الخميس، 15 فبراير 2024

لارس فون ترير: فتى أوروبا الشرير!

إن محاولة التفرغ من أجل تأمل أفلام المُخرج والسيناريست والمُنتج الدانماركي Lars Von Trier لارس فون ترير، وما يقدمه من سينما ذات خصوصية وفرادة عما نراه في صناعة السينما العالمية، لهو من الأمور الصعبة على الكثيرين ممن يعملون في مجال السينما- مُخرجين، ونقاد سينما، ودارسين- إنه أمر أكثر صعوبة بشكل حقيقي على المُشاهد المُتلقي لهذه السينما الغارقة في أسلوبيتها السينمائية المُختلفة عن الآخرين، والمُنغلقة على ذاتها، والتي لا يعنيها سوى عالمها الخاص الغارق في أفكار مُخرجها وأيديولوجيته الخاصة، وثقافته الواسعة والعميقة في العديد من المجالات والحقول الثقافية!

مع لارس فون ترير نحن لا نشاهد مُجرد أفلام سينمائية في الحقيقة- رغم عدم مقدرتنا على نفي الأسلوبية السينمائية والجمالية الخاصة به في صناعة السينما- بل نحن نطلع على موسوعات ثقافية في شكل سينمائي تحاول البحث في المُجتمعات وسلوكياتها، وشكلانيتها، وزيفها، وردود أفعالها المُخالفة- غالبا- لما يحاول أفراد هذه المُجتمعات إظهاره للآخرين!

في أفلامه نحن بإزاء حالة من الكشف، كشف الزيف، والادعاء، والكذب الدائم، إنها حالة من الفضح الصدامي الذي يحاول المُخرج مُمارسته بشكل يبدو لنا فيه مُتميزا بالكثير من السادية المُدمرة للمُتلقي وكأنه يقول له: هذه حقيقتك التي لا يعرفها سواك، ومهمتي الجوهرية هي أن أضعك أمام نفسك، صدمك، صفعك بالحقيقة التي تحاول التغاضي عنها مُتجاهلا إياها. حتى لكأن المُشاهد أثناء مُشاهدة أفلامه يقف أمام ذاته ليتأملها في المرآة، وهي حالة التأمل التي بمُجرد ما ينتهي منها المرء يُسارع بارتداء أقنعته المُختلفة التي تتناسب مع المُجتمع الذي يعيش فيه؛ فيبدو في النهاية على الصورة التي يرغب في تصديرها، وهي الصورة الزائفة، غالبا، من أجل محاولة التعايش مع الآخرين، والتي يسخر منها ترير في جل أفلامه.

إذن، فالهدف الأساس لدى فون ترير هو الفضح، فضح كل ما هو زائف ومُخالف لطبيعة النفس الإنسانية على شكلها الأول والنقي والمثالي الذي يأمله، وهو في ذلك ليس مُصلحا اجتماعيا، ولا يدعي المثالية المُطلقة باعتباره أفضل من الآخرين، أي أنه لا يأخذ جانب الإنسان المثالي الذي يزايد على غيره، بل هو قادر دائما على السُخرية من ذاته، والتهكم عليها، والاعتراف بأخطائه ونقائصه، حتى إنه إذا لم يجد من يسخر منه قد يتأمل نفسه من أجل السُخرية منها؛ فالتهكم والسخرية هما أسلوبا حياة عند ترير، ورغم أنهما كثيرا ما يوقعانه في سوء الفهم، والأكثر من المُشكلات؛ نتيجة استغلال الصحافة ووسائل الإعلام لسُخريته وتهكمه، وتفسيرهما على غير وجهيهما، إلا أنه يتمسك بهما طوال الوقت؛ لذلك يكتب Chris Heath كريس هيث في مجلة GQ عن لقائه بترير: "أول شيء يخبرني به ترير هو تأثير ما تبناه قبل أن يصبح ناجحا، وهو مدى قلقه الآن بشأن الحديث مع الصحافة. لطالما كان ترير يميل إلى التعبير عن نفسه بطرق يمكن وصفها بأنها استفزازية ومتهورة بالطبع، لكنه الآن، فقط، يخشى العواقب، يقول: بعد مهرجان Cannes كان أُصبت بجنون العظمة الشديد "البارانويا"؛ لأنني فجأة أدركت أن هذا قد يوقف مسيرتي المهنية تماما، وهذا بالطبع شيء لا أريده، ربما أيضا لأنني تقدمت في العمر، إن الأمر مثل المشي على حبل مشدود، تخشى السقوط من فوقه، وهذا ليس جيدا إذا ما كنت تمشي على حبل مشدود. يكتب كريس مُعلقا: ليس من الواضح تماما من الذي لا يثق به ترير أكثر- الشخص الذي يتحدث معه الآن، العالم، أو نفسه- يقول ترير: أعلم أنني لا أستطيع أن أكون مع شخص ما لمُدة ثلاث ساعات من دون أن أقول ما لا يقل عن عشرة أشياء من شأنها أن تقتلني. يكتب كريس مُعلقا: سيتضح أن هذا صحيح تماما؛ إن ما يقوله ترير غالبا ما يكون غريبا بدرجة كافية، وإذا ما اختار زائر- ما يكفي من الحماسة- لأن يقتبس بشكل انتقائي من أغرب اجترار له، فسيمكنه تشويهه تماما"[1]! أي أن الصحافة دائما ما تحاول تصيد سُخريته وتهكمه- وهو أسلوب حياته في التعبير عن نفسه وعن الأشياء من حوله- من أجل تضخيمهما، وتفسيرهما على غير ما يقصده؛ الأمر الذي يؤدي به إلى الكثير من الكوارث التي يواجهها بسبب عمدية تشويه مقصده، أو التغابي عن فهم تهكمه.


هذه الغرابة في المزاج المُنحرف- غالبا- غير المتوقع- دائما- والآراء التي يدلي بها ترير يجعلان الكثيرين يتوقفون أمامه مُتأملين، محاولين فك لغز هذا الرجل- الغريب إلى حد كبير بالنسبة إليهم- فك شفرته، العمل على الدخول إلى عالمه، محاولة فهمه على النحو الصحيح- نظرا لأن جل أقواله وتصرفاته يتم تفسيرهما على وجهيهما الخاطئ غالبا- لأنه في غالب الأمر غير مفهوم، وهو ما يجعل Marta Sundac مارتا سونداك تكتب: "المُخرج الدانماركي لارس فون ترير لغز. أستاذ سينما حصل على جوائز عالمية، ماهر تقنيا، ولكن من الناحية الظاهرية، فهو رجل ساخط مع ميل للنكات البغيضة، وإضافة العنف غير المُبرر لعسله. في كل مرة يتم فيها إصدار فيلم جديد لفون ترير- مثل آخر فيلم له The House That Jack Built المنزل الذي بناه جاك 2018م- يبدو أن السؤال ذاته يطرح نفسه: هل هذا الرجل من أعظم المُخرجين العاملين في السينما، أم أنه مُجرد نرجسي تلاشى نجمه مُنذ فترة طويلة؟ هل فنه موجود في عالم أعلى مما يمكن للكثيرين منا فهمه، أم أن علامته التجارية للسينما قديمة؟ ببساطة، هل فون ترير عبقري، أم أحمق يختبئ من وراء الجدل؟ بعد التفكير في هذا الأمر لفترة طويلة؛ ظهر لنا خيار ثالث: هل فون ترير هو أكبر مُتصيد في عالم الأفلام؟ هل قام بعمل استفزازي لدرجة أننا بينما نتناقش حول ما إذا كان قد ذهب بعيدا، فقد كان يضحك أخيرا؟ في هذه المرحلة يكون أي شيء مُمكنا، لكن يبدو بشكل مُتزايد أن نهج المزاح الذي يتبعه له تاريخ انتهاء صلاحية"[2]!

إن النتيجة التي تصل إليها مارتا في نهاية الاقتباس السابق من مقالها لا يمكن لنا التسليم بها، أو موافقتها عليها؛ لأن نهج المزاح الذي يتبعه فون ترير إذا ما كان له تاريخ انتهاء صلاحية كما قررت هي، فمن الطبيعي ألا تُثار من حوله الكثير من الأسئلة الجدلية، ولما انقسم من حوله جميع العاملين في مجال السينما، ولما طرحت هي نفسها كل هذه الأسئلة من حوله؛ فانتهاء صلاحية وأسلوب ترير من شأنه تناسيه، وتجاهله، وليس إثارة المزيد من الأسئلة والنقاش- سواء على مستوى مزاجيته المُضطربة، وطباعه، وحياته الشخصية، ومزاحه، واكتئابه، أو على مستوى فنية أفلامه، وموضوعيتها، والمقصد من وراء صناعتها- وبالتالي تكون افتراضية سؤالها أيضا باعتباره "نرجسيا تلاشى نجمه مُنذ فترة طويلة" لا يمكن لها أن تؤخذ على مأخذ الجد؛ لأنه إذا ما كان قد تلاشى نجمه لما اهتمت هي بطرح المزيد من الأسئلة، ولا بالكتابة الجدلية عنه.


لكنه يحاول دائما التأمل في المُجتمعات من حوله، يعمل على تفكيكها، التعبير عن شكلانيتها غير الحقيقية، وهو ما حاول التركيز عليه كثيرا في ثلاثيته الروائية الثانية Golden Heart Trilogy القلب الذهبي، التي بدأها بفيلمه Breaking the Waves كسر الأمواج 1996م، وأنهاها بفيلم Dancer in the Dark راقصة في الظلام 2000م، لكن التركيز الحقيقي على زيف المُجتمعات، والفضح الأكبر تجلى لنا في الفيلم الأكثر إثارة للغط ورفض الكثيرين له، وهو الجزء الثاني منها The Idiots البلهاء 1998م!

إنه الفيلم الذي "رفضه مهرجان أدنبرة السينمائي الدولي [3]Edinburgh International Film Festival باعتباره مزحة لا تستحق أي جمهور عاقل لمُدة ساعتين، كما أعلن Alexander Walker[4] ألكسندر ووكر في صحيفة The London Evening [5]Standard بأنه واحد من أسوأ خمسة أفلام على الإطلاق!"[6].

رغم أهمية الفيلم في مسيرة فون ترير السينمائية، فضلا عن أنه الفيلم الوحيد من أفلامه المُعبر بحق عن أفلام الدوجما إلا أن "ألكسندر ووكر وصف الفيلم بأنه جريمة بشعة ضد الإنسانية، وقال: من في عقله السوي سيسخر من المُصابين بالشلل الدماغي ومُتلازمة داون؟!"[7].

ربما كان هذا الهجوم على أهم أفلام ترير المُعبرة عن بيان الدوجما الثوري ضد السينما Dogme 95 في شكله النقي من أجل العودة بصناعة السينما إلى نقائها وأصولها الأولى، وضغط نفقاتها من الأمور المُدهشة؛ وهو من الأمور التي جعلت المُخرج- الذي يفضل الصمت مُتجاهلا، غالبا، أمام الهجوم الضاري عليه- يضطر إلى الحديث عن هذا الفيلم في شكل من أشكال التبرير غير المُعتاد على ترير قائلا: "في الواقع، عندما كنت طفلا كنت كلما ذهبت في رحلات مدرسية كنا نُخرج رؤوسنا من مُؤخرة الحافلة في محاولة منا لإقناع الناس بأننا مُتخلفون، كما أخبرني صديق لي بأنه في الكلية اعتاد، هو وأصدقاؤه، على ركوب الكراسي المُتحركة والرقص في المدينة مُتظاهرين بأنهم معاقون عقليا. عندما ضحك الناس؛ صرخوا عليهم بسبب قسوتهم. ربما فعلناها جميعا"[8].


أي أن الفيلم الذي ثار الجميع تقريبا ضده، ورفضه الكثيرون ومنهم مهرجان أدنبره السينمائي الدولي؛ لأنه يحرص على كشف قسوة المُجتمع، وتجاهله للضعفاء، والمرضى، والمُتأخرين عقليا يكاد أن يكون تجربة شخصية للمُخرج من أرض الواقع، وبالتالي فإن هذه التجربة الشخصية جعلته يتأمل فيها كثيرا، مُتخيلا ردود أفعال المُجتمع إذا ما حاول مجموعة من الشباب اكتشاف البلهاء الذين بداخلهم بادعائهم بأنهم بالفعل بلهاء، أو مُتأخرون عقليا. هل سيتعاطف معهم المُجتمع كما يدعي بالفعل، أم سيتخوف منهم، ويبتعد عنهم مُتجاهلا، أم سيشعر بالأنفة راغبا في عزلهم داخل جيتوهات خاصة بهم بعيدا عن الآخرين كما رأينا في الفيلم؟ إنها تأملات ترير فيما يدور من حوله، ومحاولة وضع الآخرين أمام أنفسهم مُعريا إياهم أمام ذواتهم، ولعل هذه التعرية السادية كانت هي السبب الرئيس الذي جعل مُعظم من تلقى الفيلم ضده، محاولا الهجوم عليه وعلى مُخرجه.

مثل هذا الهجوم غير المُبرر واللاعقلاني على أهم الأفلام السينمائية المُعبرة عن اتجاه الدوجما السينمائي من شأنه إثارة العديد من الأسئلة عن كيفية تناول نقاد السينما للأعمال السينمائية لا سيما الأفلام التي يقدمها لارس فون ترير؛ فهو حينما فكر في صناعة هذا الفيلم كان يرغب من ذلك- فضلا عن تأمله في حال المُجتمع من حوله- تطبيق شروط بيانه الثوري على صناعة السينما، وهو ما أدى إلى أن يكون هذا الفيلم هو أكثر الأفلام تعبيرا عن هذا الاتجاه، بل وأكثرها التزاما بشروطه التي أعلنها، ولكن، "ربما كان مصير فون ترير أن يُساء فهمه بشكل كامل، وبالتأكيد أنه يمكنه أن يلعب دور المُهرج، وهو واثق من أنه مُثير للإزعاج، والقليل من الجنون، لكنه أيضا صانع الأفلام الأكثر إبداعا وسعيا الذي يعمل في أوروبا اليوم، كما أنه يعلن بأنه لا يوجد شيء يُفضل صُنعه أكثر من فيلم إباحي"[9]!

من فيلم "شبق" الجزء الثاني

إن إساءة فهم ترير من الأمور المألوفة بالنسبة إليه؛ فهو دائما ما يتلقى الكثير من الاتهامات، والأكثر من الحكايات المُلفقة والمُتخيلة عنه، وربما كانت هذه التلفيقات والاتهامات هي نتيجة تفضيله التزام الصمت تجاه كل ما يُقال عنه، لكنه بالفعل يتعمد في حياته بالكامل، وليس في صناعة الأفلام فقط، أن يكون مُزعجا لكل من يحيطون به، فإزعاج الآخرين بالنسبة له هو أسلوب حياة يمارسه بشكل طبيعي، وربما كانت هذه العمدية في الإزعاج هي ما تجعل النقاد يعملون على الهجوم عليه، ليس لإساءة فهمهم لما يقدمه فقط، بل كرد فعل طبيعي على هذا الإزعاج المُتعمد، إنه الإزعاج الذي نلمحه بشكل صدامي وعمدي حينما نقرأ ما كتبه جيفري ماكناب: "الاستمناء. أخبر لارس فون ترير [10]Screen International عندما سُئل كيف يقضي وقت فراغه؛ فقال: كثير جدا هكذا! الاستمناء يتفوق على الأفلام والأدب. إنها نصيحة للقراء. هذا تعليق مُتحدٍ، عادة، من المُخرج الدانماركي"[11].

إن ترير الساخر من كل شيء في حياته، بل والساخر من نفسه أيضا إنما يسخر هنا من السؤال التقليدي الذي تم توجيهه إليه عن كيفية قضاء وقت الفراغ، وللحق لا يمكن الشعور تجاه سؤال مثل هذا سوى بالسأم الشديد؛ لذا كانت إجابة ترير الصادمة، والمُتحدية، والساخرة، واللامبالية تتلاءم تماما مع شخصيته، وهي بمثابة إجابة طبيعية بالنسبة لشخص لا يحيد عن السُخرية من كل شيء، بل ويشعر بالملل والسأم من كل ما يحيط به من أمور مغلوطة مقلوبة لا يرضى عنها، ولا يحاول الانخراط فيها مع الآخرين، بل يفكر طوال الوقت في تعديلها!

من فيلم "وباء"


"بشكل عام، عندما يحضر فون ترير المهرجانات- جسديا أو افتراضيا- يتبعه الجدل! سيقول الولد الشرير في السينما الأوروبية شيئا غير ملون في مُؤتمر صحفي، أو أن مشهدا عنيفا أو صريحا في فيلمه الأخير سوف يزعج المُشاهدين، أو يهاجمه مُمثل في وسائل الإعلام"[12]! إنه قدر ترير الذي يُساء فهمه جيدا، وبالشكل المثالي لإساءة الفهم، وهي الإساءة التي لا تعنيه بقدر- ما يبدو لنا- أنها تؤدي به إلى المزيد من الانتشاء، والأكثر من التحدي لمُجابهة الآخرين، صحيح أن الصراحة المُفرطة لفون ترير في كل شيء تؤدي به إلى الكثير من الكوارث التي يجابهها بشجاعة من دون الاستسلام أو الشعور بالهزيمة، لكنها تأخذ منه الكثير من روحه المُرهقة أساسا بالخوف، والهواجس، والقلق، والاكتئاب المُزمن، والتفكير في الأمراض، وهو نفسه يعرف أن صراحته التي لا يمكن له التخلي عنها بمثابة السلاح القاتل الذي يستخدمه ضد نفسه، لكنه لنقائه يظل مُتمسكا بها مهما حدث، ومهما وقع بسببها في الكثير من المُشكلات والورطات: "يمكن للمرء أن يرى كل هذا على أنه نوع من التخريب الذاتي، لكن بالنسبة لي يبدو الأمر أشبه بصدق مازوخي صارم. يكتب كريس هيث مُعلقا: إن كبح أفكاره عن العالم كما تظهر في ذهنه سيكون بمثابة حل وسط لا يُطاق. ويشرح ترير قائلا: أنا مثالي إلى حد ما؛ لذا إذا ما كان عليك أن تحاول أن تكون صادقا، فعليك أن تكون صادقا تماما، وبعد ذلك عليك أن تأخذ كل سلاح في العالم وتوجهه إلى نفسك"[13]، إنه لا يرضى بالحلول الوسط، ولا تروقه، ولن يقبل بها يوما ما مهما أدت إلى تدميره، أو تدمير مسيرته المهنية؛ من هنا ينبع صدقه الذي يؤكد عليه كل من اقترب منه، وعرفه جيدا، فترير لا يعرف الكذب في حياته، صحيح أنه صادم، ومُستفز، ومُثير للكثير من الدهشة، وربما غريب الأطوار، وقد يبدو لنا مجنونا أو مُنحرفا- تبعا لمفهوم الانحراف النسبي، والذي يختلف من شخص لآخر، ومن مُجتمع لآخر- لكنه يظل على صدقه دائما، وهو الصدق الذي لا يقبل ببديل له في حياته- سواء كان الصدق على مستوى الحياة الاجتماعية، أو الصدق على المستوى الفني وما يقدمه لنا من أفلام.


هذا الصدق المُفرط، الذي تحول إلى أسلوب حياة، لا سيما في صناعة الأفلام، هو ما يجعل العديدين من نقاد السينما يتحدثون عنه بإجلال؛ احتراما لما يقدمه من فكر سينمائي مهما كان الخلاف عليه في حياته الشخصية، صحيح أن ترير قد يبدو شخصا غريب الأطوار، سواء كان بسبب صدقه، أو سُخريته، أو لا مُبالاته، أو ردود أفعاله غير المتوقعة، لكن الحقيقة التي يجتمع عليها العاملون في مجال السينما في العالم تفيد بأنه صانع الأفلام الأفضل والأكثر نشاطا، وابتكارا، وتجديدا؛ لذا يقول عنه Calum Russell كالوم راسل في مجلة Far Out Magazine: "هناك عدد قليل من المُخرجين المُعاصرين الذين يتمتعون بنفس الثقل الفني داخل وخارج الشاشة الفضية مثل المُبدع الدانماركي المُثير للجدل لارس فون ترير باعتباره مُحرضا في صناعة الأفلام، ومُعارضا من جميع النواحي. يجذب ترير انتباه عالم الفن كلما أطلق مشروعا جديدا. إنه مسؤول عن بعض أفضل الأفلام المُستقلة، والأكثر إزعاجا في القرن الحديث بما في ذلك Dogville دوجفيل 2003م، وAntichrist عدو المسيح 2009م، وMelancholia سوداوية 2011م"[14]، ولعل هذا التقدير الذي يستحقه ترير نابع من صدقه الفني الذي يستطيع من خلاله صناعة الأفلام المُتمردة على كل ما يدور من حوله، والجانحة باتجاه المُثل المُطلقة، بل والتي يقدم فيها الكثير من الثقافات والمعارف المُثقلة بالأسئلة الوجودية والفلسفية المُهمة.

لكن، رغم ما قاله الكثيرون عن هذا الفيلم المُهم- البلهاء- نرى ترير يتجاهل كل ما قيل عنه، مُؤمنا بما يقدمه من سينما ذات خصوصية؛ فهو لا يعنيه رأي الآخرين في أفلامه بقدر اهتمامه برؤيته السينمائية الخاصة التي يقتنع بها، وهو ما نقرأه فيما كتبه عنه سيمون هاتنستون في الجارديان: "يرفع ساقيه إلى سطح المكتب ويخبرني أنه مهما قال الناس، فهو فخور بالبلهاء[15]، إنه فيلم خطير للغاية، أعتقد أنه أفضل فيلم صنعته، رغم أن هذا ربما لا يعني الكثير"[16]! كما يؤكد توماس بيلتزر في مجلة "حواس السينما" على ذلك بقوله: "أي شخص يتهم فون ترير بالسُخرية من المُتخلفين، في رأيي، لا يرى حقا مغزى الفيلم، إنه يسخر من نفسه، ويتوق إلى الهروب من العقل، تماما مثل كل رومانسي مُنذ William Blake وليام بليك[17]"[18].


وُلد فون ترير في 30 إبريل 1956م في Kongens Lyngby كونجينز لينجبي بالدانمارك، شمال Copenhagen كوبنهاجن لوالدته Inger Høst إنجر هوست و Fritz Michael Hartmannفريتز مايكل هارتمان- رئيس وزارة الشؤون الاجتماعية الدانماركية، ومُقاتل المقاومة في الحرب العالمية الثانية- وحصل ترير على لقبه من زوج والدته، Ulf Trier أولف ترير الذي كان يعتقد بأنه والده البيولوجي حتى عام 1989م، وفي هذا الأمر يقول Thomas Beltzer توماس بيلتزر في العدد الثاني والعشرين من مجلة Senses of Cinema حواس السينما: "وُلد لارس ترير في كوبنهاجن لما تصفه Lucia Bozzola لوسيا بوزولا بالوالدين الشيوعيين المُتطرفين والعراة، ويتحدث لارس عن طفولته مُتذكرا: بالنسبة لي، كنت حرا جدا، لأنه سبب من أسباب القلق، لقد فاتني الحُب الذي يمكن أن تجلبه سُلطة ذات معايير مُحددة؛ لأن هذا شكل من أشكال الحُب"[19].

إذن، فلارس ترير رغم الحرية المُطلقة التي منحها إياه والداه في حياته لم يكن يشعر بالكثير من الراحة تجاهها، بل رأى أنها حرمته من الكثير من المشاعر التي يتمتع بها الإنسان في حياته الطبيعية، وهو ما أدى إلى قلقه الدائم تجاه الكثير من الأشياء، وربما هو القلق الذي ظهر في الكثير من أفلامه، فالقلق هو هاجس فون ترير الذي يفسد عليه حياته مُنذ طفولته، وهو ما لم يستطع التخلص منه بأي طريقة إلى أن أصابه بالاكتئاب، والكثير من الأفكار السوداوية: "القلق بحد ذاته ليس جديدا على ترير. يقول: لقد كان دائما مُقلقا للغاية أن أكون أنا- إذا ما كان أي شخص يهتم، وهو ما لا ينبغي لهم- يكتب كريس: يتذكر عندما كان في السادسة من عمره تقريبا وهو يشاهد برنامجا تليفزيونيا عن الأمراض، ويتراجع تحت مكتب في غرفة نوم والدته في انتظار الأمراض القادمة، وسُرعان ما انضم إلى هذا الخوف رعبه من القنبلة الذرية، يقول: في كل مرة سمعت فيها صوت طائرة؛ كنت أركض وأختبئ[20]. قبل النوم. كان عليه أن يرتب مُمتلكاته بطريقة مُعينة لتفادي كارثة عالمية بنفسه، كان والداه Ulf أولف، و Ingerإنجر- الموظفان في الخدمة المدنية- ليبراليين للغاية في رفضهما وضع قيود عليه عندما كان طفلا، وقد تحدث كثيرا عن كيف أنه لا يعتبر، بالضرورة، هذا الأمر هدية. عندما يسأل، على سبيل المثال، عما إذا كان سيموت في الليل فإن والديه- بدلا من إطعامه الكذبة التي ترضي الأطفال إلى الأبد- يقران بعقلانية أنه- رغم عدم احتمالية الأمر- إلا أنه كان مُمكنا بالتأكيد! عندما كان ترير في الثانية عشرة من عمره وتوقف عن الذهاب إلى المدرسة نُقل لفترة وجيزة إلى مُؤسسة، بعد ذلك بكثير قيل له ما تم تسجيله في مُذكراته الطبية في ذلك الوقت، وأنه عندما وصل إلى المُنشأة وسُئل عن اسمه؛ أجاب: Lars Hittegods لارس هيتيجودز"[21]! أي أن القلق كان مُنغصا لترير مُنذ كان طفلا، وهو ما استمر معه في حياته؛ وبالتالي عبر عنه في جميع أفلامه تقريبا، سواء كان قلقا من الأمراض، أو المجهول، أو قلقه الوجودي، أو حتى الإيماني أو الإلحادي، فهو حريص دائما على التنويع على كافة أشكال القلق وتجلياته نتيجة مُعاناته منه، لكن الأمر تطور مع ترير بشكل مُخيف فيما بعد: "طوال طفولته تشبث بالاعتقاد بأنه كان عليه، ببساطة، التماسك حتى يصبح بالغا؛ لأن البالغين ليس لديهم مخاوف كمخاوفه، لكنه كان على خطأ، يقول ترير: لقد انفجرت أكثر، كانت هذه خيبة أمل كبيرة، خيبة أمل هائلة. إنه يتساءل الآن عما إذا ما كانت المُشكلة تكمن في عدم وجود مرشح فعال في دماغه مثل مُعظم الناس. نعمة على حياته أنه مُخرج، لكنه يتركه عرضة للقلق. تبع ذلك سنوات عديدة من العلاج والأدوية، ثم في عام 2007م غرق في نوع جديد أكثر حدة من الاكتئاب. يقول ترير: كنت أكذب فقط، أبكي لمُدة أسبوع، فقط أنظر إلى الحائط، ولم أستطع النهوض، كنت خائفا للغاية. يكتب كريس: كان يعتقد أنه لن يصنع فيلما آخر أبدا. يقول ترير: الخوف هو الجحيم، إنه حقا جحيم، الأسوأ. تعافى ترير ببطء، وكان لا يزال ضعيفا للغاية عندما عاد في النهاية ليجعل Antichrist عدو المسيح 2009م قصة مُقلقة عن الحزن الشديد والذهان الجنسي. في فيلمه الجديد Melancholia سوداوية 2011م مع Kirsten Dunst كريستين دانست[22] قام بالتخلص من مشاكله بشكل أكثر مُباشرة؛ فهو يركز على قصة امرأة مُكتئبة بينما يتجه كوكب إلى مسار تصادم مع الأرض. على المستوى الأكثر بساطة، فهو يمثل الرد النهائي على طول الفيلم لأي شخص يعاني من الاكتئاب في أي وقت مضى، على الاقتراح الرافض بأن كل ما يزعجهم ليس بنهاية العالم"[23].


رغم أن ترير عاد لصناعة الأفلام مرة أخرى محاولا استغلال قلقه الشديد واكتئابه السابق في صناعة فيلمه Antichrist عدو المسيح 2009م ليقدم لنا فيلما شديد الصدق والإمعان عن الحزن الخالص الذي من المُمكن له اعتصار صاحبه ليقضي تماما عليه مُدمرا إياه، إلا أننا نقرأ: "في عام 2009م صدر فيلم Antichrist عدو المسيح الذي كتبه فون ترير، وفي العرض الأول أغمى على عدد قليل من المُتفرجين. قال لارس فون: إن عدو المسيح كان أفضل فيلم له، وأن لجنة تحكيم مهرجان Cannes كان السينمائي منحت الفيلم جائزة مُناهضة لكره النساء Anti- Award for Misogyny"[24]، ولعل ما ذكره ترير بشأن الجائزة التي مُنحت للفيلم من الأمور المُدهشة، والمُثيرة للكثير من الاستنكار؛ ففون ترير ليس بكاره للنساء كما يتهمه البعض، كما أن مُشاهدة الفيلم تؤكد لنا بأنه لم يسيء للنساء بقدر ما عبر عن حالة نفسية شديدة الصعوبة تمر بها بطلة الفيلم ومحاولة زوجها/ الطبيب النفسي الوقوف إلى جانبها من أجل عبورها لهذه الأزمة النفسية، ولعل حالتها النفسية المُوغلة في الحزن المرضي هي ما أدت بها إلى قيامها بالعديد من الأفعال الدموية السادية؛ الأمر الذي لم يحتمله بعض المُشاهدين في العرض الأول للفيلم مما أدى إلى حالات الإغماء التي تم ذكرها في الاقتباس السابق.


يتضح لنا عدم عدائه للمرأة- مما يجعل هذا القول مُجرد اتهام لا أساس له من الصحة- حينما نعرف إجابته على السؤال المُهم الذي وجهته له لوسي تشيونج في مُقابلتها معه: "لماذا كل بطلاتك من الإناث، هل تعتقد أنك أكثر تواصلا مع جانبك الأنثوي؟ فيرد ترير: يمكن. سيكون من الصعب للغاية إعطاء نفس الأشياء لرجل، أيضا كنت دائما من أشد المُعجبين بكارل دراير Carl Dreyer. كان لديه دائما دورا نسائيا في أفلامه"[25]، ربما نلمح في سؤال تشيونج الكثير من الذكاء في فهم سيكولوجية ترير نفسه، فهو بالفعل- إذا ما تأملنا بروية أفلامه التي قدمها على طول رحلته السينمائية- يكاد يتعامل مع جانبه الأنثوي من خلال الشخصيات النسائية في أفلامه، أي أنه يعبر عن نفسه الأنثوية فضلا عن التعبير الصارخ عن أفكاره، وثقافته، ومُعاناته مع القلق والاكتئاب، ورفضه للمُجتمع الشكلاني من حوله، وربما بدا لنا هذا التعبير عن جانبه الأنثوي فيه بجلاء لا يمكن إنكاره في فيلمه المُهم Nymphomaniac شبق 2013م، حيث كانت جو التي قامت بدورها المُمثلة الفرنسية الأصل الإنجليزية الجنسية Charlotte Gainsbourg تشارلوت جينسبورج مُجرد انعكاس حقيقي وواقعي لفون ترير في الفيلم، أي أن جو- في الفيلم- هي الجانب الأنثوي الحقيقي للمُخرج الذي يرغب في التعبير عنه من خلالها؛ ومن ثم لا يمكن الارتكان إلى اتهام فون ترير بأنه مُعادٍ للمرأة في أفلامه بقدر ميلنا إلى أنه إنما يعبر عن الجانب الأنثوي فيه، وهو الجانب الذي لا يجرؤ الكثيرون من المُخرجين على التعبير عنه فيما يقدمونه، فضلا عن أن ترير إذا ما كان مُعاديا بالفعل للمرأة فيما يقدمه من سينما لكان قد استبعدها من أفلامه، لكنه حريص تماما على أن تكون بطلاته شخصيات نسائية في غالب الأمر، مما يؤكد نفينا لمثل هذا الاتهام الشائع عنه.

يؤكد هذا الأمر أن ترير: "يصف شخصيات أفلامه بأنهم Alter ego، أو ذوات بديلة له. لكن في تجربة شديدة الذاتية مثل الاكتئاب لماذا اختار ترير أن تظل الذات المُعبرة عنه أنثى؟ يخبرنا عالم النفس الكندي Jordan Peterson جوردان بيترسون[26] بأن الثقافات القديمة دائما ما اعتبرت الذكورة هي حالة النظام، بينما الأنوثة هي حالة الفوضى! بدءا من الطاوية التي رمزت للذكورة باليانغ المُضيء المُتماسك، المُقتحم، وللأنوثة بالين، الساكن، المُظلم، القلق. لا يتعلق ذلك بحقيقة عنصرية ترسخ تفوقا ذكوريا وانحطاطا أنثويا، إنما البشر مخلوقات تمارس الإدراك الاجتماعي Social Cognition. يُدرك البشر التمييز بين مجال النظام والمساحة التي يمكننا فهمها والتحكم بها، ومجال الفوضى، أو مساحة المجهول المُظلم التي يتولد عنها كل ما لا نعرفه. لكن، للتعبير عن هذا التمييز استعار البشر التمييز الجندري؛ فصارت الذكورة مُعبرة عن المجال الأول، والأنوثة عن المجال الثاني. يرى بيترسون أن تلك استعارة إدراكية، بينما في الحقيقة، الفوضى والنظام أحوال تتناوب على البشر من دون تمييز، وحتى في رمز الين واليانغ نجد في الين نقطة من اليانغ، وفي اليانغ نقطة من الين، لندرك أن كمال الإنسان هو التوازن بين الحالين، لكن تلك الاستعارة لم تمر مرور الكرام، بل دفعت ثمنها الأنثى مرارا عبر التاريخ. إن الاستعارة التاريخية التي جعلت من الأنثى مُعادلا للفوضى في الطبيعة؛ جعلتها على مدى التاريخ هي النسخة المعيبة والمرضية من المخلوق الإنساني، منبع الهيستيريا- المُشتقة من كلمة رحم باليونانية- والشبق والاكتئاب. لتلك الأسباب يختار ترير الأنثى موضوع ثلاثيته[27]، لأن الاكتئاب يؤطر الإنسان في نسخته الناقصة المعيبة، مخلوق مُحتجز في ظلامه، عاجز عن التعبير عما يراه، مخلوق لا يفهمه الأصحاء، يثير حنقهم في البداية لأنهم لا يستطيعون أن يجدوا موضع علته جسديا، ثم يثير خوفهم في النهاية، لأن الاكتئاب هو دعوى للفوضى، أن تنحل عروة المعنى في الإنسان، ويندفع بإرادته للجنون، للانتحار، للتفكك. لذلك فالأنثى هي أصدق مخلوق للتعبير عن تلك الحالة؛ لأنها موصومة بها تاريخيا، فكما يُسقط الأصحاء مخاوفهم على المرضى النفسيين- الاستجابة الأولى للمرض النفسي كانت باحتجاز المرضى في مصحات بعيدا عن الأصحاء بنفس تكتيك العدوى- أسقط الرجال على مدى التاريخ مخاوفهم من الجانب المُظلم في إنسانيتهم على الأنثى"[28]!


ربما كان في الاقتباس السابق ما يؤكد لنا على أن ترير إنما يعبر عن الجانب الأنثوي فيه من خلال أفلامه التي يقوم بصناعتها، وهي الأفلام التي تتولد من نتاج مُعاناته الشخصية مع تجربة الاكتئاب المُزمن والطويل المُلازم له مُنذ صغره، صحيح أن الكاتب في هذا الاقتباس يحصر تعبير فون ترير عن جانبه الأنثوي في ثلاثية الاكتئاب فقط، لكن المُتأمل لأفلام المُخرج يتأكد له أنه إنما يعبر عن هذا الجانب الأنثوي فيه من خلال جميع أفلامه التي قام بصناعتها، وإذا ما كانت الأنثى هي بطلة لجل ما قام بصناعته من أفلام، فهي بالضرورة إنما تعبر عنه هو شخصيا، أي أن المرأة في أفلامه ليست سوى انعكاس للمُخرج، ولكن من خلال جانبه الأنثوي المخفي فيه عن الآخرين بفعل قواعد المُجتمع، ونظرته، وثقافته.


إذن، فترير رغم اكتئابه المُزمن، والحاد، وتطوره معه كلما تقدم في العمر؛ يحاول- قدر استطاعته- التعبير عن هذا الاكتئاب والخروج منه بشكل فني بتقديمه لنا في أشكال فنية تكاد أن تكون هي الأفضل في تاريخ السينما الأوروبية بشكل خاص، والعالمية منها بشكل عام. إنه ناجح إلى حد بعيد في استثمار هواجسه وتحويلها إلى شكل من أشكال الفن المُمتعة، ماهر في علاج نفسه من اكتئابه، أو محاولة تجاوزه إلى حد ما بمُمارسة أشكال مُختلفة من صناعة السينما والتطوير فيها. ربما يجوز لنا في نهاية الأمر الادعاء بأن العلاج الوحيد للارس فون ترير وخروجه من مخاوفه، وهواجسه، واكتئابه، وقلقه هو تحويل كل هذه الحالات الشعورية، والنفسية المُخيفة إلى أفلام سينمائية كما يفعل هو دائما، وقد يكون هذا الفعل هو السبب في استمراره وتقدمه، بل وتميزه في التطوير في صناعة السينما والإضافة إليها، بدلا من الانكباب على مخاوفه، والانحباس داخلها!

إن إعجاب فون ترير بالمُخرج الدانماركي Carl Dreyer كارل دراير- كما أفضى ترير نفسه في الاقتباس السابق مع تشيونج، وكما يصرح في مُعظم الوقت- يجعل Peter Schepelem بيتر شيبيلم يتحدث عنهما قائلا: "المُخرجان الدانماركيان العظيمان Carl Dreyer كارل دراير ولارس فون ترير في قرابة فنية، تعاني النساء ويتعرضن للتعذيب والحرق على المحك في أفلامهما، ولكن حتى في اللقطات الفردية، تُظهر بعض أفلام فون ترير المُبكرة آثارا لأسلوب دراير"، كما يستمر شيبيلم مُؤكدا بقوله: "لتبسيط تاريخ الفيلم الدانماركي- ربما بشكل غير عادل بعض الشيء- يمكن للمرء الادعاء بأن مُخرجين فقط مُهمين حقا- كارل دراير ولارس فون ترير. السادة هما مُبتكران رائدان ومُؤلفان فائقان شاهقان فوق مشهد من الكوميديا الشعبية المرحة والواقعية السائدة اللطيفة. يُعتبر كل من دراير وفون ترير صانعي الفن السينمائي المُظلم. أرواح مُتشابهة تربطهما علاقة فنية قوية. حصل فون ترير بالطبع على جائزة كارل دراير عام 1995م في الذكرى المئوية للسينما، ومع ذلك، تجدر الإشارة إلى أنه لا يوجد نظير لحركة فون ترير Dogme دوجما لدى دراير: لم تتشكل أي مدرسة على الإطلاق حول دراير"[29]، أي أن ثمة روابط فنية وحياتية قوية تربط بين المُخرجين الأهم في تاريخ السينما الدانماركية، وهو ما يجعل فون ترير دائما ما يشعر بالكثير من فضل دراير عليه فيما قام بصناعته من أفلام سينمائية.


هذا التشابه بين المُخرجين- فنيا وحياتيا- يتضح لنا بشكل أكثر جلاء من خلال الحياة التي عاشها كل منهما، وكثرة التقاطعات التي ربطت بين حياتيهما: "حتى قصص حياتيهما الشخصية لها بعض أوجه التشابه التي ربما تكون قد شكلت، أو لا تُشكل ملفهما الفني. وقد كُشف الأمر لأول مرة في السيرة التي كتبها Martin Drouzy مارتن دروزي بعنوان Carl Th. Dreyer, født Nilsson حيث كان دراير نتاجا لعلاقة بين خادمة سويدية Josefina Nilsson جوزفينا نيلسون، ومالك أرض دانماركي Jens Christian Torp ينس كريستيان كروفت في مزرعته Carlsro في Grantinge جنوب السويد. وُلد سرا في Copenhagen كوبنهاجن، ونشأ الابن بالتبني لزوجين دانماركيين The Dreyers عائلة دراير. وعندما كان شابا تواصل مع عائلته السويدية البيولوجية، ويبدو أنهم علموا بنهاية والدته المأساوية: حملت مرة أخرى من رجل آخر لم يكن ينوي الزواج منها، كما توفيت بعد محاولتها الإجهاض عن طريق تناول السم. يجادل دروزي في كتابه بأن إنتاج دراير بأكمله الذي يركز على استشهاد المرأة في عالم الرجل يمكن اعتباره نوعا من النصب التذكاري لوالدته. ولقد كان فون ترير نتاجا لعلاقة خارج إطار الزواج بين والدته Inger Høst إنجر هوست، ورئيسها السابق في وزارة الشؤون الاجتماعية Fritz Michael Hartmann فريتز مايكل هارتمان 1909- 2000م. اكتشف فون ترير ذلك من والدته عندما كانت تحتضر في عام 1989م. بحث عن السيد هارتمان الذي لم يرغب في أي اتصال آخر مع ابنه البيولوجي. عندما علم بظروف ولادته كان فون ترير يعمل في فيلم Europa أوروبا 1991م، وهو فيلم عن ألمانيا في الأشهر القليلة الأولى بعد انهيار الأمة في عام 1945م. يمكن اعتبار مشهد في الفيلم كتعليق على فيلمه الجديد. يلعب فون ترير دورا صغيرا باعتباره يهوديا تم تعيينه من قبل الأمريكيين لتخليص رئيس شركة السكك الحديدية الكبيرة Zentropa زنتروبا من خلال تسميته كمُنقذ، وبالتالي تمكينه من الاستمرار في رئاسة الشركة. كما كان دراير متهورا بعض الشيء في سنواته الأولى. عندما كان مُراسلا شابا حصل على رخصة لراكب المنطاد. وكان فون ترير- الذي يعاني من الخوف من الطيران- يمارس بالفعل القفز المظلي في الضواحي الغربية لكوبنهاجن عندما كان في التاسعة عشرة من عمره، قبل أن يصطدم ويُصاب. إن الرهاب وتجارب القلق التي تُطارد فون ترير لها تشابه مع دراير الذي عاش أيضا لحظات مُظلمة لا سيما بعد إتمامه فيلمه Vampire مصاص الدماء 1932م حيث أمضى عدة أشهر في مُستشفى للأمراض العقلية في فرنسا، لكن بينما كان فون ترير صريحا للغاية دائما بشأن صدماته، كان دراير شديد السرية، وهي صفة يبدو أنها تمتد إلى فنه"[30].

فيلم "البلهاء"

إذن فكل من كارل دراير ولارس فون ترير يتشابهان- ربما إلى حد التطابق في حياتيهما وظروفهما التي مرا بها، بل وفي الكثير من سماتهما السيكولوجية، فضلا عن تشابههما الفني فيما قدماه من أفلام سينمائية- وهو الأمر الذي جعل منهما أهم صانعي أفلام في تاريخ السينما الدانماركية على الإطلاق؛ الأمر الذي يجعل فون ترير دائما ما يذكر فضل دراير الفني على تشكيل رؤيته السينمائية التي يقدمها فيما يقوم بصناعته من أفلام.

 

 

 

محمود الغيطاني

مجلة "نقد 21".

عدد فبراير 2024م.


من كتاب "Cinephilia الهوس بالسينما: لارس فون ترير" للناقد محمود الغيطاني



[1]  للمزيد انظر مُقابلة Chris Heath كريس هيث مع المُخرج في مجلة GQ بعنوان: Lars Attacks! هجمات لارس!/ gq.com/ بتاريخ 19 سبتمبر 2011م.

[2]  للمزيد انظر المقال الذي كتبته Marta Sundac مارتا سونداك بعنوان: Is Lars Von Trier The Biggest Troll In Film? هل لارس فون ترير هو أكبر مُتصيد في الفيلم؟/ highsnobiety.com/ من دون تاريخ.

[3]  Edinburgh International Film Festival مهرجان أدنبرة السينمائي الدولي EIFF هو مهرجان سينمائي يستمر لمُدة أسبوعين في يونيو من كل عام، تأسس في عام 1947م، وهو أقدم مهرجان سينمائي في العالم يتم تشغيله باستمرار، ويقدم المهرجان أفلاما بريطانية وعالمية في جميع الأنواع السينمائية، ويُدير المهرجان مركز الصور المُتحركة Centre for the Moving Image.

[4]  Alexander Walker ألكسندر ووكر هو ناقد سينمائي بريطاني من مواليد 23 مارس 1930م، وتوفي في 15 يوليو 2003م، وقد كتب في London Evening Standard من عام 1960م حتى نهاية حياته، وأصدر 20 كتابا.

[5]  The Evening Standard المعروفة سابقا باسم The Standard في الفترة من 1827م حتى 1904م، والمعروفة أيضا باسم London Evening Standard هي صحيفة يومية مجانية محلية في لندن، انجلترا، تُنشر من الإثنين إلى الجمعة بتنسيق التابلويد.

[6]  للمزيد انظر المُقابلة التي أجراها Simon Hattenstone سيمون هاتنستون مع المُخرج بعنوان A Joke or the most brilliant film- maker in Europe مُزحة أم ألمع صانع أفلام في أوروبا/ موقع الجارديان theguardian.com/ بتاريخ الجمعة 22 يناير 1999م.

[7]  للمزيد انظر المُقابلة التي أجراها Simon Hattenstone سيمون هاتنستون مع المُخرج بعنوان A Joke or the most brilliant film- maker in Europe مُزحة أم ألمع صانع أفلام في أوروبا/ موقع الجارديان theguardian.com/ بتاريخ الجمعة 22 يناير 1999م.

[8]  للمزيد انظر المُقابلة التي أجراها Simon Hattenstone سيمون هاتنستون مع المُخرج بعنوان A Joke or the most brilliant film- maker in Europe مُزحة أم ألمع صانع أفلام في أوروبا/ موقع الجارديان theguardian.com/ بتاريخ الجمعة 22 يناير 1999م.

[9]  للمزيد انظر المُقابلة التي أجراها Simon Hattenstone سيمون هاتنستون مع المُخرج بعنوان A Joke or the most brilliant film- maker in Europe مُزحة أم ألمع صانع أفلام في أوروبا/ موقع الجارديان theguardian.com/ بتاريخ الجمعة 22 يناير 1999م.

[10]  Screen International هي مجلة أفلام بريطانية تغطي الأعمال السينمائية الدولية، وقد تم إطلاقها من قبل Media Business Insight، وهي شركة إعلامية بريطانية، وتهدف المجلة في المقام الأول إلى المُشاركين في صناعة الأفلام العالمية، وقد تأسست بشكلها الحالي في عام 1975م، وأُضيف موقعها على الإنترنت screendaily.com في 2001م.

[11]  للمزيد انظر المقال الذي كتبه Geoffrey Macnab جيفري ماكناب بعنوان: Lars Von Trier: The Kingdom: Exodus, cancel culture and teasing Sweden لارس فون ترير: المملكة: الخروج وإلغاء الثقافة ومضايقة السويد/ screendaily.com/ بتاريخ 5 سبتمبر 2022م.

[12] للمزيد انظر المقال الذي كتبه Geoffrey Macnab جيفري ماكناب بعنوان: Lars Von Trier: The Kingdom: Exodus, cancel culture and teasing Sweden لارس فون ترير: المملكة: الخروج وإلغاء الثقافة ومضايقة السويد/ screendaily.com/ بتاريخ 5 سبتمبر 2022م.

[13]  للمزيد انظر مُقابلة Chris Heath كريس هيث مع المُخرج في مجلة GQ بعنوان: Lars Attacks! هجمات لارس!/ gq.com/ بتاريخ 19 سبتمبر 2011م.

[14]  للمزيد انظر المُقابلة التي أجراها Calum Russell كالوم راسل مع المُخرج بعنوان: Why Lars Von Trier compared Björk to a terrorist on the set of Dancer in the Dark لماذا قارن لارس فون ترير بيورك بالإرهابيين في موقع تصوير فيلم راقصة في الظلام/ faroutmagazine.co.uk/ من دون تاريخ.

[15]  يُعد فيلم The Idiots البلهاء 1998م ثاني فيلم مُعترف به باعتباره من الأفلام المُلتزمة ببيان الدوجما الثوري Dogme #2، بينما كان الفيلم الأول الذي مثّل بيان الدوجما هو فيلم المُخرج الدانماركي Thomas Vinterberg توماس فينتربيرج Celebration الاحتفال 1998م، أو Festen تبعا لعنوان الفيلم الأصلي باللغة الدانماركية Dogme#1.

[16]  للمزيد انظر المُقابلة التي أجراها Simon Hattenstone سيمون هاتنستون مع المُخرج بعنوان A Joke or the most brilliant film- maker in Europe مُزحة أم ألمع صانع أفلام في أوروبا/ موقع الجارديان theguardian.com/ بتاريخ الجمعة 22 يناير 1999م.

[17]  William Blake هو شاعر ورسام وصانع طباعة إنجليزي وُلد في 28 نوفمبر 1757م، وتوفي في 12 أغسطس 1827م. لم يتم التعرف على بليك إلى حد كبير خلال حياته، ويعتبر الآن شخصية بارزة في تاريخ الشعر والفن المرئي في العصر الرومانسي. قاد فنه البصري ناقد القرن الحادي والعشرين Jonathan Jones جوناثان جونز لإعلانه "بعيدا وبعيدا عن أعظم فنان أنتجته بريطانيا على الإطلاق"، وفي عام 2002م تم وضع بليك في المرتبة 38 في استطلاع BBC لأهم 100 بريطاني، بينما كان يعيش في لندن طوال حياته باستثناء ثلاث سنوات قضاها في Felpham فيلفام. أنتج بليك مجموعة متنوعة وغنية من الناحية الرمزية من الأعمال، والتي احتضنت الخيال على أنه "جسد الله"، أو "الوجود البشري نفسه".

[18]  للمزيد انظر مقال Thomas Beltzer توماس بيلتزر المكتوب بعنوان: Lars Von Trier: The Little Knight لارس فون ترير: الفارس الصغير في مجلة حواس السينما/sensesofcinema.com / العدد 22/ بتاريخ أكتوبر 2002م.

[19]  للمزيد انظر مقال Thomas Beltzer توماس بيلتزر المكتوب بعنوان: Lars Von Trier: The Little Knight لارس فون ترير: الفارس الصغير في مجلة حواس السينما/sensesofcinema.com / العدد 22/ بتاريخ أكتوبر 2002م.

[20]  يفسر هذا الخوف المرضي من القنيلة الذرية صناعته لفيلمه الروائي القصير En Blomst زهرة 1971م، وهو لم يتعد بعد الخامسة عشرة من عمره، حيث نرى في الفيلم الطائرات التي تُدمر الطفل الذي يقوم برعاية زهرته.

[21]  للمزيد انظر مُقابلة Chris Heath كريس هيث مع المُخرج في مجلة GQ بعنوان: Lars Attacks! هجمات لارس!/ gq.com/ بتاريخ 19 سبتمبر 2011م.

[22]  Kirsten Caroline Dunst كريستين كارولين دانست، هي مُمثلة أمريكية من مواليد 30 إبريل 1982م، ظهرت لأول مرة في التمثيل في فيلم قصير Oedipus Wrecks حطام أوديب من إخراج Woody Allen وودي ألن، في فيلم مُختارات New York Stories قصص نيويورك 1989م، ثم حصلت على تقدير لدورها كطفلة مصاصة دماء في فيلم الرعب Interview with the Vampire مُقابلة مع مصاص الدماء 1994م، وهو الدور الذي أكسبها ترشيح Golden Globe nomination for Best Supporting Actress جولدن جلوب لأفضل مُمثلة مُساعدة، كما لعبت أدوارا في شبابها في فيلم Little Woman امرأة صغيرة 1994م، والأفلام الخيالية Jumanji جومانجي 1995م، وSmall Soldiers جنود صغار 1998م.

[23]  للمزيد انظر مُقابلة Chris Heath كريس هيث مع المُخرج في مجلة GQ بعنوان: Lars Attacks! هجمات لارس!/ gq.com/ بتاريخ 19 سبتمبر 2011م.

[24]  للمزيد انظر الصفحة الخاصة للتعريف بالمُخرج في موقع zoomboola.com/ والتي كتبتها Nyle Doherty نايل دوهرتي بعنوان Lars Von Trier.

[25]  للمزيد انظر ما كتبته Lucy Cheung لوسي تشيونج عن مُقابلتها مع المُخرج في جريدة الجارديان بعنوان: Lars Von Trier: I’ve started drinking again, So I can work لارس فون ترير: لقد بدأت الشُرب مرة أخرى حتى أتمكن من العمل/ theguardian.com/ بتاريخ الإثنين 20 إبريل 2015م.

[26]  Jordan Bernt Peterson جوردان بيرنت بيترسون هو شخصة إعلامية كندية، وطبيب نفسي إكلينيكي، ومُؤلف، وأستاذ فخري بجامعة Toronto تورنتو، من مواليد 12 يونيو 1962م. بدأ يحظى باهتمام واسع كمُفكر في أواخر عام 2010م بسبب آرائه حول القضايا الثقافية والسياسية، والتي غالبا ما توصف بأنها مُحافظة. وصف بيترسون نفسه بأنه ليبرالي بريطاني كلاسيكي وتقليدي.

[27]  يقصد الكاتب هنا "بالثلاثية" الثلاثية الأخيرة لفون ترير Depression Trilogy ثلاثية الاكتئاب، أو الكآبة.

[28]  للمزيد انظر مقال حسام الدين السيد الذي كتبه بعنوان: لارس فون ترير: الاكتئاب كمجاز أنثوي/ موقع إضاءات ida2at.com/ بتاريخ 3 سبتمبر 2022م.

[29]  للمزيد انظر المقال الذي كتبه Peter Schepelem بيتر شيبيلم بعنوان: From Dreyer to Von Trier من دراير حتى فون ترير على الموقع الدانماركي/ carlthdreyer.dk/ من دون تاريخ.

[30]  للمزيد انظر المقال الذي كتبه Peter Schepelem بيتر شيبيلم بعنوان: From Dreyer to Von Trier من دراير حتى فون ترير على الموقع الدانماركي/ carlthdreyer.dk/ من دون تاريخ.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق