الخميس، 17 فبراير 2022

سبقها إليه.. تنويعات قصصية على عالم فقير!

ما الذي يعنيه فقر العالم الإبداعي الذي يلجأ إليه الكاتب من أجل بناء عالمه السردي- الروائي منه أو القصصي؟

إنه يعني أن السارد هنا إنما يُقيد ذاته وخياله ومُفرداته وشخصياته في عالم ضيق لا آفاق خيالية فيه؛ الأمر الذي يجعله حبيس هذا العالم الذي لا يستطيع الخروج من إطاره؛ ومن ثم يكون كل ما يكتبه مجرد تنويعات تكاد أن تكون مُتشابهة- إن لم تتطابق- مع بعضها البعض، فتظهر لنا قصصه ورواياته في نهاية الأمر وكأنها قصة واحدة، أو رواية واحدة وإن حاول الكاتب عرضها من جميع زواياها باختلاف الرؤية ووجهة النظر التي ينظر منها، لكنه في هذا الاختلاف البسيط- من حيث الزوايا- لا يقدم لنا جديدا بقدر ما يحاول الكتابة فقط، لكنه لا يجد من حوله ما هو جديد من أجل تقديمه؛ فيسعى إلى ما سبق أن تأمله من قبل وقدمه، ليعيد فيه التأمل والتقديم مرة أخرى؛ الأمر الذي يجعل الكاتب هنا يُكرر نفسه مرات مُتتالية، غير قادر على الخروج من أسر عالمه الذي بات فقيرا مُفتقرا للخيال والتجديد؛ نتيجة وقوفه في محله غير قادر على إطلاق العنان لخياله الذي هو في حقيقة الأمر أسير لأفكار واحدة تتكرر بتكرر عميلة الكتابة. إن هذا العالم الذي يمتح منه الكاتب دائما قصصه يمكن أن نُطلق عليه: العالم الفقير- إذا جاز لنا التعبير- لأنه هنا لا يمكن له أن يقدم لنا جديدا؛ وهو ما سيدفعنا دائما كلما قرأنا للكاتب قصة جديدة إلى القول: إنها لا تختلف كثيرا عن القصة السابقة، أي أن الكاتب يُعيد سرد نفسه، ونفس شخوصه، ونفس أفكاره مُستخدما نفس الآليات والأدوات عدة مرات من دون اللجوء إلى ما هو جديد.

هذه الأفكار السابقة لا بد لها أن تنثال على ذهن من يقرأ المجموعة القصصية "سبقها إليه" للقاصة نهلة عبد السلام، وهي القصص التي تجعلنا كلما انتقلنا من قصة إلى أخرى لا نجد فيها الكثير من الاختلاف عما قرأناه في القصة السابقة اللهم إلا في العنوان وبعض التفاصيل والشخصيات- التي تكاد أن تكون واحدة في أفكارها وآرائها وردود أفعالها- أي أن القاصة هنا حريصة على طول مجموعتها التي بلغت 275 صفحة، قدمت فيها 25 قصة على تكرار نفسها بشكل غريب كان من الأدعى لها فيه أن تختصره إلى ما دون النصف؛ لعدم الإفادة فيما تكتبه!

ربما كان من اللافت للنظر في هذه المجموعة ما فعلته الكاتبة في افتتاحيتها، أو في الصفحات الأولى منها؛ فقبل قراءة أي قصة من قصصها سنلاحظ وجود صفحة بعنوان "مُقدمة"! وهو الأمر الذي لا بد له أن يثير الكثير من دهشتنا؛ فمنذ متى بات من المُمكن لنا كتابة مُقدمة للأعمال الروائية أو القصصية؟ وما الذي يمكن لنا أن نقوله في مُقدمة لعمل أدبي سردي؟! هل سنقول للقارئ كيف كانت كتابتنا له، أم ما هي المُعاناة التي عانيناها ككتاب من أجل خروج هذا العمل، أم ستكون المُقدمة بمثابة المُذكرة التفسيرية للعمل- تماما كما يكون في القوانين التي هي في حاجة إلى المُذكرات التفسيرية من أجل شرحها؟! إن حرص أحد الكتاب على أن تكون ثمة مُقدمة يكتبها لعمله الإبداعي هو بمثابة الهراء الذي لا يمكن أن يؤدي إلا إلى المزيد من الهراء؛ لأن الكاتب لا يمكن له أن يقدم للقارئ أي شيء في مُقدمته التي سيكتبها لعمله الإبداعي؛ لذلك فالأمر يكون مُثيرا للكثير من الدهشة حينما نمسك رواية أو مجموعة قصصية يحرص الكاتب فيها على أن يكتب لها مُقدمة ما.

إذا ما انتقلنا إلى قراءة ما أطلقت عليه القاصة "مُقدمة"؛ سيتأكد لنا ما سبق أن قلناه الآن حينما نقرأ: "إلتقيا.. إفترقا.. في أول المشوار.. منتصفه.. اخره.. وما بين البداية والنهاية سطور أبدا لم تكن لتتشابه.. فلكل ظروفه وملابساته.. وبرغم الريش المقصوص والجناح المكسور.. إلا إننا مازلنا قادرات على التحليق.. فوق أكوام الرماد.. تلك التى خلفتها حرائق الهزائم والخيبات.. على الطيران.. إلى أرض جديدة.. مُحرم على الخوف أن يطأها.. على اليأس أن يسكنها.. فقط الطمأنينة والأمل. لكل من ضاقت عليها الأرض بما رحبت.. في السماء مُتسع لكل الحالمات.. الطموحات.. المتألقات.. فهذا ما يليق بالنجمات. لكل من صادف وألتقيتها.. ربما تشبهك أحداهن".

مع تأمل هذا الحديث الذي أطلقت عليه كاتبته مُقدمة، وهو الحديث الذي حرصنا على نقله كما كتبته الكاتبة تماما في كتابها من دون تصحيح أي خطأ فيه؛ لهالنا ما قرأناه سواء على مستوى المعنى، أو حتى مستوى اللغة التي كتبت بها الكاتبة. من حيث المعنى لا بد لنا من التساؤل: ما معنى هذا الكلام المهوم في الفراغ؟ وهل من المُمكن لنا الخروج منه بجملة مُفيدة نستطيع من خلالها القول: إن الكاتبة تريد أن ترشد القارئ إلى أمر ما، أو أن توصل له رسالة ما؟! وما الغرض من هذا الكلام الذي لا يمكن لنا القبض عليه نتيجة تسربه من قبضتنا وفهمنا كلما حاولنا؟

إن الكاتبة هنا تكتب كلاما مُفرغا ينبت- فعليا- من الفراغ- ولا يمكن أن يؤدي بنا إلا إلى المزيد من الفراغ الذي امتلأت به نفوسنا حينما قرأناه! ما معنى أن نقول: "التقيا، افترقا، في أول المشوار، منتصفه، آخره، وما بين البداية والنهاية سطور أبدا لم تكن لتتشابه"؟ ألا يبدو لنا الحديث هنا كشخص لديه مشاكل هذيان سيكولوجية؛ ومن ثم فهو غير قادر على القبض على الفكرة أو المُفردة أو حتى المعنى الذي يريد أن يوصله لنا؟! حتى على مستوى السرد إذا ما ذهبنا إلى أن هذا الكلام مُجرد مجاز لغوي في شكل قصصى- وهو ما لم تصرح به الكاتبة، بل صرحت بأنه مُجرد مُقدمة- ولكن دعنا نذهب بعيدا بأن هذه المُقدمة مُجرد مجاز لغوي قد يكون القصد منه هنا قصة ما، فهل من المُمكن قبول هذا الهذيان باعتباره قصة قصيرة، أو مُجرد مجاز؟! بالتأكيد لا، وهنا تتبدى لنا الصدمة التي لا بد للقارئ أن يلاقيها مع الصفحة الأولى للمجموعة، وهي صدمة من الأحرى بها أن تجعل القارئ يغلق المجموعة ولا يستمر في القراءة؛ فإذا ما كانت هذه هي الجمل المُفككة التي لا معنى لها التي تبدأ بها القاصة مجموعتها؛ فبالتأكيد ستكون بقية المجموعة مُجرد محض من الهراء الذي يهوم بنا في الفراغ، والقارئ لا يمتلك- في الواقع- رفاهية التهويم في الفراغ-.

أما على مستوى اللغة- وهو ما جعلنا ننقل الاقتباس بالكامل كما كُتب- فهي لا بد لها أن تُصيب القارئ بالهلع من مستوى لغة الكاتبة التي تجعل من يقرأ يظن بأنها لم تتحصل على الشهادة الابتدائية؛ ومن ثم فهي لا تعرف شيئا من اللغة العربية التي من الحري بها أن تجعلها تكتب بشكل سليم، ولنتأمل مرة أخرى ما كتبته، سنلاحظ أن الكاتبة لا علم لها مُطلقا بمواضع الهمزات، ولا تعرف أن ثمة فارق بين ما نُطلق عليه همزة القطع، وألف الوصل؛ ومن ثم فهي تضع الهمزات أينما يحلو لها، وتحذفها وقتما تظن أنها لا بد لها أن تحذفها، كما لا تعرف الفارق بين ألف المد، والياء المنقوطة؛ فنراها تكتب "التى" بدلا من "التي"، فضلا عن النقطتين المُتجاورتين اللتين تحرص على استخدامهما في كل سردها مُستعيضة بهما عن الفاصلة، ولعلها لم تعلم من قبل أن علامات الترقيم في اللغة العربية، أو أن اللغة العربية بكاملها لا يوجد بها هاتين النقطتين اللتين لا معنى لهما مُطلقا فيها، أي أن الصحيح هو الفصل بين العبارات والجمل بالفاصلة فقط، وليس بالنقطتين المُتجاورتين اللتين لجأت إليهما للفصل بين الكلمات وفي أي موضع منها بشكل مجاني.

إذن، لم لا ننتقل من هذه المُقدمة- التي كانت كحجر عثرة أمامنا يفصل بيننا وبين مجموعتها القصصية- ونقرأ قصتها "أصلان وصورة"؟

في قصة "أصلان وصورة" سنلاحظ أن القاصة تعتمد في بناء قصتها على الحوار المكتوب باللهجة العامية أكثر من اعتمادها على السرد- وهو الأمر الذي سنلاحظه في كل قصص المجموعة- أي أن الحوار بالنسبة للكاتبة هو جوهر القصة في النهاية بينما يتحول السرد القصصي إلى مُجرد هامش بعيدا عن المتن الحواري، وهو ما لا يمكن لنا أن نأخذه على القاصة؛ فكل قاص يمتلك من الحرية التي تجعله يبني مشهده القصصي بالكيفية التي يراها مُناسبة له، وأكثرها فنية، لكننا سنلاحظ أن اعتماد القصة على الحوار المكتوب باللهجة العامية قد انزلق بالعمل القصصي في النهاية إلى العادية والمجانية سواء على المستوى الفني، أو على مستوى اللغة التي لا تحمل أي شكل من أشكال الجماليات أو الإيحاءات، أو الإحالات- فضلا عن الجرائم اللغوية التي ترتكبها القاصة؛ نظرا لعدم إجادتها للغة العربية ولا حتى العامية- صحيح أن العمل نراه في النهاية- على مستوى الشكل- بناء قصصيا لا يمكن إنكاره، لكنه مُجرد بناء قصصي شديد الفقر على كل المستويات، ولا يمكن له أن يمنح صاحبته أي ميزة فنية أو جودة، بل يمر علينا كمشهد عادي، أو مقطع من مقاطع الحياة التي لا تتميز عن غيرها بأي ميزة من المُمكن لها أن تجعلنا نتوقف أمامها؛ بسبب افتقاده للجماليات الفنية التي تخلو منها قصص الكاتبة.

تتناول الكاتبة هنا ميرا السكرتيرة الحريصة على أن يبدو عملها مُتقنا ومُكتملا من أجل إرضاء صاحب العمل، وهو الرجل الذي فقد زوجته بعدما أنجبت له ابنته زينة، وهي الابنة التي حرص الأب على العناية بها هو وأمه. تشعر ميرا بالكثير من العشق تجاه صاحب العمل، وهو ما يجعلها تهتم- بالضرورة- بابنته وأمه كذلك، حتى أنها تصاحب أمه حينما ترغب في التسوق وتصبر عليها كثيرا لحين شرائها ما ترغب في شرائه؛ مما جعل الأم تميل إلى ميرا وصحبتها، وتشعر تجاهها بالراحة القصوى، ولأن الطفلة زينة كانت مريضة؛ فميرا تتواصل مع الجدة وتطمئن عليها وتضطر إلى الخروج معها في عطلة نهاية الأسبوع هي والصغيرة لمشاهدة أحد الأفلام وتناول الغداء، كما أنها تشتري هدية للصغيرة. تتعامل الصغيرة مع العروس التي تشتريها لها ميرا باعتبارها شقيقتها الصغيرة، وهو ما يجعلها تطلب من أبيها في الصباح أن يقلي لها البيض رغم أنها تحبه مسلوقا؛ لأن شقيقتها- العروس- تفضل البيض مقليا، وهو الأمر الذي يجعله مُندهشا؛ فتؤكد له الأم أن الفتاة في حاجة إلى شقيقة وأنه لا بد له من أن يتزوج من ميرا التي تميل إليه وتراها الأم مُناسبة له!

صحيح أن هذه القصة هي مُجرد مشهد عادي من مشاهد الحياة التي نراها كثيرا في حياتنا، وصحيح أن الفن لا يمكن له أن يولد إلا من رحم المشاهد العادية التي تحدث أمامنا يوميا، لكن الفارق بين الواقع والفن هو الخيال الذي يجعل من العادي والمُعتاد أمرا غير عادي ولا يمكن اعتياده. هذا هو الدور المنوط بالفن، وهو ما يجعل الحياة بالكامل- رغم عاديتها- عبارة عن لوحة فنية ضخمة؛ فنرى فيما هو مُعتاد ما لم نره من قبل، وننظر إليه نظرة مُختلفة، ولكن كي نصل إلى هذه النظرة المُختلفة التي لا يمكن اعتيادها لا بد لنا من امتلاك مجموعة من الأدوات الفنية القادرة على تحويل المُبتذل إلى ما هو فني، والطبيعي إلى ميتافيزيقي، والقبيح إلى جميل، والمؤلم إلى شجن لا بد من تأمله وغير ذلك الكثير. هكذا هو الفن الحقيقي إذا ما امتلكنا أدواته، لكن القاصة هنا لا تمتلك سوى السرد العادي بلغة مبتذلة، فضلا عن حوار جوهري في البناء القصصي وهو حوار شديد الابتذال في لغته التي تستخدمها القاصة، أي أنها لا يمكن لها أن تحيل هذا المشهد العادي والمألوف إلى شكل فني يجعلنا نتوقف أمامه هنيهة، بل سيمر علينا وكأننا لم نره، أو كأنه لم يكن في الأساس، فضلا عن إمكانية تساؤلنا: وماذا بعد؟

لغة الحوار تلك نلاحظها في: "ماما لا، سيبي البيض أن هأقليه. بس زينة بتحبه مسلوق. وجنى بتحبه مقلي. يعني مش بس هنمشي على مزاج زينة دحنا كمان هنشوف مزاج ست جنى. واضح إني آخر شخص يتعرف على جنى في البيت، ما علينا، ماما. نعم. في سؤال محيرني. دا باينه محيرك أوي، اسأل يمكن أجاوبك وأريحك. مش الطبيعي إن زينة تعتبر جنى بنتها مش أختها؟ مهو الطبيعي برضه إنها ما كانتش تتحرم من أمها قبل حتى ما توعى لشكلها، يا ابني مهما أنا وأنت اهتمينا ودلعنا مش هنقدر نملى الفراغ اللي جواها، بنتك حاسة بالوحدة، محتاجة ونس، أخت تلعب معاها مش بنت تلعب بيها. ياريت كان بإيدي أي حاجة كنت عملتها. الحاجة في إيدك، بس خوفك الزايد على زينة واللي ملوش أي مُبرر هو اللي مخليك مش قادر تعمل، مش قادر تخلقلها حياة جديدة، حياة عادية طبيعية. ماما أنتي قصدك...".

إن هذا الاقتباس الحواري الذي سقناه، وهو الاقتباس الذي انتهت به القصة يُدلل على أن لغة الحوار المُستخدمة مجرد لغة عادية ومُبتذلة لا يمكن لها أن تنشئ لنا بناء فنيا، فإذا ما كانت القاصة تعتمد في الأساس على بناء أعمالها القصصية على الحوار في المقام الأول مُستخدمة فيه هذه اللغة؛ فهي لا يمكن لها بالضرورة أن تقدم لنا عملا فنيا مُتميزا من المُمكن له أن يكون لافتا للنظر أو نتوقف أمامه لبعض الوقت، فضلا عن أنها تقع في الخطأ الفني حينما تلجأ إلى التعليق على ما تكتبه كقولها: "انجذبت إليه، ربما لأنه يشبهها إلا أنها كانت تفوقه قدرة على مداراة أحزانها، اختارت قلبها لتودعه إياها، إنه المكان الأكثر أمانا؛ فما من أحد قادر على كشف سر القلوب إلا خالقها"!

ألا يبدو لنا الأمر كحكمة تسوقها الكاتبة لنا ولم يكن ينقصها في ذلك سوى إصدار صوت مص شفاهها تحسرا؟ إن جملة "إنه المكان الأكثر أمانا؛ فما من أحد قادر على كشف سر القلوب إلا خالقها" التي حرصت القاصة على سوقها لم يكن لها أي داع فني أو غير فني؛ فهي بمثابة التعليق على ما سبق، كما لا يفوتنا صوت الحكمة المُستخلصة منها في النهاية.

في قصة "أكثر من وعاء" تتناول القاصة النظرة الاجتماعية التي ترى أن المرأة التي لا تنجب سوى البنات هي امرأة مُذنبة لا أهمية لها؛ ومن ثم يحق للزوج الزواج بأكثر من واحدة غيرها من أجل إنجاب الذكور رغم أن العلم أثبت أن نوع الجنين يتحدد تبعا للرجل، وليس للمرأة في الأمر شيء. تتحدث الكاتبة عن امرأة حامل للمرة الثالثة وتخشى أن يخبرها الطبيب بنوع الجنين؛ حيث أنجبت من قبل أنثيين وتخاف أن يكون المولود الثالث أنثى أيضا بعدما هجرها زوجها بسبب إنجابها لبنتين من قبل. سنعرف أن هذه المرأة/ سحر كانت من أسرة متوسطة الحال؛ الأمر الذي جعل تعليمها أمرا مُستحيلا؛ فلجأت للعمل في إحدى المحال لبيع ملابس الزفاف، وهو المحل الذي يمتلكه رجل طيب متزوج وأب لأربع بنات، لكنه يعجب بسحر ويطلب أن يتزوجها لتنجب له الذكور، كما نعرف أنها كانت مُرتبطة عاطفيا بمُحاسب يعمل في نفس المحل، لكن ظروفه لا تساعده على التقدم لها وخطبتها. تشعر سحر بالتردد في قبول عرض صاحب العمل عليها بالزواج، لكن أسرتها ترى في الأمر الزيجة المُناسبة؛ فترضخ للأمر بعدما تتأكد أن حبيبها لن يخطو أي خطوة مُستقبلية. تتزوج سحر وتعيش في هناءة مع الرجل لكنها حينما تحبل منه في أنثى يبدأ الفتور يدب بينهما، بل إنه يجافيها، ويصبح بخيلا معها سواء على مستوى المشاعر أو مستوى المال، وحينما تلد له أنثى مرة أخرى يقاطعها ويتركها وحدها مع بنتيها ويمنع عنها المال؛ مما يجعلها تبيع الكثير من مصاغها وما تمتلكه، لكنها الآن حامل للمرة الثالثة وترى أنه من المُمكن له أن يطلقها إذا ما أنجبت فتاة مرة أخرى.

لا يمكن إنكار أن القاصة هنا تتناول إحدى القضايا الاجتماعية المُهمة التي تعاني منها المُجتمعات العربية، لكننا إذا ما تأملنا البناء القصصي الذي تناولت من خلاله هذه القضية سنلاحظ أنها لم تقدم لنا فيه أي جديد، أو ما يمكن أن يجعلنا كقراء نتعاطف مع الشخصية المحورية/ سحر، بل هي تقدم لنا مشهدا عاديا شديد الابتذال، وموغل في العادية، أي أنها لم تستعن بالفن للمرة الثانية من أجل انتشال العادية في الحدث وتحويلها إلى موقف فني يستدعي التأمل والتعاطف معه، بل تستخدم لغة الحوار المُبتذلة أيضا في البناء القصصي وهو ما يضعف القصة فضلا عن أن لغة السرد تكاد أن تكون موغلة في العادية أيضا وربما التفكك أحيانا.

تبدأ القاصة قصتها بكتابتها: "مدام سحر، مدام سحر. آه، نعم. دور حضرتك، اتفضلي. بالكاد كانت تبتلع ريقها وهي في انتظار حكم الطبيب، هذا الذي سيحدد مآلها لنعيم مُقيم أو لجحيم لا رحمة فيه، صامت هو يحرك هذا الشيء على بطنها جيئة وذهابا، لا تفهم شيئا مما يظهر على الشاشة، مرت الدقائق ثقيلة، أثقل مما تحمله من هموم، هم أن يحرك شفتيه بالكلام؛ فخيل لها أن قلبها توقف للحظة ولكنه سرعان ما عاد للخفقان في انتظار المزيد من كؤوس العذابات يرشفها واحدا تلو الآخر".

ربما نلاحظ هنا ارتباكا في تركيب هذه الجملة: "بالكاد كانت تبتلع ريقها وهي في انتظار حكم الطبيب، هذا الذي سيحدد مآلها لنعيم مُقيم أو لجحيم لا رحمة فيه"؛ مما يجعلنا نتساءل: لم حرصت الكاتبة على كتابة "هذا الذي سيحدد" وهو الأمر الذي يؤدي إلى ارتباك الجملة وثقلها في حين أن الصحيح هو: "في انتظار حكم الطبيب الذي سيحدد"؟!

ألا نلاحظ هنا عادية السرد الذي لا يحمل من المُفردات الغنية التي يمكنها الإحالة أو الدلالة على أي معنى من المعاني؟ هذه العادية والابتذال نلاحظه بشكل أكبر في الحوار: "طول عمرك رزقك واسع يا بت. لا ما هو باين يا أخويا. لا والله، دا أنتي أمك دعيالك، الحاج سيد طلب إيدك. طلبها يعمل بيها إيه؟ هيعمل كتير، هيصيغها ويريحها مالشيل والحط ويرحمها مالفرد واللم. لا، أنا عاوزة أتعبها. وهي لسة مشبعتش تعب؟ نصيبها بقى واللي ميرضاش بنصيبه الهم يصيبه. يا عيني عالحكم، إلا الآنسة كام سنة؟ تديني كام؟ أديكي للي يقيمك. تاني، دا متجوز وعندة أربع بنات عرايس. وماله! متجوز واحدة يعني فاضله تلاتة. نعم؟! لا مانتي بتلاتة وتلاتين، خلصينا بقى. دا جواز مينفعش يتاخد كدا قفش، سيبني أفكر. برضه حلو، التقل صنعة، وكل ما نتقل نُجبر أكتر".

إذا كان هذا هو مستوى الحوار في القصة، وهو المستوى الذي تستمر عليه الكاتبة حى نهاية قصتها، فهل من المُمكن لها أن تنقل القصة من مستوى عاديتها وابتذالها وتكرارها بشكل يومي إلى المستوى الفني الذي يجعلنا نتأمل ونتعاطف ونفكر؟ بالتأكيد لا؛ فلغة القص في حقيقتها تحمل الكثير من الأهمية والضرورة اللتين تجعلان من القصة شكلا فنيا، كما أن القاصة التي تحرص على المستوى العادي للحدث تستمر فيه حتى النهاية كما تفعل في مُعظم ما قدمته؛ لذلك نقرأ: "قادتها قدماها لمنزل الأسرة، رمقت طفلتيها بنظرة خائفة من غد مجهول، وأب أفقده عقله طول انتظاره لصبي، كانت مع جميع الصغار في مكان أضيق من أن يتسع للهوهم؛ فجلسوا يتبادلون النكات والضحكات بينما يلقين بالنرد على صفحة السلم والثعبان، حتى اللعب يتأرجح بين صعود وهبوط، وحدها هي عالقة ما بين بين، كسرت والدتها صمتها بالحديث: شكلك تعبان يا حبيبتي، اجمدي كدا، بكره تقومي بالسلامة وكل التعب هيروح. بكره لسة التعب هييجي".

ألا نلاحظ هنا أن انتهاء القصة يكسبها المزيد من العادية، وهو الأمر المُتوقع والطبيعي من القصة التي عمدت الكاتبة إلى كتابتها؟

إن من أهم مُميزات القصة القصيرة هي المُفارقة التي يحرص الكاتب على سوقها في قصته، أو حُسن التخلص الذي قد يحمل للقارئ المُفاجأة التي ترغمه على إعادة قراءة القصة مرة أخرى بعدما يقرأ مُفاجأتها في نهاية الأمر، لكن القاصة هنا لا تحمل أي مفاجآت في قصها على طول مجموعتها، بل يستطيع أي قارئ تخيل ختام جميع قصصها، وهو الختام العادي الذي لا يحمل أي دهشة أو مُفاجأة، كما أننا حينما نتحدث عن اللغة التي تكتب بها القاصة هنا لا نقصد، في الحقيقة، مدى إجادتها للغة العربية من عدم إجادتها- رغم أن الكاتبة لا تعرف العربية مُطلقا- ولا نقصد بها القاموس اللغوي الذي يحمل مُفرداتها الثرية أو غير الثرية، بل نقصد اللغة الفنية التي تصوغ من خلالها لغة القص وهو ما تفتقده القاصة أيضا، وإذا ما كان القص هنا يفتقد للغة الفنية، فضلا عن لغة المُفردات، وابتذال العامية والفصحى- المُستخدمة في السرد- فضلا عن جهلها بالسلامة اللغوية؛ فالقص هنا يتهاوى تماما في القاع؛ ومن ثم لا يحمل أي أهمية تُذكر له.

في قصتها "أكذب حتى إشعار آخر" سنلاحظ- بعدما استعرضنا عالم القصتين السابقتين- أن العالم في هذه القصة لا يختلف كثيرا عن السابقتين، وهذا ما قصدناه في البداية حينما قلنا أن الكاتبة تنهل من عالم واحد لا جديد فيه، بل تأتي القصص كتنويعات مُختلفة على حدث واحد لا يكاد أن يختلف كثيرا، وهو ما وصفناه بالعالم الفني الفقير لدى الكاتبة.

في هذه القصة ثمة عمة تحاول إقناع ابنة أخيها بالزواج من أحد الرجال الذين تقدموا للزواج منها، ولأنها لديها ابن من زيجة سابقة كانت من أحد الثوار في ثورة يناير؛ فإنها تستعرض بشكل سريع علاقتها السابقة به، وحبهما القديم وتعرفها على ذاتها حينما شعرت بالحب تجاهه، ثم لا يلبث ابنها أن يأتيها باكيا من مدرسته لأن أحد زملائه أكد له أنه قد انتقل من مدرسته إلى مدرسة أخرى لقلة المال، وليس لقرب المدرسة الجديدة من بيته، وهنا يظن أن أمه كانت تكذب عليه كثيرا، لكنها تؤكد له العكس فيسألها عن إمكانية زواجها من الرجل الذي تقدم إليها بعدما سمع عمتها تخاطبها في هذا الشأن لكنها تحزم أمرها وتؤكد له أنها لن تفعل، بل ستعيش له!

هذه هي القصة بالفعل، وهي القصة التي كان الحوار فيها المتن الخالص بينما السرد فيها هامشا نادرا تماما. ألا نلاحظ هنا أن الكاتبة تأتي بعالمها القصصي من القصص التي نسمعها من النساء على نواصي الحارات ونميمتهن حول فلانة التي تزوجت، وغيرها التي تطلقت، ولا شيء آخر غير ذلك؟

لعلنا إذا ما تأملنا الحوار لتأكد لنا ما سبق أن ذهبنا إليه من ابتذال لغته التي تمثل لب القصة وقلبها هنا: "هو مالوش آخر يا مريم؟ العمر بيجري وأنتي مُصرة تعيشي في امبارح. وهو ينفع آخرتها أبيع واحد ضحى بعمره مش بس علشاني دا عشانا كلنا؟ متضحكيش على نفسك يا بنتي، دا يا عيني عليه وعاللي زيه راحوا بلاش، وأديكي شايفة الحال سينا زي سونيا. لا، أنا مش معاكي، وحتى بفرض إن كلامك صح مين أولى مني يصون ولا يقدر؟ العيشة غلا وأنتي وابنك محتاجين اللي يراعيكم ويشوف طلبتكم، وتبقي عبيطة لو مستنية الأوهام اللي في راسكم يتحقق عشرها. دي مش أوهام، دي حقوق. بلا حقوق بلا تجارة، جايلك عريس متفصل على ظروفك، زي ما انتي لازمك أب لابنك، هو لازمه أم لابنه، اتسندوا على بعض يا بنتي، اللي بيساعدوكي النهاردا إن كان أبوكي ولا أخوكي مش هيدومولك. بس ابني ما كانش عنده أي أب. على راسي يا ستي، بس أهو أحسن من مفيش خالص، فكري بعقلك شوية، ولا أقولك بلاش عقلك أنتي بالذات، دحنا ياما شوفنا منه. أكتر حاجة وجعاني انكوا كنتوا شايفني صداع علشان بس بعرف أقول لا. متخليني ساكتة بقى، هو قليل علينا لما نلف وراكي في الأقسام ونحفى لحد ما نوصلك؟ يعني وهو أنا كنت باتمسك آداب؟ ما دام بنت وفي القسم يبقى كله محصل بعضه، دا أبوكي كان بيبقى هيروح فيها ومش عارف يودي وشه فين مالناس، وهو رضي بمحمود من قليل؟ شافه من طينتك. عمتي، محمود مفيش حد زيه، وكفاية تقطيم بقى. يا بنتي مش قصدي، أنا بس عاوزة اتطمن عليكي وعلى ابنك، وهاشم حد كويس أوي وابن ناس متضيعهوش من ايدك. غريبة أوي، خايفين ليضيع العريس، إنما حلم عمرنا عادي في داهية. بلا حلم بلا زفت، دحنا في كابوس ميعلمبوش إلا ربنا، طب دا أنا الست الكبيرة مبقتش أأمن على نفسي، خطف وسرقة وقتل عادي جدا، ما هي زاطت بقى وما عادشي ليها كبير. يعني هو كان ليها؟ ليها ملهاش أهو اللي جرى جرى وربنا يستر، المُهم دلوقتي يبقالك أنتي كبير يضلل عليكي ويحميكي، أنتي لسة في عز شبابك، وما شاء الله بدر منور، ريحي قلبنا يا بنتي واكسبي ثواب في أبوكي اللي نفسه يطمن عليكي قبل ما يفوت الدنيا".

تنبني القصة بالكامل على الحوار بمثل هذا الشكل، وهو ما لا يمكن تقبله على المستوى الفني؛ حث تسودها لغة حوار شديدة الابتذال لا يمكن أن تقترب من اللغة الفنية في أي شيء، كما أنها حكاية يومية تتكرر في الأحياء الشعبية، فضلا عن أن الكاتبة لم يكن لديها أي شكل من أشكال الحرص على أن تسمو وتعلو بقصتها العادية جدا إلى المستوى الفني الذي يجعلها حدثا جديرا بتأمله والتوقف أمامه، بالإضافة إلى أنها تتخير أحداث قصصها من بئر واحدة وحكايات مُتكررة تدور كلها في فلك الزواج، والإنجاب، ولا يمكن لها الابتعاد عن هذا الفلك الضيق.

في قصتها "أنف قذر" لا يختلف الأمر كثيرا عما سبق في القصص السابقة، صحيح أن القاصة تتناول إحدى القضايا الاجتماعية التي نراها يوميا في مُجتمعاتنا وهي قضية كذب رجال الدين واحتيالهم وتجملهم أمام الآخرين فقط، لكنها لم تأت بجديد حينما تناولت هذا الحدث؛ فبات شديد الابتذال كما نراه في حياتنا اليومية.

تبدأ القاصة قصتها بأم تحكي لابنتها الصغيرة حكاية الثعلب المكار، ثم لا تلبث أن تفتح التلفاز بعد نوم ابنتها لترى أحدهم يقول في أحد البرامج: "الإشهار شرط أساسي لصحة الزواج، أي حد يقولك غير كدا يبقى مش بس بيتلاعب بيكي، لا دا كمان بيتلاعب بشرع ربنا. حضرتك مُمكن تكون فيه ظروف تمنعه في الوقت الحالي من الإشهار وتوثيق الجواز بالشكل المعروف. يبقى تستنا لما يظبط ظروفه، إنما تجازف بسُمعتها ومُستقبلها دا جنون هي بس اللي هتتحمل عواقبه".

تعود بطلة القصة بذاكرتها إلى حياتها السابقة وكيف انفصل والداها وهي صغيرة وأخذها أبوها إلى بيت زوجته الجديدة، وهو البيت الذي لم تكن تشعر فيه بالراحة، ثم اتصال إحدى صديقاتها بها لأخذها معها إلى أحد الدروس الدينية التي يحاضر فيها أحد الدعاة؛ فتذهب معها لترى شابا أربعينيا يرتدي الجينز ويهتم بالجميع بلباقة. يهتم الشاب بها كثيرا ويتقرب منها ويوظفها في إحدى الشركات إلى أن يطلب منها الزواج السري بسبب أسرته وأولاده، وتوافق بالفعل على ذلك، لكنها حينما تحبل منه ينقلب عليها ويهددها إذا ما نسبت الطفل إليه، ويرحل عنها تاركا إياها. تقطع حبل ذكرياتها ابنتها حينما تخرج من غرفتها: "خرجت لمى من غرفتها، ألقت نظرة على الرجل الجالس خلف الشاشة، ثم أعادت النظر لوالدتها: مين دا يا ماما؟ دا التعلب".

إذا ما تأملنا الاقتباس السابق الذي أنهت به القاصة قصتها سنعرف أن الداعية الذي كان يتحدث بهذا الحديث على التلفاز هو نفس الشخص الذي كان قد تزوجها سرا، وسرعان ما تنكر لها حينما حبلت منه بطفلتها.

إنها قصة يومية نراها في كل مكان، ونعرف أن مُعظم رجال الدين مُجرد نصابين مُتلونين يقولون ما لا يفعلون بل يحاولون التجمل أمام الآخرين فقط، لكن هل أتت الكاتبة هنا بأي جديد سواء على المستوى الفني، أو المستوى اللغوي، أو أي شيء؟ تلك هي المُعضلة الحقيقية فيما تقدمه لنا الكاتبة نهلة عبد السلام.

في قصة "زوجة ترانزيت" تتناول الكاتبة أيضا إحدى المشاكل الاجتماعية التي تعاني منها النساء في المُجتمعات الفقيرة ومنها مصر، وهي الزواج من الأغنياء الخليجيين الذين يأتون بأموالهم الوفيرة من أجل إغراء الآباء والبنات بالزواج في حين أنه لا يبتغي من وراء ذلك سوى امرأة يمارس معها الجنس لفترة من الزمن ثم سرعان ما يلقيها كنفاية بعدما يدفع فيها مُقابل مُضاجعته.

نهلة عبد السلام

تتحدث الكاتبة عن فتاة تخرجت في جامعتها منذ شهرين، وأنها كانت دائما ما تنفق كل مالها على شراء مُستلزمات الزواج في انتظار العريس المُستقبلي، لكن أمها بدأت في التذمر لجلوسها في البيت من دون زواج وتحدثها دائما عن جارتهما نجلاء التي تزوجت من ثري عربي وتعيش في خير وفير، إلا أن الفتاة تعترض على حديث أمها وتؤكد لها أنها مُجرد زوجة ترانزيت تنتظر قدومه كل عدة أشهر لكنه سرعان ما يعود إلى زوجته وبلده مرة أخرى لينساها. تتمنى الأم لابنتها زيجة شبيهة بزيجة نجلاء إلا أن الفتاة تستنكر الأمر رافضة أن تكون مثلها، لكن في يوم تخبرهم نجلاء أن زوجها قد جاء ومعه رجل آخر يمتلك الكثير من المال ويرغب في الزواج وأنها لم تفكر سوى فيها. ترفض الفتاة بينما تشعر الأم بفرحة كبيرة وتقابله، وسرعان ما يتم الزواج، إلا أن نجلاء بعد فترة تذهب إليهم باكية مُؤكدة أن زوجها قد طلقها حينما علم بحملها، طالبة من جارتها الاتصال بزوجها كي يعلمه بأمر حمل نجلاء، لكن حينما تفعل جارتها تجد أن زوجها بدوره لا يرد على مُهاتفتها له، أي أنه قد تركها بدوره.

إن النهاية التي أغلقت بها الكاتبة قصتها كانت كالعادة متوقعة ومُنتظرة من القارئ؛ مما يُدلل على عادية السرد وابتذاله وافتقاره إلى الفنية. كما نلاحظ من خلال السرد أن القاصة هنا تعتمد على الحكايات العادية التي تلوكها النساء ليل نهار من أجل تمضية وقتهن المُمل بالحديث عن فلانة التي تزوجت وغيرها التي طُلقت؛ فنقرأ في بداية قصتها: "كعادتها تجلس في المُدرج وحدها؛ فهي لم تحظ بصداقة واحدة حقيقية رغم أنها في السنة النهائية، فقط الكثير من الزميلات، الزميلات فقط، بسيطة في مظهرها كما في أفكارها؛ فما ارتادت الجامعة إلا لتضيف ورقة تُعزز بها ملف زواجها، لذا لم تعر اهتماما لاختيار نوع دراستها قدر اهتمامها بنوع خامات مفروشات زفافها. أنهكها ارتياد الأسواق على مدار أربعة أعوام، أنفقت كل ما وسعها ادخاره لشراء مُستلزمات الجهاز، هذا الذي ابتلع كل ما طالته يدها ولم يكن ليترك قرشا واحدا لشراء كتاب".

إذا ما قرأنا هذا الاقتباس الذي تبدأ به القاصة قصتها للحديث عن عقلية هذه الفتاة التي لا يعنيها سوى الزواج كسائر أبطال قصصها، ثم انتقلنا إلى حوار أمها معها: "مش لو كنتي اتنصحتي شوية كنتي اتخرجتي إيد فيها الشهادة وإيد فيها العريس بدل القعدة اللي مش شايفلها آخر دي؟ قعدة إيه؟ دا أنا يدوب متخرجة من شهرين، ثم عريس إيه اللي كنت أجيبه؟ دول شوية عيال بياخدوا مصروفهم من أهاليهم، يعني آخرهم الكام فسحة اللي في أول الفيلم، إنما الرقصة والفستان حلّني بقى أكون اتحللت وأنا مستنياهم".

نقول: إذا ما قرأنا بداية القصة ثم انتقلنا إلى الحوار الطويل النفعي بين الأم وابنتها لتبين لنا أننا نجلس على أحد النواصي بين مجموعة من النساء اللاتي يلكن الحديث لوكا نميمة في الآخرين؛ لذلك لم تكن نهاية القصة التي قرأناها مُفاجئة للقارئ، بل هي النهاية التي كنا ننتظرها منذ البداية حينما تكتب: "انقضى شهر العسل وسافر خاتم سليمان وعادت الفتاة أدراجها، سارت الحياة بشكل يبدو طبيعيا إلى أن دق بابهم بشكل انخلع له قلبها، فتحت؛ فكانت نجلاء باكية العين مُنهارة: جرى إيه؟ أبو عبد الله طلقني. ليه؟ معرفشي، باتصل بيه مبيردش، قولت آجيلك تكلمي جوزك يفهم منه الحكاية، يقوله إني حامل. هاتفت هند زوجها وما من رد، عاودت الاتصال ثانيا وثالثا وعاشرا ليسقط الهاتف من يدها وتنضم للصف".

أظن أن الكاتبة لم تكن في حاجة إلى جملتها الأخيرة "وتنضم للصف" قبل ختام القصة؛ لأننا كقراء نوقن أن هذا ما حدث بالفعل بسبب عدم فنية القصة التي لا بد لها أن تحمل لنا شيئا من المُفارقة التي تفتقدها الكاتبة في قصها.

إن المجموعة القصصية "سبقها إليه" للقاصة نهلة عبد السلام تحمل داخلها أسباب أسباب تقويضها وخروجها عن فنية السرد في القصة القصيرة؛ فالقاصة تمتح أحداث عوالمها من عالم واحد شديد الضيق يدور في فلك واحد لا يمكن أن يخرج عنه، وهي قصص الفتيات والزواج والطلاق، والخيانة، وغدر الرجال- وهو نفس عالم قصتها التي كانت عنوانا للمجموعة، حيث امرأة يتزوج عليها زوجها بعد عمر طويل، وحقدها عليه ثم مرضه وموته الذي سبقها إليه قبل أن تبدي له تشفيها في هذا المرض- وهو الأمر الذي يجعلنا نؤكد أن الكاتبة تمتلك عالما شديد الفقر، لا مجال للخيال فيه؛ الأمر الذي يفقد القصة الكثير من فنيتها، وإذا ما أضفنا إلى ذلك ابتذال اللغة- سواء على المستوى العامي أو الفصحى- تكون قصصها التي قدمتها مُجرد مشاهد مُبتذلة للحياة اليومية التي نعيشها، لكنها تفقد أي شكل من أشكال الإبداع أو الفنية، صحيح أنه لا يمكن إنكار أن ثمة حكايات ما في القصص التي تقدمها القاصة، لكنها الحكايات العادية التي من المُمكن سماعها في أي حارة من حواري القاهرة إذا ما ذهبنا إليها للجلوس في الطرقات بجوار النسوة اللاتي يمارسن النميمة على الرائح والغادي، أي أنها غير صالحة للقص بشكل فني ما لم تمتلك شروط فنيتها.

كما لا يفوتنا المذبحة اللغوية التي مارستها الكاتبة في هذه المجموعة، وهي المذبحة التي تكاد أن تجعلنا نطالب بعدم تخرج أي طالب من الجامعات إلا بعد إجراء اختبار لغوي ليقيس مستوى إتقانه للغة العربية أولا؛ فالنسبة الغالبة من المُتخرجين الحاملين لشهادات جامعية لا يعرفون الكتابة بالعربية- ليس على مستوى السلامة اللغوية فقط أو النحو، بل على مستوى الشكل اللغوي أيضا- وهي الأخطاء التي لا يمكن أن يقع فيها الطالب في المرحلة الابتدائية، ولعل الكاتبة هنا قد وقعت في ما لا يعد ولا يحصى من أخطاء؛ ما يجعلنا نظن أنها لم تتحصل على أي شهادة تُتيح لها معرفة العربية من الأساس، فإذا كان الكاتب جاهلا بلغته، فكيف له أن يلجأ للكتابة في حين أن اللغة هي الأداة الوحيدة والأولى بالنسبة له من أجل إيصال أفكاره ومشاعره؟!

كما أن دور النشر تتحمل قدرا ليس هينا من المسؤولية مع الكاتب في هذه الجريمة؛ فإذا ما كان الكاتب جاهلا باللغة؛ فعلى دار النشر أن تدفع بالكتاب إلى التصحيح قبل طباعته، ولكن معنى أن يصدر كتاب بمثل هذا الاهتراء اللغوي؛ فهذا يعني أن الدار لم تلق أي نظرة على ما دفعته الكاتبة إليهم، بل طبعوه من دون قراءته واكتفوا بما قدمته إليهم الكاتبة من مال من أجل هذه الطباعة، أي أن دار النشر هنا مجرد سوبر ماركت فقط.

إن الكاتبة هنا لا علم لها مُطلقا بأي من علامات الترقيم في اللغة العربية، حتى أننا نادرا ما رأينا سطرا واحدا في المجموعة قد انتهى بنقطة في نهايته، كما أنها تستخدم النقطتين المُتجاورتين بشكل مجاني بديلا عن الفاصلة، ولا علم لديها بأماكن أي من الهمزات في اللغة؛ فنقرأ على سبيل المثال: "إنتظار" بهمزة القطع، و"أسف" بدلا من آسف، و"ألتحقت" بهمزة قطع، و"إما المُستقبل" بدلا من "أما المستقبل"، و"بإبنته" بهمزة قطع، و" إداب" بدلا من "آداب"، و"أبه" بدلا من همزة المد "آبه"، و"إلتفتى كما شئتي" وهي هنا ارتكبت العديد من الأخطاء بوضع همزة قطع في بداية الكلمة، وحذف الياء المنقوطة في التفتي، ووضع ياء في نهاية "شئت" بدلا من الكسرة، وقولها: "تفهم شيء" بدلا من "تفهم شيئا"، كما أنها تعتبر جميع حروف الجزم مُجرد حروف للزينة فقط، أو أنها حروف غير عاملة وبالتالي لا يمكن لها الجزم؛ فنقرأ: "لم تلتقي" بدلا من "لم تلتق"، و"لم تدري"، بدلا من "لم تدر".

واستخدامها صيغة المُفرد بدلا من صيغة المُثنى أو الخلط بينهما في "عيناه حائرة" بدلا من "حائرتان"، و"عينيه تحمل" بدلا من "تحملان"، وكتابتها "يضحى طفل" بدلا من "طفلا"، و"حملها أبيها" بدلا من "أبوها"، وكتابتها "تليق بيها" بدلا من "بها"، و"لأيا" بدلا من "لأي" مُتجاهلة في ذلك حرف الجر، و"بملأ" بدلا من "بملء"، و"ثورت" بدلا من "ثُرت"، وكتابتها "لأسوء" بدلا من "لأسوأ"، و"جأها" بدلا من "جاءها"، و"من عشرون" بدلا "من عشرين"، وكتابتها "الله وأعلم" بدلا من "الله أعلم"، وجملتها المُدهشة التي تستخدم فيه أسماء الإشارة بشكل غريب: "في الصيف القادم لن ترى في حجرتها هذا الجبل القائم، تلك الذي يوشك أن يصطدم بالسقف"!

إن الخطأ في استخدامها لأسماء الإشارة كاد أن يغطي المجموعة بالكامل مثل: "جالسة هي على الأريكة، تتوتر ملامحها من حين لآخر، تصم أذنيها بكفيها، تلك الطنين يجعلها على حافة الجنون"، أو هذه الجملة التي لا بد من تأملها جيدا؛ حيث سنسوقها بكل أخطائها "أستقبل والدها وأخيها أبو الفضل هذا الاسم الذي ما لبثت أن سمعته أول مرة حتى ضحكت حد البكاء.. لا إستهزاءا منه وإنما سخرية من تلك الرابط بين اسمه وما سيسديه من معروف لها"؛ مما يُدلل على أن الكاتبة نهلة عبد السلام من الأجدى لها أن تنسى أمر الكتابة الأدبية تماما، وتتجه مُباشرة إلى أي معهد أو مدرسة لتعليم اللغة العربية أولا؛ فإذا ما أتقنتها تبدأ مرة أخرى في مُمارسة الكتابة ثانية.

 

محمود الغيطاني

مجلة عالم الكتاب.

عدد ديسمبر 2021م.

 

 

 

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق