الاثنين، 19 فبراير 2024

دوجفيل: مسيحٌ جديد لإفساد البشر!

ما زال المُخرج والسيناريست الدانماركي Lars Von Trier لارس فون ترير مُنكبا على صناعة الأفلام الواحد تلو الآخر في تجارب فيلمية هي أشبه بالتفكير الفلسفي السينمائي- فكر السينما- أي أنه يكاد أن يكون أقرب إلى المُفكر السينمائي منه إلى المُخرج؛ ولعل نظرته الفكرية تجاه صناعة السينما هي ما تمنحه الكثير من الجرأة في التغيير والمُغامرة الدائمين فيما يصنعه من أفلام- سواء على مستوى الشكل أو المضمون- فتظهر أفلامه- في غالب الأمر- كصدمات سواء بالنسبة للمُتلقي، أو لزملائه من صُناع السينما، أو بالنسبة للنقاد الذين لا يسلم من هجومهم رغم إيمانهم بكونه رائدا سينمائيا، وإعجابهم بشطحاته السينمائية التي يقدمها، مُقتنعا بها، مُؤمنا بأنه أفضل من يقدم سينما مُختلفة- تبعا لمفهومه عن الصناعة والتجديد فيها، والخروج بها من النمطية السائدة.

لكن ترير ليس مُصرّا على الثورة على الشكل النمطي للصناعة فقط، بل لديه إصرار أكبر وأكيد في السُخرية من الأديان، والتهكم منها، لا سيما المسيحية التي يرى في تسامحها المُبالغ فيه من دون قيد أو شرط عجرفة كريهة قادرة على صناعة وحش من الإنسان، وإخراج القبح الكامن فيه بتساهلها الدائم أمام أفعال البشر، وعدم وضع حد، أو رد صارم أمام ما يقومون به من أفعال؛ فيستمرئون أفعالهم، ويتوقف ردع الضمير داخلهم- ما دام هناك إلها غفورا يتسامح في كل شيء- ومن ثم يخرج من داخلهم هذا الوحش الكامن فيهم، ليحوّل العالم بالكامل إلى خراب، مُستحلين كل شيء في حياتهم من دون أي التجاء إلى الضمير من أجل مُراجعة أفعالهم، ولعلنا رأينا هذا التهكم المُوغل، من قبل، في العديد من أفلامه، والتي بلغت ذروتها في فيلميه Breaking the Waves كسر الأمواج 1996م، وDancer in the Dark راقصة في الظلام 2000م اللذين كانا الجزء الأول والثالث من ثلاثيته Golden Heart Trilogy القلب الذهبي.


إذن، فترير مشغول بفكرة الظلم الاجتماعي الواقع على الآخرين باسم التسامح الديني والغفران، فضلا عن اهتمامه بهذا الظلم بمعناه الأشمل والأوسع بشكل عام، وهو ما رأيناه أيضا في فيلمه The Idiots البلهاء 1998م، بالإضافة إلى فيلمه الذي نتحدث عنه الآن Dogville دوجفيل 2003م.

إن تنويع المُخرج لأفلامه، وصناعتها من أكثر من زاوية للتأكيد على فكرة واحدة تشغله إنما يُدلل في نهاية الأمر على عالم المُخرج- فالفنان صاحب الرؤية يقدم لنا العديد من الأعمال المُعبرة عن فكرة واحدة تمثل عالمه الفني الذي يعيش فيه- أي أنه من المُخرجين أصحاب العالم الخاص، والرؤية الفنية الخاصة التي تظل تلح عليه كل الوقت.

في فيلمه Dogville دوجفيل، وهو اسم قرية في حضن جبال روكي الأمريكية، يذهب ترير بشطحاته السينمائية، وتأملاته فيها إلى حده الأقصى بصناعة فيلم مُختلف تماما عما عهدناه في هذه الصناعة؛ حيث يلجأ إلى مسرحة السينما- إذا ما جاز لنا التعبير- أو تصوير عمل مسرحي باستخدام كاميرا السينما، وبأسلوبية السينما، ولعلنا نُلاحظ في هذا الفيلم تأثره الكبير بالمُخرج المسرحي الألماني Bertolt Brecht برتولد بريخت سواء على المستوى الأيديولوجي- كراهيته لأمريكا والعمل الدائم على إدانتها أخلاقيا- أو على المستوى الفني- هدم الحائط الرابع، والتغريب، والمزج بين الوعظ والتسلية- ليؤكد لنا ترير أنه يقوم بصناعة السينما من خلال عواصف من الأفكار التي تدور في ذهنه، وهي الأفكار التي تظل تلح عليه إلى أن يقوم بتحويلها إلى شكل فني يخرج لنا في النهاية في شكل فيلم سينمائي يخصه وحده، ولا يتشابه فيه مع غيره من صُناع السينما في العالم.


إذا ما كان ترير قد بدأ حياته في السينما من خلال صناعته لثلاثية أوروبا Europa Trilogy التي أدان فيها القارة بالكامل، وبدا هجوميا فيها بشكل عنيف على القارة العجوز، فهو يفضل، في صناعة السينما، تقديم أفكاره السينمائية من خلال الثلاثيات دائما؛ ومن ثم صنع بعدها ثلاثية القلب الذهبي Golden Heart Trilogy- التي كانت مُلتزمة تماما ببيانه الثوري Dogme 95 دوجما 95 في صناعة السينما بشكل أكثر نقاء وطبيعية، أي العودة بالسينما إلى أصولها- ثم ثلاثية USA:The Land of Opportunity Trilogy ثلاثية أمريكا: أرض الفرص- التي بدأ فيها بالتخلي عن بعض الشروط التي وضعها في بيانه السابق إلى حد ما- والتي كان من المُفترض إتمامها بصناعته لفيلم Wasington واشنطن- الذي لم تتم صناعته حتى اليوم- ثم انتقل إلى ثلاثيته الأخيرة The Depression Trilogy الاكتئاب، أو الكآبة، والتي تكاد أن تمثله، وتعبر عنه هو شخصيا في حياته الواقعية، ليكون فيلمه الأخير The House That Jack Built المنزل الذي بناه جاك 2018م بمثابة الفيلم الجامع لجميع أفلامه، وأفكاره التي يفكر فيها- حتى أن الفيلم قد ضم العديد من مشاهد أفلامه السابقة في داخله، ويكاد يكون هو الهيكل العظمي لكل أفلامه التي صنعها سابقا، بل وهو الفيلم الوحيد المُنفرد الذي لا يمثل جزءا من أي ثلاثية سينمائية له، إلى جانب فيلمه الثاني المُفرد The Boss of It All  الزعيم الأعلى 2006م.


نقول: إن صناعة لارس فون ترير لمشروعاته السينمائية في شكل ثلاثيات، وإصراره على فعل ذلك، إنما يؤكد لنا أنه يمتلك فكرا سينمائيا- فكر السينما- فهو لا يعنيه صناعة الأفلام لمُجرد الاستمرار في صناعتها، بل هو يمتلك العديد من الأفكار الفلسفية، والوجودية، والأيديولوجية المُؤرقة، التي يحرص على تحويلها إلى شكل فني- فيلم سينمائي- وبما أن الفيلم السينمائي الواحد من المُمكن له ألا يستوعب الفكرة من جميع جوانبها؛ فهو يحرص على التركيز عليها من خلال أفلام أخرى، مُستعرضا إياها من جميع جوانبها، حتى إذا ما استنفدت الفكرة جميع إمكانياتها؛ يبدأ في الإعراض عنها، مُتجها إلى أفكار جديدة يعمل على استعراضها من جميع زواياها، مُستغرقا فيها في شكل ثلاثية جديدة- ولعل هذا ما يبرر لنا أن ثلاثياته من المُمكن مُشاهدتها مُنفصلة لعدم ارتباط أحداثها ببعضها البعض؛ فهو يركز على الأفكار أكثر من تركيزه على الأحداث واتصال الأفلام ببعضها البعض.


نحن إذن أمام مُفكر سينمائي في المُقام الأول، ولعل ما قدمه لنا من أفلام تحمل في باطنها الكثير من الأفكار العميقة- التي قد يصعب تحويلها إلى أفلام سينمائية- يُدلل على ما ذهبنا إليه، فضلا عن تجديده المُستمر- المُدهش والصادم أحيانا- في الشكل الفيلمي من خلال أسلوبيته التي يراها أثناء صناعة أفلامه، والتي قد تلقى الكثير من الانتقاد- وربما الرفض- من النقاد وغيرهم من صُناع السينما- رغم اقتناع الجميع بكونه رائدا من رواد الصناعة- وهي الأسلوبية غير المتوقعة دائما، أي أن مُشاهدي أفلام ترير لا يمكن لهم توقع الشكل الفيلمي الجديد الذي من المُمكن له أن يلجأ إليه في فيلمه الجديد.

في فيلم دوجفيل يكسر ترير أفق توقع المُتلقي تماما بمسرحة السينما كما سبق أن ذهبنا؛ فالفيلم يتحدث عن قرية أمريكية في عصر الكساد الأمريكي، وبالتالي سنرى هذه القرية بشكل مُختلف تماما، فلا توجد شوارع للتصوير، ولا جبال، ولا أماكن مُختلفة وطبيعية، بل فضل ترير تصوير فيلمه على مسرح عملاق بشكل تجريدي تماما- مُستعينا بالإضاءة الصناعية- حيث نرى جميع بيوت القرية مرسومة على أرضية المسرح بالطباشير، كذلك الكلب- اسمه موسى- الذي نسمع صوت نباحه أو زمجرته أحيانا- لا وجود فعلي له- بل هو مرسوم على أرضية المسرح في إيهام منه على وجوده، بينما لا يوجد أمامنا على خشبة المسرح سوى القليل من المناضد، أو الكراسي، أو فراش للنوم، حتى أن كرمة العنب التي يتحدث عنها مُجرد أشجار مرسومة على أرض المسرح، بل والأبواب والجدران لا وجود لها، أي أنها غرف وأبواب خيالية، وإن كنا سنرى المُمثلين يتظاهرون حينما يدخلون إلى بيت من بيوت القرية بأنهم يدقون بأيديهم الفراغ، مع سماع صوت الدقات، باعتبار أنهم يدقون على الأبواب أو الجدران، بل ويتظاهرون بإمساك مقابض الأبواب أثناء فتحها أو إغلاقها، حتى الشارع الرئيس في القرية/ شارع الدردار- الذي لا يوجد فيه شجرة دردار واحدة- مرسوم على أرضية المسرح باعتباره شارعا مُفترضا، ومكتوب اسمه على أرضية المسرح!


إذن، فلقد فعلها المُخرج مرة أخرى بعمديته في إحداث الصدمة للمُتلقي من خلال صناعة فيلم مُختلف شكلانيا وأسلوبيا كما يراه هو في ذهنه، وليس كما يجب صناعة الأفلام من خلال الفكر النمطي لصناعة السينما.

هذا الشكل في صناعة الفيلم سيجعل جميع أهل القرية/ المُمثلين مُجتمعين معا في حيز مكاني واحد طوال أحداث الفيلم، تماما كما هو الأمر في المسرح- وإن كان في المسرح من المُمكن للمُمثلين أحيانا الخروج أو الدخول إلى خشبة المسرح- إلا أن استخدام المُخرج لتقنية التصوير السينمائي ستختلف تماما عن المسرح المصور؛ الأمر الذي يعطيه في النهاية مفهوم السينما- فالمُخرج السينمائي من خلال استخدامه للكاميرا يتحكم في الزاوية التي يرغب في أن يراها المُشاهد من خلال زوايا كاميرته- لا سيما أن المصور الإنجليزي Anthony Dod Mantle أنتوني دود مانتل كان بارعا إلى حد كبير في التصوير خاصة باستخدامه للقطات العلوية التي تُبدي لنا المسرح في النهاية وكأنه ساحة للعبة من ألعاب التحريك، وأن المُمثلين فيها مُجرد أشياء يتم تحريكها من قبل إله مُسيطر- الأمر الذي يتوافق مع فكر المُخرج.


يرغب ترير في إدانة المُجتمع الأمريكي وأخلاقياته، وهي الأخلاقيات التي تصور أهل القرية مُرتابين في الغرباء، غير قادرين على تقبلهم والاندماج معهم، مُمارسين للكثير من العنف تجاههم على المستوى الواقعي، وإن كانوا يمارسون هذا العنف والاستغلال تحت ستار الرحمة والتقبل، والتسامح، والأخلاق الاجتماعية الزائفة التي يحاول المُجتمع الأمريكي تصديرها للآخرين دائما.

إذا ما كان ترير قد حرص مُنذ بداياته المُبكرة على تقسيم أفلامه إلى عناوين- مُنذ فيلمه الثاني Epidemic وباء 1987م- وهي التقنية التي تطورت معه فيما بعد إلى شكل أعمق؛ فنحن سنراه في هذا الفيلم يجنح إلى الإيغال في هذا الشكل الفيلمي حتى أنه سيسرده وكأنه فصول كتاب يقوم أحد الرواة/ المُعلق الصوتي بسرده/ حكايته لنا، مُعلقا على الأحداث التي تدور أمامنا على الشاشة، مُبديا العديد من الآراء فيما يحدث؛ فيقسم فيلمه إلى مُقدمة وتسعة فصول، حيث يكتب على الشاشة قبل المشهد الأول من الفيلم: فيلم دوجفيل كما حُكي في تسعة فصول ومُقدمة، وهي المُقدمة التي كانت بمثابة المدخل، أو التعريف لنا على القرية وسُكانها، وطريقة معيشتهم، وما يحيط بهم من ظروف اقتصادية واجتماعية، ومُعاناتهم، أي أنه يوغل في أسلوبية تخصه، يختلف فيها عن غيره من رواد الصناعة.


يبدأ الفيلم بالراوي/ المُعلق الصوتي على الأحداث- السارد الفيلمي- بقوله: سُكان دوجفيل أناس طيبون، الناس صادقون، ويحبون منطقتهم. أي أنه حريص مُنذ المشهد الأول على التأكيد بأن سُكان القرية يكادوا أن يقتربوا من المثالية الاجتماعية؛ ليلقي في بال المُشاهد ويعزز هذه المثالية والطيبة اللتين نراهما من خلال شخصيات وسُكان القرية الفقراء، والمتعاونين تماما مع بعضهم البعض؛ حيث نرى توم إديسون- قام بدوره المُمثل الإنجليزي Paul Bettany بول بيتاني- الشاب الجانح إلى المثالية والأفكار الفلسفية الأخلاقية، فنعرف أنه يقوم بتأليف القصص والروايات التي يقرأها لغيره من سُكان القرية، كما أنه مُتعطل عن العمل، ويقوم دائما بإلقاء الكثير من الخطب الوعظية لسُكان القرية في الكنيسة بشكل يكاد أن يكون يوميا، وهو ابن طبيب مُتقاعد طيب- قام بدوره المُمثل الأمريكي Philip Baker Hall فيليب بيكر هول- الذي يقضي وقته في الاستماع إلى المُوسيقى من خلال جهاز الراديو الوحيد في القرية، ولعلنا نُلاحظ هنا سُخرية لارس فون من المُجتمع الأمريكي، لا سيما أهل القرية الفقراء، والسياسة الأمريكية في المشهد الذي تنتهي فيه المُوسيقى التي يبثها الراديو، ونسمع المُذيع يقول: أيها السيدات والسادة، رئيس الولايات المُتحدة الأمريكية...؛ فيطلب والد توم منه إغلاق الراديو قائلا: اصنع لي معروفا، أيمكنك؟ ليرد توم: الراديو؟ لأن المُوسيقى قد انتهت ومن المُمكن أن تخاطر وتسمع شيئا ذا فائدة؟ اعتقدت أننا نمتلك الراديو لهذا السبب. لكن الأب يرد عليه: حسنا، أحتاج إلى الراحة كما تعرف، اسخر مني إذا ما شئت. أي أن المُخرج حريص على إبداء السُخرية مُنذ مشاهده الأولى من السياسة الأمريكية بإظهار الأمريكيين مُعرضين عن سماع أي شيء يخص السياسة الأمريكية.


في المُقدمة التي حرص المُخرج، من خلالها، على تعريفنا بأهل القرية الفقيرة سنعرف- على لسان الراوي مع تنقلات الكاميرا- جاك مكاي- قام بدوره المُمثل الأمريكي Ben Gazzara بن جزارة- الذي فقد بصره، ويصر على التظاهر لأهل القرية بأنه ما زال يرى بالتزامه لبيته وحيدا لا يخرج منه، مُدعيا في ذلك بأنه يقوم بكتابة مُذكراته، ومارثا- قامت بدورها المُمثلة الأمريكية Siobhan Fallon Hogan سيوبان فالون هوجان- التي ترعى شؤون الكنيسة في انتظار أن يستلمها منها قس لا يأتي أبدا، وماجنجر- قامت بدورها المُمثلة الأمريكية Lauren Bacall لورين باكال- المسؤولة عن المتجر الوحيد في القرية، وبن- قام بدوره المُمثل السلوفيني الكرواتي الأصل الأمريكي الجنسية Željko Ivanek زيليكو إيفانيك- سائق الشاحنة الفقير الذي يقوم بنقل البضائع من وإلى القرية، والذي لا يمتلك بيتا يبيت فيه؛ وبالتالي يعتبر أن الطريق هو بيته، ويذهب أسبوعيا إلى بيت للدعارة لأنه لا يجد امرأة يحبها، وليز- قامت بدورها المُمثلة الأمريكية Chloë Sevigny كلوي سيفيني- ابنة عائلة هينسون، والفتاة المرغوبة من مُعظم رجال القرية، وبالتالي تشعر بوطأة نظراتهم إليها، ورغبتهم فيها، في حين أنها تنتظر خطيبها الذي ترك القرية من أجل العمل، وأخيها بيل/ الغبي- قام بدوره المُمثل الأمريكي Jeremy Davies جيرمي ديفيز- الذي لا يستطيع التفكير في أي شيء، والذي يرغب أبواه في أن يكون مُهندسا، وتشوك- قام بدوره المُمثل السويدي stellan skarsgård ستيلان سكارسجارد- صاحب كرمة العنب التي لا يمتلك غيرها في الحياة، والذي يعيش مع زوجته فيرا- قامت بدورها المُمثلة الأمريكية Patricia Clarkson باتريشيا كلاركسون- التي لا يشعر تجاهها بأي شكل من أشكال العواطف، واللذين لديهما الكثير من الأطفال منهم الطفل جيسون- قام بدوره المُمثل Miles Purinton مايلز بورنتون. أي أن المُخرج من خلال مُقدمة فيلمه/ كتابه يعرفنا على جميع شخصيات القرية الطيبة الفقيرة، المُنعزلة عن العالم، والغير قادرين على الحصول على فرص جيدة مثل أهل المدينة، ليرسم لنا عالما مثاليا لقرية فقيرة مُنعزلة.


بعد هذه المُقدمة يكتب لارس فون على الشاشة: الفصل الأول: حيث يسمع توم طلقات النيران ويقابل جريس. وهو الفصل الذي تظهر فيه فتاة غريبة عن القرية يبدو عليها الثراء/ جريس- قامت بدورها المُمثلة الاسترالية الأصل الأمريكية الجنسية Nicole Kidman نيكول كيدمان- والتي سنعرف أنها تحاول الهروب من عصابة مجهولة تطاردها، وقد أطلقت عليها النيران التي سمعها توم قبل دخولها للقرية من أجل الاختباء فيها من الطريق الوحيد المؤدي إليها. تطلب جريس من توم إخفائها من العصابة؛ فيسرع بها إلى منجم الفضة المهجور، وحينما تصل العصابة يسألونه عما إذا ما كان قد لمح فتاة تدخل القرية، فيؤكد لهم أن القرية لا مدخل لها سوى الطريق الذي أتوا منه، وأنه لم ير أي شخص غريب؛ فيقول له رئيس العصابة: أنا أبحث عن بنت، ربما سلكت طريقها إلى بلدتك، وعقلها مشوش، لا أريد لها أن يصيبها أي مكروه، كما ترى، هي عزيزة جدا عليّ، خذ بطاقتي وإذا ما رأيت غريبا؛ اتصل بي، أنا في موقف يسمح لي بعرض جائزة كبيرة. ثم يعطيه بطاقة عليها رقم هاتفه.


تنصرف العصابة بسيارتها، ليسأل توم جريس: أين عائلتك؟ فترد عليه: ليس لي عائلة، كل ما كان لدي هو أب فقط، وقد سلبه مني أفراد هذه العصابة. فيطمئنها توم بأنه من المُمكن له حمايتها ببقائها بين أهل القرية، لكنها حينما تخبره بأن القرية صغيرة، ولا يمكن لها الاختباء فيها من دون مُلاحظة أهلها وإثارة الكثير من التساؤلات، يؤكد لها بأنه لديه الطريقة التي تجعل أهل القرية يتقبلونها، مُخبرا إياها بأنهم قوم صالحون، وطيبون.

يكتب المُخرج على الشاشة: الفصل الثاني: حيث تتبع جريس خطة توم وتشرع في العمل البدني. في هذا الفصل يهتم توم بجمع أهل القرية في الكنيسة، ويلقي بخطبة طويلة عن الخير الذي لا بد لهم أن يتحلوا به، ومُساعدة من هو في حاجة إلى المُساعدة إذا ما لجأ إليهم، ويحكي لهم ما حدث في الليلة الماضية، طالبا منهم حماية جريس بإبقائها بينهم في القرية بعيدا عن رجال العصابة، لكنهم يبدون بعض التخوف؛ لأن حمايتهم لها قد يعرضهم لغضب رجال العصابة، وأنها قد تتسبب في بعض المشاكل للقرية التي تهنأ بهدوئها؛ فيقترح عليهم أن تظل بينهم لمُدة أسبوعين، وبعد هذين الأسبوعين عليهم أن يجتمعوا مرة أخرى ليتخذوا قرارهم إذا ما كانوا يرغبون في استمرار وجودها بينهم أم لا. يوافق أهل القرية على اقتراح توم، ويطلب من جريس في مُقابل موافقتهم على ذلك أن تعرض خدماتها عليهم، وتساعدهم في حياتهم اليومية من أجل التقرب منهم وقبولها.


توافق جريس على خطة توم من أجل التقرب من سُكان القرية، وتبدو لنا كملاك بينهم، حتى أنها تقول لبن/ سائق الشاحنة حينما تعرف أنه يذهب كل أسبوع إلى بيوت الدعارة بينما يشعر بالحرج منها: لا تكن مُحرجا بن، كلنا نمتلك الحق للاستفادة من حياتنا لأبعد حد، أنا واثقة بأن أولئك السيدات في تلك البيوت يجلبن الكثير من البهجة للكثير من الرجال. أي أنها تنقذه من الحرج والخجل الذي يشعر به حينما عرفت بما يفعله.

تنخرط جريس في مُساعدة أهل القرية الذين يبدأون في تقبلها على مضض، وفي الفصل الثالث يكتب لارس: الفصل الثالث: حيث تنغمس جريس في الاستفزاز. وهو الفصل الذي تجتمع فيه القرية مرة أخرى من أجل التصويت على بقاء جريس بينهم من عدمه، وقد كان الشرط لكي تظل بينهم أن يوافق عليها جميع أهل القرية بالكامل، وبما أن تشوك/ صاحب الكرمة قد أبدى لها الكثير من العداء مُنذ وصلت إلى القرية، والأكثر من التشكك فيها، ورغبتها في خداع أهل القرية الطيبين- باعتباره كان من أهل المدينة من قبل ويعرف ألاعيبهم- فلقد كانت تخشى عدم موافقة تشوك على بقائها بينهم، لكنهم حينما أخذوا التصويت في الكنيسة وافق الجميع على تواجدها بينهم لإخفائها من رجال العصابة.

تواصل جريس مُساعدتها لأهل القرية في أعمالهم اليومية، في مُقابل القليل جدا من المال الذي استغلته في شراء تماثيل مصنوعة من الخزف من متجر القرية الذي تشرف عليه ماجنجر، ويتعلق بها توم شاعرا تجاهها بالكثير من العاطفة، رغم أنه لا يعرف عن حياتها أي تفاصيل. في الفصل الرابع يكتب المُخرج: الفصل الرابع: أوقات سعيدة في دوجفيل. وهو الفصل الذي تنخرط فيه جريس في حياة القرية، وتنشأ بينها وبين أهلها الكرام الكثير من العلاقات الجيدة؛ فتعتني بوالد توم/ الطبيب الذي يشك دائما في إصابته بأورام سرطانية، لكنها تؤكد له بأنه مُعافى ولا يعاني من أي شيء، وتساعد تشوك في كرمة العنب وجمعه، وتهتم بجاك مكاي/ الأعمى الذي يلتزم منزله ولا يخرج منه مُؤكدة له أن عدم إبصاره شيئا عاديا، وتساعد مارثا في تقليب أوراق النوتة المُوسيقية التي تعزفها في الكنيسة، وتهتم بأطفال فيرا أثناء غيابها، وتُحمّل البضائع على شاحنة بن. أي أنها أبدت لجميع أهل القرية مُساعدتها، رغم أنها يبدو عليها الرفاهية والثراء، ولم تقم بأي عمل يدوي من قبل، لكنها كانت تقوم بما تفعله في القرية بسعادة ورضى. كما تخبرها ليز بأنها قد وافقت على وجودها بينهم في القرية؛ لأنها جميلة وستلفت اهتمام الرجال بها؛ حيث تشعر بالكثير من الضيق لأن اهتمامهم مُنصبا عليها فقط.


في هذا الفصل يصل إلى القرية رجل شرطة ليعلق منشورا على جدار الكنيسة عليه صورة جريس واسمها، وحينما يسأله بن: ما الذي فعلته؟ يرد رجل الشرطة: مفقودة، هذا كل ما في الأمر، أظن أن شخصا ما افتقدها، سمعت أنها قد تمت رؤيتها آخر مرة هنا، نحن نضع هذه الورقة في جميع أنحاء المُقاطعة.

يشعر أهل القرية بالخوف والتردد من إيواء جريس باعتبار أن إيوائهم لها مُخالف للقانون، وأنهم لا بد لهم من طاعة رجال الشرطة، لكن توم يؤكد لهم أنها ليست مُدانة في شيء، وأنها تعيش بينهم بسلام وحب. في الفصل الخامس يكتب لارس على الشاشة: الفصل الخامس: الرابع من يوليو بعد كل ذلك. وهو الفصل الذي يحتفل فيه جميع أهل القرية، ويجتمعون على مائدة واحدة يتناولون عليها عشاءهم، بينما يعترف لها توم بأنه يحبها، وتؤكد له بأنها تبادله نفس مشاعر الحب. هنا يعترف مكاي/ الضرير أمام أهل القرية بقوله لجريس: لقد جعلت من دوجفيل مكانا جميلا للعيش فيه، في واقع الأمر، شخص ما أخبرني أنهم قد التقوا بتشوك العجوز، حاد الطباع في الشارع، وقد كان مُبتسما، حسنا، أنا لم أره في حياتي مُبتسما، لكني سأراهنك بأني أستطيع وصفها لك، نحن فخورون لكونك بيننا، وشاكرون لك؛ لأنك أظهرت لنا من تكوني، ابق بيننا المُدة التي ترغبينها. كما يعترف مكاي لأهل القرية- بعدما ساعدته جريس على التكيف مع فقدان البصر واعتباره أمرا عاديا- بأنه لم يعد يبصر، وأنه كان مُلتزما لبيته لهذا السبب، وليس لكتابة مُذكراته.


أثناء احتفال القرية يأتي الشرطي مرة أخرى؛ فيعملون على إخفاء جريس، وحينما ينزع المنشور السابق من على جدار الكنيسة يقول لهم: يجب عليّ تغيير إعلان هذا الشخص المفقود، إنها تلك السيدة مرة أخرى، لهذا السبب قد اختفت، إنها مطلوبة لارتباطها مع البعض في سرقة المصارف على الساحل الغربي. وحينما يسأله توم: متى حدثت تلك السرقات؟ يرد عليه: في الأسبوعين الأخيرين، يُقال إنها خطيرة، وأي شخص يمتلك عنها أي معلومات؛ فمن الأفضل إبلاغنا، هذا هو القانون.

بعد انصراف الشرطي يؤكد توم لأهل القرية بأن العصابة ترغب في توريط جريس باتهامهم لها بمُساعدة رجال الشرطة الذين يرتبطون مع العصابة بعلاقات قوية؛ لأنها لا يمكن لها أن تكون قد ارتكبت هذه الجرائم المنسوبة إليها في الأسبوعين الماضيين بينما هي بينهم لم تغادر القرية لحظة واحدة، لكن أهل القرية يشعرون بالكثير من الخوف، ويحاولون التراجع عن قرارهم بوجودها بينهم، إلا أن توم يحاول إقناعهم ببقاء جريس؛ فيشترطون أن تزداد أعباء عملها في القرية نظير إيوائهم لها، وإخفائها عن أعين الشرطة والعصابة، بما أن الأمر قد صار خطيرا، يتضح ذلك من قول توم لها: من منظور العمل، وجودك في دوجفيل أصبح مُكلفا جدا بسبب شعورهم بالخطر الكبير لإيوائك هنا، ليس معنى هذا أنهم لا يريدونك؛ لذا يريدون الشعور ببعض الموازنة، شيء في مُقابل شيء. فتقول جريس: يبدو ذلك مثل نفس الكلمات التي يستخدمها أفراد العصابة. فيقول مُستمرا: هناك أيضا أكثر من حافز إذا ما أردت البقاء، مع كل تلك المنشورات المُعلقة في كل مكان، ثمة صعوبة في التفكير في المكان الذي يمكن لك الاختباء فيه. فتسأله: إذن، فما هي الموازنة التي تقترحها؟ يرد: يريدون منك العمل لساعات إضافية بأن تزوري الآخرين مرتين في اليوم، وبهذه الطريقة سيبدو أن نيتك تهدف إلى المُساهمة أكثر في القرية، هذا الأمر بعيد تماما عن شعور الكراهية. توافق جريس مُضطرة: حسنا، يبدو غريبا إلى حد ما، وصعب تطبيقه. ليقول: هذا ما أعتقده، قالت مارثا: بأنها ستقرع جرسها كل نصف ساعة؛ كي يمكنك مُتابعة جدول أعمالك الجديد. فتسأله: هل في نيتهم أن يدعوني أبقى؟ ليرد: السيدة هينسون أيضا ترى أنه يجب علينا أن نمنع عنك راتبك، مُجرد بادرة رمزية، كلمة مُسجلة خطر الموجودة على المنشور تقلقها. فتقول راضية: سأفعل ما يجب عليّ فعله، إذا ما وجب عليّ العمل بجد، وبساعات إضافية من أجل نقود أقل، سأفعل بالطبع.


ربما لا بد لنا من التوقف هنا هنيهة لتأمل الوضع الذي صارت عليه جريس مع تحول أهل القرية إلى مثل هذا التحول المُدهش؛ فبدلا من الوجه الطيب المُتسامح الذي كان يبدو عليه أهل القرية فيما سبق، نرى أنهم قد تحولوا إلى استغلال وجود جريس بينهم لتصبح خادمة لهم رغم فقرهم المُدقع، بل إن استغلالها كخادمة لم يتوقف عند ذلك فقط وتعداه إلى امتهانها كخادمة لهم مع عدم وجود أي مُقابل مادي مُستغلين حاجتها إلى الاختباء من العصابة، والشرطة المُتضامنة معها، أي أن ثمة تحول خطير في أخلاقيات أهل القرية الطيبين، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن هذا المشهد يلقي بالكثير من الإيحاءات والإسقاطات على المُجتمع الأمريكي في شكله الاستغلالي البراجماتي الذي لا يمكن له أن يقدم أي شكل من أشكال المُساعدة لأي جهة في العالم إلا إذا ما ضمن المُقابل أولا- رغم أن أمريكا في مُساعدتها للآخرين تحاول إبداء الوجه الإنساني لهم، وهو الوجه المُزيف وغير الحقيقي الذي نعرفه جميعا؛ فهي تُحدد أهدافها التي ستعود عليها أولا قبل الإقدام على مُساعدة أي جهة- أي أن ترير، هنا، يوغل في انتقاد المُجتمع والسياسة الأمريكيين من خلال هذا التحول الذي أضحى عليه سُكان دوجفيل تجاه جريس، ومحاولة استغلال ضعفها، وموقفها لصالحهم بشكل لا أخلاقي.


هنا نستمع إلى صوت الراوي/ المُعلق يقول: دقائق العمل أصبحت ساعات للعمل، وأصبحت ساعات العمل يوما حافلا. في إشارة منه إلى محاولة استعبادها من قبل سُكان القرية جميعا، وهو الاستعباد الذي تتقبله جريس عن طيب خاطر، وتقبل منهم جميعا زجرها، أو نهرها باعتبارها خادمة لديهم!

في الفصل السادس يكتب المُخرج على الشاشة: الفصل السادس: حيث تكشر دوجفيل عن أنيابها. وهو الفصل الذي نرى فيه مُعاناة جريس من أجل خدمة جميع بيوت القرية، بل والعمل مع بن في تحميل شاحنته أو تفريغها، بالإضافة إلى مُساعدة تشوك في كرمة العنب، حيث يحاول تشوك التحرش بها جسديا أثناء العمل في الكرمة، وحينما تبتعد عنه بلطف يخبرها بأنها تتعامل معه بنفور وكراهية، لكنها تؤكد له بأنها لا تفعل ذلك؛ فيسألها عن السبب الذي يجعلها تبتعد عنه أثناء العمل في تشذيب أشجار الكرمة وتقليب الأرض، لتقول له: لقد حاولت تقبيلي. هنا يحاول الإمعان في التأكيد بأنها تنفر منه، لكنها تحاول مواساته بتسامح وتؤكد له بأنها لا تكرهه، ولا تتخذ منه أي موقف عدائي، بل وتعتذر له إذا ما كان سلوكها قد أشعره بهذا الشعور منها، وتعده بأنها لن تفعل ذلك مرة أخرى. هنا يخبرها بأنه قد دارت في رأسه فكرة الإبلاغ عنها حينما شعر منها بذلك، لكنها تسامحه، وتخبره أنه من حقه أن يفكر في ذلك إذا ما آذاه أحد، لكنه طيب ولا يمكن له القيام بضرر أي إنسان.


في هذا الفصل سنُلاحظ أن جيسون/ ابن فيرا وتشوك يدخل إلى المنزل أثناء غياب أبيه وأمه، واعتناء جريس ببقية الأبناء، لا سيما الطفل الرضيع، ويبدأ جيسون في إبداء عدم الأدب والاحترام بتقطيعه الأوراق؛ فتطلب جريس من باقي الأطفال الخروج من المنزل، وتسأله عن السبب في فعل ذلك، ليؤكد لها بأنه قد أساء الأدب ولا بد لها أن تقوم بعقابه بضربه بالسوط، لكنها ترفض ما طلبه منها، مُؤكدة له بأن أمه لا تؤمن بالعقاب الجسدي، كما أنها لا يمكن لها القيام بذلك. هنا يبدأ الطفل في ابتزازها ليخبرها أنه يعلم بأن بقائها في القرية مرهون برضى الجميع عنها، وإذا لم تقم بضربه؛ فسيخبر أمه بأنها قد قامت بذلك. تندهش جريس مُخبرة إياه بأنها لم تضربه، بل ترفض فعل ذلك، هنا يطلب منها أن تقوم بصفعه، وفي المُقابل لن يخبر أمه بذلك إذا ما فعلت، بل ويبدأ في هز أخيه الرضيع بشكل عدواني؛ الأمر الذي يجعل جريس تنهره مُبعدة إياه عن الطفل، لتقوم بصفعه عدة صفعات ليتوقف عن مساومتها، وابتزازها، ومُضايقتها، وحينما يطلب منها المزيد من الصفع تتوقف، ليخبرها بأن ما قامت به مرضٍ بشكل مُؤقت!


يصل تشوك إلى القرية بينما رجال الشرطة فيها يبحثون عن جريس، ويدخل منزله مُخرجا أطفاله ليخبرها بأن رجال الشرطة في الخارج، وأنهم قد سألوه عنها، لكنه أخبرهم بأنه لم يرها، ويبدأ في التحرش الجسدي بها راغبا في مُضاجعتها. تحاول جريس إبعاده عنها، لكنه يخبرها أنها إذا لم تمتثل لما يرغبه؛ فسيخرج لإخبار رجال الشرطة عنها، ومن ثم يتعرى مُضاجعا إياها بينما هي تحته في عينيها الكثير من الدموع المُستسلمة له.

ألا نُلاحظ هنا أن تسامح جريس مع أفعال الجميع قد أدى إلى تغييرهم إلى الأسوأ مُخرجا الوحش الكامن فيهم؟ فبعدما كانوا أناسا طيبين لطيفين معها أدى تسامحها مع تجاوزاتهم التي كانت تزداد وتيرتها يوما بعد آخر إلى استمراء الأمر؛ ومن ثم الإيغال في الفظاظة تجاهها، بل واستعبادها بعدما حولوها إلى خادمة في بداية الأمر، ووصل الأمر إلى أن جاك مكاي/ الأعمى بات يتحسس ساقيها كلما ذهبت إليه في بيته من أجل مُساعدته، وهو الأمر الذي لم تكن تمتلك الاعتراض عليه. أي أنها قد تحولت إلى خادمة مُستعبدة لكل أهل القرية، وحق جنسي مُكتسب لرجال القرية من أجل التحرش الجسدي بها، بل واستباحتها بمُضاجعتها واغتصابها ممن يرغب في فعل ذلك!


في الفصل السابع نقرأ على الشاشة: الفصل السابع: حيث تحصل جريس أخيرا على كفايتها من دوجفيل، وتغادر المدينة، وترى ضوء النهار مرة أخرى. في هذا الفصل تخبر توم بما يحدث معها، وبأن مكاي يتحسس ساقها دائما بينما تكون في منزله؛ فيلتمس له الأعذار مُؤكدا لها بأنه ربما لا يقصد فعل ذلك، كما تخبره باغتصاب تشوك لها؛ فيبدأ في التفكير في طريقة من أجل إنقاذها مما يفعله بها أهل القرية. لكنها تُفاجأ ذات ليلة بفيرا/ زوجة تشوك، وليز، ومارثا يدخلون غرفتها المُخصصة لها وقد بدا على وجوههن الكثير من الشر، لتقول لها فيرا: لقد رأتك مارثا، وراء هذه الكومة من الأغصان المكسورة مع تشوك، لقد قال: إنها لم تكن المرة الأولى، وإنك قد قمت بعدة تجاوزات تجاهه، وهو لم يخبرني من قبل لعدم رغبته في تحطيم مشاعري، إنه مُنعزل، ورجل ساذج، لكنه في الواقع مُخلص وطيب. ماذا تريدين من زوجي؟! فترد جريس بضعف مُتسامح: لا أريد أي شيء من زوجك، ولا من أي أحد. أي أنها لم تحاول إنكار التُهمة التي اتهمها بها تشوك بأنها هي التي تتحرش به جنسيا، بل سامحته على ذلك ولم تلجأ إلى تشويه صورته أمام زوجته.

لعلنا نلحظ من خلال هذا المشهد أن تشوك قد اعتاد على اغتصاب جريس مرارا وتكرارا حتى رأتهما مارثا، أي أن الصمت والتسامح عما يقترفه الآخرون في حقنا؛ يؤدي بهم إلى المزيد من الإهانة، والتجاوز بشكل أكبر، وهو ما حدث مع جريس بسبب صمتها عن إهانات الجميع لها، وتسامحها معهم.


تحاول فيرا الانتقام من جريس بسبب اعتقادها بمُضاجعتها لزوجها، واستدراجه جنسيا لها؛ ومن ثم تقوم بتحطيم التماثيل الخزفية التي تحبها جريس، لكن فيرا تخبرها بقسوة بأنها ستقوم بتحطيم تمثالين اثنين فقط، وإذا ما استطاعت كبح دموعها وعدم البكاء ستتوقف عن تحطيم باقي التماثيل. لكن لأهمية ومكانة هذه التماثيل بالنسبة لجريس؛ لم تستطيع كبح دموعها وتنطلق في البكاء على تماثيلها، الأمر الذي يجعل فيرا تحطم التماثيل بالكامل.

يتفق توم مع جريس على خطة من أجل تهريبها من دوجفيل بالاتفاق مع بن/ سائق الشاحنة على تهريبها مع صناديق التفاح خارج القرية، ولأن بن في نهاية الأسبوع، فهو بالتأكيد لا يمتلك المال وسيوافق على فعل ذلك، لكن جريس تخبر توم بأنهما ليس لديهما المال من أجل الدفع لبن، إلا أنه يطمئنها بأنه سيأخذ من صندوق أبيه عشرة دولارات من أجل دفعها لبن، فتخبره بأنه عليه التأكيد لأبيه بأنها ستعيد إليه المال مرة أخرى، وأنها قد أخذته على سبيل الاستدانة.

بالفعل تذهب جريس في الصباح إلى بن بجوار شاحنته لتخبره برغبتها في الخروج من البلدة؛ فيوافق نظير أخذ الدولارات العشرة مُقدما. تعطيه جريس المبلغ لتصعد إلى ظهر الشاحنة وسط صناديق التفاح بعد تحميلها في خفية عن أعين أهل القرية، لكنها بعد فترة طويلة من سير الشاحنة تتوقف؛ فتظن بأنها قد وصلت إلى مكان آمن، لتُفاجأ ببن يدخل إلى ظهر الشاحنة تحت غطائها مُخبرا إياها بأن الكثير من رجال الشرطة في الخارج، وأنهم في ميدان أمام كنيسة، وهو يشعر بالكثير من الخطر، وبما أن الأمر قد بات خطيرا إلى حد كبير؛ فهو يطلب منها المزيد. تخبره جريس بأنها لا تمتلك سوى العشرة دولارات التي أخذها، إلا أنه يساومها من أجل عدم تسليمها طالبا منها المزيد من حقه في صورة مُضاجعته لها، مُؤكدا لها بأن الأمر ليس شخصيا تجاهها، بل هو يرغب في المزيد من المُقابل كي يوصلها إلى بر الأمان. تحاول جريس التملص منه، لكنه يرغمها على المُضاجعة مُغتصبا إياها بدوره.


تذهب جريس في نوم عميق بعد اغتصاب بن لها، وحينما تتوقف الشاحنة تظن أنها قد وصلت إلى مكان آمن، لكنها تسمع صوت نباح الكلب موسى، وحينما يكشف بن الغطاء؛ تُفاجأ بجميع أهل القرية يحيطون بالشاحنة بينما عيونهم الغاضبة مصوبة تجاهها، حيث لم يلتزم بن بالاتفاق الذي بينهما، مُخادعا إياها بالعودة بها مرة أخرى ليقول: لقد اجتمعنا في الليلة الماضية في الكنيسة، وقالوا أنك ستحاولين الهروب؛ لذا حينما اكتشفت أنك تختبئين في شاحنتي؛ لم يكن لدي خيار سوى جلبك إلى هنا مرة أخرى!

ألا نُلاحظ، هنا، أن أخلاقيات جميع أهل القرية قد انقلبت تماما، وتحولت إلى الكذب، والاستغلال، والخداع، والاستعباد، وعدم الحفاظ على الوعد بشكل مشين؟ إنه التسامح الذي يؤدي إلى المزيد من التجاوزات في حق الآخرين. وهو ما يجعل أهل القرية يعاقبونها مُدعين أنهم لا يفعلون ما يفعلونه باعتباره عقابا، ولكن من أجل الحفاظ عليها، وعدم الإضرار بأخلاقيات القرية؛ فيقومون بجلب طوق الكلب/ موسى، والجرس المُعلق على باب المتجر الوحيد، وربطه بالطوق، ثم إيصال الطوق بسلسلة طويلة تنتهي بإطار حديدي شديد الثقل؛ ليحكموا ربط كل ذلك بعنق جريس في استعباد حقيقي لها بعدما أشار عليهم بيل هينسون/ الغبي بهذا الأمر باعتباره مُهندسا؛ ومن ثم باتت جريس تعاني مُعاناة كبيرة في التنقل بين منازل القرية لخدمتهم بينما الطوق المُعلق في رقبتها ينتهي بالإطار الحديدي الثقيل الذي لا بد لها من جره بصعوبة من أجل التنقل!

المُخرج الدانماركي لارس فون ترير

نحن، هنا، أمام قرية تحولت إلى مجموعة من الوحوش، يسقطون جميعهم وحشيتهم على جريس وحدها التي تُقابل هذه الوحشية بالمزيد من التسامح باعتبارهم لا يقصدون إيذائها، أو باعتبارهم لا يدركون ما الذي يفعلونه معها، بما أن أصلهم طيب في نهاية الأمر!

يكتب المُخرج على الشاشة: الفصل الثامن: حيث يوجد اجتماع تُقال فيه الحقيقة، ويغادر توم (فقط للعودة لاحقا). وفي هذا الفصل من الفيلم نُشاهد جميع رجال القرية يتناوبون في زيارات ليلية لغرفة جريس من أجل مُضاجعتها، بينما هي غير قادرة على الرفض بسبب إعيائها الشديد، وعدم قدرتها على الحركة بسبب الثقل المُعلق في عنقها، أي أنها تحولت إلى أداة جنسية لجميع رجال القرية الراغبين فيها؛ الأمر الذي يدفع توم إلى التفكير في كيفية تخليصها مما وصلت إليه، وهنا يقول لها: إنه سوف يجمع جميع أهل القرية في الكنيسة، وعليها أن تكون حاضرة كي تخبرهم بالحقيقة وكل ما بدر منها ومنهم تجاهها بكل وضوح، أي أنه يرغب منها أن تضعهم أمام أنفسهم جميعا، وحذرها من مُهاجمة أحد منهم، بل عليها أن تحكي ما حدث فقط.

الممثل الأمريكي بن جزارة

بالفعل ينجح توم في جمع أهل القرية، وتقف جريس أمامهم لتروي ما حدث لها مُنذ وصلت إلى دوجفيل، وحينما تنتهي من حكايتها يبدأ أهل القرية في إنكار كل ما قالته، ويدعون أنها أكاذيب، حتى أن الطبيب والد توم ينكر أنها كانت تُساعده دائما، وتعمل على إقناعه بأنه ليس مُصابا بالسرطان، ويتساءل كيف يكون في حاجة إلى أحد لمُساعدته في ذلك بينما هو طبيب ليس في حاجة إلى هذه المُساعدة، ويبدأ أهل القرية في الاتفاق على أنه لا بد لهم من إبعادها عن القرية بأي شكل، بل ويطلبون من توم تخليصهم منها، والاختيار بينهم وبينها؛ فيبدي لهم استيائه منهم بسبب إنكارهم للأمر.

تعرف جريس أن أهل القرية قد اتهموها أيضا بأنها قد سرقت العشرة دولارت من والد توم، وحينما تبدي دهشتها يؤكد لها توم بأنه هو من ادعى ذلك، لأنهم قد شكوا في أنه من سرق المال، ولأنه يرغب في البقاء إلى جوارها من أجل مُساعدتها وتخليصها مما هي فيه؛ فتسامحه على ما اقترفه في حقها بظلمها والادعاء عليها بأنها قد سرقت والده.

يتجه توم إلى جريس بعدما طلب منه أهل القرية الاختيار بينه وبينها، وتخليصهم منها، ويخبرها بأنه قد اختارها هي، ويحاول مُضاجعتها، لكنها تخبره بأن هذا من حقهما باعتبارهما يحبان بعضهما البعض، ولكن ليس بهذا الشكل، ولا في هذا التوقيت. هنا يثور توم غاضبا، مُخبرا إياها بأنه قد اختارها لتوه، وفضلها على أهل قريته، لكنها لا تريد حتى أن ترد له المعروف، رغم أن الجميع قد امتلك جسدها إلا هو؛ فتخبره جريس بأنه بإمكانه مُضاجعتها إذا ما رغب في ذلك، لكنه لن يكون مُختلفا عن أي فرد من أهل دوجفيل الذين ساوموها على جسدها من أجل محاولة حمايتها.

الممثل الإنجليزي بول بيتاني

هنا يشعر توم بالكثير من عدم الاتزان الأخلاقي؛ فهو يدعو إلى الكثير من المثاليات محاولا تمثلها في حين أنه يتصرف عكس ما يدعو إليه أو يدعيه، ولأن جريس قد وضعته أمام نفسه بما قالته له؛ فهو يخرج للمشي في أرجاء القرية مُفكرا بعمق، ولأنه يشعر بالكثير من الإهانة لأن جريس قد كشفت اضطرابه، وعدم توازنه الأخلاقي؛ يفكر في التخلص التام منها حتى لا يرى صورته الحقيقة المُنعسكة في عينيها بعدما كشفت له عن نفسه.

يكتب المُخرج على الشاشة: الفصل التاسع: وفيه تستقبل دوجفيل الزيارة التي طال انتظارها، وينتهي الفيلم. وفي هذا الفصل تستيقظ جريس في مُنتصف النهار؛ فتندهش لأن أهل القرية المُستعبدين لها لم يوقظها أي منهم، وحينما تخرج تزداد دهشتها لأنهم يتعاملون معها جميعا بلطف مُبالغ فيه، وغير مُعتاد. كما تُلاحظ أنهم ينتظرون شيئا ما غير مفهوم.

يجتمع أهل القرية في الكنيسة ليتفقوا على حبسها في غرفتها، فيتجه الطفل جيسون ليغلق الباب عليها بالمفتاح. بعد ذلك تصل عدة سيارات نعرف منها أنها سيارات رجال العصابة الذين أبلغهم توم بوجود جريس بينهم، واتفق معهم على استلام مُكافأة تسليمها لهم، لكنهم حينما يصلون ويسألون عنها يبدأون بالتعامل بفظاظة كبيرة مع الجميع، وحينما يرونها مُقيدة بطوق الكلب، والثقل الذي تنتهي به السلسلة يزداد غضبهم الشديد طالبين تحريرها.

تخرج جريس إلى الخارج لتدخل سيارة رئيس العصابة، وفيها نعرف أنه أبوها، وأن العصابة جميعها تعمل تحت إمرته. تجلس جريس إلى جانب أبيها- قام بدوره المُمثل الأمريكي James Caan جيمس كان- ليدور بينهما حوار طويل يحمل في باطنه فلسفة الفيلم ورسالته التي يرغب ترير في تمريرها والحديث عنها؛ فتسأله جريس: لماذا أتيت؟ ليرد: مُحادثتنا الأخيرة التي أخبرتيني فيها عما لا تحبينه في، لم أستنتج من خلالها حقا أنك قد تهربين، يجب عليك السماح لي لأخبرك ما الذي لا يعجبني فيك، أظن أنها ستكون مُحادثة مُهذبة. فتتساءل مُندهشة: ألهذا السبب أتيت؟! وتصفني بالعنيدة؟! لست هنا، بالتأكيد، لتجبرني على العودة وأصبح مثلك. فيرد: لو كانت هناك فرصة لإجبارك، لكن هذا لن يحدث، أنت مُرحب بك للعودة إلى البيت وتكوني ابنتي مرة أخرى في أي وقت، وسأتقاسم معك سُلطتي ومسؤوليتي إذا ما عدت. فتسأله: ما الذي لا يعجبك في؟ ليجيب: كلمة استخدمتيها لإثارة غضبي، لقد دعوتيني بالمُتغطرس. لترد: إذا ما جاز التعبير، لقد أعطانا الله الحق لأصف هذا بالتغطرس يا أبي. فيقول: لكن هذا بالضبط ما لا يعجبني فيك، أنت المُتغطرسة. لتسأله: هل أتيت إلى هنا كي تقول لي هذا؟! لست الوحيدة التي لا تنجح في قرارها يا أبي، أنت كذلك. فيقول: أنت لا تنجحين؛ لأنك تتعاطفين معهم، الشيء الوحيد الذي يمكن لك أن تلوميه هو الظروف، المغتصبون والقتلة قد يكونوا ضحايا، لكني أدعوهم بالكلاب، وإذا ما كانوا يلحسون قيئهم الخاص؛ فالطريقة الوحيدة لإيقافهم هي السوط. لكنها تقول مُدافعة: لكن الكلاب تطيع غريزتها الخاصة بها، إذن لم لا نُسامحهم؟ ليرد: الكلاب يمكن لها أن تتعلم الكثير من الأمور المُفيدة في حالة إذا لم تغفري لهم في كل مرة يتبعون فيها غريزتهم. ترد جريس: إذن فأنا المُتغطرسة لأني أغفر لهم. يقول الأب: ألا تستطيعين رؤية كم تتنازلين عندما تقولين ذلك؟! لديك هذا الاعتقاد بأن لا أحد يستمع، ولا أحد يصل لمُراده بنفس معاييرك الأخلاقية؛ لذا أنت تبرئينهم، لا أستطيع تصور شيئا أكثر غطرسة من ذلك، أنت طفلتي، طفلتي العزيزة التي تغفر للآخرين أخطاءهم. فتسأله: لم لا أكون رحيمة؟ ليرد: يجب أن تكوني رحيمة حينما يكون هناك وقتا للرحمة، لكنك بمعيارك الخاص تدينينهم بذلك. فقول: إنهم بشر. ليرد: هل من الضروري أن يكون كل إنسان مسؤولا عن تصرفاتهم؟ بالطبع هم مسؤولون، لكنك لا تعطيهم الفرصة لذلك، هذا تغطرس شديد، أنا أحبك جدا، لكنك أكثر شخص مُتغطرس في العالم، وفي المُقابل تصفيني أنا بذلك!

الممثلة الاسترالية الأمريكية نيكول كيدمان

ربما كان هذا الحوار الذي دار بين جريس وأبيها من أهم مشاهد الفيلم الذي قام بصناعته لارس فون؛ فهو من خلال هذا الحوار يكشف لنا بشكل يكاد أن يكون مُباشرا مفهوم فيلمه. إن التسامح الدائم من قبل جريس للجميع مهما حاولوا إهانتها، أو استغلالها، أو الإساءة إليها- هذا التسامح غير المشروط- بالفعل يحمل في داخله الكثير من التغطرس والتعالي الذي لا يمكن التسامح معه؛ فهي ترى أنها الوحيدة المُدركة لحقائق الأمور، وطبائع البشر؛ ومن ثم تتعامل معهم باعتبارهم أطفال غير مُدركين، أو مسؤولين، لا بد لها أن تسامحهم مهما اقترفوا من أخطاء! أليس في هذه الفكرة تعاليا وغطرسة؟ وإذا ما نظرنا إلى هذا الفعل من وجهة نظر أخرى- حيث يتحدث الفيلم عن المُجتمع الأمريكي وسياسته تجاه الآخرين- ألا نرى أن أمريكا- وغيرها من الدول القوية- تتسامح دائما مع الدول الضعيفة على أخطائها وهفواتها باعتبارهم ضعفاء غير مُدركين لحقائق الأمور؛ ومن ثم تتسامح معهم، لأنها - كدولة قوية هي من تعولهم وتدافع عنهم؟! أليس في هذه الفكرة المزيد من الغطرسة، بل والمزيد من الغرور؟ إن احترام الآخرين يجعلهم في النهاية على قدم المساواة معنا؛ وبالتالي فهم يتحملون مسؤولية أخطائهم إذا ما أخطأوا، تماما كما نتحمل نحن مسؤولية أخطائنا، أما أن نتجاوز عن أخطائهم- باعتبارهم قاصرين، ونحن الراشدين- فهو الإيغال في الغرور، والاستخفاف بمن أمامنا، بل والعمل على المزيد من إفساده!

الممثل السويدي ستيلان سكارسجارد

لكن، لم لا ننظر إلى الأمر من وجهة نظر أخرى؟ ألم تتحول جريس في الفيلم إلى مُجرد مسيح لا بد له من التضحية بنفسه، وكرامته، وحياته، وحريته، لتكون هي المُخلص لهم من شرورهم الآدمية التي انفجرت فيها؟ دعنا نعود بالفيلم إلى بدايته ليتضح لنا الأمر؛ فنحن أمام قرية شديدة الفقر، محرومة من كل أشكال الحياة الآدمية، ومن كل فرص أهل المدينة، وهذا ما جعلهم يتحلون بقيمهم وأخلاقياتهم في التعامل مع بعضهم البعض، والتكاتف. هذه القرية الفقيرة التي تعاني من الحرمان دخلتها فجأة فتاة غريبة اسمها Grace جريس، وإذا ما علمنا أن اسم جريس في اللغة الإنجليزية يعني الهبة؛ فهذا يعني أن الرب قد منح هذه القرية هبة- مُمثلة في جريس- من أجل تخليصهم مما هم فيه، وبالفعل أحالت جريس القرية إلى نعيم، وأسعدتهم جميعا، لكن إسعادها لهم جعل أهل القرية يقومون باستغلالها، وكلما أوغلوا في هذا الاستغلال وتسامحت معهم، غافرة لهم طبيعتهم البشرية الشريرة بالفطرة وكأنها مسيح- تبعا للتعاليم المسيحية الموغلة في فكرة التسامح غير المشروط- يعمل على تخليصهم من عذاباتهم، وشرورهم؛ كلما ازدادت هذه الشرور، وتوحشت أكثر حتى لقد وصل بهم الأمر إلى استعبادها في نهاية الأمر، بل وتسليمها للعصابة- في إشارة إلى تسليم المسيح إلى اليهود من أجل صلبه، وهنا يكون توم في الفيلم هو يهوذا الاسخريوطي في الأسطورة الدينية في هذا المقام- كما لا يفوتنا أن كلب القرية كان اسمه مُوسى- كتعبير عن اليهود/ العهد القديم الذي لم يكن مُتسامحا بشكل غير مشروط كما هو الأمر في المسيحية، ولعلنا لاحظنا ذلك في أن مُوسى كان يزمجر بقسوة إذا ما أخذ أحدهم العظمة التي أمامه، وكأنه يلخص الأمر في "لا تسرق طعامي، ولن أعضك"، أي أن ثمة مُقابلة حقيقية ومهمة بين التسامح المُطلق في المسيحية- وهو التسامح المُفسد تماما للبشرية- والتوازن في التعاليم اليهودية التي يمثلها الكلب/ موسى، أي أن جريس/ المسيح كانت تُساعد بنشاط في إفساد أهل القرية/ البشر جميعا؛ فهم لم يتحولوا إلى الشر النقي الذي مارسوه من تلقاء أنفسهم لمُجرد أنه كامن بداخلهم- وهذه حقيقة إنسانية- فهي بتسامحها المُطلق تعمل على تعطيل ضمائرهم عن العمل، وتحررهم من القيود الأخلاقية مما يجعلهم يوغلون في مُمارسة هذا الشر عليها وعلى الجميع من حولهم، وهم مُطمئنين- وفي هذا شكل من أشكال السُخرية من التسامح المسيحي، بل ومن المسيح نفسه الذي يراه ترير مغرورا، غبيا، مُتغطرسا لا يمكن احتماله؛ بما أنه يتعامل مع البشرية باعتبارهم مُجرد أطفال غير مُدركين لما يفعلونه!

الممثلة الأمريكية باتريشيا كلاركسون

لكن، مع كراهية لارس فون، وسُخريته الجامحة من هذا التسامح المسيحي الذي جعل من جريس مسيحا آخر قادرة على إخراج أقبح ما في البشر من داخلهم بادعائها النقاء والتسامح؛ فهو لا يقبل في نهاية الأمر هذا التسامح المسيحي، ويرى أن تقويم البشر والحفاظ على إنسانيتهم، وأخلاقياتهم لا يكون سوى بتحملهم لمسؤولية أفعالهم، وليس يالتسامح معهم؛ لذا نرى والد جريس يطلب منها التفكير فيما قاله، راغبا منها العودة معه، فتهبط جريس مُتأملة لأهل دوجفيل، وبينما تتأملهم، شاعرة بالتعاطف الوهمي تجاههم يلقي القمر ضوئه على القرية فجأة بعد زوال السحاب الذي كان يغطيه؛ فترى جريس أهل دوجفيل على حقيقتهم المشوهة بالفعل؛ وبالتالي تعود إلى سيارة أبيها طالبة منه إعطائها السُلطة فوريا، فيوافق. هنا تطلب منه إحراق القرية بالكامل، وقتل أهلها جميعا.

يعطي أبوها أوامره لأفراد العصابة بقتل أهل القرية وإحراقها، لكن جريس تخبره بأن ثمة امرأة من أهل القرية لديها العديد من الأطفال/ فيرا زوجة تشوك، وتطلب منه ألا يقوموا بقتلها، بل يقتلون أطفالها أمامها أولا، ويخبرونها أنها إذا ما استطاعت كبح دموعها ولم تبك سيتوقفون عن الاستمرار في قتل بقية أطفالها، وتخبر أباها بأنها مدينة لها، وعليهم ألا يقتلوها إلا بعد قتل أطفالها أمام عينيها، مثلما فعلت هي تماما بجريس حينما حطمت أمامها تماثيلها الخزفية جميعا!

ينتهي أفراد العصابة من قتل جميع سُكان دوجفيل، وحينما تتأمل جريس ما حولها؛ تلحظ أن توم لم يُقتل بعد؛ فتتناول مُسدس أبيها وتهبط من السيارة. هنا يحاول توم أن يبرر لها ما فعله، ويهنئها بقتل أهالي القرية لأن هذا ما كانوا يستحقونه، لكنها تصوب المُسدس إلى رأسه لتودعه مُطلقة للرصاص.

حينما تحاول العصابة الانصراف يصل إلى سمعهم صوت مُوسى مُزمجرا؛ فيحاول رجال العصابة التخلص منه، لكن جريس تمنعهم بقولها: اتركه، سيكتشفون النيران في جورج تاون، وسيأتي شخص ما ويجده، هو غاضب فقط لأني أخذت عظمته. لينهي لارس فون فيلمه على هذا المشهد، بينما يستعرض في تيترات النهاية العديد من اللقطات والمشاهد الحقيقية للأمريكيين في عهد الكساد الأمريكي، وغير ذلك من المشاهد التي قد تجعل المُشاهد يظن أنه يشاهد الأبطال الحقيقيين للفيلم الذي قام بصناعته، أو أنهم المُعادل الموضوعي لما رآه المُشاهد داخل الفيلم- أي أن تيترات النهاية كانت بمثابة الكشف المُباشر من قبل المُخرج لما يقصده، في حالة من التحدي والاستفزاز الحقيقي للمُشاهد الأمريكي؛ حيث يقول له مُباشرة: أنا أقصد إدانتك!

الممثلة الأمريكية سيوبان فالون هوجان

يُعد فيلم دوجفيل من الأفلام المُهمة في مسيرة المُخرج الدانماركي لارس فون ترير، ليس على مستوى الشكل الأسلوبي فقط- مسرحة السينما- بل على المستوى الفكري/ الأيديولوجي أيضا، والمفهوم الفلسفي الذي يقدم من خلاله أفلامه، بل ومن حيث إدانة أمريكا في أساليبها الاستعمارية، وأخلاقياتها الزائفة، فضلا عن إدانته للأديان لا سيما المسيحية وسُخريته منها، ولعله لا يفوتنا الأداء المُمتع والمُكتمل لجميع أبطال الفيلم لا سيما نيكول كيدمان التي تكاد أن تكون قد قدمت أهم أدوراها السينمائية، وأكثرها اكتمالا في هذا الفيلم.

لكن ثمة مُلاحظة أخرى مُهمة لا بد من التوقف أمامها، فلارس فون ترير في هذا الفيلم لم يكن مُلتزما بقواعد الدوجما التي وضعها في بيانه الثوري عام 1995م، والتي ظل مُلتزما بها حتى الفيلم السابق على فيلمنا هذا، بل سنُلاحظ أنه قد بدأ في التخلي عنها كثيرا؛ حيث لجأ ترير في هذا الفيلم إلى الاستعانة بالديكور بدلا من التصوير في الأماكن الطبيعية والواقعية، كما لجأ إلى الإضاءة الصناعية، فضلا عن استخدامه للمُوسيقى التصويرية، ولعله لم يعد مُلتزما من بيانه السابق في هذا الفيلم إلا باستخدام الكاميرا المحمولة فقط، ليعلن أنه قد بدأ مرحلة سينمائية وأسلوبية جديدة من مراحله المُتعددة!

 

 

محمود الغيطاني

مجلة "نقد 21

عدد فبراير 2024م

 

 

 

 

 

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق