الخميس، 11 نوفمبر 2021

عشية الأربعين وأيام أخر.. بين الثرثرات النسوية وسطوة القص

ثمة فارق عميق يمكن تمييزه بين الكتابة الإبداعية، وبين الثرثرات التي لا جدوى منها، والتي لا يمكن لها أن تقدم ما يُفيد القارئ اللهم إلا الفراغ الذي يزجي أوقات الفراغ. هذه الثرثرات هي ما يمكن أن نُطلق عليها في حقيقة الأمر وصف الخواطر، أو التأملات التي لا علاقة لها بالأدب أو الفن بقدر ما لها علاقة بإفراغ طاقة، أو رغبة في الكلام فقط من أجل مجموعة من التساؤلات غير المهمة في مجمل الأمر. ولعلنا نلاحظ أن معظم هذه الثرثرات/ الخواطر تكاد تكون مقتصرة على الكاتبات أكثر من الكتاب، ولنا في العديد من النماذج الكتابية التي قدمتها النساء مثال على ذلك على رأسهن أحلام مستغانمي وما تُقدمه لنا باعتباره كتابة أدبية "كالأسود يليق بك"، وغيرها من الكتابات، وبعض ما قدمته غادة السمان، وغيرهن من الكاتبات اللائي يقدمن لنا المزيد من هذه الثرثرة التي لا طائل من ورائها اللهم إلا أنهن يعتقدن اكتسابهن قدرا من الحكمة والرؤية اللتين تجعلهن يتأملن الحياة من حولهن، ثم يخرجن بحكمتهن الفلسفية على البشر في شكل كتابة يظنن أنها فعلا ثقافيا أو فنيا في حين أنها في النهاية لا تعدو أكثر من فراغ يُفضي إلى المزيد منه.

لعل هذا الشكل من الثرثرات النسائية يتميز بمجموعة من الخواص التي لا تختلف من كاتبة لأخرى مثل اللغة ومفرداتها مثلا، وهي اللغة التي من الممكن أن نُطلق عليها لغة "نسوية" بامتياز؛ نتيجة للقاسم المشترك بين كل من يكتبن بها سواء من الناحية الأسلوبية أو على مستوى المفردات التي تستخدمها الكاتبات. إنها اللغة التي تدور مفرداتها كلها في فلك واحد لا يتغير؛ ومن ثم نقرأ فيها مفردات مثل "الأمان، والوجع، والخذلان، والفقد، والخسارة، والصراخ، والأنين، والشكوى، والدموع" وغيرها من هذه المفردات التي تدور الأنثى في فلكها ولا تخرج منها إلا نادرا. لكن ليس معنى ذلك أن هذا الشكل الفارغ من الكتابة النسوية يخص المرأة فقط، بل إن هذا التوصيف يمكن إطلاقه على كل من يستخدم هذه المفردات ويدور في فلك هذا العالم سواء كان الكاتب هنا رجلا أو امرأة

إذن فهناك بالفعل لغة تخص الكتابة التي تكتبها معظم النساء، وهذه اللغة متشابهة إلى درجة كبيرة، ولا تختلف من كاتبة لأخرى سواء كان على مستوى الكتابة الفنية/ الأدبية، أو على مستوى الثرثرة الفارغة/ الخاطرة، أو على مستوى اللغة ومفرداتها التي يتميز بها القدر الأكبر من الكاتبات.

كما أن العالم الذي تدور فيه هؤلاء الكاتبات يكاد يكون عالما واحدا لا يمكن لهن الخروج منه، بل يدرن فيه حول أنفسهن غير قادرات على التحرر منه إلى عالم آخر أكثر رحابة؛ فنجد معظمهن لا يتحدثن إلا عن الظلم، والمجتمع الذكوري، والرغبة في التحرر، والتفاصيل الدقيقة التي لا تعني القارئ كثيرا بقدر ما تعني الكاتبة نفسها، والعالم الضيق الذي لا يخرج عن البيت والمطبخ ومهامه وما غير ذلك. أي أن الكاتبة في معظم الوقت لم تنضج بالشكل الكافي في تجربتها الحياتية؛ الأمر الذي يجعل عالمها أكثر اتساعا ومقدرة على التعبير عن العديد من الحيوات المنطلقة المتنوعة والشاسعة، بل هي- معظم الوقت- حبيسة هواجسها، وقلقلها من الفقدان، أو الفقد، بل هي حبيسة خشيتها من الخروج من العالم الأصغر إلى عالم أكثر رحابة.

هذا الشكل غير الناضج سواء على مستوى التجربة الحياتية، أو الثقافية يؤدي بالعديد من الكاتبات إلى اللجوء إلى الثرثرات باسم الكتابة- التي يعتقدن أنها فنية أو أدبية- في حين أنها بعيدة عن الفن كل البعد، ولا يمكن لها إلا أن تكون مجرد شكل من أشكال الكتابة المشوهة التي تعمل على تشويه أرواح وإدراك من يقرأها ويقتنع بها؛ حيث تحمل في طياتها معنى الحكمة واليقين الكاملين من قبل كاتبتها في نهاية الأمر، كما أن هذه الكتابة لا يمكن أن تُقنع سوى مجموعة من المراهقين أو المراهقات، أو على الأقل من لم ينضجوا فكريا أو ثقافيا بعد.

ربما كانت هذه الأمور: عدم النضج الثقافي والحياتي، والانحباس داخل فلك عالم ضيق لا يمكن الخروج منه هو ما دفع الكاتبة غادة ضاحي لكتابة مجموعتها القصصية "عشية الأربعين وأيام أخر"، وهي المجموعة التي لا يمكن أن نوّصفها بالقصصي بالمعنى الذي نعرفه للقصة القصيرة بشكلها الفني؛ حيث انقسمت المجموعة إلى قسمين: القسم الأول منها عبارة عن مجموعة من الخواطر والتأملات التي لا علاقة لها بأي فن كتابي، بل هي أقرب إلى الثرثرة الفارغة، بينما جاء القسم الثاني منها عبارة عن مجموعة من القصص القصيرة التي كان من الممكن لها أن تكون قصصا جيدة إذا ما كانت الكاتبة قد عملت عليها بجدية واهتمام أكبر لا سيما من ناحية اللغة التي جاءت خربة تماما، وكأن صاحبتها لم تتعلم اللغة العربية من قبل.

هذه الثرثرات السقيمة التي كانت في القسم الأول من المجموعة هي في حقيقة أمرها مجموعة من التأملات تظن صاحبتها أنها قد أوتيت قدرا عظيما من الحكمة؛ ومن ثم فهي تُقدم لنا خلاصة حكمتها في الحياة، وفي العديد من الأمور الأخرى منها: الألم، والجنس، والحب، والله، وغير ذلك من المعاني المختلفة التي ترى أنها تمتلك رأيا سديدا فيها فتقول تحت عنوان "الأربعون": الثلاثينيات.. يُشاع في مجتمعي دوما أن أجمل سنوات عمر المرأة وذروة نضجها جسديا وعقليا هي السنوات الثلاثينية.. لكنني لا أذكر أنني تمتعت بالعقد الثالث على العكس تماما.. كذبة كبرى تلك بمجتمعي.. الثلاثون فخ النساء الشرقيات.. فمن تزوجت أصبحت تلاطم أمواج حياتها الأسرية في خضم المسؤوليات وموسم الأمومة وتربية الأبناء.. ولمن لم تتزوج إما تعدو في سباق لإثبات الذات أو تتجرع حسرة انتظار شريك تأخر وتصارع مخاوف ألا يأتي كما تأمل بعد طول انتظار"، وتقول في موضع آخر مستمرة في تأملاتها التنظيرية: "حينما كنت أقرأ جملة (رجلا في الأربعين من عمره.. أو سيدة في الأربعين من عمرها) كان أول ما يطرق ذهني كترجمة حسية للجملة صورة الشيب في الرأس! في حين أن الخمسين ارتبطت لدي بوجود التجاعيد في البشرة كترجمة بصرية للجملة.. أما الستون فكنت أرى بها انحناء الظهر!! والسبعون لم تكن في قاموسي فكنت أرى من وصل لها قد تخطى حدود العمر المسموح فحتما لن يبق منه سوى بضعة أمراض وهيكل متهالك هش بانتظار أن يهوى في لحظة مع أي شهقة منتظرة!! الآن عرفت أنني كنت على خطأ وقد زورت وعيي مبكرا بهذا الشأن.. فنسيت أن لكل مرحلة مظهرا يسبقها ربما بعقد كامل.. غير أن الشيب لا يعد ضمن القائمة فهو لا يرتبط بالعمر قدر ارتباطه بقوانين الوراثة. كان وعيا مشوها قاسيا.. أخجل منه الآن وأتعجب كيف كنت أرى الأمور بهذه الصورة!".

هكذا تستمر الكاتبة في التأمل والتفلسف معتقدة أن هذه الثرثرات من الممكن أن تكون فنا، أو لها علاقة بالفن، أو من الممكن لها أن تكون في مجموعة قصصية، في حين أنها لا تخرج عن كونها مجرد تأملات مهوّمة في الفراغ لامرأة بلغت الأربعين من عمرها، وتعمل على تشويه الوعي الفني والجمالي بالقصة القصيرة.

هذه التهويمات التي لا تُقدم ولا تُؤخر نراها أيضا تحت عنوان "الحياة"، ولعلنا نلاحظ أن الكاتبة تضع لنا خلاصة تجربتها، أو مختصر ما ترغب في قوله من خلال جملة افتتاحية تحت كل عنوان؛ ففي الموضوع الذي يحمل اسم الحياة نقرأ بخط مختلف في بدايته: "الأحياء نادرون.. إن لم تستطع أن تكن منهم فكن معهم لربما أصبت بعدوى الحياة". من خلال هذه الجملة التي تتقمص فيها الكاتبة دور الفيلسوفة الحكيمة نستطيع أن نفهم- مسبقا- ما ستقوله تحت هذا العنوان؛ حيث تحرص دائما على أن تلخص محتوى كلامها في جملة افتتاحية كالحكمة التي لا بد من الأخذ بها؛ لذا حينما نقرأ ما ترغب في قوله نتأكد أنها تكتب لمجرد الرغبة في الحديث والثرثرة فقط؛ فهي ليست لديها ما تقوله، ولا تمتلك أي شكل فني أو إطار ما كي تصب فيه كلماتها الراغبة في كتابتها، بل هي تكتب فقط لتترك الكلمات سابحة في الفراغ، ولا يعنيها في النهاية معنى ما تكتبه، ولا كيفية تصنيفه، وهل هو مقال، أم كلام فارغ، أم سراب لا معنى له، فنقرأ: "الوصول للحياة.. أن تحيا لا أن تتنفس وتتحرك.. أن تحيا لا أن تنجو فقط.. أن تحيا يعني أن تتمتع بمتعة الحياة يتطلب منك أن تصل لشاطئ الحياة بالفعل ولا تقف متفرجا وإنما تبدأ رحلتك.. وصولك لهناك يجب أن يمر بمراحل عدة حتى تصل للمرحلة الأخيرة.. أو بالأصح الوجهة.. الحياة.. لا يرتبط وصولك بمرحلة عمرية معينة أو سن محدد". ربما نلاحظ من خلال هذا الاقتباس أن الكاتبة لا تمتلك حتى المقدرة على صياغة الكلام بشكل فني، بل هو حديث غير مترابط تتقمص فيه دور من أوتيت الحقيقة والحكمة الكاملة؛ فهي فقط من خبرت المعنى الحقيقي والجوهري للحياة؛ ومن ثم فهي تُقدم هذا المعنى الجوهري الخافي علينا من خلال هذه الثرثرات الركيكة التي لا معنى لها.

إذا ما قرأنا قولها: "المحاربون المؤمنون بمحاولات الإصلاح الدائمة مؤمنون بترميم الآيل للسقوط وتلوين الجدران وتزيينها.. الذين ألزموا أنفسهم بقيم وعهود تجاه أشخاص وأشياء قد يكونون في نظر الجميع حولهم لا يستحقون وقد يكونون بالفعل كذلك ورغم ذلك فهؤلاء الذين اختاروا ظلوا أوفياء لاختياراتهم.. أوفياء للفكرة والقيمة في ذاتها، الضمير شكّل لهؤلاء إطارا يصعب عليهم التحرك خارجه.. ضمير إنساني بحت لا علاقة له بأطر الدين ولا الأطر المجتمعية التي تتغير حسب الأحوال والتي تعتمد منهاج الغاية تبرر الوسيلة.. أولئك المحسنون لمن أساء المتسامحون.. ملتمسو الأعذار حتى لأعدائهم"! إذا ما تأملنا هذا الشكل من الكتابة سيتأكد لنا أن ما قدمته الكاتبة لا علاقة له بالفن الإبداعي من قريب أو بعيد، بل هو منبت الصلة تماما بالفنون الإبداعية، كما أن هذا الحديث لا علاقة له بكتابة المقال في صحيفة، بل يصلح تماما لأوهام التنمية البشرية التي يخرج علينا المؤمنون بها كل يوم ليصدعون بها رؤوسنا في حين أنها لا تُفيد البشرية في شيء.

أحلام مستغانمي

في كتابتها التي جاءت تحت عنوان "الألم" نراها تفتتح كتابتها بجملتها التي تمثل خلاصة تجربتها التي تظنها مهمة لتقدم مسيرة البشرية: "الأوجاع التي حفرت لنفسها أنفاقا في أرواحنا.. لا تسقط بالتقادم"، ثم لا تلبث أن تهذي بمجموعة من الجمل لتقول: "أحيانا أتساءل أيهما أبلغ لفظا للتعبير الألم أم الوجع.. لا أعرف فارقا بينهما ولم أحاول البحث في المعاجم والقواميس.. ربما كان الألم أعم وأشمل؟ ربما.. لا أدري لكن أشعر أن الوجع هو الأعمق والأكثر حضورا في فرض نفسه على الوعي.. قد نتمكن أحيانا من إخفاء الآلام لكن أغلب ظني أن الوجع ينطق بطلاقة دون أن يتقيد بمحاذير أو يجاري قول أحدنا: أنا بخير. قد يؤلمك أن تتعرض للسخرية من مشاعر الحزن والوجع التي تعانيها وهذه السخرية تُعد شيئا عاديا جدا في مجتمع كالذي نحيا به، حيث الغالبية اعتادوا على الاستهانة بالمشاعر وعدم احترام القيم الإنسانية".

أظن أننا حينما نقرأ هذا الكلام الغث الركيك لا بد أن نستهين بالكاتبة ومشاعرها التي تتحدث عنها، بل ونسخر من هذه الكتابة الركيكة التي لا معنى لها، ولا تُقدم لنا ما يُفيد، أو ما له معنى؛ فالكتابة لا يمكن أن نُطلق عليها توصيف القصة، ولا المقال، ولا أي شيء، بل هي شكل من أشكال الكتابة النسوية البحتة بشكل جوهري؛ فهي تحمل في طياتها كل معاني النسوية من حيث المفردات والحديث في موضوع لا يخص- معظم الوقت- سوى المرأة، والدوران في فلك عالم مغلق لا فكاك منه. كما أن هذا الحديث يجعلنا نتساءل نحن بدورنا: إذا كانت الكاتبة تجهل الفارق بين مفردتي "الألم"، و"الوجع" كما تقول، فلِمَ لم تحاول فعليا البحث عنهما في المعاجم؟ ولم تُصرّ على أن تُصدع رؤوسنا بمثل هذا الكلام المُرسل؟ ولم تكتب لنا ظنونها في حين أن الطريق سهل ومعروف لمعرفة الفارق من دون أي ظنون تكتبها لنا؟! ولم تكتب أساسا مثل هذا الكلام الذي لا يُفيد؟ على أي حال ورد في كتاب "الفروق اللغوية" لأبي هلال العسكري في الفرق بين الألم والوجع ما يلي: "إن الوجع أعم من الألم، تقول: آلمني زيد بضربه إياي وأوجعني بذلك، وتقول: أوجعني ضربني، ولا تقول: آلمني ضربني، وكل ألم هو ما يلحقه بك غيرك، والوجع ما يلحقك من قبل نفسك ومن قبل غيرك.

الهذيانات النسوية، هو ما نراه تحت عنوان "الحب" والجملة المستخلصة التي تحرص عليها الكاتبة في بداية كل موضوع: "لم أكتفي أبدا بأن يمتلئ قلبي بتلك الموجات من الحنين والحب.. كنت دوما أبحث عن مصب لهذا النهر". بالتأكيد سنلاحظ أننا تركنا الجملة كما كتبتها الكاتبة تماما، ولم نعمل على تصحيح الخطأ النحوي الفادح؛ حيث تركت الكاتبة الفعل "أكتفي" موصولا بحرف العلة بعد حرف الجزم "لم" ولم تعمل على حذف حرف العلة.

لكننا مع الاستمرار في قراءة هذياناتها وتأملاتها سنقرأ الكثير من الكلام الفارغ: "أبدا لم يكن الحب يوما مرادفا للعبودية، فلا الولاء والطاعة المفروضان إجبارا حبا.. ولا التسليم والانقياد المُطلق طوال الوقت باسم الحفاظ على الحب حبا، كل سلوك من هؤلاء له مسمى وأسباب لكنه ليس حبا.. وجدت الحب الحقيقي الناضج حبا يعترف جدا بالمسافات ويحترمها.. على عكس كل المعتقدات والأصوات المنادية وجدته كذلك يعترف جدا بالاختلاف والتكامل لا التطابق والتشابه"، إذن فهي ما زالت تستمر في تأملاتها السرمدية باسم الفن أو الكتابة الفنية، وهذا ما يجعلها تكتب: "عزيزي العقل: أعتذر وبشدة عما سببته لك من أذى غير متعمد.. وعن كوني كنت السبب فيما انجرفنا إليه من قيعان لم تكن تليق بنا أبدا.. أعرف أنك تخطيت ما مضى.. وقد تكون نسيته أو تناسيته.. أعرفك قويا متماسكا لكنني أحيانا أتسبب بحماقة في أن تطل على حاضرك ذكريات عابرة من الماضي قد تنغص لحظات صفائنا سويا وتهدد بانشقاق جديد وانقسام بشق الأنفس تجاوزناه وعدنا متفقين.. أعترف أنك من البداية على حق، وأنني تعمدت ألا أستمع لك ومضيت بإصرار أكممك وأصادر على رأيك وأتهمك بالوساوس والشكوك"!

إن هذه الكتابات التي لا هدف من ورائها إلا إخراج طاقة كامنة في نفس كاتبها لا تصلح للكتابة العامة، قد يكتبها صاحبها من أجل تهدئة ذاته فقط، قد يكتبها من أجل راحته النفسية، لكن أن يكتبها ويظنها فنا، أو كتابة صالحة للنشر والاطلاع عليها؛ فهذا يدل في حقيقته على قصور فكري وثقافي حاد لدى من كتبها، ومن نشرها أيضا؛ لأنها كتابة صالحة للمراهقات اللائي لم ينضجن بعد؛ ومن ثم حينما يقرأن هذا الهراء ستنسال دموعهن ويأخذن الحكمة الخاطئة مما قرأنه، ويقفن كضيوف جدد في طابور الفاشلات في حياتهن؛ بسبب ما قرأنه.

الكارثة الحقيقية في هذا الكتاب هو توصيفه على الغلاف الخارجي بمفردة "قصص"؛ لأن مثل هذه الكتابة لا يمكن لها أن تكون قصصا بأي شكل من الأشكال، كما أنه لا يمكن ضم مجموعة من الهراءات الكتابية إلى جانب مجموعة من القصص المتوسطة القيمة بين دفتي كتاب، ثم نوّصفه مجازا باسم "قصص"؛ فالكتاب لا بد أن يكون منسجما من حيث وحدته الموضوعية والشكلية في أي مجال من المجالات، أما أن نضع مجموعة من الثرثرات بجانب مجموعة من القصص، بجانب مجموعة من المقالات بين دفتي كتاب ثم نوصفه كيفما يحلو لنا؛ فهذا في حقيقته مجرد استهانة وسخرية من عملية الكتابة اشترك فيها كل من الناشر والكاتب، بل إن السخرية تطول من يتوجها إليه وهو القارئ الذي لا بد من احترامه.

لذا حينما نقرأ تحت عنوان "الجنس": "ربما ارتبطت المتعة كلفظ بالحواس أكثر من ارتباطها بالوجدان.. وربما في مجتمعاتنا أصبحت أقرب ترجمة ومرادف للمتعة؛ هي العلاقة الحميمية ممارسة الحميمية أو كما يطلق عليها حس الجنس أو كما يسميها المحبون ممارسة الحب.. والحب لا يمارس في الحقيقة، لكن أيا كانت التسمية فهذا الفعل هو في جوهره مرآة لشخصيتك.. انعكاس حقيقي جدا لكل ما لديك من معاناة مشاكلك عقدك وطموحاتك وطريقة تفكيرك ومخاوفك.. كل عيوبك ونقاط ضعفك وكل مزاياك وقدراتك يبدو فيها جليا، كل ما تتمتع به من خصال حسنة كانت أو معيبة؛ البخل.. الإيثار.. الأنانية.. السيطرة السلبية.. الاحترام للآخر.. تقبل الاختلاف.. العطاء.. الغباء. القسوة.. السخرية.. النرجسية.. كل شيء بلا استثناء". نقول أننا حينما نقرأ هذه الركاكة الخالية من الوحدة العضوية بين الجمل، والفاقدة لكل علامات الترقيم في العربية؛ مما يؤدي إلى التباس المعاني، والتي لا تصلح لأن تكون فنا، ولا أدبا، ولا فكرا، ولا أي شيء سوى أنها كلام فارغ؛ لا بد للقارئ هنا من أن يلعن نفسه والكاتب والناشر؛ لأنه وقع في مثل هذا المأزق واقتنى الكتاب، وعذب نفسه أيضا بقراءته في حالة مازوخية واضحة من قبل القارئ.

لكن هل سارت الكاتبة على نفس هذا المنوال حتى نهاية كتابها؟ الحقيقة أن الكاتبة قسمت كتابها إلى نصفين: النصف الثاني منه جاء بعنوان "أيام أخر"، بينما تركت القسم الأول منه بلا عنوان باعتبارنا سنفهم أن عنوانه بالضرورة سيكون "عشية الأربعين"، وهو القسم الذي ضج بثرثراتها وركاكتها.

لكننا نلاحظ أن الكتابة في القسم الثاني قد بدأت تأخذ شكلا فنيا؛ ومن ثم أمكن لنا تصديق أن هذه الكتابة- الخاصة بالقسم الثاني- هي كتابة فنية تدخل في إطار القصة القصيرة- بغض النظر عن مدى جودتها أو رداءتها-؛ فالأهم لدينا أنها كتابة إبداعية في نهاية المطاف.

نلاحظ في القسم الذي يضم مجموعة من القصص القصيرة أن الكاتبة لديها من الحس القصصي ما يجعلها تستطيع كتابة القصة القصيرة بالفعل وإن تفاوت مستوى القصص في هذا القسم ما بين الجودة والضعف، لكنها في نهاية الأمر تصلح لكتابة القصة القصيرة؛ وهذا ما يجعلنا نتساءل: إذا ما كانت الكاتبة تستطيع فعليا كتابة القصة القصيرة فلِمَ كانت هذه الكتابة الركيكة التي بدأت بها كتابها؟! يبدو لنا الأمر مع المزيد من التأمل أن الكاتبة كان لديها مجموعة من القصص القصيرة التي لم تتعد 75 صفحة- عدد الصفحات التي ضمت هذه القصص- وبما أنها رأت أن هذه القصص لا يمكن أن تقدم بها مجموعة قصصية كبيرة؛ فلقد ضمتها إلى ركاكاتها السابقة ليكون حجم الكتاب كبيرا ويصل إلى 150 صفحة في النهاية، وأطلقت على الكل توصيف "القصة"، لكننا نلاحظ أن ثمة سطوة حقيقية للقص كان لها تأثيرها على كتابة الكاتبة؛ الأمر الذي جعلها تكتب بجدية في القسم الثاني لا سيما أن هناك بعض القصص الجيدة بالفعل والتي تستطيع من خلالها أن تقدم نفسها كقاصة تعرف ماهية الفن القصصي.

في قصتها "الاختيار الصعب" نقرأ في جملتها الافتتاحية للقصة: "جلست تحتضن ركبتيها في زاوية السرير القديم على بقايا ضوء مصباح باهت يأتي متسللا من طرقة صغيرة بعيدة نسبيا عن الباب الموارب في الحجرة المتواضعة بشقة أبيها"، عند تأمل هذه الجملة لا بد من الجزم بأن القصة القصيرة لا يمكن لها احتمال جملة بمثل هذا الطول؛ فهي جملة صالحة في الأغلب للرواية رغم أن الرواية لم تعد تعتمد على هذه الجمل الطويلة. لكن من أهم مميزات وآليات السرد في القصة القصيرة اعتمادها على الجمل "البرقية"، أو التلغرافية" الخاطفة، أي أن القارئ لا بد أن يشعر باللهاث أثناء القراءة؛ نتيجة تلاحق الجمل السريعة في السرد، وهو ما لا تعيه الكاتبة؛ الأمر الذي جعل جملها في معظم قصصها بمثل هذا الطول من دون الحرص على تقطيعها إلى جمل أقصر. كما نلاحظ أيضا أن هذه الجمل تتميز بالكثير من الركاكة والارتباك في التركيب؛ مما يؤكد أن الكاتبة لم تمتلك أسلوبيتها بعد مثل: "رأت جلستها في المغرب بشرفة الشقة المتواضعة المطلة على الحارة الضيقة التي لكل بيوتها لون واحد هو الطوب الأحمر". في الجملة السابقة تقول: "الحارة الضيقة التي لكل بيوتها لون واحد". ثمة ركاكة  وارتباك في تركيب الجملة تجعل القارئ لا بد له من التوقف لإعادة تأمل الجملة، وإعادة تركيبها مرة أخرى ذهنيا؛ لأن مفردة "لكل" هنا ليست في موضعها وهو الأمر الذي أدى إلى مثل هذا الارتباك والتوقف. كان من الممكن للكاتبة صياغة الجملة بقولها: "الحارة الضيقة التي تتميز كل بيوتها بلون واحد"، أو غير ذلك من الصياغات التي تراها مناسبة للسرد، لكنها حينما كتبتها بهذا الشكل جعلت القارئ يتوقف أمام الجملة، وهذا ما نراه أيضا في جملتها: "هنا ازداد قلقها هي بالأساس لا تطمئن لوجود ابنيها مع أشقائها". ثمة ارتباك واضح هنا أيضا في تركيب الجملة، وربما كان هذا الارتباك عائدا في المقام الأول إلى تجاهل جميع علامات الترقيم في هذا الكتاب وكأنها لا توجد في العربية، أو أنها لا دور لها في اللغة.

غادة السمان

تدور القصة من خلال استرجاع امرأة لحياتها مع زوجها بعدما تركت له منزل الزوجية وأخذت معها طفليها لتستقر في بيت أبويها راغبة في الخلع منه؛ نتيجة لبخله وقسوته الدائمة معها والاعتداء الدائم عليها بالضرب، والتعامل معها باعتبارها مجرد ملكية خاصة له يستطيع التصرف فيها كيفما يحلو له، ورغم أنها قد اتخذت قرارها على عدم العودة إليه مرة أخرى والتخلص منه، إلا أنها تعود للتفكير الجدي في العودة للحياة مع الزوج واحتمال أي شيء من الممكن أن يصدر في حقها منه؛ حينما عرفت أن أحد أخويها قد انفرد بابنها الصغير خفية وجعله يشاهد أفلاما جنسية: "احكيلي بالضبط يا عمر يا حبيبي حصل إيه احكي كل حاجة؟ أنا كنت بلعب مع مروة هو ندهلي وقالي تعالى نلعب لعبة رجالة ودخلنا أوضة جدي وبعدين باسني وقعدني على رجله وفرجني على الموبايل على صور فيها حاجات عيب وكنت بخبي عينيا و.. قبل أن يكمل شهقت وخبطت على صدرها بلا وعي فأجفل الطفل فتنبهت وحاولت التماسك: كمل يا حبيبي.. ذعر الطفل لكنها احتضنته. كمل يا عمر يا ابني وبعدين. قال الطفل بتلعثم: جدي جه وفتح الباب خالو قفل الموبايل وجدي قاللنا اقعدوا بره، خالي خدني نجيب حاجة حلوة وقالي لو قلت لحد هخاصمك ومش هكلمك تاني، ولو قلت لماما هتوديك لبابا يضربك وتسيبك عنده وتقوله إنك بتعمل حاجات وحشة خليك راجل ومتحكيش لحد وأنا هلاعبك لعب حلوة كتير وأجيبلك حلويات ولعب وكل حاجة بس نبقى أصحاب ومنقولش لحد السر".

من خلال هذا الاقتباس نلاحظ اختفاء علامات الترقيم تماما من الكتابة؛ الأمر الذي يؤدي إلى تداخل الجمل والتباس فهمها، كما أنها استخدمت علامة الاستفهام في غير موضعها في بداية الاقتباس. ولكن هذا التحرش الجنسي بطفلها من قبل الأخ يجعلها مصرّة على العودة إلى جحيم زوجها للهروب من جحيم تحرش أخيها بابنها وبالفعل تهاتف الزوج وتحاول مصالحته للعودة إلى بيته مرة أخرى، مبررة ذلك بأن جحيم زوجها معها أفضل كثيرا من الحياة في بيت والديها وعدم أمان طفليها. لكننا نلاحظ هنا أن الكاتبة تصرّ من خلال سردها على التأكيد على مفهوم ضعف المرأة التي لا حيلة لها وأنها ليس لها في النهاية من أمان سوى بيت زوجها، حتى لو كان قاسيا وبخيلا معها، ويعتدي عليها جسديا من دون مبررات. نقرأ ذلك في: "لكنها أرادت تغذية الاتجاه بداخلها لترجح كفة رجوعها لزكريا.. أرادت أن تستشعر أن هناك مزايا بتلك الحياة ونقاط ضوء.. فراحت تتذكر لهو ابنيها في أمان ونومها قريرة العين بوجودهما.. لم تدرك حجم الأمان الذي يمثله بيت زكريا سوى الآن.. عليها العودة"، هذا الإيغال في التأكيد على ضعف المرأة إذا ما كانت وحدها من دون رجل معها نقرأه مرة أخرى في حديثها مع الزوج هاتفيا: "لم يرد فشعرت أنها تقرب من مبتغاها.. أخفضت صوتها قليلا وقالت وهي تتصنع الدلال: هو أنا موحشتكش؟ بذمتك يعني البيت من غيري له طعم؟ مين بيخدمك ويشوف طلباتك؟ عارف تاكل لقمة نضيفة ولا تلبس هدمة مغسولة؟ ولا لاقي اللي يدلعك ويهننك بعد ما ترجع شقيان من شغلك؟ يا خويا مصارين البطن بتتعارك واحنا عشرة وملناش غير بعض.. ورحمة أمك بقا خلاص يا زكريا.. دا أنا بقولك وحشتني ما تفهم بقا يا راجل".

إن هذين الاقتباسين رغم أنهما يصفان حال الكثيرات من النساء في المنطقة العربية اللائي يجدن أنفسهن غير قادرات على التصرف أو الفعل إلا من خلال الرجل الذي لا بد أن يكون مساندا لهن، إلا أن الكاتبة من خلال قصتها تعمل على التأصيل لمثل هذا الضعف والارتكان إلى الرجل حتى لو كان ظالما قاهرا للمرأة يسلبها كرامتها ويتعامل معها باعتبارها ملكية شخصية أو خادمة له، وهو ما جعل الكاتبة تجد الحل في عودة الزوجة لبيت زوجها صاغرة ذليلة؛ كي يعيش طفلاها في أمان بعيدا عن تحرشات أخيها.

في قصة "الأم المثالية" نرى أن الكاتبة تُحاول كتابة قصة قصيرة يشوبها الاكتمال وإن كانت قد اتخذت من حكاية تقليدية مستهلكة؛ لفرط تكرارها وسماعنا لها ما يوقعها في النمطية التي لا تُقدم لنا جديدا؛ لأن مثل هذه الحكايات تكاد أن تتكرر أمامنا بشكل يومي، حيث تتحدث عن سيدة تقدم بها العمر تتأمل نفسها أمام المرآة في انتظار تكريمها في مسابقة للأم المثالية مستعيدة حياتها الماضية في شكل ذكريات؛ حيث زواجها صغيرة بعد الثانوية العامة واكتفائها من التعليم بهذا القدر، ثم إنجابها لأربعة أبناء ووفاة زوجها في حادث سير؛ الأمر الذي يجعلها تتحمل مسؤولية أبنائها وعدم تفكيرها مرة أخرى في الزواج. تعمل الأم في دار للمسنين، وحينما تلمحها صاحبة الدار تقرأ في كتاب بالفرنسية ذات يوم تندهش، لكنها تعرف منها أنها تتقن اللغة من خلال تعليمها السابق؛ فتساعدها بإلحاقها في مكتب للترجمة إلى جانب عملها معها في الدار. تنجح السيدة في تربية أبنائها وتعليمهم؛ فيكون هناك الطبيب والمهندس، وثالث يسافر إلى أوروبا للحصول على الدكتوراة من خلال منحة، وتتزوج ابنتها من زميل دراستها. تقابل السيدة نورا الفتاة الشابة التي تلتحق للعمل في دار المسنين والتي تتعلق بالسيدة باعتبارها أما ثانية لها بعدما انفصلت أمها عن أبيها وتزوجت وتخلت عنها وسافرت مع زوجها الجديد إلى الخليج. نتيجة حب نورا وسماعها لكفاحها من أجل تربية أبنائها تُقدم لها في مسابقة الأم المثالية وتفوز بالفعل. حينما تعرف السيدة تشعر بسعادة جمة وترى أن كفاحها من أجل أبنائها قد تم تتويجه، إلا أنها تُفاجأ بالأبناء يرفضون هذا التكريم شاعرين بالعار من وجود أمهم في مثل هذا الحفل غير راغبين في تواجدهم أيضا معها في هذه الليلة: "حان وقت الحصاد حان وقت الاحتفال بعد انتهاء الرحلة.. حان وقت رد الجميل والعرفان والفرحة وسط الأبناء والأحفاد وجني الثمار نظرت لساعة الحائط المعلقة خلفها التي تشير للرابعة.. ما زال الوقت مبكرا.. تنتظر أن يمر عليها ابنها البكر ليقلها إلى الحفل فيما سيأتي ابنها وابنتها على الموعد هل تتصل به أم تنتظره.. لماذا شعرت بعدم حماس في ردود أبنائها حينما أخبرتهم بالجائزة.. اتصلت بابنها فلم يرد، بعد دقائق اتصلت بها زوجته الدبلوماسية دوما وقالت لها: إيه رأيك يا ماما نخرج نحتفل إحنا بالمناسبة دي ومفيش داعي لحضور التكريم علشان شهادة ورق لا تعني شيئا ولا توازي عطاءك التعب اللي اتحملتيه في رعاية ولادك.. لم ترد الأم وارتسمت على وجهها علامة وجوم ودهشة.. أيرفض أبناؤها تكريمها أم يخجلون من أن تروي قصة صعودهم!! استطردت زوجة الابن في ارتباك واضح.. ها يا ماما قلتي إيه؟ سألت الأم في وجوم: دا رأيك يا رباب ولا رأي علي؟ ردت زوجة الابن في محاولة لتخفيف ما تقول: بصراحة يا ماما علي شايف إن الموضوع محرج شوية ومش حابب إن الكلام يبقى على الملأ كدا في أسرار حياتكم، وبيقول إن حضرتك مش محتاجة الشكر ولا التكريم من حد، كفاية إن ولادك مقدرين اللي عملتيه علشانهم والمناسبات اللي زي دي بتبقى شوشرة وصور ورغي فاضي والناس مبتسكتش، وهو برضو دلوقتي دكتور له اسمه وبقية ولاد حضرتك ناس لها وضعها وسمعتها و.. قاطعتها الأم بهدوء، إديني علي أفهم منه يا رباب لو سمحتي.. ردت زوجة الابن بحرج فعلي: هو مكسوف يكلمك ومش عايز يزعل حضرتك".

حينما تقرر الأم وهي حزينة عدم الذهاب من أجل أبنائها تقنعها نورا أن هذا حقها وأنها لا بد لها من حضور التكريم، وبالفعل تذهب الأم مع نورا ويتم تكريمها؛ فتشعر بفرحة جامحة وحينما يسألونها عن أبنائها تشير إلى نورا وتقول لهم: إن ابنتها موجودة معها، لكن باقي الأولاد مسافرون، في تأكيد ضمني أنها لم يعد يعنيها الأولاد الذين يشعرون بالعار من كفاح أمهم، وأنها قد تبنت نورا لتكون ابنتها الوحيدة.

رغم أن القصة تبدو جيدة إلا أنها وقعت في التقليدية والتكرار؛ بسبب الموضوع الذي اتخذته الكاتبة متنا لها للعمل عليه، كما أنها- كالعادة- أهملت كل علامات الترقيم التي تؤدي إلى الارتباك بين الجمل، ولعلنا نلاحظ جملة شديدة الارتباك حينما تكتب: "ولأنها اكتفت بالثانوية وتزوجت أو اكتفى أهلها في الحقيقة أسرة محافظة رأت أن الفتاة جميلة والزمان لا أمان له فخافوا عليها، ورأوا أن الأمان ممثل في تزويجها وإلقاء مسؤولياتها على عاتق رجل لتكن شرفه ومسؤوليته". حينما نقرأ هذه الجملة سنشعر بعدم الفهم وضرورة العودة إليها مرة أخرى لفهم ما ترغب الكاتبة في قوله؛ فثمة فجوة ما في الكلام تجعلنا نسقط فجأة في الفراغ؛ لنفاجأ بها تتحدث عن محافظة أسرتها من دون الإشارة السابقة لها حيث إن التركيب الصحيح للجملة كي تكون متسقة ومفهومة: "ولأنها اكتفت بالثانوية وتزوجت أو اكتفى أهلها الذين يتميزون بكونهم أسرة محافظة حيث رأوا..". ولعلنا نلاحظ ملاحظة أخرى من خلال هذه الجملة وهي التأكيد والتكريس من قبل الكاتبة على أن المرأة مجرد عبء، أو شيء في مجتمعاتنا العربية لا بد من وجود من يتحمل مسؤوليتها؛ حتى أن الأهل سرعان ما يقذفون بها لأول عابر سبيل؛ راغبين في التخلص من عبئها بإلقائها في معية شخص آخر باسم الزواج ليتحمل هو المسؤولية. إن هذه الإشارة من الكاتبة بمثابة تكريس لما تعتقده مجتمعاتنا العربية حيث نلاحظ هذه السمة في كل قصصها تقريبا من دون رفضها أو الاعتراض عليها، بل نلاحظ خنوع الكاتبة لمثل هذه النظرة المستضعفة للمرأة التي لا بد لها من رجل كي تستطيع الحياة.

في قصة "الجيلي" تبرع الكاتبة في تصوير الشظف والحرمان والفقر والحاجة وأثر ذلك على مشاعر ومشاهدات طفلة صغيرة من خلال أم تعمل كخادمة لدى إحدى الأسر وتأخذ طفلتها التي انتهت من اختباراتها المدرسية معها. ترى الطفلة صاحبة البيت وهي تصنع "الجيلي" وتقف أمامها مبهورة بهذه الحلوى التي كثيرا ما رأتها في التليفزيون ولم تذقها من قبل. تطلب الأم من الطفلة أن تساعدها في الكنس ومسح الأرضيات بينما الطفلة تسبح في عالم آخر ترى نفسها فيه تتذوق "الجيلي" وترتدي ملابس مثل ملابس ابنتي صاحبة البيت، وتلعب معهما بألعابهما، وتجلس على الكرسي أمام التلفاز لتقلب في قنواته وترى ما يحلو لها من قنوات: "وقفت الصغيرة من خلف زجاج شرفة حجرة الجلوس التي تنظفه تراقب الفتاتان تلهوان بالدمى التي لم ترها أبدا ولم تعلم بوجود مثلها في الواقع وارتسمت على وجهها ابتسامة، وهي تحلم حلم يقظة جعل منها إحدى البنتين أو ربما ثالثتهما.. تصورت نفسها وقد حلت ضفيرتيها ليصبح شعرها مموجا مثل الفتاتين وبالطبع هي شعرها ناعم فسيكون أجمل وتصور نفسها ترتدي تنورة قصيرة زهرية اللون وحذاء أبيض به فراشات ملونة وتوب أبيض اللون قطني بنصف كم.. لا لا سيكون بحمالات رفيعة.. رأت نفسها تجري في أنحاء البيت وتمسك بدمية شقراء جميلة كثيفة الشعر وتمسك بيدها الأخرى تفاحة حمراء قانية.. ثم تجلس على الأريكة المخملية الوثيرة أمام التلفاز كبير الحجم تشاهد أفلام الكارتون بالألوان البراقة، أخذها خيالها لأبعد من تلك الجلسة ورأت نفسها في منامة وردية في سريرها الذي تزينه رسومات أميرات ديزني وحجرتها بجدرانها التي يكسوها ورق حائط فاتح اللون به ورود صغيرة وفراشات مزركشة وتلتحف بغطاء ملون جميل وترى أمامها لعب وملابس لا حصر لها.. وفجأة تذكرت الجيلي فاتسعت ابتسامتها وهي تراه وتلهو به في خيالها".

من خلال هذا المقتطف نلاحظ أن الفتاة الصغيرة تعيش في عالم آخر يخصها فقط وقد انفصلت عن عالم أمها الذي يميزه الفقر والشقاء والعمل في بيوت الآخرين، ويبدو أن حلم الفتاة كاد أن يتحول إلى واقع فجأة حينما تنتهي الأم من عملها وتستعد للرحيل بينما ابنتي سيدة البيت تتشبثان بالفتاة الصغيرة كي تبقى للعب معهما بألعابهما. تلح صاحبة البيت على الأم كي تترك ابنتها هذه الليلة مع الفتاتين واعدة إياها أنها سترجعها إليها بنفسها في الصباح الباكر، وتحت ضغط سيدة البيت توافق الأم على مضض، غاضبة من ابنتها التي وافقت، وبمجرد رحيل الأم تشعر الفتاة بالسعادة وتبدأ في تحقيق حلمها الذي رأته منذ قليل، منتظرة تماسك الجيلي في الثلاجة كي تتذوقه لأول مرة في حياتها، لكن الكارثة تحل عليها حينما تعود الأم بعد قليل لتطلب ابنتها متعللة بأن الأب حينما عرف غضب ورفض أن تبيت ابنته خارج البيت- رغم أن ذلك لم يحدث، لكن الأم رأت الأمر من خلال نظرة طبقية باعتبار أن صاحبة البيت رأت في طفلتها مجرد دمية ستلهو مع ابنتيها وتحاول إكسابهما الفرحة بها-.

تخرج الطفلة مع أمها للعودة إلى بيتهما بينما انهار العالم تماما على رأسها بعدما تبخرت كل الأمنيات التي رأتها في خيالها: "مسحت دموع ابنتها في رفق وصعدا الأتوبيس وجدت كرسيا فجلست وأجلست ابنتها في حضنها وهمست: خلاص بقى بتعيطي ليه دلوقتي؟! ضمت ابنتها لحضنها وشعرت بخطئها؛ لأنها اصطحبتها معها وجعلت الفتاة ترى عالما آخر لم تكن تدري بوجوده.. أغمضت الفتاة عيونها وغفت على صدر أمها وهي تحلم بشكل الجيلي وطعمه الذي حُرمت منه واحتل مخيلتها!!".

نلاحظ في هذه القصة مقدرة الكاتبة على صياغة قصة جيدة من خلال عالم الطفلة وتخيلاتها، كما نلاحظ من خلال كل القصص تقريبا استغراق الكاتبة في الحديث عن عالم أنثوي محض، تعاني فيه المرأة من الكثير من الأمور والمنغصات- فتارة نراها هي المعيلة إما لوفاة الزوج، أو لبخله وعدم رغبته في الإنفاق عليها، أو لتعطله وإفراطه في السكر، وتارة نراها مظلومة اجتماعيا، وغير ذلك-، وإن كان حديث الكاتبة عن معاناة المرأة لا يبدو لنا مفتعلا أو بنبرة خطابية عالية فيها من الضوضاء ما يُفسد السرد، بل جاءت كل هذه المنغصات والمشكلات التي تعاني منها شخصياتها الأنثوية في صورة عفوية طبيعية لا خطابية فيها.

هذه العفوية في الحديث عن مشكلات المرأة نراها في قصتها المكتملة "مذكرات لم تُقرأ بعد" التي كانت من أكثر قصص المجموعة اكتمالا حيث تبين من خلالها مدى قدرة المرأة على الصبر والتظاهر بغير الحقيقة إذا ما رغبت في فعل ذلك،  من خلال زوجة ماتت بعد 25 عاما من الزواج وبعدما تزوج ابنها الكبير، وسافر الآخر إلى الخارج. يبدو لنا الزوج- طبيب الأسنان- مندهشا من رحيلها المفاجئ: "لم يعتد على غيابها ولم يفكر يوما ماذا سيفعل بعدها؛ إذ دوما تخيل أنها ستظل حية للأبد.. بل لم يتصورها ستمرض أو تموت أو ترحل لأي سبب!!".

لذلك تنقلب حياته رأسا على عقب؛ حيث كان يعتمد عليها في كل شيء في حياته، بداية من مسؤوليات الولدين وتربيتهما، حتى أدق التفاصيل في مشاكله في العمل التي كانت تجد الحلول لها حينما يرويها، رغم أنه لم يكن يهتم بأي شيء من حوله في البيت، أو بها، أو الولدين، وتفرغ تفرغا تاما للنجاح في حياته العملية حتى صار له عيادتين: "لم يكن يشغل باله بأي شيء واقتصر دوره على التمويل المادي المعتدل واستطاع التفرغ لبناء مستقبله كطبيب أسنان ذاع صيته وصار له بدل من العيادة اثنان وتمكن من ادخار رصيد لا بأس به، ولم يسلم الأمر من بعض نزوات ومغامرات نسائية بدت قليلة ومتباعدة ثم تناسبت طرديا مع نجاحه في عمله وتقدمه في العمر والمركز وانسلاله من مسؤوليات الأسرة التي حملتها وحدها".

يشعر الطبيب بالوحدة وبأهميتها التي لم يكن يشعر بها من قبل في حياته؛ لذا يبكي كثيرا كطفل فقد أمه، ثم يبدأ في التقليب في الكم الهائل من الصور التي كانت حريصة على التقاطها بمناسبة ومن دون أي مناسبة أيضا. كان يعرف أنها تنظم الألبومات تبعا لتواريخها؛ لذا بدأ بأقدمها وظل يتأمل في كل مراحل حياته معها، ومع ولديه، إلا أن هناك صورة في المصيف لفتت نظره، ورغم أن وجهها كانت ترتسم عليه ابتسامتها المعهودة دائما إلا أن نظرة عينيها اللتين تبدوان وكأنما فيهما لوم وعتاب جعلته يشعر بالحيرة والتساؤل. تتبع باقي الصور ليتوقف كثيرا أمام هذه الصورة، تذكر أنه حينما ظهرت الهواتف النقالة كانت حريصة على اختيار أحدثها من أجل التصوير به واحتفاظها بهذه الصور في جهاز الكمبيوتر الخاص بها والذي لم يكن له أو لهاتفها أي كلمة مرور. بدأ البحث في جهاز الكمبيوتر عن باقي الصور، لكنه لفت نظره ملفا خاصا لها. حينما فتحه وجد لها فيه الكثير من الصور الشخصية التي لم يرها من قبل. صور لها وهي تمشط شعرها، وأخرى هي بقميص نوم مكشوف، وغير ذلك؛ الأمر الذي جعله يشك في أنها التقطت هذه الصور لشخص ما كانت على علاقة إليكترونية معه. تشكك الزوج أن الزوجة كانت ترسل صورها لشخص ما مثلما كان يفعل مع العديد من الزوجات على الإنترنت. بدأ يبحث في جهات اتصالها إلا أنه لم يجد شيئا. حينما عاود البحث وجد مجموعة من الدفاتر التي كانت تدون فيها مذكراتها على فترات غير منتظمة. وفيها قرأ في مقدمتها: "قررت اليوم أن أعاود ما كنت أفعله في سنوات المراهقة.. قررت أن أكتب لأفرغ طاقاتي السلبية وإحباطاتي وأوجاعي التي لن يستمع إليها أحد.. حاولت كثيرا أن أحتفظ بهامش الصداقة بيني وبين زوجي ليشاركني مشاعري وأفكاري، لكنني دوما كنت أصطدم بصداقة من طرف واحد فدوما أنا المستمعة وهو المتحدث، دوما هو البطل وأنا الدور الهامشي.. لم أعد أجد من أتحدث معه.. لا أريد تعكير صفو الحياة بالشكوى.. ولا أجرؤ على البوح لصديقة أو قريبة ترى في عائلتنا صورة مثالية للحياة المستقرة فأعري نواقص وخيبات حياتي أمامها ولئن أشفقت عليّ اليوم فلربما عايرتني غدا".

يستمر الزوج في قراءة مذكرات زوجته الراحلة ليفهم سر الصورة ونظرتها اللائمة فيها، منتظرا مفاجأة خيانتها له وتفسير صورها الشخصية: "أعود للكتابة بعد شهور اعتقدت أني عشت فيها أوقاتا مستقرة لم أحتج فيها للفضفضة؛ لأنني اعتقدت أنني بمأمن وأن الحياة على ما يرام.. لكنني اكتشفت وراء هذه الفترة القصيرة من الهدوء وعدم شكواه من شيء وبعض التقدير الخفي أنه فقط كان يقارن بيني وبين من يعرفها في الخفاء.. علمت أنها زوجة أحدهم!! واندهشت وتألمت حين نسى هاتفه ووجدت رسائلهم الحميمية والصور الخاصة بينهم.. أشعر باستعار نار بداخلي، كيف له أن يكتب كل عبارات الغزل تلك وأنا لا أسمع منها معشارها! كيف يثني على صورة امرأة وقحة مبتذلة ولا يرى أو يلاحظ احتفاظي برشاقتي بعد إنجاب ابنيه، ولا يمتدح اهتمامي بنفسي الذي يثني عليه الجميع أي غبي هذا؟!!".

مع استمرار الزوج في القراءة يعرف السبب في نظرتها اللائمة في الصورة حينما يعرف أنهما حينما كانا في المصيف لم يترك واحدة إلا وطاردها بنظراته، غازل الكثيرات من عاملات الفندق؛ الأمر الذي جعلها تكتم ذلك في نفسها حى لا تعكر صفو الرحلة لكنه ظهر على عينيها.

يفهم الزوج كيف كانت زوجته تشعر بالألم في البداية، وكيف حاولت التحمل من أجل أسرتها، ثم فقدت فيما بعد الاهتمام، رغم حبها العميق له، ثم لم تلبث أن تحولت إلى ممثلة لتبدو طبيعية أمام ما يحدث في حياتها، ورغم أنه تأكد أن هذه الصور كانت تلتقطها لنفسها لتشعر بأنوثتها التي لا يشعر هو بها ولا يراها فيها، إلا أنه ظل يتساءل: إذا كانت بمثل هذه الدرجة من التمثيل التي لم يلحظها في حياته معها، فهل كانت بالفعل على علاقة مع أحدهم مثلما كان يفعل هو مع زوجات الآخرين؟

لا يمكن لنا إنكار أن القاصة غادة ضاحي لديها من الموهبة والقدرة على كتابة القصة الفصيرة ما يجعلها فيما بعد قاصة متميزة وذات مكانة في مجال القصة القصيرة، ورغم أن كل قصصها تقريبا غارقة في عالم المرأة ومشكلاتها ومعاناتها إلا أنها ليست بالأدب النسوي الفج الذي لا يعنيه سوى الصراخ والضجيج والبكاء، كما أن تناولها لهذا العالم يجعلها متميزة فيه بعرضه ومناقشته بشكل فني، لكن المشكلة أن الكاتبة لا تعرف شيئا في اللغة العربية التي تكتب بها، أي أنها جاهلة بها تماما وفي حاجة ماسة لأن تتعلمها من جديد مرة أخرى، ولعل هذا ما لاحظنا شيئا منه في الاقتباسات التي حرصنا على سوقها بأخطائها كما وردت في المتن القصصي، وهو ما رأيناه أيضا في استخدامها معظم الوقت لضمائر الجمع مكان ضمائر المثنى والعكس مثل "قورنوا" بدلا من "قورنا"، و"معترف بهم ولا لهم" بدلا من "معترف بهما ولا لهما"، وكتابتها لمفردة "الرذيلة" هكذا "الرزيلة"، وعدم معرفتها الكاملة بوظيفة حروف العلة ومن ثم جاءت جميع الكلمات المعتلة بعد الحرف الجازم من دون حذف حرف العلة، وجهلها الكامل بهمزات القطع وألف الوصل وموضعهما؛ ومن ثم تخلط بينهما، لكن الكارثة الكبرى لدى الكاتبة- وهو ما يُدلل على أنها لم تدرس اللغة العربية من قبل- أنها تضع دائما الياء للمؤنث في نهاية المفردة بدلا من الكسرة- وهذا ما يقع فيه غير المتعلمين- مثل "أين كنتي" بدلا من "كنتِ"، و"متسع لكي" بدلا من "لكِ"، و"هربتي منه أنتي" بدلا من "هربتِ منه أنتِ"، و"لن يحميكي كما اعتقدتي" بدلا من "لن يحميكِ كما اعتقدتِ"، واستخداما مفردة "ملفتا للنظر" بدلا من "لافتا للنظر" الأصح، وكتابتها "خرصا" بدلا من "خرسا"، وكتابتها "يجعله عريس" بدلا من "عريسا" حيث الفعل "جعل" ينصب مفعولين كفعل متعد، و"سمعت صوت" بدلا من "صوتا" لأنها مفعول به، وقولها "عيناها الصغيرة" بدلا من "الصغيرتان"، وكتابة مفردة "الله" بعد النداء من دون همزة، ومن المعروف أن الله إذا ما جاء بعد النداء نضع على الألف همزة ونقول: "يا ألله"، وغير ذلك الكثير جدا من الجرائم اللغوية التي من شأنها أن تُفسد أي فن قصصي مهما كان بديعا وجيدا وتجعل القارئ ينصرف عنه بسهولة؛ نظرا لأن الكاتبة جاهلة باللغة وهي أداتها الأولى والوحيدة من أجل إيصال ما تكتبه إلينا.

 

 

محمود الغيطاني

مجلة عالم الكتاب.

عددا يونيو/ يوليو 2021م.

 

 

 

 

 

 

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق