الأربعاء، 15 مارس 2023

أيام الجموح: الزمن بمثابته منفى!

في الفيلم الصيني Days of being Wild أيام الجموح للمخرج الصيني Wong Kar- Wai وونج كار واي ثمة مأزق عاطفي يدفع إليه المخرج جميع شخصيات فيلمه، حتى أنها تقع أسيرة لهذا المأزق غير قادرة على الخروج منه، وكأنه المأزق الوجودي بالنسبة لهم جميعا؛ لكن رغم هذه العلائق العاطفية التي يدفع إليها المخرج شخصياته للانغماس فيها إلا أننا نلاحظ الكثير من الأسى والوحدة القاسية التي يعانون منها، وهي الوحدة التي تكاد أن تدفع بهم إلى الجنون، والشعور بمدى اتساع العالم من حولهم وضآلتهم أمام هذا العالم!

ربما كان أهم ما نلاحظه في الفيلم منذ الوهلة الأولى أن المخرج هنا لا يعتمد على قصة متنامية تتصاعد فيها الأحداث بالمُشاهد إلى قمة تناميها وتوترها ليكون الحل الفني في نهايتها، أو باعتماده على تراكم المَشاهد؛ كي تكون في النهاية الذروة التي هي الحل الفني للفيلم، بل هو يعتمد على ما يجوز لنا وصفه "باللاقصة"؛ حيث اعتمد المخرج على المشاهد المتجاورة، والقصص المتوازية لشخصياته السينمائية والتي لا تكتمل جميعها في نهاية الأمر، بل تظل نهاياتها مفتوحة على الفراغ، أي أنه اعتمد القصص والحكايات المبتورة لشخصياته في شكل من البناء الفلسفي والجمالي والبصري المبني في الفراغ، أو في متاهة مدينة لها خصوصيتها الثقافية التي تشعرك بالوحشة والوحدة مثل مدينة هونج كونج- المدينة المُحايدة بين الثقافتين الصينية والإنجليزية، والتي تتمتع بحكمها الذاتي وثقافتها المُختلفة عن الصين منذ رحيل الإنجليز عنها وانضمامها للصين- واكتفى بتصوير الأحداث اليومية فيها والتي قد تتقاطع مع بعضها البعض.

يبدأ الفيلم في مشاهد ما قبل التيترات Avant Titre على مشهد "يودي" الذي أدى دوره ببراعة الممثل الصيني Leslie Cheung ليزلي تشانج يسير في أحد الممرات المُظلمة ليعرج على أحد أكشاك بيع المرطبات ويتناول زجاجة من الكوكاكولا ثم يسأل البائعة بثقة وعدم اكتراث عن اسمها، لكنها ترد عليه بدهشة وعدم اهتمام: ولماذا قد أخبرك؟! إلا أنه يجيبها بكل ثقة: إنه يعرف اسمها ويخبرها به، ثم يؤكد لها أنها ستراه الليلة في أحلامها ويتركها منصرفا، ثم يكون المشهد التالي مباشرة ليودي يعبر نفس الممر المظلم ليعرج على كشك المرطبات كما رأينا تماما في المشهد الأول، ويتناول زجاجة من الكوكاكولا بنفس الثقة واللامبالاة لتخبره الفتاة المرهقة أنها لم تره في نومها؛ فيرد عليها ساخرا: لأنك لم تحاولي النوم، أي أنها امتنعت عن النوم حتى لا تراه بالفعل في أحلامها، وسرعان ما ينتقل المخرج إلى مشهده الثالث مباشرة ليودي يعبر نفس الممر في نفس التوقيت الليلي ليعرج على الكشك، وفي هذه المرة يؤكد للفتاة أنها قد رأته بالفعل في نومها، وحينما تسأله: ماذا يريد منها؟ يخبرها أنه يريد أن يكونا أصدقاء، لكنها حينما ترفض يطلب منها أن تنظر في ساعته لمجرد دقيقة واحدة، وبعد انتهاء هذه الدقيقة يسألها عن تاريخ اليوم، ويقول بثبات واثق في 16 إبريل 1960م الساعة الثالثة إلا دقيقة كنا هنا معا، سأتذكر دائما تلك الدقيقة بسببك، من الآن فصاعدا نحن أصدقاء الدقيقة الواحدة، هذه حقيقة لا يمكن إنكارها؛ فقد حدثت، وهو ما يدفع الفتاة إلى التساؤل بينها وبين نفسها: هل سيتذكر هذه الدقيقة بسببي، لا أعلم، لكني تذكرته.


إذا ما توقفنا هنيهة أمام هذه المشاهد الثلاثة المتتالية بسرعة ورشاقة وتوتر للاحظنا العديد من المُلاحظات التي يتميز بها أسلوب وونج واي السينمائي: أولها أن المخرج قد حدد بإيجاز الزمن الذي تدور فيه أحداث فيلمه من خلال الحوار وهو عام 1960م، وثانيها، وهو الأهم، الاختزال البصري والابتعاد عن الثرثرة، وربما التأكيد على التكرار الزمني في سيميترية منتظمة، وهو ما جعل المخرج يحرص على تكرار المشهد الأول لثلاث مرات متتالية مع التركيز دائما على مشهد الساعة المُعلقة على الحائط، أو ساعة يده مع سماع صوت عقرب الثواني الذي كان ينافس صوت الممثلين، وهو ما يُدلل ويؤكد لنا على أهمية دور الزمن في عالم وونج السينمائي؛ الأمر الذي سيجعله طوال أحداث الفيلم مهتما بالتركيز على الساعات وصوت عقارب الساعة الذي لن يتركنا حتى نهاية فيلمه، أي أن المخرج يرغب في التأكيد على أثر الزمن في العلاقات والسلوك بين البشر وبعضهم البعض، وكأنما الزمن هو المُحرك الأساس والجوهري لعلاقات البشر. نقول: إن المخرج من خلال هذه المشاهد الثلاثة المتتالية نجح في اختزال الكثير من الوقت السينمائي ووضح لنا كيفية نشوء علاقة بين يودي و سو لي تشن- قامت بدورها الممثلة الإنجليزية الجنسية الصينية الأصل Maggie Cheung ماجي تشانج- من دون أي تزيدات أو ثرثرات.


ربما نلاحظ،هنا، أن المخرج يحرص، بشكل دقيق، على التركيز على الجانب السيكولوجي لشخصياته بشكل لافت، لا سيما شخصية يودي اللامكترث- فالثقة واللامبالاة المفرطتين اللتين يشعر بهما ويتعامل من خلالهما مع كل ما يحيط بحياته لا سيما النساء هما السبب في انجذاب النساء إليه؛ بل ويجعلهن أسيرات لعالمه بشكل فيه الكثير من الإهانة والاستسلام الكامل لرغباته الأنانية التي لا يرى فيها سوى نفسه فقط؛ فهو حينما أكد لسو لي تشن أنها ستراه تلك الليلة في أحلامها رغم عدم معرفتهما لبعضهما البعض نلاحظ أنها تحرص على عدم النوم؛ لثقتها في أنها بالفعل من الممكن لها أن تراه. هذه الثقة أو اليقين من جانبها بأنه صادق فيما قاله لها تأتي من ثقته هو في نفسه أثناء حديثه إليها وكأنه يخبرها بحقيقة لا مناص منها، أي أنه لعب على الجانب النفسي لديها، الأمر الذي جعلها تراه بالفعل حينما نامت؛ نظرا لتهيؤها النفسي لذلك. هذا السحر في شخصية يودي الواثقة اللامبالية الشاعرة بالسأم إلى حد بعيد من كل ما يدور في حياته هو ما كان يجذب إليه النساء مهما كان تعامله معهن شديد الفظاظة وفيه الكثير من الإهانة لهن، لكنهن يكن قد وقعن في شرك العاطفة التي لا يستطعن الخروج منها فيما بعد بسهولة، وهذا ما نقصده بالمأزق العاطفي في الفيلم، ليس بالنسبة للنساء فقط، بل لجميع شخصياته حتى الرجال؛ فالجميع في مأزق عاطفي لا يمكن الفكاك منه.


هذا المأزق هو ما يوضحه المخرج ببساطة في المشهد التالي لنزول التيترات حينما نشاهد كل من يودي وسو في الفراش لتسأله: كم من الوقت قد مر منذ تعارفنا؛ فيرد بلامبالاة وسأم: وقت طويل، لقد نسيت. هنا تسأله: هل يوافق على الزواج منها، إلا أنه يجيب بالرفض؛ الأمر الذي يجعلها ترتدي ملابسها وتخبره بأنها لن تعود إليه مرة أخرى، فما كان منه إلا أن اتجه بهدوء باتجاه المرآة مُعطيا لها ظهره ليصفف شعره صامتا غير مبدٍ لأي رد فعل إلى أن تخرج!

هذا الافتتان بالذات الذي نلاحظه لدى يودي سنراه غير مرة طوال مشاهد الفيلم؛ فحينما تهاتفه خادمة أمه وتخبره بأنها قد وقعت مُغشيا عليها بعدما أفرطت في تناول الكحول، يعرف أنها على علاقة بشاب يصغرها كثيرا وأنه يسرقها؛ فيذهب إليه ويوسعه ضربا ليأخذ منه قرطيها اللذين سرقهما، وبمجرد ما ينتهي من ضربه ويخبره أنه سيقتله إذا ما عرف أنه قد عاد لعلاقته مع أمه مرة أخرى نراه يقف أمام المرآة وكأنه لم يفعل شيئا مهتما بتصفيف شعره. إن هذه الشخصية التي لديها هوسا بشكلها الظاهري تفسر لنا سلوكه اللامبال مع كل ما يحيطه؛ فهي شخصية ترى العالم من خلال ذاتها فقط وكأنها مركز الكون الذي يدور في فلكها، وربما كان هذا هو السبب الذي جذب إليه ميمي لولو- قامت بدورها الممثلة الكندية الجنسية الصينية الأصل Carina Lau كارينا لاو- راقصة الملهى التي رأته يضرب عشيق أمه ثم يخرج للعناية بمظهر شعره وترتيبه.


تطمع ميمي لولو في القرطين اللذين نسيهما يودي وخرج، لكنه عاد مرة أخرى وأخذهما منها إلا أنه يتوقف قبل الخروج ويعطيها قرطا منهما ويخرج؛ الأمر الذي يجعلها تلحقه لتسأله عن القرط الثاني؛ فيخبرها بثقة أنه سينتظرها في الأسفل. هذا الأسلوب المُفرط في الثقة يجعلها بالفعل تتبعه للأسفل وتركب معه سيارته، وحينما يتوقف بها تسأله: أين نحن؟ فيجيبها بأنهما أمام منزله، فتقول له أنها لا تذكر بأنها واقفت على الذهاب معه إلى منزله، لكنه يخبرها بأنها لم تذكر العكس أيضا، ليهبط من السيارة ويتجه إلى مدخل المنزل الأمر الذي يجعلها تتبعه إلى الأعلى.

علنا نلاحظ المعاملة الفظة الواثقة الممتزجة بالكثير من السأم التي يتعامل بها يودي مع الجميع، وهو ما نراه مرة أخرى في تعامله مع ميمي لولو حينما تصعد معه وتسأله: لم هذه الغرفة فارغة؟ فيرد عليها: أنت تحبين التطفل بمنازل الآخرين، ورغم هذا الأسلوب المُهين فهو يحاول الإيقاع بها مثلما سبق له أن فعل من قبل مع سو من خلال حيلة الساعة التي نظرت فيها لمدة دقيقة، لكنه هنا يجذبها ميمي ويحاول تقبيلها إلا أنها تزم شفتيها؛ فيضغط على أنفها قائلا: لنر كم من الوقت بإمكانك عدم التنفس، الأمر الذي يجعلها في نهاية الأمر تستسلم له ولقبلته، ومن هنا تبدأ علاقتيهما.


يصعد صديق يودي إلى شقته من خلال الشرفة ليفاجأ بأنه مع ميمي لولو التي تجذب انتباهه، لكنه يعتذر وينصرف وقد علقت الفتاة بذهنه. وينتظرها حتى الصباح ويتعارف عليها، لكنها تحذره من أن يقع في حبها حينما تلمح ذلك في عينيه.

نعرف من خلال المشاهد المتتالية أن ريبيكا أم يودي- أدت دورها الممثلة الصينية Rebecca Pan ريبيكا بان- ليست أمه بالفعل بل كانت مومسا قديمة قد تبنت يودي من أمه الفلبينية؛ لتحصل على خمسين دولارا كل يوم نظير رعايتها له، بعدما اتضح لها أن أمه الحقيقية غير راغبة فيه، لكنها حينما أخبرته بالحقيقة لم تخبره بها كاملة، بل بنصفها فقط رافضة إخباره بأمه الحقيقية حتى لا يتركها ويرحل إلى الفلبين، ولعل هذه المعلومة كانت من الأهمية ما يجعلنا نفسر كثيرا سلوك يودي تجاه العالم وكل من يحيط به؛ حيث اللامبالاة والسأم اللذين يحيا من خلالهما، بل ويفسر لنا طريقة تعامله مع أمه- السيدة التي قامت بتربيته ورعايته- ريبيكا.


تشعر سو لي تشن بوحدة قاتلة بعدما تهجر يودي، ولا تستطيع التغلب على مشاعرها تجاهه؛ فتذهب كل يوم للجلوس أمام منزله علها تقابله بالمصادفة، لكن الشرطي الليلي "تايد"- أدى دوره الممثل الصيني Andy Lau أندي لاو- يلاحظها ويسألها عن سبب تواجدها، وحينما تخبره بأنها في انتظار صديقها يصعد الشرطي ويخبره بأن ثمة فتاة في الأسفل تدعي بأنها صديقته، ولا بد له من الهبوط معه للتأكد. حينما يراها يودي يسألها ببرود عن السبب في عودتها؛ فتخبره بأنها قد عادت لأخذ متعلقاتها الشخصية، ثم تخبره بأنها راغبة في العودة إليه مرة أخرى، لكنه يرفض مؤكدا لها أنه غير صالح لها، وأنه رجل لا يتزوج، إلا أنها توافق على البقاء معه منحية فكرة زواجهما من ذهنها؛ الأمر الذي يجعله يرفض تواجدها ويطلب منها الانتظار بالخارج لحين جمع متعلقاتها. هنا تسأله سو لي: هل سبق لك أن أحببتني بصدق؟ فيرد: لا أستطيع معرفة عدد النساء اللاتي سأقع في حبهن في حياتي، لن أعرف من هي أكثر من أحببت منهن حتى نهاية حياتي، ثم يدخل لجمع حاجياتها؛ الأمر الذي يجعل ميمي لولو تثور حينما يطلب منها خلع حذاء المنزل الذي في قدميها لأنه لا يخصها، وهنا تصعد سو لي لتراها وتنصرف، وتصر ميمي لولو بأنه ملكها وحدها ولن تتخلى عنه لأي فتاة أخرى مهما كانت رغم معاملته الفظة معها.


ربما كانت هذه الطريقة من الفظاظة المُبالغ فيها، والتي تعامل بها يودي مع سو لي كفيلة بأن تجعلها تكرهه وتبتعد عنه، إلا أننا نلاحظ أنها تظل بالأسفل لا تنصرف وتظل منتظرة باكية، وحينما يسألها الشرطي عن السبب في عدم انصرافها تخبره أنها في حاجة للنقود كي تستقل تاكسيا فيمنحها المال. تعود سو لي في ليلة أخرى إلى أسفل المنزل لتعطي الشرطي المال الذي اقترضته منه، لكنها تكون غير راغبة في الانصراف، وتطلب منه أن تتحدث معه ويستمع إليها؛ لأنها تشعر بأنها ستجن إن لم تتحدث مع أحد. هنا يبدآن في التسكع في شوارع هونج كونج الفارغة من البشر ليلا لتحكي له ما تشعر به من آلام بسبب حبها ليودي، كما تخبره بأنها تشعر بالحنين في العودة إلى الصين؛ فمدينة هونج كونج قاسية، ويخبرها بأنه لم يشعر بالفقر من قبل إلا حينما دخل المدرسة  حيث كان زملاؤه يرتدون زيا جديدا كل عام بينما لا يجد سوى زيه الوحيد الذي يرتديه كل عام، كما أنه كان يحلم بأن يكون بحارا، ولكن صحة أمه لم تكن جيدة، ولم يكن هناك غيره للعناية بها؛ فاضطر للبقاء والعمل كشرطي. يشعر كل منهما بالارتياح حينما يتحدثان لبعضهما البعض، ويخبرها في نهاية الليلة أن تعود إليه إذا ما شعرت بالاحتياج إلى من تتحدث معه، لكنها تخبره بأنها لا ترغب في مقاطعته أثناء عمله؛ فيخبرها بأن تهاتفه على التليفون العمومي في أي ليلة في نفس هذا الوقت حيث يكون موجودا، كما ينصحها باتخاذ قرار الابتعاد عن يودي لتستريح في حياتها، أو أن تصعد إليه وتخبره بأنها لا تستطيع الحياة من دونه.


يعلم يودي من والدته ريبيكا أنها قد ارتبطت برجل وستسافر معه إلى أمريكا، وتطلب منه أن يرافقها في السفر حتى لا تتركه، لكنه يرفض، ويخبرها بأنها قد احتجزته معها طوال حياتها ولم ترغب في إخباره عن أمه الحقيقية حتى لا يرحل ويتركها، وليس من حقها الآن أن ترحل وتتركه؛ فتخبره بأنها ستترك له المنزل وترسل له أموالا كل شهر؛ إلا أنه يرفض ذلك، ويتعامل معها بطريقة فظة؛ الأمر الذي يجعلها تخبره بالحقيقة كاملة عن أمه الفلبينية؛ فيبدأ في الاستعداد للسفر إليها. يقابل يودي صديقه ويمنحه مفاتيح سيارته، وشقته، ويطلب منه إخبار ميمي لولو أنه قد رحل إلى الفلبين، بل ويخبره بأنه يعرف حبه لميمي لولو، وأنه قد تركها له. وحينما تعرف ميمي برحيل يودي تشعر بالغضب والألم الشديدين، وتبدأ في البحث عنه في كل مكان لتتأكد فيما بعد أنه قد رحل بالفعل إلى الفلبين، ويحاول صديقه أن يتقرب منها إلا أنها تنهره وتؤكد له أنها لن تكون له، وأنها قد حذرته من قبل من الوقوع في حبها؛ فيحاول أن ينالها بصفعه لها محاولا اتباع طريقة يودي في التعامل مع النساء لكنها تتركه مؤكدة له أنها راغبة في الذهاب إلى الفلبين خلف يودي.


يبيع الرجل السيارة ويذهب إليها مانحا إياها المال كي تسافر إلى الفلبين خلف يودي، ويطلب منها العودة إليه إذا لم تجده. يسافر يودي إلى أمه لكنها ترفض أن تقابله، فيبقى في الحي الصيني في الفلبين غير راغب في العودة إلى هونج كونج التي تشعره بالسأم والوحدة والخواء، وهناك يقابله تايد/ الشرطي حيث يجده في أحد الشوارع ليلا وقد وقع على الأرض غير شاعر بنفسه بعد الإفراط في تناول الخمور؛ فيأخذه تايد معه إلى غرفته في الفندق. حينما يفيق يودي لا يتذكر أنه قابل تايد من قبل، ولا ينتبه إلى أنه الشرطي الليلي الذي كان يعمل في منطقة سكنه؛ فيسأله عن عمله، ويخبره تايد أنه يعمل بحارا، وأنه سيبقى في المدينة لعدة أيام لحين تفريغ السفينة، وقد كان يعمل شرطيا من قبل. يبقى يودي في غرفة تايد حتى الصباح ليذهبا معا إلى محطة القطار، وهناك يقابل يودي أحد رجال العصابات الذي اتفق معه على أن يجهز له جواز سفر أمريكيا وحينما طلب من يودي المُقابل يطعنه يودي ويحاول الهرب إلا أن رجاله يحاولون قتله فينقذه تايد بقتله لعدة رجال منهم بمسدسه الخاص، ثم يهربان في القطار.

يلوم تايد يودي على تعريض حياتهما للخطر، وحينما يذهب إلى عربة أخرى ليسأل أحد رجال الشرطة عن الوقت الباقي للوصول إلى المحطة التالية يعود ليجد يودي مقتولا من قبل أحد رجال العصابة الذي اقتفى أثرهما.


يستمر المخرج وونج كار واي في متابعة باقي شخصياته، فنرى ميمي لولو قد سافرت إلى الفلبين ونزلت في الحي الصيني بحثا عن يودي، وسو لي تشن التي تبيع تذاكر إحدى المباريات ثم تغلق شباك التذاكر في نهاية الليلة وحيدة، ثم اتصالها بالهاتف الثابت أمام بيت يودي لمحاولة الحديث مع تايد الذي لم يعد يعمل شرطيا واختار أن يكون بحارا متنقلا في كل مكان وسافر إلى الفلبين، لينتهي الفيلم على غرق الجميع في وحدة مُكتملة غرقت فيها جميع الشخصيات.

إن الشعور العميق والقاتل بالوحدة القاسية هو ما يجعل جميع شخصيات الفيلم في حاجة إلى بعضها البعض، ومحاولة التمسك بعلائقها رغم قسوتها، وربما تقبل الكثير من الإهانة والإساءة؛ فسو لي تشن قد عادت إلى يودي رغم عدم اكتراثه بها، ورفضه الزواج منها نتيجة شعورها بوحدتها العميقة التي جعلتها تتخلى عن فكرة زواجه منها، وميمي لولو تقبلت من يودي كل إهاناته اللفظية والجسدية وقسوته؛ لأنها لا تستطيع أن تكون وحدها، بل حينما رأته ذات مرة في مزاج سيئ عرضت عليه- رغم فقرها الشديد- أن تعيله من خلال عملها كراقصة في الملهى الشرقي؛ فالأهم لديها هو سعادته التي تجعله في مزاج متزن معها، وتنتشلها من الوحدة، وتايد الشرطي يعيش وحيدا في شوارع هونج كونج ليلا لديه شعور عميق بنفس الأمر؛ لذلك نراه يتجول في الطرقات الخالية مع سو لي ليؤانس كل منهما الآخر، فضلا عن صديق يودي الواقع في عشق ميمي لولو التي ترفضه ولا تستطيع الخروج من فلك عشقها ليودي، حتى أمه ريبيكا يدفعها الشعور القاسي بالوحدة إلى مُصادقة الشباب الصغار والدخول معهم في علاقات هربا من شعورها رغم إدراكها بأنهم يدخلون حياتها من أجل مالها فقط، كذلك فإن عدم رغبتها طوال حياتها في إخبار يودي عن أمه الحقيقية كان بسبب عدم احتمال رحيله إلى الفلبين وتركها وحيدة، هذا الشعور هو ما يجعل سو لي تقول لتيد: إن لم أقل ما بداخلي سأجن، حتى يودي نفسه يشعر بالكثير من الوحدة القاتلة التي تعمل على نهشه نفسيا رغم وجود الكثير من الشخصيات من حوله، وهي الشخصيات التي تقع في أسره وحبه والرغبة في الارتباط به، لكن رغم كل ذلك فشعور الوحدة القاتل داخله لعدم معرفته بأمه الحقيقية يكاد أن يقتله، أي أننا أمام مجموعة كبيرة من الشخصيات المشوهة نفسيا نتيجة شعورهم العميق والقاسي بالوحدة في مدينة هونج كونج.

المخرج الصيني وونج كار واي

هذه الرغبة في التعبير عن الوحشة العميقة التي تسود مدينة هونج كونج- مدينة المخرج- نجح المخرج في نقلها ليس من خلال شخصياته فقط، بل من خلال التصوير الذكي في كل مشاهده؛ فالمتأمل للفيلم سيجد أن جميع المشاهد التي تم تصويرها في هونج كونج- وهي المشاهد التي استمرت حوالي السبعين دقيقة من مدة الفيلم التي بلغت 100 دقيقة- كانت كلها مشاهد ليلية تميل للقتامة المُعبرة عن الاكتئاب الشديد، فضلا عن تصويره دائما لجميع شوارعها فارغة تماما، خالية من البشر، وكأنه يريد التأكيد على وحشية مدينة هونج كونج التي تعمل على تآكل البشر داخلها، فضلا عن تركيزه الدائم على الوقت من خلال معظم مشاهده التي تركز على الساعات وصوت عقارب الساعة العالية التي تبدو لنا كالضجيج في تأكيد منه على أن المدينة والزمن يلعبان دورا مهما في تشكيل السلوك الإنساني للبشر تجاه بعضهم البعض.

كما لا يمكن تجاهل الدور الجوهري للتصوير الذي أكد على أسلوبية المخرج وونج كار واي من خلال كاميرا المصور الأسترالي Christopher Doyle كريستوفر دويل الذي كان يعبر عن فلسفة وأسلوبية المخرج بشكل زكي، سواء من خلال نقل وجهة نظره، أو من خلال الكاميرا المحمولة التي كان يستخدمها في مكانها الصحيح لا سيما في مشهد يودي حينما رفضت أمه الفلبينية أن تقابله وابتعد عن المنزل غاضبا؛ حيث كان التصوير بالكاميرا المحمولة التي تشعر المشاهد بالغضب الشديد والتوتر أثناء انصرافه، أو المشهد الذي رأينا فيه الكاميرا تصعد على سلالم محطة القطار في الفلبين، ثم دخولها إلى المطعم؛ حيث نشعر هنا بأن الكاميرا كائن حي قادر على نقل وجهة نظره بنفسه، وليس وجهة نظر الممثلين أو المخرج، بل إن الكاميرا هنا تشعر، وتتحرك، وتتصرف، وربما تقول رأيها أيضا؛ مما يُدلل على الاختيار الذكي من المخرج لمصور بارع قادر على نقل ما يرغبه المخرج نفسه، ولعل التأمل المُتمهل لأحداث الفيلم يجعلنا ننتبه إلى أن الكثير من المشاهد ظهرت فيها الشخصيات كلها تقريبا من خلف سياج حديدي أو ما يشبهه؛ للدلالة على معاناتها النفسية جميعا وشعورهم بأنهم داخل سجن نفسي قاتل ربما هو الوقت، أو الشعور بالوحدة؛ مما يُدلل على أن المصور كان يدرك جيدا ما يفعله وكيفية تحريك الكاميرا وتكوين المشهد بناء على ما رغبة المخرج.

الممثل الصيني آندي لاو

لعل البطل الحقيقي في هذا الفيلم الجيد- الذي توافرت له كل أسباب التميز سواء على مستوى الإخراج أو التمثيل، أو التصوير، أو المونتاج- هو الموسيقى التصويرية للموسيقي Terry Chan تيري تشان الذي ألف موسيقى بقيت في الذهن لفترة طويلة بشكل أقرب إلى السيمفونية التي تتميز بالكثير من الشجن.

لكن، رغم أن المخرج الصيني وونج كار واي قد ترك جميع شخصياته معلقين في الفراغ، ولم يهتم بإكمال أو إغلاق أي حكاية من حكاياتهم سوى يودي الذي قُتل في القطار، مما قد يصيب المشاهد بالكثير من الدهشة لهذه الحكايات البائسة غير المكتملة، ولهذه الأسلوبية غير المعتادة بالنسبة للمشاهد العادي، إلا أننا نلاحظ أن مشهد النهاية- رغم أنه قد يبدو متزيدا ولا علاقة له بالفيلم- من الأهمية بمكان ما يجعلنا ننتبه إليه ويلفت انتباهنا؛ فبعدما قُتل يودي في القطار، وسافرت ميمي لولو إلى الفلبين للبحث عنه، وأغلقت سو لي تشن شباك التذاكر وحاولت الاتصال بتايد للحديث معه، وبقي صديق يودي منتظرا عودة ميمي لولو إلى هونج كونج، واستعداد الأم ريبيكا للسفر إلى أمريكا مع صديقها اعتقدنا أن الفيلم بالفعل قد انتهى على ذلك، إلا أننا نُفاجأ بالمخرج قد أضاف إليه مشهدا جديدا لم يكتمل أيضا ولن يكتمل أبدا في هذا الفيلم؛ حيث نرى إحدى الشخصيات التي لم تظهر في الفيلم من قبل وقد ارتدى بدلة فاخرة، ويستعد للخروج في سهرة أشبه بالمقامرة؛ حيث يضع الكثير من علب السجائر في جيبه، والأكثر من الأموال، وورق اللعب، ويقف أمام المرآة لتمشيط شعره والعناية به- تماما كما كان يفعل يودي- ثم ينتهي الفيلم على هذا المشهد، ولكن إذا ما تابعنا السينما التي يقدمها وونج كار واي، وعرفنا فيما بعد أن هذا الفيلم كان بداية لثلاثيته التي قدمها، والتي كان الجزء الثاني منها فيلم In the Mood for Love مزاج للحب 2000م، ثم فيلمه الأجمل 2046 عام 2004م؛ سنفهم أن هذا المشهد الختامي كان امتدادا لما سيأتي فيما بعد من أفلام تعمل على استكمال هذا العالم الساحر الذي بدأه.

 

محمود الغيطاني

مجلة نقد 21

عدد مارس 2023م.

من كتاب "سينما المشاعر المُنتهية الصلاحية" للمُؤلف

 

 

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق