يحرص المُخرج على التماهي مع الفترة الزمنية التي صور من خلالها الأحداث؛ ليكسبها المزيد من الواقعية ومن ثم لجأ إلى تصوير فيلمه بالكامل بالأبيض والأسود، وهو الخيار الفني الناجح الذي أضفى على الفيلم المزيد من الفنية والواقعية بالفعل؛ حتى أننا نكاد أن نصدق أن ما يعرضه المُخرج أمامنا، على الشاشة، هي قصة قد حدثت بالفعل وتم تصويرها في حينها.
يبدأ الفيلم على مجموعة من المُغنين الفقراء من أهالي الريف البولندي الذين يعزفون على آلاتهم المُوسيقية البدائية ألحانهم ويغنون الأغاني الشعبية الفلكلورية؛ لنعرف أنهم يفعلون ذلك في لقاء مع المُلحن فيكتور- قام بدوره المُمثل البولندي Tomasz Kot توماس كوت- وإيرينا- قامت بدورها المُمثلة البولندية Agata Kulesza أجاتا كوليسا- المسؤولين عن تكوين فرقة مُوسيقية غنائية من أهالي الريف البولندي، وجمع التراث الشعبي الفني لبولندا.
يصاحب كل من فيكتور وإيرينا في رحلتيهما داخل الريف البولندي من أجل جمع كنوز الثقافة الوطنية المُدير الإداري للفرقة كاتشماريك ليخ- قام بدوره المُمثل البولندي Borys Szyc بوريس سزيك- الذي يبدو أنه لديه العديد من العلاقات الوثيقة بالسياسية؛ ومن ثم فهو يكاد أن يكون رجلا أمنيا أكثر من كونه رجلا لديه أي اهتمام بالفن أو المُوسيقى والغناء.
يتم جمع أهل القرية بالكامل وحملهم في سيارتين ضخمتين إلى أحد القصور الضخمة في القرية وإنزالهم أمام القصر؛ ليقول لهم كاتشماريك: من حقكم أن تتساءلوا ما الذي نفعله هنا أمام قصر أصحاب الأرض، ومن واجبي الإجابة أنه أصبح الآن منزلكم، وهذه الأبواب تؤدي إلى عالم المُوسيقى والرقص والغناء، تلك المُوسيقى التي وُلدت في حقول العبودية، مُوسيقى أجدادكم وأجداد أجدادكم، مُوسيقى الألم والجروح والإذلال، فإن ابتسمتم كان ذلك من خلال الدموع، الآن لديكم الحق أن تسألوا عما إذا كنا جميعا سندخل عبر هذا الباب، وهنا سأجيبكم: بالطبع ليس الجميع، نخبة النخبة فقط هي من ستدخل، وتحت رقابة لصيقة من مُدربينا، سيدخلون إلى جبهة بولندا والمُعسكر بأكمله؛ لهذا السبب أدعوكم إلى مُنافسة قاسية ونبيلة مع بعضكم البعض ومع أنفسكم، هذه نهاية العصر المأساوي للمُوسيقى "يانكوف".
نفهم من حديث كاتشماريك لأهالي القرية أنهم سيقومون بالعديد من الاختبارات لكل من يرغب من أهالي القرية في الانضمام إلى الفرقة المُوسيقية الشعبية التي يتم تكوينها؛ كي تكون هي الفرقة الرسمية الشعبية للدولة البولندية لتقديم الأغاني الفلكلورية، وتمثيلها في كل المحافل الدولية داخليا وخارجيا.
يحرص المُخرج على مُتابعة الاختبارات التي يجريها كل من فيكتور وإيرينا؛ ومن ثم نشاهد زولا- قامت بدورها المُمثلة البولندية Joanna Kulig جوانا كوليج- الفتاة الشابة المُنطلقة التي تحمل داخلها روح العزم، والتي تمتلك موهبة رائعة في الغناء. يتحمس فيكتور وإيرينا لزولا كثيرا وتكون من أهم أعضاء الفرقة الشعبية التي يتم تكوينها رغم أن كاتشماريك يخبرهما أنه قد اطلع على سجلها الأمني وعرف أنها ليست من سكان الجبال كما تدعي، كما أنها قد سُجنت لعامين سجنا انفراديا بسبب طعنها لأبيها بالسكين.
يتم تكوين الفرقة بالفعل ويقع فيكتور في عشق زولا، وتتتالى عروض الفرقة المُوسيقية التي تلاقي النجاح في كل مكان؛ الأمر الذي يلفت نظر السلطة السياسية إليها وتعمل على رعايتها، لكن أحد المسؤولين يجتمع بكل من فيكتور وإيرينا وكاتشماريك راغبا في استغلال الفرقة من أجل الدعاية السياسية لجوزيف ستالين وروسيا اللذين يمثلان زعماء المُعسكر الاشتراكي قائلا: أعتقد أن الوقت قد حان لإدخال عناصر جديدة في البرنامج، شيء عن إصلاح الأراضي، والسلام العالمي وما يهدده، فقرة قوية عن زعيم البروليتاريا العالمية، وسوف نُقدر لكم ذلك ونكافئه، في المُستقبل من يدري ربما تزورون برلين، وبراغ، وبودابست، وموسكو، لكن إيرينا تقول: نيابة عن كامل فرقتنا الفلكلورية فإننا نشكركم على تقديركم لعملنا، لكن البرنامج يعتمد أساسا على الفن الشعبي الحقيقي، وسكان الريف لا يغنون أغنيات عن الإصلاح والسلام والقيادة، هم حقا لا يفعلون ذلك؛ لذلك سيكون هذا صعبا، لكن كاتشماريك يتدخل في الحديث باعتباره المُدير الإداري للفرقة ويؤكد للمسؤول أنهم يستطيعون فعل ما يشير إليه وأنه سيكون من دواعي سرور الفرقة أن تغني لزعيم البروليتاريا، أي أنه يتم تسييس الفرقة واستغلالها من أجل الدعاية السياسية الاشتراكية رغما عن كل من مُؤسسيها فيكتور وإيرينا.
ربما نلاحظ أن المُخرج كان حريصا على انتقالاته بين اللقطات باستخدام الاختفاء التدريجي Fade Out والظهور التدريجي Fade In وهي المشاهد التي تختفي فيها المرئيات تدريجيا حتى تظلم الشاشة تماما، لكنه لم يكن يستخدم هذه التقنية على طول مشاهد فيلمه، بل التزم بها فقط أثناء انتقال الأحداث من بلدة إلى أخرى، أي أنه طوال وجوده في نفس المكان الجغرافي كان يستخدم القطع المُفاجئ في المُونتاج، أما حينما ينتقل إلى موقع جغرافي جديد أو دولة أخرى فإنه يلجأ إلى استخدام هذا الشكل المُونتاجي للتمييز؛ لذلك يتنقل بنا المُخرج بين العديد من البلدان على طول مدة فيلمه التي بدأها في بولندا عام 1949م، أي بعد فترة من انتهاء الحرب العالمية الثانية مرورا بوارسو 1951م حيث دار الحفلات الوطنية التي تُقدم فيها الفرقة عرضا من أهم عروضها، ثم برلين 1952م، وباريس 1954م، ويوغوسلافيا 1955م، وباريس مرة أخرى 1957م، وبولندا مرة أخرى 1959م لينهي فيلمه عام 1964م في بولندا، وهو من خلال هذه الانتقالات من بلدة إلى أخرى نراه حريصا على مُتابعة قصة العشق بين كل من زولا وفيكتور وما يحدث فيها من تغيرات ومد وجزر ينتهي في النهاية بهما مع بعضهما البعض كزوجين.
بعدما تغني الفرقة لزعيم البروليتاريا وتُمجد من الاشتراكية يذيع صيتها بعد حفلها في وارسو؛ لذلك تدفع بها الدولة للذهاب إلى برلين من أجل تقديم حفل هناك، لكن حينما يصل فيكتور إلى برلين يُخطط للهروب إلى فرنسا ويتفق مع زولا على الهروب بالفعل، إلا أنها في الموعد المُتفق عليه لا تذهب إليه وتتركه يهرب وحيدا إلى فرنسا لتعود مع الفرقة إلى بولندا مرة أخرى. يعيش فيكتور هناك كمُلحن مُوسيقي ومُوزع كما يعزف في أحد النوادي الليلية ويكون علاقات قوية هناك، وفي عام 1954م حينما تذهب الفرقة لتقديم أحد عروضها في باريس تسعى زولا للقاء فيكتور، ويعرف أنها على علاقة مع أحد الرجال، ويحاول إبقائها معه إلا أنها تغادر مع فرقتها للعودة إلى بولندا. في العام التالي يعرف بوجود الفرقة في يوغوسلافيا؛ فيتجه إلى هناك لمُقابلتها، لكنه يُقابل كاتشماريك الذي يؤكد له أنه كان لا بد له أن يكون مع الفرقة اليوم؛ نظرا لموهبته المُوسيقية بدلا من التخلي عن الفرقة والهروب إلى فرنسا، وأثناء عرض الفرقة على المسرح يلاحظ فيكتور وجود رجلين يراقبانه، وهما الرجلان اللذان يختطفانه في سيارة بعد الحفل فيسألهما: إلى أين تأخذانني؟ فيرد أحدهما: إلى موسكو، فيتساءل: لماذا؟ أنا هنا بشكل قانوني ولدي تأشيرة، وأنا مُقيم منذ مدة في فرنسا، لم أعد بولنديا؛ فيرد الرجل: حسنا، نعلم هذا، لا تتوتر؛ فلن تذهب إلى موسكو، ستذهب إلى زغرب ومن هناك إلى باريس أو أي مكان تشاء، أراد البولنديون أن نُعيدك إلى وارسو، لكن هذا ليس في مصلحتك، صحيح؟ فيقول فيكتور: دعني أبقى لليلة واحدة، لكن الرجل يقول: القطار ينتظر، ليرجوه فيكتور: أرجوك افهم، الأمر يتعلق بامرأة، إنها امرأة حياتي وحبيبتي، إلا أن الرجل يقول مُهددا بحزم: ماذا؟ هل تريد العودة إلى وارسو معها؟ ثم يقومان بإرغامه على ركوب القطار المُتجه إلى زغرب من أجل العودة إلى باريس.
ربما نلاحظ أن اختطاف فيكتور من قبل الرجلين الأمنيين كان ورائه كاتشماريك نفسه حينما قابل فيكتور أمام المسرح في يوغوسلافيا؛ فهو على علاقات وطيدة مع السلطة، كما أنه مُعجب بزولا ويعرف بأمر علاقتها العاطفية مع فيكتور؛ لذلك فهو يرغب في اختفاء فيكتور تماما من حياتها وإبعاده عنها.
في عام 1957م تنتقل زولا إلى باريس بعدما تزوجت من رجل إيطالي، وهناك تقابل فيكتور وتعود علاقتهما العاطفية إلى تأججها مرة أخرى، وتعيش معه في منزله. يعمل فيكتور على تعريف المُجتمع الفرنسي بها كمغنية شهيرة، وبالفعل تغني معه في النادي الليلي الذي يعزف فيه، كما يعرفها على ميشيل- قام بدوره المُمثل الفرنسي Cédric Kahn سيدريك خان- وهو من المُنتجين المُهمين الذي يتعاقد مع زولا من أجل إنتاج إسطواة مُوسيقية لها، لكن زولا تبدأ في الشعور بالغيرة الشديدة من جولييت- قامت بدورها المُمثلة الفرنسية Jeanne Balibar جين باليبار- الشاعرة والمُثقفة التي تقوم بترجمة الأغاني الشعبية البولندية التي كانت تغنيها زولا إلى الفرنسية من أجل غنائها بالفرنسية بعدما يُعيد فيكتور توزيعها المُوسيقي، وهي السيدة التي كان يعرفها فيكتور طوال فترة إقامته في فرنسا وحده حيث ارتبطا بعلاقة عاطفية وعاشا سويا. ورغم أن جولييت لا تحاول مُنافسة زولا في حب فيكتور، إلا أن زولا تشعر نحوها بالكراهية والغيرة الشديدة؛ الأمر الذي يجعل فيكتور يقول لها: كفي عن ذلك، لقد عرفتِ خليلين من بعدي؛ فلا تعقدي الأمور.
إن شعور زولا الشديد بالغيرة من جولييت يجعلها تتناول الكثير من الخمر أثناء الحفل الذي كانت جولييت مُتواجدة فيه، وهو الحفل الذي كان مُقاما من أجل تعرف ميشيل على زولا وإمضاء عقد الإسطوانة المُوسيقية، وبالفعل يتم إنتاج الإسطوانة إلا أن زولا لا تشعر بأي سعادة أو بهجة، بل يسيطر عليها الكثير من مشاعر الحزن؛ مما يدفع فيكتور لسؤالها عن السبب في حزنها، إلا أنها تحاول إثارة غيرته مُخبرة إياه بأنها ليست حزينة؛ فلقد ضاجعها ميشيل الليلة حوالي خمس مرات؛ الأمر الذي يجعله ينفعل ويصفعها.
تختفي زولا تماما ويبحث عنها فيكتور، وحينما لا يجدها يتجه إلى بيت ميشيل ليسأله عنها، لكن ميشيل يخبره بأنها قد عادت إلى بولندا؛ الأمر الذي يجعله لا يستطيع الحياة من دونها، ويتجه إلى السفارة البولندية مُخبرا إياهم برغبته في العودة إلى بولندا رغم خطورة عودته مرة أخرى؛ فيرد عليه المسؤول هناك: لا أعرف كيف يمكن لي أن أساعدك؛ أنت لست فرنسيا، ولست بولنديا الآن، بالنسبة لنا، لدولة بولندا أنت شخص غير موجود، لكن أخبرني بصراحة ما الذي يدفعك إلى التفكير في المُغادرة؟ فيرد فيكتور: أنا بولندي، إلا أن المسؤول يقول: سيدي، فلنتحدث بعقلانية، لقد هربت بنفسك، وخنتنا، وافتريت علينا، تركت بنفسك الشباب الذين وثقوا بك، أنت لا تحب بولندا، لكن ما يزال هناك حل إذا كنت نادما بصدق على أفعالك، أنت تتمتع بمركز مرموق في الدوائر الفنية في باريس، أليس كذلك؟ أنت تعرف أناسا من مجالات مُختلفة. أي أن المسؤول هنا يفكر بعقليته الأمنية التي يرغب من خلالها الاستفادة من علاقات فيكتور في باريس من أجل استفادة بولندا الاشتراكية منها.
يعود فيكتور إلى بولندا في 1959م، لكنه يتم القبض عليه ومُحاكمته والحُكم عليه بالسجن لمدة خمسة عشر عاما؛ بسبب عبوره الحدود بشكل غير قانوني في كلا الاتجاهين، كما يتم اتهامه بالتجسس لصالح البريطانيين. تذهب زولا إلى السجن من أجل زيارته، وهناك تؤكد له أنها سوف تخرجه من السجن، وهو ما يدفعها إلى اللجوء لكاتشماريك وعلاقاته القوية بالسلطة والعديد من الوزراء، وتضطر إلى الزواج من كاتشماريك من أجل مُساعدتها في خروج فيكتور من السجن، وبالفعل يتم ذلك ويطلقون سراح فيكتور الذي يظل في بولندا غير راغب في مُغادرتها وترك زولا وعشقه الشديد لها.
في عام 1964م بينما تغني زولا في إحدى الحفلات يذهب فيكتور إلى هناك، وتكون قد أنجبت طفلا من كاتشماريك، لكنها تطلب من فيكتور أن يأخذها بعيدا ويبقى معها إلى الأبد؛ الأمر الذي يجعلهما يهربان بعيدا ويتجهان إلى إحدى الكنائس القديمة المُتهدمة والمهجورة ويزوجان أنفسهما لبعضيهما البعض في هذه الكنيسة لتخبره زولا أنها قد باتت ملكه منذ هذه اللحظة وإلى الأبد، لينتهي الفيلم على مشهدهما جالسان في الحقول المُحيطة بالكنيسة التي تزوجا فيها للتو بينما يتأملان الأفق من حولهما.
إن الفيلم البولندي حرب باردة للمُخرج بافل بافليكوفيسكي ليس مُجرد قصة حب مُتأججة بين رجل وامرأة- أبيه وأمه- واجهت الكثير من المد والجزر والفراق والخيانة ثم العودة مرة أخرى، بل هو شهادة على المُعسكر الاشتراكي بالكامل وما كان يدور فيه من فساد واستغلال للسلطات باسم العدالة الاجتماعية، وحكم الفرد الذي يقضي تماما على الحريات الشخصية؛ الأمر الذي يدفع الكثيرين من أبناء هذه المُجتمعات إلى الهروب منها إلى دول أخرى لا تكون بالنسبة لهم سوى منفى ضخم وكبير لا يمكن لهم الشعور فيه بالسعادة، بل هم يتركون حيواتهم وعشقهم وحبهم من أجل الهروب من الجحيم الاشتراكي الذي يعيشون فيه وحكم الفرد الديكتاتوري الذي من المُمكن له أن يطيح بحياة أي فرد من أفراد هذه المُجتمعات إذا ما اعترض على ما يدور فيه من قمع باسم الاشتراكية.
إذن، فالمُخرج هنا لم يرغب في تقديم قصة عشق أبيه وأمه فقط كما رأينا في نهاية الفيلم حينما أهدى الفيلم إليهما، بل رغب في تقديم شهادة فنية امتدت لخمسة عشر عاما داخل الفيلم يستعرض من خلالها التحولات الكبرى التي مرت بها العديد من دول الستار الحديدي، وهي الدول التي كانت داخل المُعسكر الاشتراكي الضخم الذي يقوده الاتحاد السوفيتي من روسيا في شرق أوروبا، وكيف كان لأثر هذه السياسات الظالمة والغاشمة والفاسدة الكثير من الأثر على العديد من العلاقات الإنسانية وتدميرها، فضلا عن تدمير العديد من البشر من دون أي ذنب لهم سوى اعتراضهم على الشؤون السياسية التي تمارسها السياسة الاشتراكية.
محمود الغيطاني
مجلة الشبكة العراقية
عدد 31 مايو 2022م
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق