رغم اعتماد السينما منذ فترة
مبكرة على الأدب فيما تقدمه لنا من أفلام سينمائية مهمة، إلا أننا نلاحظ شكلا من
أشكال الهوّس لدى السينمائيين بتقديم ما نُطلق عليه اسم سينما السيرة الذاتية، أي
الأفلام المأخوذة من قصص حقيقية لأصحابها ممن استطاعوا تحقيق شكلا من أشكال النجاح
في حياتهم رغم الصعوبات الكثيرة التي قد تواجههم.
من هذه الأفلام الكثيرة التي
قدمتها السينما العالمية للسيرة الذاتية نذكر منها على سبيل المثال: The Imitation Game 2014م للمخرج النرويجي مورتن تيلدوم Morten Tyldum الذي يحكي فيه قصة عالم الرياضيات والحاسوب "آلان
تورينج" الذي لعب دورا رئيسيا في فك شفرة الإنجما الألمانية في الحرب
العالمية الثانية، كذلك فيلم A
Beautiful Mind 2001م للمخرج الأمريكي رونالد هاورد Ronald Howard الذي يحكي قصة عالم الرياضيات الأمريكي "جون ناش"،
وفيلم Captain Phillips 2013م للمخرج الإنجليزي باول جرينجراس Paul Greengrass الذي يتناول قصة حقيقية وسيرة ذاتية للقبطان "ريتشارد
فيليبس" الذي استولى قراصنة صوماليون على سفينته عام 2008م، وغيرها الكثير من
الأفلام التي صنعتها السينما العالمية عن أشخاص أو أحداث كان لها أثرها في الحياة.
لكن هل معنى أخذ السينما
العالمية من قصص السيرة الذاتية وتحويلها إلى عمل سينمائي يعني الالتزام الحرفي
بهذه السيّر كما حدثت، أو كما كتبها أصحابها؟
إن انتقال السيرة الذاتية إلى
السينما يعني نقلها من وسيط كتابي أداته الأولى هو اللغة، إلى وسيط آخر فني أداته
الأولى هو الصورة، ومن المتفق عليه أن كل وسيط فني له آلياته التي تخصه والتي
تختلف عن غيره من الفنون، وهذا ما يجعل السينما كثيرا ما تخون النص الأدبي الذي
تأخذ منه بالتغيير، أو الإضافة، أو الحذف تبعا لما يتطلبه العمل الفني السينمائي
وما يجعله أكثر نجاحا وجماهيرية تبعا لآليات فن السينما، أي الوسيط الجديد الذي
ينتقل إليه النص الأدبي؛ لذلك حينما يلتزم المخرج السينمائي بالنص الأصلي المأخوذ
عنه العمل السينمائي كثيرا ما يقع العمل في التقليدية، أو الملل وبطء الإيقاع،
وعدم قدرة المخرج على التحليق الفني بعمله؛ نتيجة التزامه الكامل بالنص الأصلي
المأخوذ عنه الفيلم السينمائي.
البوستر الأصلي للفيلم |
ربما كان هذا ما رأيناه في
الفيلم الإيطالي The Music
of Silence موسيقى
الصمت أو La Musica Del
Silenzio تبعا
للعنوان الأصلي للفيلم للمخرج الإنجليزي مايكل رادفورد Michael Radford الذي حاول من خلاله تقديم السيرة الذاتية لمغني الأوبرا الإيطالي
الشهير أندريا بوتشيلي والتي كتبها بوتشيلي نفسه، حيث قام بأداء دور أندريا الممثل
الإنجليزي توبي سيباستيان Toby
Sebastian بأداء مقنع
فيه الكثير من المصداقية التي تستحوذ على المشاهد منذ اللحظة الأولى كي يظل متعلقا
بهذا الأداء الجيد الذي رأيناه حتى النهاية.
يبدأ المخرج فيلمه مع
الثلاثينيات ومولد آموس باردي- الاسم الذي أطلقه على أندريا بوتشيلي- لأبوين من
طبقة برجوازية بسيطة في توسكانا، حيث يشعر الأب ساندرو- الذي أدى دوره الممثل الإسباني
Jordi Mollà– بسعادة غامرة هو والأسرة بالكامل حينما
يعلمون أن الطفل المولود ذكرا، ولكن فرحة الأبوين لا تكتمل حينما يعلمان فيما بعد
أن الطفل آموس مُصاب بالجلوكوما الثنائي الخلقية، أي أنه لا يستطيع الرؤية جيدا
منذ صغره، ورغم أنهما يجريان له العديد من العمليات الجراحية من أجل إنقاذ بصره
إلا أنه يفقد إحدى عينيه تماما بينما لا يرى بالثانية إلا هيئة الأشياء في وجود
الضوء فقط. يشعر الأبوان بالكثير من الحزن تجاه وليدهما إلا أنه كان قادرا على
التحدي منذ الصغر بمساعدة عمه جيوفاني الذي كان يتعهده بالرعاية دائما والشد من
أزره، وإشعاره بالمسؤولية والقوة تجاه ما يعانيه.
يشعر الطفل منذ الصغر بميل
فطري تجاه الموسيقى، ولعلنا نرى ذلك في المشهد الذي رأينا فيه الطفل حينما كان في
المشفى بعد إجراء عملية جراحية، بمجرد ما استمع إلى الموسيقى الآتية من إحدى غرف
أحد المرضى نراه يهدأ تماما رغم أنه كان يبكي كثيرا متذمرا، يُعد من المشاهد التي
تُدلل على أثر الموسيقى عليه منذ الصغر، حيث تُخبر الأم المريض الذي تصدر الموسيقى
من غرفته: ابني عندما سمع الموسيقى أصبح هادئا فجأة لأول مرة؛ لذلك يتعلم آموس الموسيقى
ويرتبط بها كثيرا، وحينما ينقله أبواه إلى مدرسة داخلية للاعتناء به وتعليمه طريقة
برايل في القراءة تكتشف المعلمة أنه يمتلك صوتا متفردا ومختلفا تماما عن ذويه؛ مما
يجعله أهم من يقودون الفرقة الموسيقية للمدرسة ويعتمدون عليه، لكنه أثناء لعبه
للكرة في المدرسة تصيبه الكرة في رأسه؛ الأمر الذي يجعله يفقد البصر تماما منذ سن
الحادية عشرة؛ ومن ثم يحيط به الظلام التام في حياته.
نلاحظ هنا منذ بداية الفيلم
أن المخرج مايكل رادفورد الذي اشترك في كتابة السيناريو مع السيناريست آنا
بافينانو Anna Pavignano كان حريصا على الالتزام
بعرض حياة أندريا بوتشيلي منذ الصغر، أي أنه تتبع حياته منذ مولده وتطور حياته من
مرحلة عمرية لأخرى، ولعل هذا الالتزام بفترات حياته العمرية المتتالية كان من أهم
العوامل التي أثرت بالسلب على الفيلم الذي شابه الكثير من بطء الإيقاع بسبب هذا
الالتزام الذي لم يكن هناك أي ضرورة فنية إليه.
صحيح أن الالتزام الكامل
بالسيرة الذاتية وتتبع مراحله العمرية استطاع من خلالها المخرج أن يُدلل لنا على
روح التحدي والدأب وعدم الاستسلام لذهاب بصره؛ حيث يُصرّ على فعل كل شيء بنفسه كما
لو كان ما زال مبصرا، وليس في حاجة إلى مساعدة الآخرين؛ فنراه يعتلي جواده وينطلق
به مرة، ومرة أخرى نراه يقود أصدقاءه على البحر ويشجعهم على النزول إلى الماء
للسباحة؛ الأمر الذي يجعل أبيه يوبخه فيرد عليه آموس: إذا قفز الآخرون فوق عقبة
يجب أن أقفز فوق الجبل، وإذا ركبوا الحصان، يجب عليّ ركوب النمر، في تدليل منه على
تحديه الكامل للظروف التي وُجد فيها ورغبته في أن يحيا حياة طبيعية كما لو كان
مبصرا. نقول: إن الالتزام بالسيرة الذاتية تبعا للمراحل العمرية التي مرّ بها
ساعدتنا في فهم سيكولوجيته المتحدية الراغبة في التفوق، لكن المخرج كان يستطيع عرض
هذه السيكولوجية من خلال العديد من المواقف الأخرى من دون الالتزام بالسيرة كما
كتبها صاحبها، وهو الأمر الذي أدى إلى بطء إيقاع الفيلم كثيرا والنحو به باتجاه
الملل.
يأخذ العم جيوفاني آموس إلى
إحدى المسابقات- نهائيات كأس العالم مارجريتا في الغناء، وهي أكبر جائزة للغناء في
توسكانا- وبالفعل يتم تتويج آموس باعتباره أفضل المتسابقين في المسابقة ويكتسب
الكثير من الشهرة المحلية باعتباره مغنيا جيدا، لكن نتيجة لتقدمه في العمر والانتقال
من مرحلة الطفولة إلى مرحلة المراهقة يحدث أن يتغير صوته كثيرا وبالتالي يعتقد أنه
فقد صوته إلى غير رجعة بعدما تحول إلى الجأش أو تكوين الصوت الذكوري عند مرحلة
المراهقة. هنا ينتابه الكثير من اليأس ويتوقف تماما عن الغناء نتيجة الإحباط الذي
شعر به ويكتفي بالعزف على البيانو، ولأنه لا يرغب في الاعتماد على أبويه في حياته
الاقتصادية يلتحق بكلية الحقوق لدراسة القانون، محاولا الابتعاد عن حلمه في الغناء
ويكتفي بالعزف اليومي على البيانو والغناءفي إحدى الحانات من دون أن يستمع إلى
نفسه كما نصحه صديقه؛ كي يستطيع التعيش من هذا العمل.
يحاول العم جيوفاني أن يقدم
آموس لأحد النقاد الموسيقيين حيث يصطحبه إلى الحانة التي يعزف فيها آموس ويغني مع
العزف ليستمع إلى ابن أخيه راغبا منه أن يكتب عن موهبته، لكن الناقد يقول لآموس:
أنا لا أصدق حتى أنك تمتلك أقل شيء من الموهبة لغناء الأوبرا حتى في أدنى فئاتها؛
فصوتك يفتقر إلى التمديد، القوة، اللون، ومجرد من كل شيء.
بالطبع كان نصيب الناقد
الموسيقي من هذا الكلام أن ألقى العم جيوفاني الكأس في وجهه، لكن آموس أُصيب بالكثير
من الاكتئاب وفقدان الثقة في نفسه وقدرته على أن يكون مغنيا أوبراليا؛ الأمر الذي
جعله ينصرف عن الاهتمام بهذا الحلم الذي كان يراوده منذ الصغر، ويكتفي بالعزف
اليومي في الحانة بعد أن تعرف على إحدى الفتيات وارتبطا بعلاقة حب، لكن في إحدى
المرات حينما كان أحدهم يقوم بضبط البيانو الذي يعزف عليه آموس يقول له: إن صوتك
جميل لكنه في حاجة إلى رعاية، أنت تدمره، ثم يخبره بأنه سبق له أن ضبط البيانو
الخاص بمايسترو إسباني شهير يعمل مع معظم المشهورين من مغنيي الأوبرا، وهو من
الممكن أن يوصله إليه كي يهتم به ويعمل على تدريبه والرعاية بصوته.
يوافق آموس على الذهاب إلى
المايسترو الذي قام بدوره الممثل الإسباني أنطونيو بانديرس Antonio Banderas في أداء قوي ولافت للنظر شكل مباراة في الأداء التمثيلي بينه وبين
الممثل الإنجليزي توبي سيباستيان Toby Sebastian، وحينما
يستمع إليه المايسترو يشترط عليه مجموعة من الشروط كي يقوم بتدريب صوته على الغناء
الأوبرالي ويعتني به ومنها: النوم في العاشرة مساء يوميا والاستيقاظ في السابعة،
والامتناع الكامل عن تناول الكحول، أو التدخين، وعدم الكلام كثيرا والالتزام
بالصمت الطويل؛ حتى يحافظ على صوته ويدخره للغناء فقط حيث يقول له: المغنون قبل
الأداء يكونون في حاجة إلى حالة من الصمت المُطلق، وبالفعل ينصاع آموس لما أملاه
عليه المايسترو الذي دربه لفترة طويلة ونجح في إعداده ليكون مغنيا أوبراليا.
يرتبط آموس بالفتاة التي
أحبها ويتزوجان، ويأتيه أحد العروض للغناء مع المغني الشهير زوشيرو فورناسياري
الذي يشكل ثنائيا مع المغني الأوبرالي بافاروتي؛ نظرا لانشغال بافاروتي في هذه
الفترة ولإيمان زوشيرو بصوت آموس، ولكن بافاروتي يلغي ارتباطاته التي تشغله ويستمر
مع زوشيرو؛ الأمر الذي يضيع الفرصة على آموس الذي يقع أسيرا للاكتئاب الحقيقي
بعدما تزوج وضاعت منه الفرصة، وبات يعتمد على والديه اقتصاديا بعدما ترك عمله
كعازف في الحانة الموسيقية.
تتعرض حياة آموس الزوجية
للكثير من الانهيارات بسبب حالته النفسية السيئة، إلا أن الزوجة تتحمله وتحاول
تعضيده إلى أن يقوم زوشيرو بالاتصال به كي يشترك معه في جولة موسيقية ويشاركه
الغناء، وهنا تكون الفرصة الذهبية لآموس؛ حيث يبدأ رحلة نجاحه وشهرته ويصير من أهم
مطربي الأوبرا الإيطالية المشهورين في العالم أجمع.
صحيح أن المخرج الإنجليزي
مايكل رادفورد حاول تقديم حياة المطرب الأوبرالي الإيطالي أندريا بوتشيلي معتمدا
في ذلك على سيرته الذاتية التي كتبها بوتشيلي، لكنه وقع في مشكلة الالتزام الحرفي
بالسيرة الذاتية وتتبع مراحله العمرية، كما أن يوتشيلي من خلال سيرته الذاتية كان
يحاول التأكيد على أن ما وصل إليه في نهاية الأمر من هذه الشهرة العالمية كان سببه
الحقيقي والجوهري هو الإيمان الذي يعتقده بوتشيلي، بينما حاول المخرج التأكيد على
أن التحدي والدأب والإصرار كانوا من أهم الأسباب في هذا النجاح وليس الإيمان الذي
حاول أندريا التأكيد عليه في سيرته.
إذا كانت هناك بعض العوامل
الفنية الناجحة في فيلم موسيقى الصمت للمخرج الإنجليزي مايكل رادفورد فهي تعود إلى
الأداء المحكم والجيد لكل من الممثل الإسباني أنطونيو بانديرس الذي أكسب الفيلم
الكثير من الحيوية في نصفه الثاني، كذلك أداء الممثل الإنجليزي توبي سيباستيان
اللذين استطاعا انتشال الفيلم من السقوط في الملل الشديد الذي قد يصرف المشاهد عن
متابعته بسبب السيناريو الملتزم بالسيرة الذاتية التزاما كاملا، لكن الفيلم وقع في
العديد من الأخطاء الأخرى منها أنه كان لا بد له من استخدام أغاني بوتشيلي التي
يعشقها الملايين في العالم، والاعتماد على موسيقاه وهو ما لم يفعله، في الوقت الذي
يقدم فيه فيلما عن حياته.
إن تقديم فيلم إيطالي عن حياة
مغني الأوبرا الإيطالي أندريا بوتشيلي يجعلنا نقف مندهشين كثيرا أمام الفيلم الذي
كان ناطقا باللغة الإنجليزية بدلا من اللغة الإيطالية التي كان لا بد أن يكون
الفيلم ناطقا بها، كما أن تقديم الفيلم باللغة الإنجليزية جعل العديد من الممثلين
فيه- وهم من جنسيات مختلفة- ينطقون الإنجليزية بالعديد من اللهجات المختلفة
الهجينة ما بين الأمريكية والإسبانية والإنجليزية الذي جعل اللغة بين الممثلين
تفتقد إلى الكثير من الانسجام في الفيلم، ولعل تقديم الفيلم ناطقا بالإنجليزية كان
من أهم العوامل التي أضعفت من مستواه كثيرا؛ حيث كان من الأجدى تقديم الفيلم
باللغة الإيطالية، وهي اللغة الأصلية لمن يدور حوله الفيلم لا سيما أن الأغاني كان
يتم تقديمها باللغة الإيطالية.
رغم أهمية الفيلم الإيطالي
موسيقى الصمت للمخرج الإنجليزي مايكل رادفورد كفيلم من أفلام السيرة الذاتية إلا
أنه شابه الكثير من النقصان والأخطاء التي كان السبب الرئيس فيها التزام السيناريو
حرفيا بسيرة المغني الأوبرالي أندريا بوتشيلي، فضلا عن نطق الفيلم بالإنجليزية
التي لم يكن لها أي مبرر، بل أخرجت الفيلم من سياقه ومنطقيته باعتباره فيلما
إيطاليا يتحدث عن أهم مطربي الأوبرا الإيطالية الذي يعرفه العالم أجمع.
محمود الغيطاني
مجلة الشارقة الثقافية
عدد سبتمبر 2018م
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق