الأحد، 17 أبريل 2022

فاليوم عشرة.. متلازمة الهزيمة العراقية

كل شيء يبدأ من الموصل وينتهي إليها، منها بدأ العالم العراقي، والهم العراقي، ومشاهده، وكوارثه، ومآسيه المتتالية، وانهياره الكامل، والانتماء للعراق، حتى أننا نتصور أن العالم نفسه خرج من رحم الموصل. هنا في هذه المدينة بدأ فيضان اليأس العراقي الكاسح؛ ليزيح أمامه كل الإرادات والرغبة في الحياة؛ فتحولت العراق إلى جحيم حقيقي لا يرغب أهله سوى في الموت، أو التغيب، أو الهروب منه إلى عالم آخر.

بدأت المأساة الحقيقية في  العاشر من حزيران/ يونيو 2014م مع سقوط المدينة في يد تنظيم الدولة الإسلامية "داعش"، وانسحاب وهروب الجيش العراقي من المدينة.

 كان سقوط الموصل عبارة عن مجموعة من المواجهات التي بدأت بمعركة بين قوات الجيش العراقي من جهة، وبين تنظيم "داعش" وما يسمى بثوار العشائر وجيش رجال الطريقة النقشبندية من جهة أخرى، حيث فرض ما يسمى الثوار سيطرتهم على الجانب الأيمن من مدينة الموصل في 9 حزيران/ يونيو 2014م، وجاء هذا تكريسا للمساعي لاستعادة ما يُسميه تنظيم "داعش" بالخلافة الإسلامية، وعلل البعض التعاطف الشعبي السني معهم بأسباب متعددة كان من أبرزها ما أسموه بالطائفية، والتهميش، والمادة أربعة إرهاب، واستمرار عمليات الاعتقالات العشوائية، ومن جهة أخرى يقول المعارضون لهذا الرأي: إن ساحات الاعتصامات تم استغلالها من قبل التنظيم والمجموعات الخارجة على السلطة العراقية والتي انحرفت عن المسار الصحيح. فيما تقول الحكومة العراقية: إن ما حصل في الموصل والمحافظات الأخرى هو خيانات أدت إلى انهزام الجيش العراقي في تلك المناطق ودخول تنظيم "داعش" من سوريا، وقد ساعدهم عناصر التنظيم من العراقيين، كذلك بعض السياسيين في الدولة العراقية- على حد زعم الحكومة العراقية- التي كان رئيس وزرائها في تلك الفترة نوري المالكي.

لكن المدهش، وربما كان هو السبب في المأساة الحقيقية التي حدثت في العراق من انكسار حقيقي، وقهر، وخزي، وهوان، وهزيمة نفسية، ورغبة مميتة في التخلي عن الحياة من قبل الكثيرين من العراقيين هو أن المواجهات التي حدثت بين الفريقين وأدت إلى سقوط الموصل وهروب الجيش العراقي وانسحابه أمام "داعش" تاركا في ذلك معدات عسكرية هائلة من مدافع ودبابات ومدرعات ومنصات قتالية، بل حتى طائرات وصواريخ، فضلا عن سيطرة التنظيم على فروع البنك المركزي العراقي في الموصل. نقول: إن الدهشة الحقيقية تنبع من أن هذه المواجهات القتالية كانت لا بد أن تنتهي بانتصار الجيش العراقي على التنظيم المتشدد- وهذا هو الطبيعي والمنطقي-؛ حيث كان الجيش العراقي مشاركا بالفرقة الثانية وعددها 15000 جندي عراقي، والفرقة الثالثة التي كانت تضم 15000 جندي عراقي آخر، وفرقة شرطة فيدرالية تضم 10000 رجل شرطة، أي أن عدد القوات العراقية التي كانت تدافع عن مدينة الموصل في هذا التوقيت بلغت قرابة 40000 مقاتل مزودين بالأسلحة المختلفة والحديثة، بينما كان عدد مقاتلي تنظيم "داعش" ما بين 800 مقاتل إلى 3000 مقاتل.

إذا ما تأملنا التفوق العسكري والبشري بين الفريقين لا بد لنا أن ترتسم الدهشة الحقيقية لسقوط المدينة، وهروب الجيش العراقي وانسحابه منها تاركا خلفه كل معداته العسكرية وطائراته ودباباته، بل والمطار أيضا، وفروع البنك المركزي العراقي، أي أن سقوط المدينة كان كارثة حقيقية بكل المقاييس لا يمكن تخيلها حتى في عالم روائي إذا ما تجرأ أحد الروائيين وتخيل ذلك.

ترجع أسباب سقوط الموصل إلى عدة عوامل شرحها الجنود الفارين من المعركة على قنوات الإعلام العربية والعالمية والتي كان على رأسها عدم كفاءة ومهنية القادة الذين هربوا تاركين جنودهم! ولعل هروب القادة كان من أهم أسباب السقوط التي أدت إلى هروب الجيش بالتبعية وترك المدينة لتنهبها عناصر "داعش" والسيطرة عليها؛ ومن ثم اتخاذها كمركز لانطلاق عمليات عسكرية أخرى ومواجهات بينها وبين الدولة العراقية من أجل إقامة ما يُطلق عليه "دولة الخلافة الإسلامية"؛ حيث تحول التنظيم بما وضع يديه عليه إلى دولة داخل الدولة العراقية.

من هذه الواقعة السوداء في تاريخ العراق الحديث التي أطلق عليها التنظيم الداعشي اسم غزوة أسد الله البيلاوي؛ نسبة إلى قائد معركة الموصل من قبل التنظيم، يبدأ العالم الروائي لرواية "فاليوم عشرة" للروائي العراقي خضير فليح الزيدي؛ فتحيل هذه الذكرى القاسية العراق بالكامل إلى جحيم لا يمكن لعراقي أن يحتمله، بل تحولت الحياة في العراق بسبب هذه المعركة إلى هوان وخزي، ورغبة عميقة في الموت، أو التغيب الدائم من أجل تناسي ما حدث فيه من ذبح للمدنيين باسم الدين، وهروب الجيش الذي يمثل كرامة الدولة وسلطتها أمام مجموعة من الأفراد الذين لا قيمة لهم، والذين فرضوا سيطرتهم على العراق لفترة طويلة متحدين الدولة العراقية في ذلك.

يبدأ الزيدي روايته بتاريخ 10 حزيران 2014م، بشكل فيه من المفارقة الساخرة ما يُدلل على المرارة الشديدة التي باتت كالعلقلم لدى العراقيين فيكتب: "بسم الله الرحمن الرحيم: أيها السيدات والسادة، سنذيع بعد قليل الخطاب التاريخي للرئيس، إلى ذلك نسترعي الانتباه"، ثم يلي هذا التنبيه مباشرة تنبيه آخر فيه الكثير من المفارقة: "بسم الله الرحمن الرحيم: إلى المؤمنين كافة، هلموا للصلاة خفافا إلى جامع النوري الكبير، سيخطب الخليفة- أطال الله في عمره- في الجمع المؤمن بعد قليل". إذا ما تأملنا الجملتين الافتتاحيتين للرواية نلاحظ أن ثمة خطابين سيتم إذاعتهما في نفس يوم السقوط: خطاب الدولة الرسمي الممثل في الرئيس، وخطاب الخليفة/ أبو بكر البغدادي الذي أصبح سلطة ثانية في العراق، ربما هي أقوى وأكثر سيطرة وتخويفا ورعبا وسلطوية من السلطة الرسمية الأولى.

هنا يصبح الأمر عبثيا بشكل واضح؛ فكلا الجهتين باتت سلطة متنازعة ومتحدية للأخرى في العراق، والواقع يقول: إن سلطة البغدادي أكثر استقرارا وإمساكا بتلابيب الأمور بشكل أقوى من السلطة الرسمية المتخبطة بعد الهزيمة والهروب الكبير للجيش تاركا خلفه معداته العسكرية التي جعلت من التنظيم الداعشي جيشا ضخما مسلحا قادرا على مواجهة الجيش العراقي الهارب في خزيه.

لا يكتفي الزيدي بهذه الإشارة منذ البداية، بل يحاول من خلال سرد متماسك ذكي أن يقول بالإشارة والتلميح مبتعدا في ذلك عن المباشرة التي تفقد السرد الكثير من فنيته: إن ثمة تواطؤ على الدولة العراقية من خلال العديد من الدول وإعلامها، والدليل على ذلك أن قناة France 24 حينما عرضت فيلما تسجيليا عما يحدث كان اهتمامها منصبا على الخليفة أبو بكر البغدادي وليس على الرئيس الرسمي وخطابه: "لم يشر المقطع الوحيد من الفيلم الوثائقي الذي عرضته قناة France 24 Arabic الفرنسية بشكل واضح إلى خطاب الرئيس في ذلك اليوم، لقد تطرق الفيلم بشيء من الإسهاب لشخصيات عامة من الشارع لأسباب غير معلنة، من دون أن يتوغل في تفسير أو نقل خطاب الرئيس الذي بُث عقب الانسحاب. في المقابل أفرد مساحة جيدة بغزل واضح لخطبة الخليفة في مسجد المدينة المحتلة، كما عقب مُعلقه على لغز العرج الواضح في ساقه اليمنى أثناء صعوده المنبر، وعن طول "السواك" وصلاحه لتطهير الفم قبيل الصلاة، وإلى حقيقة ارتداء الساعة السويسرية في يده اليمنى، إلى نوع القماش الإنجليزي المستورد للعمامة الملفوفة بعناية، إلى جلدة الحذاء المدبوغة لشخصه، إلى العباءة العباسية السوداء واللحية الكثة التي يجمّلها خيط الشيب بضربة لون ساحر"، في المقطع السابق يؤكد الروائي من دون مباشرة إلى وجود تواطؤ ما على الدولة العراقية بالكامل وما يحدث فيها؛ فالاهتمام ينصب على الخليفة البغدادي بشكل أقرب إلى الغزل، في حين يتجاهل الفيلم الوثائقي خطبة رئيس الدولة العراقية، بل إن الفيلم يذيع العديد من الفقرات في خطاب الخليفة، ولا يذيع أي شيء من خطاب الرئيس في تجاهل تام له، وكأنما إعلام الدول الأخرى يؤكد أن الأمر الواقع في العراق هو: إن تنظيم "داعش" بات هو الدولة العراقية الحقيقية بينما باتت الحكومة الرسمية المدنية لا أهمية أو وجود لها.

يدور السرد على لسان العراقي سلام وافي الذي نجح في الهجرة إلى كندا والحصول على جنسيتها، محاولا الهروب من الجحيم العراقي الكبير الذي جعل عددا ضخما من المواطنين العراقيين يلجأون إلى كل أنواع العقاقير المنومة والمهلوسة كي يتناولونها إما للنوم أطول فترة ممكنة هروبا مما يدور حولهم في واقعهم، أو لتخيل حياة أخرى أجمل مما يحيط بهم بفضل العقاقير المهلوسة التي يتعاطونها؛ حتى لقد تحولت نسبة كبيرة من العراقيين إلى "بلاعين" حيث كان وصف "البلاع" هو ما يُطلق على من يتناول كمية كبيرة من هذه العقاقير ويعتاد عليها. نلاحظ من خلال السرد أن سلام وافي نفسه/ الراوي بات من أهم البلاعين/ المدمنين على تناول هذه العقاقير حيث يؤكد أن العراق قد تحول إلى مكب عظيم لكل شركات الأدوية في العالم التي تعمل على تهريب أحدث منتجاتها من الحبوب المنومة والمهلوسة إلى العراق الذي يستهلكها بكميات ضخمة، في ذلك يصف الأمر بقوله: "بغداد هي الآن الباب الشرقي بكل عوالمه السرية والعلنية، بغداد هي "أبو العوف" نفسه بهرجه وصخبه وسعادته الطافحة من الخرائب والخراب الشامل، بزبائنه المسطولين والمهزومين أمام جند الخليفة والباحثين عن سطوة نوم طويل، يترنمون بشعار المرحلة "النوم هو الحل" بشواذ الأبناء ومثلييه الباحثين عن سقف الأمان. الحداثة والعصرية والأساطيل والجيوش تتراجع أمام جند حفاة من كل أصقاع الأرض احتشدوا لهزيمة غسان ذلك العسكري المنضبط".

إذن فالتغيب عن الحياة بات هو القانون لدى النسبة الأكبر من العراقيين؛ للهروب من واقعهم المأسوي، ورغم أن سلام نجح في الهروب بعد تشرده عدة سنوات في الأردن إلا أنه لم يتخل عن هذا الإدمان حتى بعد ذهابه إلى كندا والاستقرار فيها؛ فالماضي يطارده ككابوس، كما أن الواقع الكندي بالنسبة له يشعره بالعزلة والوحدة العميقة؛ الأمر الذي يجعله يهرب إلى تناول العقاقير للتغلب على الماضي والحاضر اللذين يعيشهما معا بقسوة وعدم قدرة على التعامل معهما: "عندما عدت إلى بغداد شعرت لأول مرة بندمي على هذه العودة، مُحاصر من كل مكان وبغداد لا تكاد تسع بما فيه الكفاية، محاصر بتشويش فضائي وحر صمغي فائق، أول الأشخاص الذين أجبرتني صدمة الموصل لأتعرف عليه كان يعمل بائعا جوالا في منطقة الباب الشرقي، هو صديقي "أبو العوف" بائع الحبوب المهلوسة وصيدلاني الباب، تجارته في جيوبه. خيارات كثيرة ينتقي منها الزبون الشريط الذي يناسبه. بعد أن يشرح حالته يصف بخفة الطبيب ما يناسبه من شريط ملائم لينسى ألم النكسة وينام. كل ما خرجتُ به من أبي العوف هو هذه الجملة الناقصة "عادي جدا"، مُختصرا المأساة بفذلكة ظريفة. في أتعس الظروف التي تواجهه يختصر الحياة بكلمتين ليس أكثر، حتى عندما قلت له: إنك ستقتل حتما يوما ما في الباب الشرقي: عادي جدا. الموت أسهل بكثير من الحياة هنا يا صديقي. وأذكر أني عندما قدمت نفسي له في أول لقاء تاريخي يجمعنا: اسمي سلام الوافي، أريد حبوب لأخي العقيد المنسحب من الموصل. رد عليّ بسرعة ومن دون تفكير: عادي جدا. ما هو العادي؟ ضحك ومدّ كف يده ليصافحني بقوة: يا أخي طلبك موجود عندي. أهلا وسهلا بك في الباب. الموت عادي جدا، والحياة أيضا يا صديقي". من خلال هذا الاقتباس يتبين لنا مدى العدمية التي باتت تسيطر على العراق والعراقيين؛ فالموت عادي جدا، والحياة أيضا عادية جدا كلاهما سواء لا فرق بينهما، بل لقد باتوا يرون الموت أفضل وأكثر سهولة من الحياة الجحيمية التي يحيونها في هزيمة دائمة لا تنتهي، أو للهروب مما يدور حولهم.

هذه العادية، أو العدمية التي باتت تسيطر على الجميع تؤدي إلى تشكيل ردود أفعالهم اللامبالية من أي شيء؛ لذلك حينما يقول سلام لأبي العوف ذات مرة: "فقدنا الموصل يا صديقي"، قال أبو العوف كلمته الشهيرة بطبيعية مطلقة وكأن سلام قد قال له مثلا: إن الطقس جميل: "عادي جدا، في العراق الجديد أن تفقد أفضل من أن تكتسب. أنت في بغداد يا صديقي. لا أعرف بالضبط ما قصده بقولته الشهيرة هذه وما هي "العادية" في هذه النكسة الأليمة التي أصابت أخي غسان بالبكم.. ثلاث صدمات متتالية تلقيتها معا هي الموصل وغسان وأبي العوف". هذه الهزيمة النفسية العميقة التي بات يعاني منها العراقيين جعلتهم كالأموات المستسلمين تماما للموت، وللكوارث، وللمزيد من المآسي؛ لذلك يقول أبو العوف ذات مرة لسلام: "يا أخي تحولنا في العراق الجديد من كحوليين عدوانيين إلى بلّاعة مستسلمين للقدر. حتى الصيادلة يحجزون له حصته الشهرية ويسألونه أحيانا عن بعض الأنواع والأصناف الجديدة الواردة من مناشيء غير دقيقة". وفي موقف ثاني يقول أبو العوف عن تناول العقاقير المنومة وكأنه يخبر سلام بشيء يقيني لا يمكن النقاش حوله: "هذا ما توصل إليه "الجماعة" كعلاج شرعي لتحمّل العيش الواجب في بغداد اليوم. حصلت عندي قناعة بأفكاره وعمله بعد قناعتي المسبقة بفلسفة جاري "جاد الله"، فالنوم هو بديل سحري إزاء ما يعصف بنا من مشاكل مترادفة وهذا الغموض الأيديولوجي. للنوم سلطة القبض على كينونات العثّة التي تعبث في الرأس ويكشطها واحدة تلو الأخرى"، هنا يتضح لنا أن الجميع يقتنع تمام الاقتناع بالتغيب عن الواقع بالنوم الذي أصبح الحل السحري للعراقيين؛ لذلك: "راح أبو العوف يبدع في مهنته ليكرس التنويم المدروس والممنهج للمهزومين من أقرانه في سلم المأساة، له موقع في الفيس بوك ومتابع بتغريدات كثيرة على تويتر من كل الأطياف، يروّج لحبة الفلاكا Flakka حبوب الهلوسة الرخيصة الأثمان والخاصة بالمهمشين، حبوب ما بعد الحداثة كما أفادني للتعريف والترويج بها، إنه زمن الفليكا الأمريكية، لها قدرة تحويل خزان التعاسة بدقائق بعد البلع إلى سعادة غير متخيلة، يطلق عليها أبو العوف حبر الفلك الأسود. يرقص بلّاعها في مأتم أخيه ويغني (يا ويل- يا عين- يا ليل) على أنقاض الخرائب بسعادة وحيوية".

خضير فليح الزيدي

لكن سلام يتواصل مع صديقه العراقي الذي هاجر إلى فرنسا وحصل على جنسيتها، هاتف الصراف، وهو الرجل المهتم اهتماما كبيرا بحقوق المثليين في العالم لا سيما المثليين العرب خاصة العراقيين، ويرغب في مساندتهم في كل المحافل الدولية باعتبار أن المثلية حقهم في الحياة؛ مما يشكك سلام فيه، ومن خلال هاتف يتعرف سلام على وكالة "جوو" الفرنسية للأفلام الوثائقية، وهي الوكالة التي تهتم بتصوير أفلام وثائقية في المناطق الملتهبة من العالم والتعريف بمشكلاتها، وبما أن سلام ابن من أبناء إحدى هذه المناطق الملتهبة عالميا بالكثير من الصراعات والأحداث، وبما أنه العراقي القادر على التعايش مع أهل هذه المنطقة العراقية واحتمال درجات الحرارة الحارقة التي تصل إلى 49 درجة مئوية؛ فهم يعملون على تدريبه جيدا؛ كي يقوم بتصوير أفلام لهم عن العراق مقابل 3000 يورو لدقيقة التصوير الخام الواحدة.

يتعرف سلام في كندا على سليمة حنظل العراقية التي هاجرت مثله، وهناك تحكي له حياتها المأساوية وكيف حاول أحد القادة العراقيين من ذوي السلطة مطاردتها لطمعه الجنسي فيها رغم أنها متزوجة، ورغم أنها أخبرته بأنها مندائية الديانة ولا يصح له أن يلمسها أو يتزوجها باعتباره مسلما، لكن الرجل أصرّ على الحصول عليها وأصرت هي على الحفاظ على نفسها وعلى زوجها، مما جعل الرجل يعتقل زوجها ويهددها بإعدامه؛ الأمر الذي جعلها تهرب هي وابنتها الصغيرة إلى قطر للتدريس هناك، وتركت رضيعها لدى إحدى الأسر في العراق على أن تعمل باستقدامه لها حينما تستقر، وفي قطر قامت بتدريس التربية الإسلامية للصغار؛ الأمر الذي جعلها تخفي حقيقة ديانتها المندائية، واطلعت كثيرا على الديانة الإسلامية كي تنجح في إقناع الجميع بأنها مسلمة، إلى أن نجحت في الهجرة إلى كندا مع ابنتها؛ لذلك ترجو سلام الذي سيعود إلى العراق في مهمة عمل تخص تصوير أفلامه الوثائقية أن يبحث لها عن ابنها الذي تبناه أحد المسلمين ونسبه إليه، وأن يعمل على إقناعه بالعودة إلى أمه من خلال لمّ الشمل والهجرة إلى كندا.

هنا بات أمام سلام مهمتين أساسيتين حين عودته إلى العراق، أولاهما تصوير الأفلام الوثائقية، والثانية البحث عن ابنها أصيل وإقناعه بالهجرة إلى أمه، فضلا عن مهمة أخرى أكثر صعوبة وهي إيجاد علاج لأخيه العقيد غسان الذي يلتزم الصمت التام والانفصال عن كل ما يدور حوله فيما يُسمى بمتلازمة الهزيمة منذ عودته من الموصل وسقوطها حيث كان قائدا في الجيش هناك، وهي المتلازمة التي أُصيب بها العدد الأكبر من الجنود الفارين من معركة الموصل حيث تحولوا إلى مجموعة من الأموات الأحياء المنفصلين تماما عن واقعهم وما يدور فيه.

نلاحظ فيما يسوقه السرد الروائي في رواية "فاليوم عشرة" أن ثمة حديث حزين شديد الانكسار والعدمية واللاقيمة يسيطر على كل العراقيين حينما يتحدثون عن العراق وما آل إليه بعد سقوط الموصل، حيث العراق المتآكل الذي لن يعود كما كان سابقا: "مصيبة كبرى، كلما حاولت نسيان العراق يبرز بكل تعقيداته مثل الشبح المخيف منتصبا كديناصور أمامي في المنام والصحو. يبدو لي كأنه خالتي هزيمة خرجت من قبرها عارية كما خلقها ربها تحاول احتضاني من جديد لتقص عليّ حكاياتها المرعبة. كل تلك الأقراص التي تناولتها لم تُجدِ نفعا في سلم النسيان"، إذن فكل شيء حول العراق مشبع بالهزيمة حتى أن خالة سلام أيضا كان اسمها هزيمة، وكأن العراق كان قدره الهزيمة المتواصلة التي قضت على نفسية الجميع وجعلتهم كالأحياء الأموات.

هذه الهزيمة جعلت العراقيين يفسرون الأمور تفسيرات تخصهم هم فقط؛ حتى أنهم يرون أن لديهم إشكالية كارثية حقيقية بسبب اتساع رقعة الأراضي العراقية، وهو ما نراه في حديث سلام لأصيل: "مشكلتنا الحقيقية ليست كلها في التاريخ، الجغرافيا هي نصف المشكلة حسب اعتقادي. وطن بجغرافيا مهلهلة ومترامية الأطراف تحيطه الصحاري التي تتغوط فيها الكلاب المتوحشة، تتحول إلى عوامل مساعدة للطمع والغزو وعدم السيطرة. يكفينا نصف ربع هذه الأرض للعيش.. أفضل بكثير من تراب لا ينفع في شيء سوى الموت عليه. ستة دول تحيط بنا، ولنا معها ماض ملتبس من الغزو والمشاكل والاحتلال. الغزو هو ثقافة متأصلة في جينات العرب يا أصيل"، كما أن هذه الهزيمة كان لها أثرها العظيم على الجميع سواء من شارك منهم في حرب الموصل، أو من لم يشارك؛ فرغم أن سلام لم يشارك في الموصل مثلما شارك أخوه العقيد غسان إلا أنه يقول: "أبدو الآن مثله، كمقاتل مخذول في جيش مكسور، وعليّ تصور ما حدث له، خسر معركة لم تحدث أصلا، لكنه بقي على قيد الحياة، آخر المنسحبين من مدينة الموصل، بعدما يئس من الثبات وهروب الجنود من حوله، حاول الثبات لكنه أصيب بالصدمة من فرار الكل من حوله، انسحب مع من تبقى من حمايته الشخصية، وعاد منكسرا مصدوما يجرجر أذيال الخيبة والخسران. لا أرض تحته ليقف عليها ويحارب كما الرجال الأفذاذ، ولا جدار صلد بقربه ليسند إليه ظهره من التعب". إنه حال العراق الذي تحول إلى جحيم لا يمكن الحياة فيه؛ لذلك حينما تحاول سالي ابنة سليمة حنظل المندائية أن تقنع سلام بأخذها معه إلى العراق للقاء أخيها أصيل والعودة به إلى كندا يقول سلام واصفا ما آلت إليه بغداد: "لا تهتمي كثيرا لمرويات التاريخ والذاكرة، محض هراء.. بغداد الآن غير بغداد الكتب الصفراء، ومهمتي في بغداد ستكون مغامرة في مشوارها الأول، لكن صدقيني في رحلتي الثانية أصطحبك معي، بل سوف أقنع أمك بالذهاب معنا. وسترين أصيل وتلتقين به. لكن في المرة الأولى لا يمكن مطلقا. ثم إنك بنت جميلة ومتحررة، وهذا لا ينسجم مع وجودك في مدينة فيها لغة السلاح والخطف والدم أعلى من كل لغة، والطبيعة قاسية هناك ولا تُطاق مطلقا. الحر هناك غالبا ما يذكر الناس بالجحيم، لذلك هم لا يودعون النار في يوم القيامة".

بالفعل يتعرف سلام وافي على أصيل ابن سليمة حنظل حينما يصل إلى العراق وتتكون بينهما صداقة عميقة رغم الفارق العمري الكبير بينهما، ويرفض أصيل تماما فكرة السفر إلى كندا ويُصرّ على أنه لا يعرف له من أهل سوى الرجل الذي رعاه وتربى في كنفه، وليست له ديانة يعرفها غير الإسلام. كما نعرف أن أصيل يعمل في المنطقة الرئاسية، أو ما يُعرف بالمنطقة الخضراء في مكتب المستشار الاقتصادي لرئيس الوزراء كساع يقدم المشروبات ويعمل على تنظيف المكاتب، ولكن ذات مرة يعثر أصيل على قرص رقمي نساه أحدهم في أحد أجهزة الكمبيوتر؛ فيأخذه ويحتفظ به، وبمجرد اكتشاف اختفاء هذا القرص تنقلب الحكومة العراقية بالكامل للبحث عن هذا القرص المسمى بالقرص جيم، ويُقال أنه يحتوي الكثير من الأمور التي تخص مستقبل واقتصاد العراق، وتجرى العديد من التحقيقات في المكتب، وتحاول الحكومة التستر على اختفاء القرص بعيدا عن الإعلام، هنا يلجأ أصيل إلى سلام بعدما يشعر بالكثير من الرعب وأنه في مأزق كبير لا سيما أن الحكومة أعلنت عن مبلغ ضخم لمن يقوم بتسليم القرص أو الإرشاد عنه. يأخذ سلام القرص محاولا فتحه إلا أنه كان مغلقا بالعديد من كلمات المرور المعقدة؛ الأمر الذي يجعله يلجأ إلى هاتف الصراف المهاجر إلى فرنسا والمهتم بحقوق المثليين والذي كان قد لحق بسلام إلى بغداد، فيضطر هاتف إلى اللجوء لشخصية غامضة يُطلقون عليها الدكتور، وهو رجل له سلطة مطلقة في العراق، لكن لا أحد يعرف اسمه، وله علاقات متعدد بالعديد من المصارف في العالم، ويخشاه الجميع كما يقيم في المنطقة الخضراء ولديه القدرة على حماية الجميع ممن يرغب في حمايتهم، لكن بمجرد تسرب أمر اختفاء القرص إلى الإعلام يخبرهم الدكتور بأنه قد بات لزاما عليهم هم الثلاثة سرعة السفر إلى بيروت خلال يوم واحد وإلا تم اعتقالهم، وأنه سوف يقابلهم للاجتماع بهم في بيروت، كما طلب منهم عدم الاتصال ببعضهم البعض في بيروت إلا حينما يصل للاجتماع بهم.

حينما يصل الدكتور إلى بيروت يخبرهم: "إخوان، بصراحة هذا القرص يحتوي على أسرار دولة مرعبة للغاية، وغالبا اللعب مع أسرار الدول الكبيرة هو الخطر الأعظم، هذه الدولة هي بلدنا كلنا، إن كشف أسرار العراق أو المتاجرة بها ستوفر بعض المبالغ للمتاجرين، لكن بالمقابل ستهتك أسرار بلد كامل وتعرضه إلى مشاكل اقتصادية خانقة خاصة بعد ضياع الموصل، بحيث تتوقف عجلة البناء والتطور. نحن الآن نجتمع على تقرير مصير بلد من الناحية الاقتصادية، علينا أن نختار أحد طريقين. هذا الشخص كما ترون هو خبير مصارف إليكترونية من بولندا، أخذ عمولة كبيرة على كشف مادة القرص. والذي تبين أن بعض قنوات الإعلام كشفت المخطط المرسوم لسرقته، باتت قوات الأمن بكامل طواقمها تتابع خيوط تلك الجريمة الاقتصادية كما يسمونها، لكنه حذر من المتاجرة فيه، ثم إن السلطات العراقية مستمرة في البحث عنه بعد تسرب الخبر للصحافة كما أخبركم الأخ هاتف، وحاولت الاجتماع بكم هنا في بيروت للتحدث بحرية أكبر بشأن ما تؤول إليه أمور القرص"، يستمر الدكتور في حديثه إليهم ليقول لهم: "على العموم هناك طريقان فقط لا غيرهما أمامنا، الأول وهو الطريق الوطني، يتمثل بفض الشراكة وإنهاء العقد المبرم بيننا وتسليم القرص إلى السلطات المختصة مقابل ضمان خطي بعدم المساءلة القانونية والملاحقة من قبل السلطات العراقية. صاحبة القرار، ستجيز لنا مجتمعين فتح مصرف استثمار أهلي لبيع العملات مجازا ومدعوما من السلطات العراقية والبنك المركزي، من خلاله نستطيع بيع وشراء العملات في صفقات مدعومة، بما فيها استثمار مبلغ المكافأة، كل هذه الإغراءات قدمتها لجنة البحث والتقصي عن القرص. أما الطريق الثاني وهو الطريق التجاري المختلف المتمثل في بيع القرص على أحد الأشخاص وهو يتصرف به بطريقته، إما أن يكمل مشوار الاختراق والقرصنة أو يتاجر به بطريقته. هذا الشخص موجود وحاضر بيننا وهو رجل "بيزنس مان" من الطراز العالمي لا يمكن أن يتسبب لنا بمشاكل جانبية وهو لبناني وتاجر مصرفي كبير ومعه هذا الرجل الأجنبي خبير المصارف الإليكترونية.. بالنسبة لي أوافق على ما تتفقون عليه أنتم من حيث التصويت الديمقراطي الحر، إما الطريق الأول المسمى الوطني، أو الثاني المسمى التجاري".

صدام حسين

هنا يرى سلام أن الوطن العراقي لم يعطه ما يستحقه كي يقف إلى جواره في مسألة القرص: "دكتور، سأختصر الطريق عليكم. بالنسبة لي، أجد أن الطريق الثاني هو الأسلم، ولعنة الله على حركة البناء والتطور والإعمار، ربما سيؤدي الطريق الوطني- حسب قولك- بالقرص إلى جماعة أخرى للمتاجرة به. أنا أكره شعارات الوطنية التافهة، وكنت دائما ما أرسب في درس الوطنية"، هنا تتفق جميع الأطراف على بيع القرص لجهة أجنبية، فيخبرهم الدكتور: "إذن أنتم تختارون طريق البيع، وأنا موافق على مضض، هذا الرجل يقدم لكل طرف من الأطراف 50 ألف دولار لا غيرها" ويخبرهم أن هذه المبالغ يتم تسلمها بعد ستين يوما لضرورات يجدها مناسبة، فيقول سلام للدكتور: "دكتور، أبيع الصك الآجل بالكاش موني، حاجتي كبيرة للمال الآن"، فيرد الدكتور: "أشتريه منك لحسابي بطريقة المرابحة التجارية.. عن كل يوم تأخير 200 دولار. وبما أن موعد الصك سيتأخر ستين يوما.. ستكون نسبة الاستقطاع اثنى عشر ألف دولار.. إذا كنت موافقا سيسلمك المحاسب مبلغك المتبقي غدا"، هنا يوافق هاتف الصراف، وأصيل أيضا على بيع صكوكهم للدكتور بنفس الطريقة ليحصل كل شخص منهم على 38 ألف دولار فقط.

يضطر سلام إلى بيع نصيبه بهذه الطريقة لرغبته الماسة في علاج أخيه العقيد غسان المصاب بمتلازمة الهزيمة العراقية؛ ومن ثم يستدعيه هو وزوجته إلى بيروت لعرضه على أكبر الأطباء هناك. هنا تصف الرواية حالات التشوه النفسي الكامل التي أصابت كل جنود العراق الفارين من الموصل ومواطنيها: "مثل ما حصل في المرة السابقة كانت صالة الانتظار تعج بحالات كثيرة لافتة للانتباه، ومعظم المرضى هم أيضا من الجنود والضباط ولكن هذه المرة بحالات غريبة وغير متشابهة. لفت انتباهي الشاب الذي يبدو عليه أنه عسكري سابق في الجيش، ترافقه كما بدا من أنينها أنها أمه، أما هو فقد كان يضع يديه طوال الوقت على أذنيه: "يمة من الحرب صار هيجي". يسمع أصوات زعيق وانفجارات تجعله يفقد قدرته على النوم حتى مع العلاجات المخدرة أو تلك المنومة التي كتبها له الدكتور سامان. أيضا هناك حالة أخرى لفتت انتباهي لجندي كان في قاطع الموصل، لكنه في لحظة الانسحاب ولغاية هذه اللحظة يتصور نفسه باقيا ويتمدد على طول جبهة الحرب التي اتسعت كثيرا. ينادي على أفراد عائلته بمسميات مرتجلة مستلة من أسماء فصيله. كذلك لفت انتباهي أحد المرضى المنسحبين حيث أوثقوه بحبل غليظ وأجلسوه في زاوية مظلمة من صالة الانتظار وهو يصيح بكلمات فاحشة غير مترابطة. تعمدت الاقتراب من الرجل الكبير الذي يمسك الحبل: ما به هذا المسكين حجي؟ مريض، هو ابني اسمه زعيم، جندي في الفرقة الخامسة المتهيكلة، كانت وحدته في الموصل، عاد إلينا بعد احتلالها بهذه الوضعية.. كما ترى أنه مكبل بالحبال، من رقبته حتى قدميه، وعندما نخلع الحبال عنه يصرخ ويجن جنونه، لا أعرف لماذا يحب تقييده بهذه الحبال، يقولون: إنه مريض الهزيمة وليس مجنونا". إذن فالهزيمة أدت إلى تشوه العراق بالكامل، العسكريين منهم والمدنيين أيضا؛ الأمر الذي يجعلنا نتأمل الوضع العراقي بعد الموصل لنتساءل: ما الذي حدث بالضبط في هذه المواجهات الدامية قبل الانسحاب مما جعل الجنود في مثل هذه الحالات من القهر والتغيب عن الواقع، والرعب من كل شيء؟ هل يُعقل أن بضعة آلاف لم تتعد أعدادهم 3000 مقاتل من داعش قد أحدثت كل هذه الهزيمة النفسية والتشوهات السيكولوجية لجيش عسكري قوامه 40000 من المقاتلين المسلحين؟!

هل من المعقول أن تصنع الهزائم المتلاحقة بالعراق كل هذا الضياع لمواطنيه بسبب ندوب الحرب النفسية؟ هذا ما رأيناه لدى "أبو العوف" بائع الحبوب المنومة والمهلوسة حينما قال لسلام: "هل تعرف أن أمي أشهر قحبة كانت في في تاريخ بغداد يا سلام؟ قحبة أصيلة غير مغشوشة وبنت قحبة.. نعم لا تستغرب فهذه هي الحقيقة، لأنك أصبحت صديقا لي، كذلك أنك مسافر غدا فلا بد من مصارحتك بحقيقتي، أكشف لك ما يعاني منه هذا الشخص الذي أمامك. تزوجت أمي ابنة الكلب عشرات المرات وهذا عادي جدا، حالها حال الكثيرات من أرامل الحرب.. من مصريين وسودانيين وعرب آخرين منهم أشكال وأنواع، "البولة- الدنبك- البربوق" حققت الوحدة العربية بحذافيرها، خاصة في سنى حرب إيران عندما غاب العراقيون في الجبهات، تصور تزوجت حتى واحد باكستاني.. تزوجته ثم عافته لتلحقه بزوج هندي تتطاير منه رائحة التوابل الهندية، وربما لي إخوة في كل أرجاء العالم من دون علمي. هي الآن عمياء تكفر عن ذنوبها القومية والعالمية بالصلاة المستمرة. لا ألتقي بها مطلقا؛ فهي لم تحدد لي من هو أبي بالضبط. وبالحقيقة أخجل من تاريخي المشوه كلما شاهدتها.. كلما أتذكرها أبلع على الفور شريطا كاملا "أبو الخمسين" من حبة الحاجب حتى أنسى، أنسى العراق كله بطوله وعرضه.. تصور سلام كل رجل كبير يقابلني في الباب الشرجي أشك أنه أبي. نام معها كل جنود الجبهات في أيام الحروب بالمجان وبمجهود حربي.. ربما كان أحدهم أبي الملعون. الوالدة أكبر بلاعة في بغداد.. كيف تريد مني أن أستقيم يا سلام وهذه المأساة تلاحقني حتى في المراحيض؟ أصبحت كل مشكلات البلد عادية جدا في نظري. أنت تعاني من ضياع الموصل، وأنا أعاني من ضياع نسبي.. اسمي "أبو العوف" فقط من دون اسم الأب. لا جواز، ولا هوية، ولا مستمسكات رسمية. كل شيء مزور عندي.. البلع هو تاريخي المجيد.. أتمنى على كل عراقي معذب مثلي أن يأتي للباب الشرجي ويأخذ كفايته من الحصة وعلى حسابي الشخصي"، إذن من خلال هذا الاقتباس يتبين لنا أن العراق بالكامل في كارثة تشوهات نفسية لا فكاك منها سواء كانت هذه التشوهات بسبب سقوط الموصل، أو بسبب انسحاب الجيش، أو بسبب ما أدت إليه الحروب الطويلة من تشوهات اجتماعية تلتها تشوهات نفسية أكثر عمقا وتصدعا.

هذه الصدوع النفسية العميقة هي ما حاول سلام رصدها حينما عاد إلى العراق من أجل تسجيل أفلامه الوثائقية للوكالة الفرنسية "جوو"؛ لذلك يعرف بأمر جماعة شبه سرية نشأت جديدا في العراق تدعو إلى الموت والانتحار الجماعي، وهذه الجماعة بدأت تلاقي الكثير من الترحيب الاجتماعي وينضم إليها الكثيرون. بالتأكيد في مجتمعات تسودها الهزيمة على المستويين النفسي والمادي لا بد من تشجيع الأفكار الانتحارية السوداوية؛ حيث يتحول المجتمع في حقيقته إلى مجتمع ميت في جوهره. أبناؤه يسيرون ويعملون ويتحركون، لكنهم ميتون فعليا من داخلهم؛ ومن ثم لا يمكن لمجتمع مثل هذه المجتمعات أن يكون مجتمعا منتجا سوى للموت والخراب والمزيد منه؛ لذلك يحاول سلام التعرف على "رابطة كفى للانتحار الجماعي" ويتصل بزعمائها مخبرا إياهم أنه يريد تصوير فيلم وثائقي عنهم، ويوافقون على مضض ويخبرونه أنهم سيقيمون حفلا لإعلان الجماعة السرية التي يخافون أن تلاحقها السلطة: "إن فكرة الانتحار الجماعي باختصار شديد هي فكرة مستنبطة من طريقة الموت الرحيم، لكن الأجدر حسب النظرية هو الرأي الجمعي لطرد وحشية الموت الفردي وغربته، أنا مع الجماعة حتى في لحظة الموت المقدسة. نعم، هناك قدسية هائلة في طريقة الموت الجماعي. نحن في الرابطة نموت باختيارنا وفق التوقيت والمكان المحددين، مع العلم أن الرابطة لم تبدأ في الجهر والعلن المشرعنين للعمل الجماعي لرابطة الانتحار النخبوي والأنيق، ربما تتعارض أفكارنا مع السلطة، هذا احتمال قائم للفترة القادمة، وربما لا نستطيع أن نفتتح العمل إلا بإخفاء اسم الرابطة المكشوف والتستر خلف مسمى آخر، لذلك عمدنا إلى إخفاء عملنا، وحتى موعد الحفل الأول سيكون العمل سريا في الوقت القادم خوفا من المداهمة المحتملة"، وبالفعل تلاقي الفكرة الكثير من الترحيب في المجتمع العراقي: "الفكرة لاقت استقبالا كبيرا لدى الأوساط الشبابية التي تعاني عذابات أرضية متواصلة وهزائم كبرى، هناك مجموعات كثيرة بودها الانتماء والشروع في عمل الرابطة خصوصا في يوم الافتتاح وتنفيذ حفلة الموت الجماعي المقدس"، ولعل هذا الإقبال الضخم على الرابطة من أجل الانتحار الجماعي فضلا عن الهزائم النفسية الغائرة في نفسيات العراقيين يجعلنا نتساءل مندهشين: هل هذه الرابطة نشأت كانعكاس للهزيمة العراقية المادية والنفسية، أم أنها عمل منظم من جهات دولية لتصفية العراق من موارده البشرية الشبابية؟

لكن رغم ذلك لا بد من الانتباه أيضا لرد فعل أبو العوف الذي يمثل شريحة كبيرة من العراقيين حينما علم بأمر الرابطة: "رفض العارف الحكيم "أبو العوف" الاندماج في العمل المنظم بعد مفاتحته من قبل أحد أعضاء الرابطة الناشطين، مبررا رفضه بأسلوبه المعتاد: حبيبي الحياة حلوة هنا، بس على الفرد أن يبلع فيلكا فقط، تتغير صورة بغداد وتتحول إلى جنة بعد ثلاث حبات فقط- نعمة من الباري- كل زبائني في الباب الشرجي هم من عشاق اللذة والخدر. كل واحد يموت على راحته، عندما يموت بعد البلع الممنهج تجده يطبع ضحكة دائمة على وجهه.. عادي جدا الموت والحياة معا.. ماكو شي فقط يقولون: فلان مات ضاحكا". إذن فالعدمية هي شعار العراق بالكامل، والموت والحياة متساويان في نظر العراقيين بعد معركة الموصل الفاصلة.

ينجح سلام في علاج أخيه العقيد غسان من متلازمة الهزيمة وصمته الطويل وانفصاله عن المجتمع بعد أن ينفق عليه الكثير من المال الذي أخذه مقابل بيع القرص، ويعود إلى كندا مرة أخرى ومعه أصيل الذي لم يعد من الممكن له أن يعود إلى العراق مرة أخرى وإلا تم قتله أو اعتقاله؛ فيفضل الهجرة إلى كندا للالتقاء بأمه، وهناك يعود سلام مرة أخرى إلى بلع الحبوب المنومة لينام بالأيام الطويلة محاولا التغلب على الوحدة الشديدة، إلى أن يراسل جماعة كفى للانتحار الجماعي طالبا منهم تصوير الحفل الأول لهم في الانتحار، وبالفعل يرسلون له رابطا إليكترونيا مع كلمة مرور للدخول وتحميل الفيلم الذي تم تصويره لإرساله إلى وكالة "جوو" للأفلام الوثائقية، كان الحفل عبارة عن مجموعة من الطقوس والموسيقى التي يرقص عليها المنتحر ثم لا يلبث حقنه بمادة لونها أصفر كي يعاود الرقص على الموسيقى والطبول مرة أخرى؛ ليسقط في النهاية بعد هبوط الصدر، واعوجاج الساقين وقد سال من فمه سائل أبيض بينما ابتلت ملابسه السفلية. حينما يصل الفيلم إلى المنتحر العاشر: "قال المنتحر العاشر في التعريف بعد أن خلع النقاب عن وجهه: أتقدم بالشكر لرابطة كفى، لتوفيرهم الأجواء المريحة لتعبيد الطريق نحو الموت المختار، أتقدم مرة ثانية بالشكر لأخي المغترب الذي أعادني إلى حالتي الطبيعية لأختار طريقي الصحيح.. أهدي هذا النسر إليه.. إنه نسر الجمهورية هدية مني إليه، وأخبره إنهم يرفضون عودتي إلى قيادة قوة الفوج، بحجة عدم سلامتي النفسية.. شكرا لرابطة كفى، أهلا بالموت الجماعي وتعسا لحياة الهزيمة. يحقنه الممرض حقنة النهاية ويزيل لثامه عن وجهه. لاااااااااااا.. صرخت من فزعي تلك الصرخة التي اهتزت لها أرجاء الشقة. اهتزت الصورة المحنطة في الحفل، هذه حقيقة إذن، مؤامرة كبرى ضدي"، إذن فالعقيد غسان شقيق سلام هو الآخر فضل الموت على الحياة بعد كل الجهود التي بذلها سلام من أجل إعادته للحياة ولأسرته.

إذن فالموت هو الحقيقة الوحيدة والجوهرية والأولى في العراق الذي تحول إلى عراق عدمي منهزم، غير قادر على مواجهة الحياة فكانت الحلول الوحيدة لدى أبنائه هي إما التغيب بالهلوسة والنوم لأطول فترة ممكنة لعدم قدرتهم على التعايش، أو الموت الجماعي في مجموعة من الطقوس الغريبة التي تبدو وكأنها لون من ألوان التعذيب أو التكفير عن الهزيمة.

إن رواية "فاليوم عشرة" للروائي العراقي خضير فليح الزيدي من الروايات التي لا يمكن تجاهلها في السرد الروائي العربي، ليس فقط لأن الروائي استطاع ببراعة بناء عمل روائي جيد ومتماسك البنيان من خلال مجموعة من الشخصيات كانت تفضي إلى بعضها البعض في تسلسل سلس ومنطقي بحيث إذا ما حذفنا شخصية من شخصياته أثرت على العمل الروائي بالسلب، ولكن لأنه كان ممسكا بتلابيب القارئ من خلال سرد غني تميز بالكثير من الثراء سواء على المستوى اللغوي أو البصري، أو حتى الوصفي الذي وصف أحوال العراق النفسية والمادية بعد الهزيمة لا سيما وقوع الموصل على يد تنظيم الدولة الإسلامية، وإن كان الروائي يكاد يكون لا يعلم شيئا عن مواضع الهمزات في اللغة العربية لا سيما همزات القطع، وألف الوصل؛ ومن ثم كان يضعها أينما اتفق من دون دراية بمدى خطأها أو صحتها.

 

 

محمود الغيطاني

مجلة عالم الكتاب

عدد فبراير 2022م

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق