ثمة أسئلة عديدة يُطلقها
الكثيرون لمعرفة السبب الجوهري في لجوء البعض إلى الكتابة؛ لذلك نجد العديد من
الملفات الثقافية في الكثير من الدوريات تتساءل: لماذا نكتب؟
رغم أن الكثيرين من الكتاب
يحاولون الإجابة على هذا السؤال الذي يُعد بالنسبة لهم وجوديا، إلا أننا نستطيع
القول: إننا نكتب من أجل الحياة. من أجل مواجهة الصعوبات والتغلب عليها، من أجل
تحويل الألم إلى متعة، من أجل الحياة في عالم آخر مواز قد لا نستطيع تحقيقه على
أرض الواقع؛ لاستحالته، لكن الفن قادر على تحقيق الأحلام جميعها وجعلها حياة
حقيقية يستمتع بها الكاتب والمتلقي معا، من أجل مواجهة الموت وتحديه والحياة
بسعادة. إذن فنحن نكتب في الحقيقة من أجل التغلب على كل شيء والاستمتاع بحياتنا
وتحويلها إلى ما نأمله حتى لو كان مستحيلا.
لكن هل تصلح كل هذه المبررات
لتكون ركيزة لفعل الكتابة، أي هل تنفي هذه الأمور السابقة ضرورة معرفة من يُقبل
على فعل الكتابة بآليات الكتابة وفنونها، وتكنيكاتها التي لا بد منها قبل الإمساك
بالقلم والشروع في الكتابة؟
بالتأكيد إن معرفة أصول
الكتابة هو أمر جوهري لا بد منه لكل من يفكر فيها، وإلا تحولت إلى فوضى ولا معنى،
وغثاثة لا قبل لنا بها، وهذا للأسف ما نراه اليوم بوفرة في العديد من الكتابات
التافهة التي لا علاقة لها بالكتابة الحقيقية؛ لأن من يقبلون على الكتابة لم
يعرفوا فنونها، أو كيفية الكتابة قبل الإقبال على هذه العملية الوجودية.
إن الجهل الثقافي، وعدم
التسلح بالمعرفة والفن يكونان من أهم الأسباب التي تعمل على تحويل فعل الكتابة إلى
تفاهة ركيكة لا يمكن للمتلقي أن يحتملها؛ لأن الكاتب نفسه لا يعي آليات هذه
العملية التي تكاد أن تكون مقدسة.
إن فعل الكتابة في حد ذاته
ينقل لنا الكثير من الحيوات والخبرات لدى الآخرين، وهي الخبرات التي قد لا تتأتى
لنا جميعا، لكن الكاتب الذي يصوغها في شكل فني ينقلها لنا بشكل فيه الكثير من
الإمتاع والبساطة رغم أنها قد تكون خبرات من الصعوبة التي تجعل صاحبها غير قادر
على صياغتها أو الحديث عنها. من هنا ندرك جيدا قيمة هذا الفعل الذي يُصهر
الصعوبات، والآلام، بل الموت والحياة في شكل فني يجعلنا نقبل عليه بمتعة حقيقية.
هذا التحويل للصعوبات إلى
عملية كتابية ممتعة هو ما يجعل الكثيرين منا يقبلون برغبة حقيقية على قراءة السير
الذاتية أحيانا؛ فالسيرة الذاتية تحمل داخلها خلاصة تجربة حياة، أو الرحيق الحقيقي
لإحدى التجارب الحقيقية مهما كانت مؤلمة وصعبة وتسببت لصاحبها في الكثير من
المعاناة، ولعل في الكثير من السير الذاتية التي نقرأها الدليل على ذلك من حيث
المتعة التي نشعرها حينما نقرأها رغم المعاناة التي تكون متضمنة داخل هذه السير.
هذه الرغبة في تأمل التجارب
الحياتية التي يمر بها الإنسان، ومحاولته لصهر آلامه ومعاناته وتجربته في شكل فني
يستطيع إكساب المتعة للآخرين هو ما جعل الكاتبة الأردنية نور العتيبي تكتب شيئا من
سيرتها الذاتية- رغم أنها لم تكتب من قبل- في كتابها "مهما كلف الأمر"، أي
أن الكاتبة التي لم تُقبل على فعل الكتابة من قبل أصرّت على سرد معاناتها التي مرت
بها في شكل سردي من أجل مشاركة هذه المعاناة مع الآخرين من القراء.
صحيح أن الكاتبة هنا لم تسرد
سيرتها الذاتية في شكل فني- قصة أو رواية- بل كان السرد في شكل تقريري تماما من
خلال استخدام الضمير الثالث وكأنها تتحدث عن شخصية لا تخصها، لكن ربما كان
استخدامها للضمير الثالث في السرد مجرد رغبة منها في جعل مسافة بينها وبين تجربتها
من أجل تأملها معنا أثناء السرد؛ فكلما كانت هناك مسافة بين التجربة وبين الشخص
الذي مرّ بها كلما كان أكثر مقدرة على تأملها بشكل أكبر والحكم عليها.
تتحدث العتيبي عن نفسها منذ
كانت في الثالثة عشرة من عمرها حينما بدأت تشعر بالكثير من الآلام في ساقها بينما
لم تتعد بعد الصف الثامن من دراستها: "لقد كانت نور في الثالثة عشرة من عمرها
عندما أحست بألم في ساقها اليسرى، وأخبرت والدتها بذلك، فما كان من والدة نور إلا
أخذها إلى غرفة الطوارئ، كأي أم تريد التأكد من سلامة طفلها. دعني أحدثك عن حياة
نور خلال تلك الفترة. لقد كانت في الصف الثامن، تلميذة نشيطة ومجدة في الدراسة.
لقد التحقت بالعديد من النشاطات المدرسية، عزفت البيانو، وتعلقت جدا بالرياضة.
مشاركاتها هذه لم تكن فقط محدودة لمدرستها بل امتدت لتشمل المدينة كلها، كانت تقوم
بالعزف عن طريق السمع، وكان أسلوبها في العزف لا يصدق، مما جذب الكثيرين للاستماع
إلى هذا العزف"، نلاحظ هنا من خلال هذا الاقتباس أن الكاتبة حريصة على أن
تسرد هذه الفترة من عمرها؛ لتبين لنا مدى المأساة والألم اللذين أحاطا بها حينما نعرف
فيما بعد أن الآلام التي تشعر بها في ساقها بسبب سرطان العظم الذي سيؤدي إلى بتر
ساقها.
طفلة في هذا العمر، ومقبلة
على الحياة بكل جمالها، ورغبتها في الاستمتاع بالحياة من خلال عيش طفولتها وممارسة
كل الأنشطة المحببة لها تجد نفسها فجأة من دون ساق وعليها أن تتعايش مع الواقع
الذي ألم بها؛ لأنه لا سبيل آخر لها سوى التعايش مع هذا الواقع.
حينما تذهب والدة نور بها إلى
المشفى يخطئ الطبيب في التشخيص ويعطيها بعض المسكنات والفيتامينات، لكنها بعد
ثلاثة شهور لا تستطيع تحمل الآلام الذي تثبت الأشعة أنها تعاني من سرطان العظم في
ساقها ولا بد من بتر هذه الساق.
الكاتبة الأردنية نور العتيبي |
بما أن الساردة تعيش في
الإمارات التي ولدت فيها، وبما أن الإمارات في هذا الوقت لم يكن فيها هذا التخصص
تضطر الساردة من خلال أبيها إلى السفر لبريطانيا لإجراء جراحة بتر الساق هناك حيث
يعيش عمها مع عائلته. تصف لنا العتيبي مشاعرها بعد بتر ساقها: "حينها أدركت
بأنها ستمضي حياتها دون أن تركض من جديد، لن تكون الأفضل في رياضاتها بل وأيضا لن
تستطيع أن تلبس الكعب العالي كبقية الفتيات اللواتي في عمرها. يجبرك هذا الواقع
بأن تفكر بطريقة مختلفة عندما يتعلق الأمر بحياتك، لقد تغير كل شيء إلى
الأبد".
تقول واصفة حالتها بعد البتر:
"الألم الذي كانت تعاني منه بعد خروجها من العملية كان لا يطاق بالأخص عندما
كانت تحاول أن تأخذ قسطا من النوم، لم تستطع النوم إلا إذا أعطاها أحد الممرضين
شيئا لتخفيف الألم. عندما نظرت لجهة اليسار لأول مرة لاحظت تبسط غطاء السرير في
المكان الذي يجدر أن تكون فيه قدمها، وعندما استيقظت كان لا بد من تذكيرها
باستخدام الدعامات لتسند نفسها"، إن معاناة طفلة في هذا العمر من هذه التجربة
بالتأكيد ستكون تجربة شديدة القسوة، والشعور بالفقد؛ لكن نور لم تستسلم لهذه
المشاعر، فحاولت التحلي بالقوة والإصرار والتحدي وتحويل هذه المشاعر السلبية إلى
مشاعر إيجابية تساعدها على الاستمرار في الحياة وإسعاد نفسها؛ لذلك- بما أنها لا
بد من أن تبقى ثلاثة أشهر على الأقل في لندن قبل العودة إلى الإمارات- تحرص على
تعلم اللغة الإنجليزية وإتقانها هناك مستغلة هذه الفترة، وحينما تعود إلى الإمارات
تجتهد كثيرا في دراستها لتتفوق في التعليم الثانوي، ثم تنهي دراستها الجامعية، هنا
وقفت نور أمام العمل؛ حيث فرص العمل أمامها بالتأكيد ستكون قليلة، لكنها لم تشعر
بالإحباط ولم تستسلم لواقعها بل رغبت في مقاومته وتحديه؛ الأمر الذي جعلها تُقدم
للوظيفة في كل إعلان من الممكن أن يقع أمام عينيها إلى أن فوجئت بعد ثمانية أشهر
باتصال بها يخبرها أنها قد تم قبولها للعمل في إحدى أكبر شركات البترول في
الإمارات، كما أنها لم تكتف بذلك فقط، بل حرصت على دراسة الماجستير أثناء عملها
وحصلت عليه كذلك؛ الأمر الذي رشحها للحصول على دورتين في أمريكا: "بقيت نور
طالبة متميزة حاصلة دوما على علامات عالية، وقد تم ترشيحها لتحضر دورتين مكثفتين كشراكة
مع جامعة "تولاين" في الولايات المتحدة. شعرت بالفرحة العارمة وبالفخر
لحصولها على مثل هذه الدعوة التي لا يكاد المرء أن يصدقها".
إن تجربة نور السردية لم يكن
لها أي علاقة بفنية السرد- وهي لم تدع ذلك- بقدر علاقتها الحثيثة في قهر الظروف
التي يجد المرء نفسه فيها فجأة فإما أن يستسلم للألم والبكاء والإحباط والاكتئاب
وربما الانتحار، أو يحاول مقاومة هذه الظروف العصيبة بتحويلها إلى صالحه والحياة
بشكل جدي وسعيد بفضل إصراره وتحديه ومقاومته، وهذا ما أرادته نور العتيبي من خلال
كتابتها لهذه التجربة الصعبة التي مرت بها، أن تقول لنا: نحن جميعا أقوى من كل
الظروف الأليمة والقاتمة التي نمر بها شريطة التحلي بالتحدي والإرادة الحقيقية من
أجل التغلب على هذه الظروف السيئة.
يبدو لنا كتاب "مهما كلف
الأمر" للكاتبة الأردنية نور العتيبي من كتب السيرة الذاتية التي
ترغب في نقل تجربتها الأليمة ومحاولة صهرها في تجربة سردية لتتشارك بها مع الآخرين
من القراء والتدليل على أن أصعب الظروف من الممكن لأي منا أن يتغلب عليها من خلال
تحديه ومقدرته على الإصرار.
محمود الغيطاني
مجلة عالم الكتاب.
عدد أغسطس 2018م
مقال جميل . نكتب كي نواجه اعتداءات الحياة بحسب بافيزي
ردحذف