحه الثائرة المُتمردة دائما، بدلا من تركه على هذا الشكل المُؤلم الذي صار إليه.

الممثلة الأمريكية ميوز سمول

يؤكد لنا الفيلم الأمريكي طار فوق عش المجانين للمخرج ميلوش فورمان أن القانون والقواعد ليسا بالضرورة من أجل تنظيم الحياة، بل من المُمكن أن يتم وضعهما وتنفيذهما من أجل قتل الحياة فينا، كما أن كسر هذه القواعد والقوانين وإثارة الفوضى بشكل ظاهري لا يعني مُجرد تمرد وفوضى، بل هو شكل من أشكال عشق الحياة، ومُمارستها بإقبال، والحرص على امتلاك حريتنا التي يحاول الآخرون سلبها منا باسم القانون!

 

محمود الغيطاني

مجلة "نقد 21".

عدد يناير 2023م.

 

 

 

 

 

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق