الخميس، 26 يوليو 2018

جنة الشياطين.. فلسفة حياتية تتحدى الموت!

تُعد رواية "الرجل الذي مات مرتين" للروائي البرازيلي جورج أمادو من الروايات المهمة التي عالجت الموت باعتباره وجهة نظر؛ فكل شخص قادر على أن يرى الموت من زاويته وثقافته وبيئته التي تخصه؛ وإذا كان البعض في رواية أمادو يرى بطل الرواية "كينكاس هدير الماء" ميتا بشكل يقيني، فهناك غيرهم رأوا أنه ما زال حيا يرزق لكنه يخادعهم كما سبق له أن خادعهم غير مرة؛ لذلك تعامل معه معظم من في الرواية باعتباره يسخر منهم.
تعتمد الرواية منذ بدايتها على حدث واحد هو موت "كينكاس هدير الماء" الرجل الأسطوري بالنسبة لمن يعيشون في العالم السفلي من مقامرين وسكيرين ومتشردين ولصوص وقتلة وقوادين وعاهرات، أو "جواكيم سواريس دا كونيا" رب الأسرة المحترم والموظف المثالي والزوج الدمث الأخلاق المطيع لزوجته الذي يحظى بمكانة اجتماعية يحسده عليها الجميع في المجتمع البرجوازي، صاحب الأخلاقيات البرجوازية والذي يتمرد فجأة على هذه الحياة الطويلة التي عاشها بهذا الشكل الجدي ليُحدث انقلابا غريبا في حياته ويفضل هجر هذه الحياة المستقرة والاختفاء منها؛ ومن ثم يتحول إلى "كينكاس هدير الماء" السكير العربيد الذي يحتقر مجتمعه القادم منه ويقدس حياة الليل مع القوادين والعاهرات والسكيرين والمُشردين، وحول هذا الموت للرجل ذي الشخصيتين المتناقضتين يعمل أمادو على بناء روايته التي تسخر من كل الحقائق الثابتة؛ لتحيلها إلى أمور نسبية لا يمكن لأحد أن يستقر عليها، وينجح في السخرية من كل ما يدور حولنا في حياتنا، لدرجة السخرية من مفهومي الموت والحياة في حد ذاتيهما.
لكن كيف تعامل السيناريست مصطفى ذكري، والمخرج أسامة فوزي مع هذه القصة التي قد لا تجد لها جمهورا كبيرا من المشاهدين؛ ومن ثم يكون تحويلها إلى عمل سينمائي من قبيل المغامرة؟
نلاحظ أن السيناريست مصطفى ذكري كان حريصا على بعض التغييرات في القصة الأصلية؛ لتتناسب أولا مع الوسيط السينمائي الذي ينقلها إليه، ثم لتتناسب مع المجتمع المصري وثقافته فيما بعد؛ لذلك رأينا أنه قد جعل ابنته في الفيلم- فندا في الرواية- تميل إلى الأب، وتحمل من صفاته الفكرية والرغبة في التمرد الكثير، حتى أنها تثور على أسرتها وتسخر منهم متخذة جانب أبيها فيما ذهب إليه رغم أنها في الرواية تحمل الكثير من صفات أمها التي تميل إلى السيطرة وفرض رأيها ووجهة نظرها، وإذا كانت سيطرة كل من الأم والابنة في الرواية من الأسباب التي أدت به إلى هجر هذه الحياة للتحرر منهما، فلقد كانت في الفيلم بسبب سيطرة الأم فقط.
كما نلاحظ في الرواية أن الابنة والعمة قد تركا الحي الفقير الذي ترقد فيه جثة الأب عند حلول الليل؛ لأنهما لا يمكن لهما البقاء في مثل هذه الأحياء الخطيرة، لكنهما تركا العم مع الجثة حتى الصباح لإقامة الجنازة؛ حيث خشيت الابنة أخذ الجثة للمنزل للخروج بالجنازة من هناك حتى لا ينتبه الجيران ويبدأون في النميمة، ولكن العم كان ضجرا وراغبا في النوم؛ ومن ثم ترك الجثة مع أصدقاء "كينكاس" الثلاثة ليحرسونها؛ إلا أنهم أخذوا الجثة لقضاء السهرة معها. لكننا نلاحظ في الفيلم أن الابنة أخذت الجثة فعليا إلى منزلها لتخرج جنازتها من هناك، وحينما ذهب أصدقاؤه الثلاثة إلى المنزل لرؤية الجثة قاموا باختطافها من أجل قضاء السهرة، ثم فكروا فيما بعد في بيع الجثة، وهذا ما لم يكن في الرواية.
نجح مصطفى ذكري كسيناريست في إضافة بعض التفاصيل من عنده؛ فجعل الجثة ذات "سنة" ذهبية، حاول أحد أصدقائه سرقتها من فمه بقسوة باعتبار أن "الحي أبقى من الميت"، كما حاول الآخر بيع الجثة لطلبة كلية الطب، في حين أن الرواية تؤكد أن أصدقاءه الثلاثة كانوا يقدسونه، ولا يمكن لهم أن يتجرأوا على جثته بمثل هذا الشكل، كما أبقى على الزوجة حية في السيناريو ليكون هناك صراعا بينها وبين الابنة في صالح الأب، في حين أن الرواية تؤكد موت الزوجة، وأن الابنة كانت مؤمنة بشكل يقيني بأن أبيها قد جلب لهم العار، ومن ثم كانت متوافقة مع أفكار أمها تماما.
ربما كانت هناك بعض الأمور التي أدخلها مصطفى ذكري على القصة الأصلية لتتناسب مع الوسيط الفيلمي، كما أبقى على بعض التفاصيل الروائية الأخرى كما هي تماما في الرواية، لكن ما حرص عليه ذكري حرصا حقيقيا- وإلا أفسد مغزى القصة بالكامل- هو الحفاظ على فلسفة الموت والحياة، باعتبارهما وجهتي نظر، كذلك حفاظه على السخرية من الشكلانيات والمظاهر الزائفة التي يؤدي إليهما الحرص على عادات المجتمع السقيمة والخوف من حديث الآخرين، وهو ما دفع البطل إلى هجر هذا الزيف إلى حياة أخرى قد يراها هذا المجتمع وضيعة، وإن كانت أكثر صدقا من المجتمع الذي تركه، ولعل أهم السمات التي حافظ عليها ذكري في فيلمه هي السخرية العميقة من مفهومي الموت والحياة.
فلسفة الموت والحياة
ثمة محور رئيس نستطيع من خلاله فك شفرات ذلك العالم الذي قدمه لنا "أسامة فوزي" في فيلمه الثاني "جنة الشياطين"، هذا الفيلم الكابوس الذي يقدم لنا رؤية طالما تمنيناها من طول ما فكرنا فيها إلا أننا نعجز دائما عن تحقيقها- القسوة الجريئة في مواجهة الموت- إلا أن جرأة "مصطفى ذكري" كسيناريست متميز جعلته يقدمها لنا بكل وضوح- بعد اقتباسها بتمكن وعمق من رواية "الرجل الذي مات مرتين" للروائي البرازيلي "جورج أمادو Jorge Amado- فأثارت في ذواتنا العديد من التساؤلات الفلسفية حول مفهومي الموت والحياة، بل إن أسماء شخصيات الفيلم جميعها أثارت العديد من التساؤلات حول مدلولها.
"طبل" (محمود حميدة) هذا الاسم ذو الرنين العالي وكأنه يواجه الموت بالجلبة العالية التي يتخذها أسلوبا للحياة، "ننّه" (عمرو واكد)، "بوسي" (صلاح فهمي)، "عادل" (سري النجار) أصدقاء "طبل" الثلاثة بأسمائهم التي توحي لنا بطفولتهم الجميلة الشقية رغم قسوتهم وعنفهم الشديد في مواجهة الحياة، هذه الطفولة التي نلاحظها في المشهد الذي كان بينهم وبين "سلوى" (كارولين خليل)- ابنة طبل- حينما دخلوا الفيلا لوداع طبل الوداع الأخير، فما أن فتحت لهم الباب إلا ورأيناهم يدخلون مصطفين بجانب بعضهم البعض بينما وجوههم تنظر إلى الأرض وكأنهم مجرد أطفال أمام والدتهم.
تلك الطفولة نلاحظها أيضا في لعبهم مع "طبل" و"شوقية"- صفوة- بعدما اختطفوا جثته ليقضوا معها سهرة الوداع، فنراهم يلعبون لعبة جميلة ويجيء أحدهم ليقول: "إما أن ألعب معكم، وإلا فليس هناك لعبا" بروح طفولية، بل إن "شوقية" حينما تمسك يد أحدهم وهي مغمضة العينين وتفصح عن اسمه يضحكون بهستيريا لينفوا ذلك، رغم أنها قالت بالفعل على صاحب اليد التي أمسكتها.
"شوقية" هذا الاسم الدال على الحياة بكل فورانها وزخمها والرغبة الشديدة فيها- لاحظ الاشتقاق من مفردة الشوق- مثلما يدل على مهنتها كفتاة من فتيات الليل بها شوق ورغبة.
"حُبّة" (لبلبة) اسم دال على حب الحياة والتفاني فيها- لاحظ الاشتقاق من مفردة الحب- والرغبة في امتلاكها حتى الرمق الأخير.
إنها أسماء دالة بالفعل على الرغبة في الحياة، بل إن عنوان الفيلم نفسه- جنة الشياطين- دال على مفهوم جميل؛ فتلك الحياة التي يحياها هؤلاء- نُنّه، وعادل، وبوسي- هي بالفعل جنة لهم بمفهومهم الخاص، إنها الحياة التي يرونها أقدس وأبهى من الجنة الحقيقية رغم ما يسودها من فقر وبؤس وسُكر وعربدة وعُهر، فهذه هي الحياة التي يرغبونها، الحياة المُحررة من كل قيد قد يُثقل نفوسهم المنطلقة الطفولية التواقة للحياة.
إذا كان لا بد من الحديث عن ذلك الكابوس الذي قدمه لنا الفيلم، فنحن نرى أنه لا بد من تقسيمه إلى محورين رئيسيين: "الموت"، و"الحياة"- إذا جاز لنا الفصل بينهما-.
الموت
هذا القميء الذي يحيطنا من جهاتنا الأربع؛ فنقدسه ونخافه، لكننا في ذات الوقت نرفضه محاولين التخلص منه بشتى الطرق، حتى ولو كان بالسخرية القاسية منه، بل ورفضه وعدم الإذعان له، فنرى "شوقية"- صفوة- فتاة الليل التي تُصادق "طبل" وأصدقاءه الثلاثة- نُنّه، بوسي، وعادل- إنها تشعر بالخجل الشديد، بل بالخوف من قداسة الموت عندما ترى "طبل" ميتا لا حول له ولا قوة؛ فتحاول إغلاق فتحة صدرها التي قطعها أصدقاؤه الذين كانوا يرغبون في مضاجعتها وإشراك "طبل" معهم، بل إنها تتجه إلى "حُبّة"- عشيقة طبل- لتغلق لها فتحة صدرها؛ فتخيطها لها باكية ذلك الذي كان ممتلئا بالحيوية منذ قليل- إنه الخوف من قدسية الموت وضراوته القاسية- هذه القدسية نفهمها من قول "شوقية" "لحُبّة": إن عينيه كانتا مغمضتين، لكنها كانت تشعر بهما تنظران نحوها. إنها لا تقصد عيني "طبل" هنا بالطبع بل تقصد عيني الموت الذي ينظر إليها متفحصا بشراهة جعلتها تخجل خائفة منه.
في حين نرى موقفا مغايرا تماما عند "طبل" الذي يواجه الموت ساخرا مستهزئا وكأنه يقول له جملته المألوفة التي لا تفارق لسانه "الحي أبقى من الميت"، فنراه يواجه الموت باسما تلك الابتسامة التي ظلت على وجهه طيلة أحداث الفيلم؛ مما يوحي لنا بالبرود القاسي في مواجهة الموت والسخرية منه، بل إنها تعطينا مدلولا آخر، وهو الانتصار للحياة، هذه الحياة التي تمثلت في ابتسامته المنحوتة على وجهه لتظل خالدة معه حتى بعد موته.
إنها السخرية البالغة التي نراها في كيفية التعامل مع الجثة في مشهد خلع أسنان "طبل" الذهبية على يد "نُنّه" موحيا لأصدقائه أن "طبل" هو الذي طلب منه ذلك بجملته المألوفة- الحي أبقى من الميت- فنراه يخلعها بالمطواة من دون أية مهابة لقداسة الجثة، بل نراه يرغب في الشجار مع "طبل" حينما يعلم أن الأسنان لم تكن ذهبية؛ فيصرخ فيه قائلا: "هشرب حبتين صليبة وابلعهم ببُق براندي واعملها معاك يا طبل"، مخرجا مطواته راغبا في الشجار معه.
هل نستطيع الجزم هنا بأنها سخرية غير مؤدلجة بموقف وجودي؟
بالتأكيد هذا التساؤل لا بد له أن يتبادر إلى أذهاننا؛ فالتعامل مع الموت هنا ليس هينا، بل هو نابع من موقف فلسفي خاص لا نستطيع من خلاله الجزم بأنه نابعا من الشخصيات؛ فهي شخصيات بسيطة مسطحة في حياتها لا يهمها سوى الخمر والنساء والقمار، لكننا نقصد هنا أنها فلسفة من صناع الفيلم أنفسهم، ولعل التعامل مع الجثة بمثل هذه البساطة والقسوة هما خير دليل على ذلك؛ فلننظر إلى سخريتهم الوحشية حينما يسقونه الخمر وكأنه حي يرزق بينهم، ألا يدل ذلك على الاستهانة بكل شيء؟
لكنه أسلوب حياة ارتضاه هؤلاء الأطفال القساة؛ فصار أشبه بالفلسفة الموجهة للموت، هذا الموت الذي أراد "أسامة فوزي" تعميقه في نفس المشاهد؛ فصور مشهد تغسيل الجثة بتفصيل قاس، فكانت الكاميرا تستعرض ذلك الجسد الفاقد للحياة، الضامر البطن حتى أننا كدنا نشعر بالموت فعلا وكأنه كائنا خرافيا يجثم على صدورنا، إلا أنه بقدر ما عمّق ذلك في نفوسنا سرعان ما أفاقنا مرة أخرى بذلك المشهد السيء الذي اقتربت فيه الكاميرا إلى حد كبير من جسد "محمود حميدة"؛ فظهر لنا بوضوح جلده المقشعر من فرط البرد؛ ومن ثم أيقنا أننا أمام فيلم يُؤدى بعدما رسخ في أذهاننا أننا نحيا معهم في كابوس حقيقي، وهذا عيب ما كان ينبغي أن يقع فيه مصور مثل "طارق التلمساني"، ومخرج جيد مثل "أسامة فوزي".
الحياة
رغم سيطرة جو الموت على الأحداث حتى نكاد نشعر به يخنقنا إلا أنه يمتزج بالحياة امتزاجا قويا يصبح الفصل فيه بين الموت والحياة نوعا من عدم الموضوعية والتجني؛ فالشباب الثلاثة "نُنّه، عادل، وبوسي" بما فيهم "شوقية"، و"حُبّه"، بل و"طبل" أيضا متشبثون جميعا بالحياة أيما تشبث، فهم يصورون الحياة في أقوى صورها.
"طبل" المثقف الذي يعيش حياة اجتماعية هادئة بين أسرة محترمة ومستوى اقتصادي مستقر نراه يترك كل ذلك رافضا إياه متمردا عليه؛ ليعيش في العوالم السفلية- عالم الليل والغرز والنصابين والقمار والدعارة- فهو لا يرغب في حياته الرتيبة، التي تسودها مجموعة من التقاليد والقيم والمُثل التي يشعر بها كالقيود تُكبله حتى تكاد أن تخنقه فتميته، ولعل مشهد تغسيل جثة "طبل" في بيته وفوق مكتبه كان خير دليل على ذلك؛ فاستعراض الكاميرا لمكتبته هو إسقاط على فهمه وثقافته، وكم كان جميلا تركيز الكاميرا على صور "طبل" مع ابنته وعائلته، تلك الصور التي كانت أسفل زجاج المكتب الذي يُغسّل عليه "طبل". فتساقط مياة الغُسل على الصور العائلية هي رغبة صادقة وقوية لمحو حياته السابقة وغسلها تماما وكأنه يمسحها من ذاكرته، فهو قد رفض هذه الحياة ولفظها من أجل الحرية.
إنها الرغبة القوية في الحياة بشتى أشكالها، هذه الحياة نجدها عند أصدقائه الثلاثة "نُنّه، هادل، وبوسي" الذين يحيون حياتهم بعنف، هذا العنف غير المبرر الذي يشبه البرق- سرعان ما نشاهده وسرعان ما يختفي- وليس المقصود هنا العنف الجسدي فقط، بل هو العنف الجنسي أيضا الذي نشاهده بينهم وبين "شوقية" بعد انتهاء اللعبة التي لعبوها وشاركهم فيها "طبل" بوضع يديه على عيني "شوقية"؛ فنجد "شوقية" تمسك عانة أحدهم بقسوة حتى تكاد أن تقتله.
نلاحظ كذلك "العنف السلوكي" في المشهد قبل الأخير حينما كاد يقع أحد رواد المقهى بسبب قدميّ "طبل" الممدودتين، وحينما يُبدي الرجل تبرمه قائلا له: "ما تحاسب يا أخ" فإنه لا يكاد أن يتم جملته إلا ويتحرك الأولاد الثلاثة بكل عنف كي يضربه "بوسي" بزجاجة البيرة التي في يده؛ لتنكسر على رأس الرجل؛ ومن ثم تقوم مشاجرة قاسية. إنه العنف الذي يريد أن يأخذ من الحياة كل ما فيها قبل مجيء الكابوس الذي يُدعى الموت.
هذه الحياة نجدها أيضا عند "شوقية"، و"حُبّه" هاتان المرأتان اللتان أعلنتا الحداد على "طبل" أسبوعا كاملا، ثم سرعان ما نقضتا ذلك العهد الذي أخذتاه على نفسيهما، فنرى "شوقية" (صفوة) تُساوم أحد الرجال على ثمن ليلة يقضيانها معا طالبة منه عشرين جنيها، كذلك "حُبّه" (لبلبة) تعترف بنفسها لـ"طبل" فتقول له أنها اشتاقت للزبائن وفلوس الزبائن؛ فاضطرت إلى قطع الحداد، وضاجعت خمسة رجال رغم عدم شعورها بالانتشاء.
إنها الرغبة الشديدة في الحياة ومواجهة ذلك الكئيب المدعو الموت، فالرغبة في الحياة نجدها عند "نُنّه" عندما يخلع أسنان "طبل" الذهبية لأن "الحي أبقى من الميت" على حد تعبير "طبل"، كذلك نجدها في بيع "عادل" لجثة "طبل" كي يأخذه مجموعة من طلبة كلية الطب لأن "الحي أبقى من الميت" كذلك.
الرغبة الشديدة في الحياة والتمسك بها نراها عند "سلوى"- كارولين خليل- ابنه "طبل" التي أخذت من أبيها الكثير من فكره وفلسفته في الحياة، فهي ترغب أن تحيا حياة أبيها، بل تكاد أن تحسده عليها وإن كانت لا تستطيع إعلان ذلك خوفا من القيم/ القيود التي تكبلها- القيم التي تخلص منها طبل- فهي تُظهر للجميع معارضتها لسلوك والدها الشائن، لكنها في النهاية ترضخ لشعورها الصادق؛ لأنها تعي جيدا أنه قد سلك سلوكا كلنا تقريبا نرغب في سلوكه، لكننا نخشى المجتمع فنخجل منه.
إنها الرغبة الضمنية في الحياة، الرغبة التي جعلتها تضحي بالتابوت المصنوع من خشب الأرو المدفوع فيه ما يزيد على الألف جنيه. الرغبة التي جعلتها تضحي بالنعي المنشور في الأهرام والسيارتين الليموزين من أجل إعادة والدها لأصدقائه؛ لأنهم أحق به منها هي ووالدتها.
إن تأمل "سلوى" للعالم المحيط بوالدها هو خير دليل على رغبتها في أن تكون مثله، فنراها تتأمل "حُبّه"- حينما كانت معها في السيارة وهي متجهة لأخذ جثة أبيها-؛ فتهمس قائلة: "هي دي اللي سبت ماما عشانها؟ ماما برضه هتعرف تعيّط عليك"، فكأنها تتحدى نفسها برفضها لمجتمع والدها- أو تُراجع موقفها الرافض- الراغبة فيه، لكن القيود التي تكبلها تمنعها من ممارسة الحياة فيه، لكننا نلاحظ في النهاية أنها استطاعت الخلاص من هذه القيود حينما قالت لزوجها وأهلها أن يبقوا على التابوت المصنوع من الأرو؛ فربما يموت أحد منهم ويحتاجه، وحينما قالوا لها: "وليه ميكونش أنت؟"، ردت باشمئزاز واضح: "مظنش إني أقدر أنام في تابوت زي دا". إنه انتصار الحياة على الموت، بل هو الرفض التام لتلك القيود التي كانت تكبلها.
أسامة فوزي بين عفاريته وشياطينه
عند الحديث عن "جنة الشياطين" لأسامة فوزي لا بد لنا من الربط بينه وبين "عفاريت الإسفلت"- فيلمه الأول-؛ نظرا للصلة القوية بينهما. ففلسفة الموت والحياة نراها قائمة قوية كالجسر الذي يربط بين الفيلمين، إنها الحياة المتحدية للموت في مشهد موت الجد- محمد توفيق- حيث يدخل "سيد" (محمود حميدة) المطبخ راغبا في "بطة" (منال عفيفي) فيطوقها من الخلف معانقا إياها لتكتشف أنه سكران، وحينما توبخه قائلة: إن دم جده لم يبرد بعد، يرد قائلا: "أنا كنت أعرف إنه هيموت النهاردا؟".
نرى تلك الحياة كذلك في مشهد "إنشراح" (سلوى خطاب) مع "رنجو" (عبد الله محمود) حيث يختلي بها فوق سطح البيت في نفس الوقت الذي كان جدها لم يُدفن بعد. هل هي مواجهة الموت بالحياة المرادفة للجنس، أم السخرية منه؟
هذه الرغبة الشديدة في الحياة نراها عند الجد حينما يمسك "الساندويتش" بكلتا يديه ملتهما إياه بجوع غريب يدل على رغبته الشديدة في التمسك بالحياة قبل مفاجأة الموت.
هذه السخرية الجميلة من حقيقة الموت نراها كذلك في المشهد الذي يجمع بين (أمل إبراهيم) والدة "رنجو" والأسطى "عبد الله" (جميل راتب) والد "سيد" حيث تجمعهما المقابر التي ذهبت إليها والدة "رنجو" لزيارة زوجها المرحوم، فيذهب إليها الأسطى "عبد الله" ليأخذ منها موعدا في البيت القديم الذي كان مكان لقائهما الجنسي.
إنها السخرية من الموت في مكانه الطبيعي وعقر داره- المقابر-، وعندما نرى هذه الفلسفة هي المسيطرة على المخرج أسامة فوزي، والسيناريست مصطفى ذكري؛ فنحن لا نمتلك سوى تحيتهما؛ حيث استطاعا استخراج الرغبة في الحياة من قلب الموت.



محمود الغيطاني

 النص العربي للمقال المنشور في مجلة "بانيبال" Banipal اللندنية
العدد 62 صيف 2018م

هناك تعليق واحد: