الأحد، 15 يوليو 2018

من العدم.. العدالة ليست حكرا على السماء

ثمة تساؤل مهم يثيره الفيلم الألماني Aus dem Nichts " من العدم" تبعا لعنوان الفيلم الأصلي، الذي تختلف ترجمته إذا ما نظرنا إلى عنوانه في الإنجليزية In The Fade "في التلاشي"، وإن كان إيحاء المعنى الذي يعطيه العنوان الألماني أكثر ارتباطا بمفهوم الفيلم من العنوان الإنجليزي.
نقول: إن ثمة تساؤلا لا بد من فرضه على ذهن المشاهد طوال أحداث الفيلم الذي أخرجه وكتب له السيناريو وأنتجه المخرج التركي الأصل، الألماني الجنسية Fatih Akin فاتح أكين وهو ماذا لو انتفت العدالة على الأرض رغم تأكد الجميع من الحقيقة، لكن القوانين التي يمكن التلاعب بها تقف دائما مكتوفة الأيدي غير قادرة على اتخاذ قرار العدل؟ هل يتحول تحقيق العدل في هذه اللحظة بشكل فردي من قبل من وقع عليهم الظلم/الضحايا بمثابة الخروج على القانون وإشاعة الفوضى في المجتمع؟ أم هو في جوهره مجرد فعل يُعيد الحق لأصحابه بعدما عجزت القوانين عن فعل ذلك؟
ربما يتفق معظمنا على أن تحقيق العدل لا يمكن أن يكون من خلال فعل فردي، وأن المجتمع تحكمه مجموعة من القوانين التي تواضع عليها المجموع الجمعي؛ لتنظيم الحياة فيه؛ ومن ثم يصبح تحرك فرد بعينه من أجل تحقيق العدالة خارج إطار هذه القوانين من قبيل إشاعة الفوضى حتى لو كان ما يفعله هو الحق، لكنه يظل خارج إطار المجتمع وقانونه؛ وبالتالي يتحول هذا الشخص الذي نجح في تحقيق العدالة إلى مجرد خارج على القانون، ومرفوض اجتماعيا رغم أنه لم يفعل سوى إقرار ما يجب أن يكون، وما عجز القانون عن تحقيقه.
حول هذه الإشكالية يدور الفيلم الألماني "من العدم" للمخرج فاتح أكين، وهو الفيلم الذي قسمه إلى ثلاثة أجزاء، كل جزء منه بعنوان؛ ليمنح المشاهد الفرصة للمزيد من التأمل والتفكير؛ كي يكون مقتنعا ومتعاطفا، وينجح في استمالته، بل ومشاركا لبطلة الفيلم فيما تذهب إليه في نهاية الفيلم من فعل الانتقام وإقرار العدالة التي عجز القانون عن إقرارها.
في الجزء الأول من الفيلم الذي كان بعنوان "العائلة" Die Familie يستعرض أكين زواج "كاتيا" Diane Kruger الألمانية الأصل من "نوري" Numan Acar الكردي الأصل الذي يعيش في ألمانيا ومسجون لمدة أربع سنوات؛ بسبب إتجاره في المخدرات وضبطه بخمسين كيلوجرام من الحشيش، ونعرف فيما بعد أن كاتيا تعرفت عليه حينما كانت في الجامعة حيث كانت تشتري منه المخدرات، ثم تزوجته وهو يقضي فترة عقوبته؛ ليقفز بنا الفيلم بعد ست سنوات من هذا الزواج وتكوين أسرة سعيدة بعدما خرج نوري من السجن وبدأ فترة تأهيله الاجتماعية حيث درس التجارة في السجن وخرج ليعمل في التجارة والترجمة بعيدا عن حياته الإجرامية السابقة، وقد رزقا بطفل صغير عمره ست سنوات هو "روكو".
بوستر الفيلم
حرص المخرج على استعراض حياة الزوجين في القسم الأول من الفيلم ليتعاطف معهما المشاهد؛ لا سيما أن ما سيأتي من أحداث فيما بعد تعتمد اعتمادا كليا على هذا الجزء من الفيلم؛ فالزوجين يعيشان حياة سعيدة مستقرة، كما أن الزوج ترك تماما حياة الإجرام السابقة، ومن ثم نرى كاتيا تذهب إلى نوري في مكتبه في الحي التركي لتترك معه ابنهما روكو لحين الذهاب إلى أحد المنتجعات مع صديقتها الحامل، وتخبره أنها ستأخذ سيارته، ثم تعود إليهما في نهاية اليوم لنقلهما إلى المنزل، وحينما تخرج من مكتب الزوج تلاحظ إحدى الفتيات وقد تركت دراجتها الجديدة أمام المكتب من دون أن تربطها؛ فتطلب منها كاتيا ربطها حتى لا يسرقها أحدهم، إلا أن الفتاة تخبرها أنها سرعان ما ستعود إليها، لكنها حينما تعود في نهاية اليوم تمنعها الشرطة من المرور؛ لأن ثمة انفجار قد وقع في المنطقة؛ فتترك سيارتها وتسرع لرؤية ابنها وزوجها، لكن الشرطة تخبرها أنهما كانا من ضحايا الانفجار وأن القنبلة كانت أمام المكتب مباشرة ولم يبق منهما سوى مجرد أشلاء.
تفقد كاتيا الزوج والابن معا وتعيش مأساة حقيقية نجحت الممثلة ديان كروجر في التعبير عنها من خلال دورها بشكل مذهل تستحق عليه الكثير من الجوائز، وهو ما جعلها تحصل على جائزة أحسن تمثيل في مهرجان "كان". ولعل المشهد الذي تُخاطبها فيه أمها حينما تقول لها: "لقد كان متورطا في شيء ما" كان من المشاهد المهمة التي نرى فيه الزوجة الجريحة المتألمة وقد تحولت كل مشاعرها وقسمات وجهها لتعبر عن الغضب الشديد فجأة لترد على أمها: "مثل ماذا يا أمي؟ فتقول: عليك معرفة ذلك، ربما كان يخفي عنك شيئا". هنا ترد كاتيا بكل صرامة وغضب في تحول حقيقي بمشاعرها يليق بالحديث: لا تقولي هذا الكلام مُجددا عن زوجي.
هذه القدرة التمثيلية من قبل الممثلة ديان كروجر كانت من أهم عناصر الفيلم اللافتة للنظر، لا سيما وأن الممثلة تكاد تكون في كل مشهد من مشاهده، أي أن الفيلم يعتمد على أدائها اعتمادا كليا، وهو ما استطاعت التعبير عنه بنجاح ومقدرة قلّ أن نلاحظها لدى غيرها من الممثلات، ولعل القدرة التمثيلية والأداء الحركي لكروجر كانا من أهم عناصر الفيلم، والميل بالمشاهد عاطفيا تجاهها؛ الأمر الذي يجعل المشاهد متورطا معها في نهاية الأمر موافقا على ما ذهبت إليه من فعل الانتقام رغم رفضه للفعل في حد ذاته.
تذهب كاتيا إلى "دانيلو" Denis Moschitto محاميها وصديق زوجها بعد أن زرعت أمها الشك داخلها، وتسأله عن تورط نوري في أي شيء بعد خروجه من السجن؛ ليؤكد لها أن زوجها قد ترك كل شيء من أجل حياته معها هي والطفل، وأنه ما كان له أن يعرضهما لأي شكل من أشكال الخطر، فتخبره بأنها تشك في النازيين الجدد وأنهم من كانوا وراء هذا الانفجار، وتخبره عن الفتاة التي تركت دراجتها أمام مكتب زوجها، فيطلب منها إخبار الشرطة عن ذلك. هنا تطلب منه أي مخدرات لتهدئتها فيعطيها كيسا قد أهداه له أحد العملاء وكان سيتخلص منه.
تحاول كاتيا أن تهدئ نفسها بتناول المخدرات إلا أن المحقق الأكبر في القضية يذهب إلى منزلها ومعه إذن تفتيش له بحثا عن أي شيء يمكن أن يُفيده في القضية لا سيما وأن الشرطة لديها العديد من الشكوك في أن يكون الألبان هم من قاموا بالتفجير، أو أحد المسلمين، أو أحد تجار المخدرات ممن كان زوجها على علاقة بهم، لكنهم يعثرون على المخدرات التي أخذتها من "دانيلو" وحينما يسألها كبير المحققين عنها تخبره أنها تخصها. ولأنها كمية صغيرة فالأمر لم يكن في حاجة إلى المحاكمة وإن كان قد تم إثباته في معلومات القضية.
في الجزء الثاني من الفيلم الذي كان بعنوان العدالة Gerechtigkeit وهو الجزء الأطول من الفيلم تنتاب المشاهد أكثر من مرة السعادة لقرب تحقق العدالة؛ فكل الأدلة والشواهد تؤكد أن الفتاة التي كانت قد تركت دراجتها والتي أرشدت عنها كاتيا متورطة تماما هي وزوجها في التفجير، بل إنهما سبق أن تمت إدانتهما من قبل في قضية تفجير سابقة، وأنهما لهما نشاطا معاديا بالفعل لغير الألمان، وهذا ما أكده والد المتهم الذي شهد على ابنه وقال: إن ابنه يقدس أدولف هتلر، وأنه قد رأى بنفسه في جراج السيارة أدوات التفجير والمواد التي تم تصنيع القنبلة منها؛ الأمر الذي جعله يذهب إلى الشرطة للإبلاغ عن ابنه ومنعه من الجريمة لكنها لم تلحقه.
كما أن محامي كاتيا "دانيلو" قدم الكثير من الدلائل على تورط الزوجين في الانفجار كذلك، لكن محامي المتهمين كان دائما ما يلجأ إلى التشكيك في كل الدلائل منها أن مفتاح الجراج كان يتم تركه تحت حجر خارج الجراج وهذا قد يجعل شخص ثالث يدخل إلى الجراج إذا ما كان يعرف مكانه، ومنها أن الشرطة قد وجدت مخدرات تخص كاتيا في بيتها وهذا دليل على التشكيك في أهليتها للشهادة، ومنها وجود بصمة لا يعرف أحد صاحبها، فضلا عن الشاهد اليوناني الذي ينتمي إلى أحد الأحزاب النازية الجديدة الذي حاول تضليل المحكمة بإثبات أن المتهمة كانت في اليونان وقت الانفجار.
كل هذه التشكيكات أدت إلى التلاعب بالمحكمة، ولعل النقلات والقطع الذي قام به المخرج فاتح أكين على وجه الممثلة ديان كروجر أثناء المحاكمة كانت من المشاهد المهمة في الفيلم والتي لا يمكن تجاهلها؛ حيث النقلات على وجهها وتعبيرات وجهها حينما ترى القاتلة في المحكمة لأول مرة، وعدم قدرتها على الثبات في كرسيها ومحاولة التمسك بمكانها وعدم الهجوم على القاتلة كانت من المشاهد التي لا يمكن للمشاهد تجاهلها أو عدم التأثر بها؛ الأمر الذي يجعلنا كمشاهدين في حالة تقمص حقيقي وتعاطف مع مشاعرها.
يتضافر مع هذه المشاهد مشهد دخول القاضي والمحلفين إلى قاعة المحاكمة للنطق بالحكم؛ حيث جاء مشهد دخول القاضي Slow Motion بالحركة البطيئة بينما كان المخرج ينقل على الحضور في القاعة بالحركة الطبيعية، ثم لا يلبث العودة بالحركة البطيئة على القاضي ومحلفينه ليجعلنا كمشاهدين في حالة انتظار لاهثة؛ لينطق في النهاية بالحكم الكارثي بتبرئة كلا المتهمين، بل والتأكيد على أن الدولة ستقوم بتغطية تكاليف المحاكمة والنفقات ذات الصلة، وسيتم تعويض المتهمين عن الوقت الذي قضياه في الاحتجاز.
يقول القاضي: تبرئة اليوم لا تستند على إيمان المحكمة أن المتهمين أبرياء، لكن الأدلة المُقدمة تترك مكانا معقولا بشأن اتهامهما استنادا إلى مبدأ "الشك في صالح المتهم"، وهذا الشك يلزم بتبرئتهم!!
أظن أن المفاجأة المدهشة بسبب الحكم لم تكن من نصيب الزوجة ومحاميها فقط، بل كانت من نصيبنا نحن أيضا كمشاهدين؛ نظرا لأن المخرج نجح فعليا في تقديم محاكمة رصينة وقوية تُدين المتهمين وتؤكد على هذه الإدانة، لكن الحكم الذي لم يكن منتظرا من أحد جاء كالكارثة على الجميع؛ لذا تُصرّ كاتيا على إثبات إدانتهما بطريقتها الخاصة، ولعل قولها للمحامي: أتخيل لو كان قد حدث ذلك لي ولروكو ونجا نوري، لم يكن ليتوقف من أجل هذه الدردشات السخيفة التي تقصد بها جلسات المحكمة، بل سينتقم مباشرة ممن قاموا بهذه الجريمة؛ لذلك هي حريصة ومصممة على الانتقام لزوجها وابنها.
في الجزء الثالث من الفيلم "البحر" Das Meer تعرف كاتيا أن المتهمين قد ذهبا إلى اليونان في عطلة مجانية على حساب الدولة كتعويض لهما بسبب احتجازهما في فترة المحاكمة، وهنا تُقرر تتبعهما إلى اليونان لتحقيق العدالة التي عجزت المحكمة عن تحقيقها، وأقرت في الحكم الذي نطقت به أنها غير مقتنعة ببرائتهما رغم حكم البراءة.
تحاول كاتيا الوصول إلى الفندق الذي يعمل فيه الشاهد اليوناني، لكنه يحاول قتلها فتهرب منه، وأثناء توقفها لشراء علبة من السجائر ترى سيارته فتتبعه حيث يذهب إلى مكان منزوي في غابة على البحر ليحذر المتهمين اللذين يقيمان في "كارفان" متحرك على الشط، ويؤكد الزوج المتهم لزوجته: لو أتت هذه العاهرة التركية إلى هنا لحطمت جمجمتها ووضعتها مع زوجها وابنها، في تأكيد منه على عنصريته ورؤيته لكاتيا الألمانية الأصل باعتبارها تركية ما دامت قد تزوجت من تركي.
تعود كاتيا إلى المنزل الذي استأجرته في اليونان، وتبدأ في التحضير لصناعة قنبلة مسمارية مثل القنبلة التي انفجرت في زوجها وابنها، وحينما تنتهي منها تذهب إلى البحر حيث يقطن المجرمان وبمجرد خروجهما من "الكارفان" لممارسة رياضة الجري على الشط تضع القنبلة أسفل "الكارفان" وتنتظر عودتهما لتفجيرها، لكنها بعد فترة زمنية، وبعد رؤيتها لعصفور يقف على مرآة "الكارفان" تتراجع عما تنتويه وتأخذ القنبلة مرة أخرى وتذهب.
ربما كان سبب تراجع كاتيا عن تفجير المتهمين والانتقام منهما يعود إلى أنها لم تأتها دورتها الشهرية منذ موت الزوج والابن؛ مما يعني أن ثمة أمل في أن تكون حاملا من الزوج الذي مات، لاسيما وأنها أخبرت صديقتها أن الدورة لم تأتها منذ الحادث، لكن بعدما تراجعت عن فعل الانتقام وجلست أمام البحر متأملة نراها تمد يدها بين فخذيها لتخرج بالدم؛ مما يعني أن الدورة قد عاودتها. هنا ينتفي أي أمل في حياتها تماما، فإذا كان الأمل هو الذي جعلها تتراجع عن الانتقام؛ فإن انتفائه الآن يجعلها غير راغبة في الحياة بعد الزوج والابن لاسيما أنها حاولت في لحظة ضعف أن تنتحر بقطع شرايين رسغيها بعد موتهما.
تعود كاتيا مرة أخرى حيث يقطن الزوجان على البحر وتنتظرهما لحين عودتهما من رياضة الجري اليومية، وحينما يصعدان إلى "الكرفان" تضع الحقيبة التي بداخلها القنبلة على صدرها وتمسك المفجر في يدها، وتفتح باب "الكرفان" لتفتحه وتدخل إليه مع المجرمين، ثم ينفجر الكرفان بثلاثتهم لينتهي الفيلم بلقطة علوية على الكرفان المشتعل الذي يحرق الشجرة التي تعلوه.
نجح المخرج فاتح أكين كسيناريست ومخرج في تقديم فيلم مبني بناء قويا من خلال السيناريو الذي قسمه بشكل متماسك لو سقط منه جزء أو اختلف ترتيبه لما استطاع اكتساب المشاهد معه، كما أن الفيلم كان تعاطفا مع الاضطهاد الذي يواجهه غير الألمان في ألمانيا من قبل النازيين الجدد؛ حيث كتب بعد اتهاء الفيلم: بين عامي 2000، و2007م في ألمانيا قام "التجمع الاشتراكي القومي السري" باغتيال تسعة أشخاص من أصول مهاجرة وشرطية، وقاموا بالعديد من التفجيرات، وقد كان الدافع الوحيد وراء هجماتهم أن ضحاياهم من أصول غير ألمانية.
إذا كان الفيلم الألماني "من العدم" قد وجد الحل في الانتقام الفردي وتحقيق العدالة، وهو الأمر الذي يتنافى مع أخلاقيات المجتمع ويحوله إلى فوضى كما يرى الكثيرون؛ لأن أحداث الفيلم تعني في نهاية الأمر أن الدولة فاشلة وغير قادرة على تحقيق العدالة؛ ومن ثم فليس من طريق آخر سوى الحل الفردي الذي يراه المجتمع مجرد فوضى، إلا أن بناء السيناريو الذي كتبه فاتح أكين، والأداء الشديد الاتقان من الممثلة ديان كروجر كانا عنصرين مهمين في تعاطف المشاهد وجعله مشاركا في الجريمة سعيدا بها حتى وإن كان يرفضها اجتماعيا وأخلاقيا، وأظن أن المشاهد الذي نجح الفيلم في اكتسابه إلى جانب البطلة ما كان له أن يرضى بغير هذه النهاية لتحقيق العدالة التي عجز القانون عن تحقيقها.


محمود الغيطاني

مجلة الشارقة الثقافية
عدد يوليو 2018م






ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق