الأربعاء، 29 مارس 2023

الجبل: الطريق إلى الوهم مُعبد بالجثث!

إن التأمل في فيلم "الجبل" للمُخرج خليل شوقي في أولى تجاربه الإخراجية الروائية الطويلة 1965م، وهو الفيلم المأخوذ عن رواية للروائي فتحي غانم بنفس العنوان لا بد أن يُثير العديد من المُقارنات بينه وبين فيلم "المُومياء" للمُخرج شادي عبد السلام 1969م، وهما الفيلمين اللذين تم إنتاجهما من خلال المُؤسسة المصرية العامة للسينما؛ لوجود الكثير من التقاطعات بينهما، هذه التقاطعات التي لا يمكن أن تعني، بالضرورة، الاقتباسات أو النقل بقدر ما تعني تشابه الموضوعات والشخصيات إلى حد ما، وإن كان فيلم عبد السلام أكثر عُمقا فنيا من فيلم "الجبل" رغم كونه تاليا عليه.

إن كلا الفيلمين يتحدث عن سرقة الآثار المصرية في الجنوب والاعتياش على بيعها للأجانب، صحيح أنه في فيلم الجبل كان الناس يعيشون في قلب الجبل وكهوفه من أجل الحفر "الكحت" للتنقيب عن الآثار خفية وبيعها، بينما في فيلم المُومياء كانوا يعيشون في قرية، لكن الموضوع لا يختلف بين الفيلمين. كما أن شخصية حسين- قام بدوره المُمثل صلاح قابيل- المُمزقة بين الانتماء الهوياتي إلى أهله من سكان الجبل، وتاريخهم، وإيمانهم بما يفعلونه، وبين الرغبة في النزول منه للسكنى في المساكن التي بناها المُهندس فهمي- قام بدوره المُمثل عمر الحريري- والحياة بعيدا عن سرقة الآثار، لا تختلف كثيرا عن شخصية "ونيس"- قام بدوره المُمثل أحمد مرعي- وهو ابن قبيلة "الحربات" الشهيرة بالتنقيب عن الآثار في جنوب مصر من أجل بيعها، وهو الذي يرفض العمل مع قبيلته في سرقة الآثار ويقع في مأزق التمزق أيضا بين الانتماء للقبيلة وبين الخروج عليها، هذا المأزق الذي ينتهي به إلى الهروب من القبيلة وإبلاغ الشرطة وبعثة الآثار عما تقوم به القبيلة من أعمال. صحيح أن حسين في فيلم "الجبل" حاول التملص من أهل الجبل بالنزول إلى الوادي والسكنى في البنايات منذ البداية، وصحيح أنه قد نجح في ذلك بعدما مات أبوه تحت ركام الحفر في السرداب، لكنه سرعان ما عاد مرة أخرى إلى الجبل وعاود "الكحت"/ الحفر والبحث إلى أن تأكد له وهم ما يبحثون عنه، أي أنه لم يقم بإبلاغ الشرطة عن أهل الجبل، بل تأكد له أن ما يعيشونه مُجرد وهم يسلبهم حيواتهم وأعمارهم فقط، بينما في فيلم "المُومياء" يخرج ونيس من مأزقه الوجودي بين انتمائه لقبيلته، وبين رفضه ما يتم على أيديهم، ويختار في نهاية الأمر الإبلاغ عنهم لبعثة التنقيب، أي أنه مع تشابه الشخصيتين إلى حد بعيد إلا أنهما لم يسلكا نفس المسلك في كل من الفيلمين. فضلا عن المشاهد التي تكاد أن تتشابه في الديكورات بين الفيلمين وإن كانت ديكورات شادي عبد السلام أكثر اكتمالا وفنية في فيلمه.


مع هذه التشابهات بين الفيلمين تتبين لنا أهمية الفيلم الذي قدمه المُخرج خليل شوقي في فيلم "الجبل" الذي نستطيع القول عنه: إنه كان بمثابة الإرهاصات الأولى التي مكنت شادي عبد السلام من التأمل وصناعة فيلمه المُومياء.

يبدأ المُخرج خليل شوقي فيلمه في مشاهد ما قبل التيترات Avant Titre بداية ذكية ومُتقنة وقوية؛ فرغم عدم معرفتنا لفحوى الفيلم المُقدم لنا، ولا موضوعه إلا أن المُخرج يفتتح الفيلم بمجموعة من المشاهد الذكية باعتبارها مشاهد تأسيسية للفيلم بالكامل تدعو بالضرورة إلى تساؤل المُشاهد عما يقصده المُخرج منها؛ فنرى سردابا طويلا لا نفهم مغزاه، ثم لا يلبث الانتقال إلى مشاهد مجموعة من الرجال الذين يعملون بجد على تكسير الصخور في أحد الأماكن المُغلقة، ثم سقوط الصخور على قدم أحدهم ليفقدها، كذلك موت رجل آخر داخل هذا المكان المُغلق بكومة من الصخور المُتساقطة.


إن هذه اللقطات الاستهلالية تمتلك من الإتقان والجودة الفنية والذكاء ما يجعل المُشاهد في حالة تأهب وانتظار وتساؤل دائم عن المقصود من هذه المشاهد القصيرة المُختصرة؛ ومن ثم يكون المُخرج قد كسب انتباه المُشاهد معه لفترة طويلة من زمن الفيلم، وهو المقصود أساسا من هذه البداية، حيث يكون اكتساب المُشاهد إلى صف العمل من أهم أساسيات العمل الفني.

إن قصة الفيلم التي تتحدث عن مُهندس موهوب تكلفه الحكومة ببناء مجموعة كبيرة من البنايات؛ ليؤسس قرية لأهل الجبل الذين يقطنونه، راغبين في ذلك إخلاء الجبل منهم، لاسيما أنهم يقومون بالحفر فيه والتنقيب عن الآثار من أجل بيعها لا بد أن تلقي بظلالها على المُهندس المصري الشهير حسن فتحي الذي بنى قرية القرنة في جنوب مصر، خاصة وأن البنايات التي رأيناها في الفيلم تحمل قدرا غير قليل من البصمات المعمارية المُميزة لحسن فتحي، وإن كان اسمه في الفيلم هو المُهندس فهمي.


يبدأ الفيلم بالمُهندس فهمي الذي يركب جواده مُتجها إلى قلب الجبل وحده رافضا اصطحاب الشرطة له، ورغم أن صعوده للجبل وسط ساكنيه قد يعرض حياته للخطر إلا أنه يصر على الصعود ومقابلة عمدة الجبل وحده- قام بدوره المُمثل عبد الوارث عسر- أملا في إقناعه وإقناع سكان الجبل بالنزول من كهوفه والتخلي عن سكناه إلى القرية التي بناها في الوادي المُحيط به، لكن حسين/ ابن الجبل يقابله في مُنتصف الطرق ويطلب منه العودة وعدم الاستمرار في الصعود لأنهم من المُمكن لهم أن يقتلونه لا سيما أن جميع سكان الجبل ينتظرونه بسلاحهم ومعهم العُمدة؛ فيقول للمُهندس: اسمع الكلام يا أفندي، أنا وحدي، راجلين تلاتة ونسوانهم وعيالهم ينزلوا، لكن أهل الجبل كلاتهم ميتنازلوش، ولو عطاك ربنا قوة تنقل بيها الجبل ميتنقلوش. لكن المُهندس فهمي يُصرّ على استكمال صعوده مُقابلا للعمدة الذي يؤكد له أنهم يستحيل لهم الهبوط وترك الجبل الذي ولدوا فيه وعاش فيه أجدادهم بدعوى حماية الآثار والسائحين الذين يزورون المنطقة، كما أنهم يرون في سكنى البنايات مُجرد موت وليس حياة؛ فالحياة الحقيقية بالنسبة لهم هي سكنى الجبل وكهوفه فقط، وإذا ما ابتعدوا عنه لا بد أن يموتوا جميعا.


يعود المُهندس فهمي مرة أخرى إلى الوادي بينما يعتمل داخله الأمل وعدم الاستسلام لليأس بعد بنائه قريته الضخمة والتي بذل فيها كل قوته ووضع في مبانيها كل ما يحمله من موهبة معمارية. نعرف أن حسين غير راضٍ عن الحياة في الجبل و"الكحت"/ الحفر للبحث عن الآثار وسرقتها وبيعها للأجانب، ويرتبط بعلاقة صداقة قوية مع المُهندس، ويرغب في الهبوط إلى الوادي للسكن في البنايات كما أنه يرتبط بابنة الجبل مسعدة- قامت بدورها المُمثلة سميرة أحمد- وهي الفتاة التي تعشق حسين وترى أن البقاء في الجبل مُجرد وهم وضياع لأعمار الرجال الذين يموتون تحت ركام الحفر، أو تتقطع أيديهم تحت الحجارة المُتساقطة مع الحفر للتنقيب؛ لذلك تحث حسين على ترك الجبل من أجل السكنى في البنايات وتكليل قصة حبهما بالزواج في الأسفل.

ثمة مُلاحظة لا بد أن يلاحظها المُشاهد حينما يرى سميرة أحمد في دورها الذي تؤديه؛ فهي ابنة من أبناء الجبل الذين يتميزون بالفقر الشديد، والذين لا يجدون المال إلا في موسم السياحة، أو في حالة العثور على مقبرة جديدة يسطون عليها ويبيعونها للأجانب، وهذا يعني أنها مُجرد فتاة بسيطة تماما، لكننا نراها طوال أحداث الفيلم ومنذ أول مشهد لها مُكتحلة العينين وذات رموش اصطناعية طويلة، وهو الأمر الذي يجعلنا غير قادرين على الاقتناع بمكياجها أو كونها امرأة فقيرة من أهل الجبل، فهي بمثل هذا الشكل قد تتوافق مع أبناء المدينة، ولا يمكن لها حتى أن تتلاءم مع أبناء الوادي المُحيط بالجبل.


نلمح أن حسين يكاد أن يقع في أزمة نفسية ووجودية خطيرة بين انتمائه للجيل وأهله فيه، وبين رغبته ورغبة مسعدة في تركه إلى الوادي والسكنى في البنايات؛ لذلك يحاول الهروب من الجبل بالفعل إلا أن أباه الذي سبق له أن فقد قدمه بسبب "الكحت" يضبطه أثناء محاولة الهبوط إلى الوادي ويهدده بإطلاق النار عليه إذا ما فعل؛ لأن هذا الفعل لا بد أن يجلب عليه العار مدى الحياة؛ ومن ثم يرغمه على العودة إلى المنزل حيث بداية السرداب الطويل الذي يعملون فيه والذي يوصلهم إلى مقبرة من المقابر المُغلقة من أجل البحث فيها عن الكنز الذهبي، أو "مسخوط" من "المساخيط"/ جثة مُحنطة؛ لذلك حينما يعلم العُمدة بأمر محاولة حسين يقول غاضبا: عوضين طفش وترك أهله، وسعداوي طفش وخده المهندس في البنايات، أندال ملهمش قيمة، نساوين تركناهم لحالهم، لكن حسين أخو مريم مرتي يهجرنا؟! لا، عار علينا كلنا، عار على الجبل من يوم ما شاء ربنا؛ فيرد أبو حسين قائلا: هقتله!


ربما يبدو لنا الأمر هنا مُرتبطا بالعار والعيب أكثر من ارتباطه بالتمسك بحياة الجبل التي نشأوا عليها، أي أن الأمر يتشابه تماما مع شرف المرأة وجسدها الذي لا يمكن له الانكشاف على غريب أو أن تتصرف فيه كيفما يحلو لها وإلا حُق عليها القتل بسبب العار. كذلك فإن ترك أحد الرجال لحياة الجبل يجعله مُكللا بالعار مدى عُمره هو وكل من يمت إليه بصلة قرابة؛ لذلك فهم لا يمكن لهم التخلي عن حسين أو الانصياع له في رغبته في الهبوط وإلا أصابهم العار جميعا باعتباره ذي نسب مع عمدة الجبل.

لكن أثناء "كحت" حسين في السرداب الطويل الذي أُرغم على العودة إلى العمل فيه يدخل والده إليه ليسأله لم يحفر وحده بعد رحيل الرجال، إلا أن الأب يلمح عتبة إحدى المقابر في السرداب، وهي العتبة التي لم ينتبه إليها أحد؛ فيخفيها بحجر من دون أن يلمحه حسين راغبا في اكتشافها وحده، كما يضرب كشاف الجاز بحجر ليخرج حسين ويسرع الأب إلى الخواجاية- قام بدورها المُمثلة زوزو ماضي- المُقيمة معهم في الجبل من أجل شراء أي شيء من المُمكن لهم أن يكتشفونه، ويخبرها أنه قد توصل إلى الكنز؛ فتطلب منه إخراجه لحين ذهابها إلى البر الشرقي والإتيان بالمال من أجل شراء الكنز.


يتجه والد حسين إلى داخل السرداب وحده ويبدأ في الحفر مُستندا على عكازه رغم كونه قد فقد إحدى قدميه من قبل بسبب الحفر، وأثناء حفره في المقبرة تدخل ابنته مريم/ زوجة العمدة- قامت بدورها المُمثلة ماجدة الخطيب- وحينما تسمع صوت الدق يأتيها من داخل السرداب تشعر بالقلق على أبيها وتزحف على بطنها من أجل الدخول إليه ومُساعدته، لكنها حينما تصل إليه يدق عنقها بالمعول الذي يدق به الصخر حتى لا تخبر أي شخص باكتشافه للكنز الذي يرغب في الاستحواذ عليه وحده، ويستكمل حفره وكأنه لم يقتلها، لكن الحفر يؤدي إلى انهيار الجدار عليه مما يؤدي لمقتله بدوره!

ألا نلاحظ هنا أن البحث عن الكنز المزعوم من المُمكن له أن يجعل الأب يقتل ابنته وكل من يمت إليه بصلة؟ إنه الفقر والعوز والطمع الشديد وإيثار الذات الذي يجعل مُعظم سكان الجبل يتمسكون بالبقاء فيه رغم الفقر الشديد الذي يعانونه، لكنه الأمل في الحصول على المال الذي لا يمكن له أن يتركهم حتى لو فقدوا عائلاتهم بكاملها من أجل العثور عليه!

إن موت والد حسين وشقيقته مريم في ذات الوقت داخل السرداب يعد بمثابة انتقالة محورية في السيناريو؛ حيث يجعل حسين يشعر بالثورة الشديدة ويتغلب على تردده في الهبوط إلى الوادي؛ ومن ثم يدعو أهل الجبل في الهبوط معه إلى البنايات، وبالفعل يوافقونه على دعوته ويهبطون إلى الوادي من أجل تعمير البنايات التي كانوا قد سبق لهم أن أحرقوها بإيعاز من العُمدة؛ فيرحب بهم المُهندس فهمي ويمنح لكل منهم يومية عمل تبلغ ثمانية قروش كاملة؛ فيسعد الرجال ويعملون بهمة من أجل إعادة إعمار البنايات مرة أخرى.


لكن سمو الأميرة- قامت بدورها المُمثلة ليلى فوزي- وهي التي تكفلت بالإنفاق على البنايات مرة أخرى تصل إلى موقع العمل مع أحد الرجال الذي يغازلها طوال الوقت، وتطلب من المُهندس فهمي أن يريها أحد البنايات، وبالفعل يجعلها تتجول داخل إحدى البنايات التي من المُفترض أنها مُخصصة لعُمدة الجبل في حال هبوطه منه، وتطلب منه أن يريها غرفة النوم لتنفرد مع الرجل الذي معها فيها، كما تخبر المُهندس بأنها ستقيم حفلا راقصا في المكان هذه الليلة.

أثناء الحفل يتلصص عليهم أبناء الجبل ويرون الرجال والنساء يتراقصون بينما يشربون الكحوليات؛ مما يجعل أبناء الجبل غاضبين؛ فيتجه أحدهم إلى حسين قائلا له: أنتم قاعدين هنا والخبص والمسخرة والنسوان الفاجرة بيترقصوا قدام الجامع؟! فيذهب حسين إلى المُهندس فهمي مُستفسرا منه عما يدور، وهنا يحاول المُهندس تهدئته مُخبرا إياه بأنهم ضيوفهم وعليهم أن يحتملونهم حتى النهاية لا سيما أن الأميرة هي التي تُنفق على البنايات التي سيعيشون فيها.

تحاول الأميرة مراودة حسين عن نفسه لكنه يرفضها؛ الأمر الذي يجعلها تشعر بالغضب والحقد الشديد عليه، وبعدما يتم الانتهاء من إعمار البنايات يبدأ أهل الجبل في الهبوط إليها؛ ومن ثم تقيم الأميرة حفلا بهذه المُناسبة يحضره رجال الشرطة، لكن العُمدة يهبط إلى الحفل ويحاول الدخول فيمنعه رجال الشرطة ويتعاملون معه بطريقة مُهينة تجعل المُهندس فهمي يسرع للسماح له بالدخول ومصافحة سمو الأميرة؛ فيقول العُمدة لها: اسمعي يا أميرة، قولي للملك احنا ما ننتقل من الجبل، احنا عشنا في الجبل وهنموت في الجبل؛ فترد عليه: أنت تعرف الملك؟! لكنه يرد مُشيرا إلى المُهندس: الراجل دا نصاب، ووالرجالة اللي عم يترقصوا قدامك دول مش رجالتنا، جابهم من البر الشرقي، فترد الأميرة موجهة حديثها للمُهندس: أنت نصاب، بيقول إنك نصاب، لازم يموتوك. فيستمر العُمدة في حديثه: والبنايات دي ما تنفعنا، كيف نعيش في البنايات؟! دا بانيها قُبب، ما يرقد فيها إلا الأموات، البنايات دي للمسخرة وشُرب الخمرة يا أهل جهنم، احنا ما نقعد فيها يا كفرة يا قلالاة الدين.


هنا تشعر الأميرة بالإهانة الشديدة ويهجم رجال الشرطة على عُمدة الجبل؛ مما يجعل رجال الجبل بالكامل يهاجمون الشرطة وينقذون العُمدة من بين أيديهم ويعودون إلى الجبل مرة أخرى باختيارهم هذه المرة، وعدم رغبة منهم في الهبوط مرة أخرى بعدما تمت إهانة كبيرهم.

بعودة أهل الجبل إليه مرة أخرى يكتسب العُمدة مشروعيته وقوته التي كان قد فقدها فيما قبل، بل ويصبح من الضروري على جميع رجال الجبل العودة إلى "الكحت"/ التنقيب عن الآثار/ الكنز من أجل الحصول على المال الذي سيساعدهم على المعيشة، لكن حسين يقع في الحيرة مرة أخرى؛ فعودته هذه المرة إلى الجبل كانت برضاه الكامل، لكنه غير راضٍ عن عمليات التنقيب في ذات الوقت؛ لذلك تحاول الخواجاية التقرب منه وتسحبه معها إلى بيتها وتراوده عن نفسها مُقدمة جسدها له، وهنا يقرر حسين بعد العديد من المُضاجعات معها أنه سيعود مرة أخرى إلى "الكحت"؛ فهو لا يعرف شيئا في الحياة سواه.

ثمة مُلاحظتين مُهمتين هنا لا بد من التوقف أمامهما هنيهة: أولاهما: أن بناء القرية في الوادي/ البنايات وتسكين أهل الجبل فيها كان حلما لا بد من تحقيقه بالنسبة للمُهندس فهمي، أي أن البناء في حد ذاته كان مسألة حياة أو موت بالنسبة للمُهندس، وهو الأمر الذي سنلاحظه في الحديث الذي دار بين المُهندس وبين سعيد بيه ضيفه حينما يقول سعيد بيه: أهي دي رسومات بيوت الأهالي؛ ليقول المُهندس بحسرة: الأهالي؟ هما فين الأهالي؟ فيقول سعيد: يا ابني أنت بنيت مدينة مسحورة من غير سكان، صرفت فيها فلوس الحكومة، وحطيت فيها فنك اللي محدش راضي يفهمه، يمكن أنا كمان مش فاهمه، فيرد المُهندس: سعيد بيه، قصدك إيه؟! يقول سعيد: أنا بكلمك بصراحة؛ لأنك تلميذي وزي ابني، وأظن إني مقبلتش دعوتك إلا عشان أتكلم معاك بصراحة، أنا حاسس إن أنا مسؤول عن كل اللي حصل. المُهندس: سعيد بيه، مع حبي واحترامي لك، أنت معلمتنيش حاجات زي دي. فيقول سعيد: أنت لسة مش فاهمني، أنا عايز أراجعك وأشوف أد إيه أنت فاهم العمل اللي عملته، لمين أنت عملت البنايات دي؟ المُهندس: أنا مُهندس، معملتش حاجة لنفسي، خمس سنين وأنا قاعد أشتغل، بدرس طبيعة الأرض، الطوب، الضوء، بدرس حركات الناس، حركات أهل الجبل. فيرد سعيد: درست مفارحهم؟ الناس عايشة في كهوف، لكن عندها حلم بالكنوز، بالدهب والجواهر، بالجنة، هتجيبهم وتسكنهم في البنايات دي؟! عشان تديهم إيه؟ عشان يعترفوا إنك فنان عظيم؟ عشان يعترفوا إنك مُهندس عبقري؟! فيقول المُهندس: أنا عملت لهم كل حاجة، مدرسة، بيوت، سوق. فيرد سعيد: عملت لهم سوق عشان يتاجروا فيه، تسمح تقول لي هيتاجروا في إيه؟ عملت لهم بيت يسكنوا فيه، عظيم جدا، هياكلوا منين؟ وبصراحة، أنت معملتلهمش حاجة أبدا، أنت كنت عايز تبني مجد لنفسك بس، أنت عايز تكبر على حساب الناس دول، دي غلطتنا احنا كلنا، كلنا عايزين نكبر على حساب الناس دول واللي زيهم، بنتصور إننا بنعمل لهم المُعجزات وبننسى الأهم، إنهم يقدروا يعملوا المُعجزة بأنفسهم.


هذا المشهد الحواري المُهم يؤكد لنا أن مسألة بناء البنايات بالنسبة للمُهندس كانت مسألة جوهر وجودي يستطيع من خلالها إثبات ذاته وموهبته وتحققه في الحياة؛ لذلك فإن عدم مقدرته على إقناع أهل الجبل بالهبوط إلى البنايات، أو فشل ذلك بسبب التعدي على عُمدة الجبل كان بمثابة الموت الحقيقي له، كما أنه يجعلنا نتعاطف إلى حد بعيد مع أبناء الجبل الذين يعيشون على سرقة الآثار وبيعها للأجانب؛ فهم لا يعرفون في حياتهم أي شيء آخر غير هذه الحياة التي نشأوا عليها ومات عليها آبائهم وأجدادهم، ولكن السلطات الحكومية- غير الراغبة في مُشاركة أهل البلد لهم في الآثار ورغبتهم في تسكينهم في الوادي للتخلص من سرقاتهم- لم تدرس الأمر بعمق، ولم تلتفت إلى أنهم لا يتقنون أي شيء في الحياة سوى التنقيب؛ لذلك فلقد رأت السلطات أن مُجرد بناء قرية لهم في الوادي وتسكينهم فيها بمثابة الهبة والنعيم الذي قدمته إلى أهل الجبل، بينما الحقيقة تؤكد أن الحكومة لم تقدم إليهم أي شيء، بل ستدفعهم بالنزول إلى الوادي إلى المزيد من الإفقار والحاجة؛ حيث لا يعرفون ما الذي من المُمكن لهم أن يفعلونه بعد هبوطهم من أجل مُساعدتهم على الحياة. كان من الأجدى بناء المصانع لهم، أو تعريفهم كيفية العمل، وما هو العمل الذي من المُمكن لهم أن يعملونه من أجل استمرار الحياة قبل التفكير في بناء البنايات لهم.


المُلاحظة الثانية: إن موضوع التنقيب عن الآثار/ الكنز، والمساخيط/ الجثث المُحنطة بالنسبة لأهل الجبل هو موضوع حياة أو موت أيضا، أي أنه بمثابة موضوع وجودي بالنسبة لهم؛ ومن ثم فهم لا يستطيعون التخلي عنه ببساطة، وهو الأمر الذي يدفعهم إلى مقاومة الهبوط من الجبل رغم شظف الحياة التي يعيشونها، لكنهم يحيون على الأمل الدائم في العثور على الكنز الذي سينقلهم إلى حياة أكثر رغدا؛ وبالتالي يكون كل من أهل الجبل، والمُهندس متساوين من حيث المُنطلق ومن حيث الهدف أيضا وإن اختلفت طريقة التنفيذ.

يعود حسين إلى العمل في "الكحت" بهمة- بما أنه لم يعد أمامه من سبيل للحياة إلا الاستمرار في مُشاركة أهل الجبل ما يفعلونه- ورغم اعتراض ورفض وغضب مسعدة منه بسبب استسلامه للحياة في الجبل ونسيان الهبوط إلى البنايات إلا أنه يستمر فيما يفعله إلى أن يتم اكتشاف شيء ما يؤكد لهم أنهم قد وصلوا بالفعل إلى الكنز؛ مما يجعله يخبر الجميع ومنهم العُمدة، ويسرع بالتالي من أجل إخبار الخواجاية التي تتجه إلى البر الشرقي من أجل الإتيان بالمال اللازم للكنز.

يعود حسين إلى العُمدة ويخبره بأنه قد أخبر الخواجاية، ثم يسأله عن المصدر الذي تأتي من خلاله الخواجاية بالمال، فيخبره بأنها تأتي بالمال من زملائها الخواجات في البر الشرقي، وكان هناك من يزورها يوميا منهم في بيتها، وحينما يعرف حسين بأمر زيارتها من قبل أحد الرجال يشعر بالغضب الشديد، لكنه العُمدة يلمح غضبه ويخبره أنها أجنبية ولها الحرية في حياتها، وأنه لا بد له من الزواج من مسعدة بمُجرد استخراجهم للكنز.

يدخل العمدة وحسين وحدهما إلى السرداب من أجل استخراج الكنز، ولكن بمُجرد إحداث حسين فجوة في الجدار وفتحه، ومحاولة رؤيته لما خلف الجدار يكتشف أنه لا يوجد سوى بئر عميق لا قرار له خلف الجدار الذي أحدث فيه ثقبا؛ مما يجعله يشعر بالذهول الشديد ليصرخ حينما يسأله العمدة عما رآه: بير، بير غويط، طريق كداب يا بوي، أبوي، مريم، لينتهي الفيلم على صراخ حسين المُتألم بسبب ضياع أعمارهم جميعا خلف البحث عن الكنز الذي لم يكن سوى وهما يبحثون عنه ضاعت في سبيله الكثير من الحيوات منها حياة أبيه وأخته، وغيرهما من سكان الجبل، كما ضاعت أطراف العديد من أهل الجبل.

إن فيلم الجبل للمُخرج خليل شوقي في تجربته الإخراجية الروائية الأولى يُعد من الأفلام المُهمة في حقبة الستينيات التي حاولت تحويل الأعمال الروائية إلى أعمال سينمائية، كما لا ننكر أن الفيلم كان من الإتقان الذي جعله يحول الرواية إلى فيلم جيد بالنسبة إلى الحقبة الزمنية التي تم إنتاج الفيلم فيها، لكننا لا يمكن لنا غض النظر عن التشابهات الكبيرة بينه وبين فيلم المُومياء للمُخرج شادي عبد السلام؛ مما يؤكد على أن فيلم الجبل كان هو الإرهاصة الأولى التي مهدت لفيلم شادي عبد السلام الذي كان أكثر إتقانا فنيا من الفيلم الذي سبقه، أو الفيلم التأسيسي له.

 

محمود الغيطاني

مجلة مصر المحروسة

عدد مارس 2023م.

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق