هل تصلح الحكايات اليومية
والمُكررة والتي باتت مُعتادة- لا يمكن لها أن تُثير الدهشة أو تستوقفنا أمامها
للحظة؛ لفرط تكرارها وعاديتها- أن تكون نموذجا صالحا للسرد الروائي؟ وإذا كان الفن
في مفهومه الأعمق والأشمل يحتمل في معناه إثارة الدهشة أساسا؛ ومن ثم التوقف أمامه
لتأمله، فهل من الممكن أن نجعل من حكاية مُستهلكة كأساس للسرد الروائي بحيث ينبني
عليها معمارا روائيا كاملا؛ لتظل صالحة لإثارة الدهشة والتأمل بالنسبة للمتلقي؟
بالتأكيد سترد إلى أذهاننا
مثل هذه التساؤلات وغيرها من الأسئلة حين قراءتنا لرواية "ماري روز تعبر
مدينة الشمس" للروائي الأردني قاسم توفيق؛ فالحكاية التي اعتمد عليها الروائي
كمتن لعمله السردي باتت لفرط تكرارها في أوطاننا العربية، ولكثرة ما تم الاعتماد
عليها في العديد من الأعمال الفنية- سواء كانت سردية أم سينمائية- مجرد حكاية
عادية لا يلتفت إليها أحد إذا ما حدثت أمامه؛ لذلك يُعد الاعتماد على حكاية- تكاد
تكون مملة لفرط تكرارها- مثل هذه من قبل المغامرة التي قد تنسف السرد الروائي بالكامل،
أي أن الروائي هنا يُغامر مغامرة حقيقية بروايته التي ستكون على المحك.
قصة الحب المعتادة بين مسلم
ومسيحية في مجتمع عربي بائس بسبب تقاليده وعاداته، ويزيده بؤسا انسياقه خلف الدين
بشكل أعمى ومن دون أي فهم؛ مما يُنذر في نهاية الأمر بالكثير من الدم والانتقام
والقتل باسم الإله الذي يمنع هذه العلاقة من الحب بين اثنين من البشر لمجرد
اختلافهما في الديانة رغم أنهما يعبدان ربا واحدا.
هذه الحكاية التي تكررت في
مجتمعاتنا العربية غير مرة وبأشكال وتجليات مختلفة يعتمد عليها الروائي قاسم توفيق
اعتمادا كليا كمتن لروايته وكأنها تحدث لأول مرة؛ لذا لم يكن أمام الروائي سوى
اللعب بتقنيات السرد؛ كي تُخرجه من مأزق العادية والتكرار، أي اعتبار السرد
الروائي مجرد لعبة يلعبها الروائي، يُمارس فيها الكثير من المتعة؛ كي يُمتع
المتلقي معه، ومن ثم تصبح الحكاية العادية ممتعة، قابلة للمتابعة حتى النهاية من
قبل المتلقي.
ربما نلحظ منذ بداية السرد أن
الراوي/ أحمد يتميز بحبه للحياة والاستمتاع بها، والمواجهة بدلا من التخفي ودفن
رأسه في التراب، وهذا ما يؤكده منذ بداية السرد حينما نقرأ: "كنت أحب فعل ذلك
في وضح النهار، أكره الليل كثيرا، أليس في الرؤيا قدر عظيم من المتعة؟ ملعون من
ابتكر هذه الأشياء، الأضواء القبيحة الخافتة، أو العتمة التي تخفي المرأة اللدنة
وهي ساكنة بين يدي"، أي أن الراوي يفضل دائما الحياة في المواجهة والنور
والوضوح، ولا يحب أن يفعل شيئا في الظلام والخفية حتى لو كان هذا الفعل هو فعل
المتعة، أي الفعل الجنسي؛ لذلك يكون حريصا دائما على أن يكون هذا الفعل في الضوء
وليس في العتمة، ولعل مثل هذا الاقتباس يعطينا من الخصائص النفسية لبطل الرواية
منذ البداية ما يجعلنا قادرين على رؤية البطل وفهم سيكولوجيته، وهذا ما يعود إلى
التأكيد عليه بعد هذا الاقتباس بصفحتين حينما يتحدث مع حبيبته هيام قائلا:
"ملعون هذا الذي فكر بأن يكون ذلك في الظلمة، ما الذي يريده؟ تراه يصير قبيحا
عندما يرجع لإنسانيته؟ عندما ينشطر عن كل ما تعلمه ويرجع كائنا طفلا لم تلوثه
الحياة؟ أويكون مظهره مضحكا فيخاف أن تتركه المرأة التي معه؟ أحسب أنها اللحظة
العظيمة لاشتعال الإنسان فينا، الإنسان فقط دون الأشياء الكثيرة القبيحة التي
تعلمها منذ يوم ولادته، هل تتخيلين أحدا يمارسها بوقار وأدب؟!".
إذن فمن خلال مقطعين في بداية
صفحات الرواية يرغب الروائي أن يعطينا المفاتيح السيكولوجية لشخصية الراوي
المواجه، الجرئ، القادر على اتخاذ القرار، الذي لا يهرب حينما تواجهه الأزمات،
ولعل تأكيده على فعل كل شيء في النور هو دليل على هذه السيكولوجية التي لا تحب
التخفي، لكن لعل هذين الاقتباسين اللذين حرص عليهما الروائي منذ البداية لتحديد
السمات الرئيسية في شخصية الراوي كانا من أهم عوامل الضعف في السرد؛ فلقد كان هذان
الاقتباسان سببا في وقوع الروائي في التناقض على طول الرواية، أي أن الرواية رغم
سلاستها السردية، وقدرته على أن يتلاعب بها، ويستخدم العديد من آليات السرد، بل
والاستعارة من آليات السينما ليوظفها في السرد الروائي، إلا أنه أوقع نفسه في
التناقض منذ بداية العمل حينما أصر على أن يكون البطل بمثل هذه السيكولوجية؛ لأننا
سنراه فيما بعد متناقضا تماما مع ما سبق أن قرأناه في هذين المقطعين حينما تحمل
منه هيام ويحاول إخفاء علاقته بها لأنها مسيحية، بل ويُصرّ على إجهاضها بدعوى خوفه
عليها من أهلها وخشية قتلهم لها: "الأرض صغيرة ضيقة، وعمان أقل من أن تتسع
لطفل صغير. جبالها السبعة متقابلة وهنا حيث وقفنا نحن ننتظر وسيلة القفز من العالم
الشرقي المعتم فيها إلى الغرب المبهج والمضيء، هنا يقبع حزن وتعب عمان كلها، فقر
البيوت، وضيقها، طين الزقاق، صراخ الأطفال، العلامة التي تجمع كل الناس وتوحد كل
الناس. تعطي الإحساس الأعظم بالألفة. كنا نود الذهاب بسرعة إلى حيث الطبيب،
انتظرنا سيارة يمكن أن تنقلنا إلى حيث هنا"، هنا يحاول الراوي- رغم عشقه
الكبير لهيام- أن يتخلص من جنينهما، ورغم أن عملية الإجهاض قد تؤدي إلى موتها إلا
أنه يبدو مُصرّا على الفعل في الوقت الذي تشعر فيه هيام بالكثير من الحزن؛ لأنها
ستفقد جنينها الذي ترغبه ولا تريد التخلص منه، لكنها تبدو على طول الرواية مستسلمة
وكأنها لا رأي لها، فتفعل ما يرغبه أحمد حتى لو لم تكن موافقة عليه، وهذا ما
يجعلها تذهب معه إلى الطبيب للتخلص من الجنين فعليا.
إذن فقاسم توفيق يقع في خطأ
يكاد ينسف السرد برمته منذ بداية روايته، وسبب هذا الخطأ الفادح الذي أدى به إلى
مثل هذا التناقض السردي هو وصفه لسيكولوجية أحمد الذي كانت أفعاله تتناقض مع مثل
هذا الوصف، لكن إذا ما تغاضينا عن هذا الخطأ الذي يكاد أن يُنهي العمل منذ صفحاته
الأولى وحاولنا تأمل العمل الروائي وكيف حاول توفيق الاستعانة بالعديد من التقنيات
السردية والسينمائية لينقذ العمل من عاديته وتكراريته باعتباره حكاية يومية نلاحظ
أنه نجح فعليا في ذلك.
يبدو السرد في مواضع كثيرة
متأثرا أيما تأثر بالتكنيك السينمائي حيث يستخدم الروائي تقنيات القطع Cut، والفلاش
باك Flash Back، ثم لا يلبث العودة إلى نقطة السرد الأساسية
الآنية التي ينطلق منها وسبق أن قطع عندها، ولعل استخدام هذه التقنيات رغم أهميتها
في السرد إلا أنها تحتاج إلى قارئ شديد التركيز؛ حيث يكون القطع المفاجئ، كذلك
الاسترجاع الذهني المفاجئ؛ مما يستدعي للقارئ غير الجاد إلى إعادة القراءة مرة
أخرى نتيجة لأن السرد سيلتبس عليه نتيجة استخدام هذه التقنيات، نلاحظ ذلك منذ
بداية السرد الروائي، فرغم أن الرواية تبدأ بعلاقة أحمد الجنسية مع هيام مباشرة،
إلا أنه بعد معرفتنا بعلاقتيهما، وكيف أنهما يلتقيان معا في بيته تحت نظر أمه
باعتبارها زميلته في الجامعة، وبعد نقاشه مع أمه في أنه لا بد من إغلاق باب الغرفة
عليهما حينما يدخلانها- وهو ما تعترض عليه الأم-؛ لرغبتهما في الجلوس بهدوء من دون
أن يقاطعهما أحد، يقطع فجأة مسترجعا السرد؛ كي نفهم فحوى العلاقة بينهما:
"كانت المرة الأولى في يوم ماطر، انهمر فيه المطر منذ الصباح لكنه عند العصر
توقف، مشيت معها في شارع طويل لا يوجد فيه غير عتمة الغيم الأسود. كنا نتحدث عن
الموسيقى، وهي تفهم الموسيقى تلك الأغنيات التي تطربها وتهز خصرها. أنا وقتها كنت
قد بدأت أفهم شيئا بسيطا مما يقوله بيتهوفن وباخ، وموزارت، وكنت أحب كثيرا بحيرة
البجع لتشايكوفسكي".
هذه القطعات المفاجئة في
السرد للعودة إلى الوراء نلاحظها مرة أخرى حينما تسأله أمه لم لا يتزوجها، فنراه
يعود إلى القطع السينمائي مرة أخرى: "عندما جئت بها أول مرة إلى بيتنا أخبرت
أمي أنني سأقرأ مع زميلة لي من الجامعة، لأن الكتاب الذي سنقرأ به موجود معها
بنسخة واحدة فقط، وهو مفقود من الأسواق. فلم تُمانع كثيرا، فأنا أول أولادها الذي
استطاع أن يصل إلى مستوى الجامعة وهي تعلم تماما أن الدراسة هناك يختلط فيها
الذكور بالإناث، وهذا لا يمنع أن يلتقيا في مكان آخر ما دام للدرس فقط. لذا لم
تحتج كثيرا بل عندما دخلت البيت أحضرت لها شايا، وتركتنا معا، وقالت أنها ستغلق
الباب علينا خوفا من أن يزعجنا أحد.. كانت تلك المرة وحسب"، نلاحظ من خلال
هذين الاقتباسين أن الروائي يستخدم هذه التقنيات بعدما اقتحم بالسرد حياة كل من
أحمد وهيام من قلبها منذ الوهلة الأولى، أي أنه لم يكن هناك أي شكل من أشكال
التمهيد؛ لفهم هذه الحكاية، ومن ثم لم يكن أمامه سوى تقنيات القطع والفلاش باك
اللتين تعملان على سد الفجوات السردية التي افتعلها نتيجة اقتحامه السرد من قلبه
مباشرة؛ فقاسم توفيق لم يتبع الشكل الكلاسيكي في السرد الذي يوضح لنا الشخصيات،
وبيئتها، وعلاقاتها مع بعضها البعض، بل اقتحم الحكاية من لحظتها الآنية مباشرة منذ
أول صفحة، ثم لم يلبث أن عمل على ملئ الفجوات التي أدت إليها هذه الطريقة من
السرد.
نلاحظ هذه التقنيات بشكل أكثر
تجليا حينما كان مع هيام عند طبيب النساء لإجهاضها، وحينما تسأله السكرتيرة التي
تأخذ معلوماتهما قبل الدخول للطبيب هل يأخذ أي نوع من الأدوية، يجيبها بأنه يتناول
Tagmet، فترد: تعاني من القرحة. هنا يتذكر لقاءه مع
الطبيب للكشف عن القرحة التي يعاني منها وكأنه ينتقل من مشهد إلى آخر في فيلم
سينمائي، ثم نراه يقطع فجأة من دون أي مقدمات وكأنما الحكاية السابقة التي كان
يحكي فيها- حكاية الطبيب والقرحة- عبارة عن مشهد سينمائي انتهى؛ ليبدأ بعده مشهد
آخر تماما يضيف إلينا المزيد من المعلومات في الحكاية الرئيسة، وهي معلومات لم نكن
نعرف عنها شيئا فيما قبل، وتُضيف المزيد في بناء الحكاية، وهذا بالفعل ما نؤكد
عليه في السينما دائما وهو: إن المشاهد في الفيلم لها تراتبية وتُضيف لبعضها
البعض، أي أن كل مشهد يعتمد على المشهد الذي قبله في إضافة معلومة جديدة؛ ومن ثم
إذا كان هناك أحد المشاهد الذي يفقد هذه التراتبية والإضافة لا بد من حذفه في
المونتاج؛ لأنه لا فائدة ترجى منه في البناء الفيلمي.
ربما كان قاسم توفيق منتبها
جيدا لمثل هذه التقنية؛ ومن ثم استخدمها بنجاح في روايته حيث كان القطع المفاجئ
الذي أضاف لنا الجديد من المعلومات والشخصيات داخل المتن السردي، وهي الشخصيات
التي سيعتمد عليها البناء الروائي فيما بعد: "كان الليل بحرا مائجا فوق
الجبل. وفينا الخوف إذا جاء الليل يكبر. يصير بحجم العتمة كلما انطفأت شمعة، أو
نفذ وقود أحد الفوانيس. ونحن الثلاثة نركض لا نعرف في أي طريق، أو أي زقاق. قال
راسم: سيدركوننا، لكننا أسرعنا دون أن ننظر خلفنا. نقطع بيوتا تنبعث منها أصوات لأغان
من الراديو. أو لنساء يتدللن أو يصرخن"، من خلال هذا المقطع/ المشهد نعرف
المزيد عن حياة أحمد حيث صديقيه محمد وراسم المناضلين من أجل القضية الفلسطينية
والراغبين في تحريرها من خلال العديد من العمليات التي يقومان بها داخل الأراضي
الفلسطينية المحتلة، ثم لا يلبثا أن يعودا إلى عمان من دون أن يكتشفهما أحد، أي أن
أحمد منخرط مع صديقيه في العمل الثوري التحرري، ولو لم يكن هذا القطع لما عرفنا
هذه المعلومة الجديدة التي دخلت إلى عالم السرد وأدخلت معها هاتين الشخصيتين، لكنه
ما أن يصل في السرد من خلال هذا المقطع/ المشهد إلى وصول الثلاثة إلى منزل راسم
وتقديم راسم كوبا من الشاي لأحمد كي يدفئه؛ فيرفضه نتيجة آلام معدته التي يشعر بها
تحترق حتى يعود قاسم توفيق إلى القطع مرة أخرى بشكل سينمائي مشهدي إلى السرد في
الجانب الآخر: "أكمل الطبيب: بالإضافة للحمية عليك بهدوء الأعصاب وتجنب البرد
سأكتب لك دواء يساعد في العلاج. وكتبه. أخذت الوصفة ونزلت من عنده، اتجهت إلى
الصيدلية. أعطيتها للصيدلي وقلت أرجوك أن تقول لي كم سعرها. نظر فيها وقال: خمسة
دنانير. قلت وأنا أسحبها من يده وأخفيها في جيبي: إذا سآخذ العلاجين الآخرين،
والهدوء والدفء.. وانصرفت. عندما صرت موظفا صارت عندي القدرة لأشتري العلبة
الباهظة الثمن هذه".
إذن فالسرد هنا يبدو لنا مشهديا
بامتياز من خلال استخدام تقنيات السينما، حتى لكأننا أمام فيلم سينمائي، وكل مقطع
سردي في الرواية عبارة عن مشهد سينمائي، والدليل على ذلك أن كل هذه التقطيعات
والانتقالات المتعددة التي تُشبه المشاهد السينمائية بدأت من سؤال الممرضة في
عيادة طبيب النساء عما إذا كان يتناول دواء أم لا، وهنا بدأت هذه الانتقالات
والتقطيعات التي كانت تفضي كل منها إلى الأخرى ليعود إلى الممرضة وعيادة طبيب
النساء مرة أخرى بعد هذا الاقتباس/ المشهد السابق مباشرة: "كانت السكرتيرة
جالسة أمامي صغيرة وجميلة. أحسست أني قادر على حملها ورفعها بين يدي وضمها مثل أية
طفلة صغيرة". أي أنه انتقل بنا من خلال قطعاته السردية/ المشهدية إلى أكثر من
زمن وأكثر من مكان لسد الفجوات السردية أو إضافة المزيد من الأحداث والشخصيات التي
تدخل في متن السرد والبناء الروائي ثم لم يلبث أن عاد بنا إلى نفس النقطة التي انطلق
منها ذلك كله، ولعلنا لا ننكر أن هذه تقنيات سينمائية أفادت السرد الروائي كثيرا.
الروائي الأردني قاسم توفيق |
لكن هل كانت التقنيات
السينمائية فقط هي التي أنقذت الرواية من الحكاية العادية والمُكررة التي نراها كل
يوم؟
اعتمد قاسم توفيق في روايته
على التراث اعتمادا كبيرا حتى كاد التراث فيها أن يتحول إلى متن أهم من الحكاية
الرئيسية في العمل الروائي، بل ابتلع التراث عددا كبيرا من الصفحات وكأنه المتن
بالفعل، وربما يشعر القارئ أحيانا أن الاهتمام بالحكاية التراثية التي روتها أم
أحمد/ الراوي في الرواية لأبنائها تجعل منها حكاية أهم من قصة الحب التي بين أحمد
وهيام ومأزقهما أمام المجتمع والدين معا، رغم أن الروائي هنا حرص على أن يسوق هذه
الحكاية التراثية لتكون سندا ومعينا له في الحكاية الأساسية- قصة الحب- حيث تسير
الحكايتان متوازيتان- التراث- بشكل رمزي للحكاية الواقعية، و-علاقة الحب- بشكل
واقعي، وإن كانت الحكايتان تعبران عن المواجهة والرغبة في الحياة، والتمسك بها في
نهاية الأمر، أي أن حكاية الأم للقصة التراثية كانت بمثابة دافعا ومشجعا لأحمد في
علاقته مع هيام للمضي قدما من دون رهبة المجتمع والدين، ومن ثم التمسك بالحياة
والحب.
يبدأ قاسم توفيق بالاستعانة
بالتراث مبكرا منذ الصفحات الأولى في روايته (ص24)؛ ليجعله فيما بعد بمثابة قصة
موازية لقصة الحب الأساس بين أحمد وهيام يسيران مع بعضهما البعض، أو بمثابة القطع
المتوازي Cross Cutting كما نُطلق عليها في السينما؛ ومن ثم بمجرد
ما تنتهي الأم من حكاية "ماري روز" التراثية تبدأ حكاية أحمد وهيام
تتشكل نحو النهاية، أي أن الحكايتين باتتا مرتبطتين ببعضهما البعض: "أنتم لا
تعرفون حكاية ماري روز؟ ولا أدري كيف استحضرت العجوز هذا الاسم، وليس في حارتنا
كلها من تسمى بالاسمين معا. لكنها صممت على الاسم. قلت: هل تعرفين معناه؟ ردت
بثقة: ماري هي مريم أم المسيح. سألتها مداعبا: وروز؟ لم تجب. هذا أمر من أمور
النصارى ولا يعرفه أحد غيرهم. سألها أحد إخوتي: وما هي قصتها؟ قالت: ماري روز أجمل
بنات بلدة صغيرة اسمها "دير شمس". اهتممنا كلنا: ها. أكملت وهي تفهم أن
سخريتنا ستختفي عندما تبدأ بحق في سرد قصة ماري هذه"، وتبدأ الأم في حكاية
قصة ماري روز المسيحية التي زهدت الحياة رغم جمالها اللافت للنظر والذي يجعلها
مطمع كل من يراها، لكنها فضلت أن تعيش مع أبيها الخوري الذي في نهاية عمره، وأن
تظل في الكنيسة لخدمة الناس ومساعدتهم وعمل الخير فقط، إلى أن يمر على البلدة ذات
يوم "كليب" أحد العربان، وزعيم قبيلة من أكبر القبائل، ويشعر بالعطش
الشديد هو ورجاله، فيلجأون إلى الكنيسة طلبا للماء، لكن بمجرد رؤية الرجال لماري
يبهتون لجمالها ظنا منهم أنها أم المسيح، إلا أن "كليب" يرغبها لنفسه،
ويطلب مقابلة أبيها الخوري، ويطلبها منه، لكن الخوري يؤكد له أن دينه يمنعه من ذلك
لأنهما ينتسبان لدينين مختلفين، فيسأله "كليب" عن طلباته، ليرد عليه
الخوري: أن تكون من ديننا، هنا يثور "كليب" ويؤكد على "دير
شمس" بالكامل وهو غاضب أنه سيعود بعد شهر واحد فقط إلى "دير شمس"
للزواج من ماري روز، ومن سيعارض ذلك سيقتله، وبالفعل يعود إلى دياره مبهورا بها،
ويعمل على تجميل نفسه ليعود بعد شهر واحد، ولا يجد أي أحد في انتظاره، وحينما دخل
إلى الكنيسة حيث الخوري يجده جالسا وحده يقرأ في كتابه المقدس، ويشير إليه الخوري
إلى باب بجانبه وحينما يدخله "كليب" يجد ماري روز ممددة وقد فارقتها
الحياة؛ ليقول له أبوها: إن دم ماري روز أغلى من الذهب، وهنا يخرج
"كليب" في حالة هياج عائدا إلى بلدته، ويُصاب بما يشبه الجنون، ويظل
يسير في الصحاري، وأهل البلدة غير قادرين على فهم ما يحدث له، وباتوا في خوف شديد
من تهديد الخوري، إلى أن يأتي غريب ذات يوم إلى بلدة "كليب" ويطلب منهم الأمان،
ويخبرهم أنه من "دير شمس" وأنه يرى أن الصلح بينهما أفضل بعدما سمعوا ما
أصاب "كليب". يفرح أهل القرية ويتفقوا معه على الذهاب إلى "دير
شمس" للصلح في يوم الجمعة، وبالفعل يذهبون جميعا ومعهم "كليب"
ويجدون أهل "دير شمس" في انتظارهم بالفرح والاحتفال، وحينما تبدأ
الولائم يطلب أهل "دير شمس" منهم أن يتركوا السلاح؛ فلا سلاح على
الموائد، ولأن أهل "دير شمس" بالكامل غير مسلحين يطمئن أهل قرية
"كليب" لهم ويتركون سلاحهم بالفعل، ولكن على الموائد العامرة تطير رؤوس
الجميع من قبيلة "كليب" بعد أن استعان أهل "دير شمس" بمجموعة
من المسلحين للقضاء عليهم.
نلاحظ من خلال القصة التراثية
التي استعان بها الروائي قاسم توفيق أنها كانت بمثابة الوجه الآخر للعلاقة بين كل
من أحمد وهيام؛ فمشكلة اختلاف الدين هي التي تؤدي في النهاية إلى العنف والقتل،
والمزيد من الدماء، وكأنما الأديان لا هم لها سوى العداء وسفك الدماء، وبث المزيد
من الكراهية بين البشر بدلا من التأليف بين قلوبهم، وجعلهم متحابين. نرى ذلك في:
"سجد كليب كالطفل بين يدي الخوري ورجاه والدموع تكاد تطفر من عينيه أن يزوجه
ابنته. قال الخوري بهدوء: يا بني حرم علينا ديننا ذلك. فرد كليب بلهفة واحتراق:
اطلب ما تريد. قال الخوري: تصير منا".
يُعد هذا الاقتباس أبلغ ما في
الرواية وتلخيصا لها؛ فالدين لا يفعل سوى التمييز بين البشر، ولا يؤدي سوى إلى
المهالك والمزيد من الصراعات فقط، والقضاء على سعادة الناس، وهذا ما نراه في
الواقع بين كل من أحمد وهيام، فكلاهما يعشق الآخر، ويرغبان في الزواج، لكن المجتمع
والدين المختلف يمنعهما من ذلك؛ الأمر الذي جعل علاقتهما سرية في نهاية الأمر، وحينما
حملت هيام بجنين من أحمد كان القرار الذي اتخذه بإصرار هو إجهاضها؛ حتى لا يقتلها
أهلها لا سيما أنها حامل من مسلم لا يمكن لهم أن يتقبلونه بينهم، ورغم أن هيام لا
ترغب في الإجهاض وتريد الاحتفاظ بالجنين الذي هو ثمرة حبها لأحمد إلا أنها تبدو
مستسلمة طول الوقت، راضية بقرارات أحمد التي تتعارض مع رغباتها، ورغم أنه يعرف أن
عملية الإجهاض في الشهر الثالث من الحمل قد تؤدي إلى موتها، إلا أنه يُصرّ على فعل
ذلك: "كان بطن هيام قد انتفخ قليلا، وصارت أجمل وهي تهز بيدها تحاول إبعاد
دخان سجائري عن وجهها، وتنظر قليلا إلى بطنها تحاول أن تضحك وتهمس لي: ستراه
قريبا. فأهتز خوفا عندما أسمعها تقول: تحسبهم سيقتلونني؟ لا أنطق بحرف. تكمل: ما
أحلى أن يكون في داخلي شيء منك".
إن الرغبة لديها في الطفل
قوية، لكنه لا يريده بشكل منهزم أمام المجتمع بعاداته وتقاليده، وتدينه الغبي،
ورغم أنه يؤكد على أن الحب قادر على فعل المعجزات، بل هو قادر على تحدي كل شيء في
الكون، إلا أنه لا يطبق ذلك على أرض الواقع، بل يتناقض معه: "في رواية الأفق
المفقود قررت إحدى النساء الهرب من جنة الأرض مع من تحبه. ملعون هذا الحب فيما
يفعله. تركت كل شيء جميل. الشباب والجمال والعمر الطيب وهربت مع الرجل الذي أحبها،
يبدو أن في الحب سرا أعظم منه، وهو المغامرة، التحدي، الرغبة في إثبات الذات.
مهلكة هذه الذات. ففعلت ما كان يدور في ذهنها دون تردد وهربت مع الرجل الذي تحبه،
القادم من عالم الزوال". هذا الاقتباس يؤكد على إيمان أحمد بأن الحب هو الدافع
للتحدي، تحدي كل شيء في الحياة، والقدرة على المواجهة، ولعل هذا ما جاءت به
الحكاية التراثية أيضا التي كانت تتوازى مع حكايته؛ لذلك حينما يجد نفسه وحيدا بعد
أن هاجر صديقه محمد إلى السعودية، وحينما سُجن راسم في سجون الاحتلال الإسرائيلي،
وحينما تيقن أن عملية الإجهاض لا بد لها أن تؤدي إلى فقدانه لهيام بموتها، وبعدما
وفر واستدان مبلغ 300 دينار من أجل الإجهاض، نراه يجلس مع هيام في أحد المطاعم
ليشربا البيرة ويتناولا عشاءهما، ثم يخرجان ليشتري لها فستانا جميلا يتناسب مع
تكور بطنها.
من خلال هذه التقنيات التي
استخدمها قاسم توفيق كمساعد في بناء روايته استطاع تحويل حكاية عادية ومٌكررة إلى
حكاية تستحق أن تكون متنا روائيا جاذبا وشيقا؛ فلا يتركها القارئ إلا حين انتهائه
منها، نقول: إنه نجح في ذلك رغم أنه وقع في خطأ جسيم منذ بداية السرد، وهو خطأ
يعمل على إنهاء السرد مباشرة بمجرد وقوعه في مثل هذا التناقض الذي وقع فيه حينما
وصف أحمد سيكولوجيا كشخصية قادرة على المواجهة ولا تحب سوى الحياة في العلن
والنور، بينما نجد مواقفه كلها عكس ذلك.
رواية "ماري روز تعبر
مدينة الشمس" للروائي الأردني قاسم توفيق من الروايات الجيدة من حيث البناء
واستخدام التقنيات السينمائية لتوظيفها في السرد الروائي، رغم وقوع الروائي في خطأ
قاتل منذ البداية، كما يمتلك الروائي لغة جيدة وإن كان قد وقع في خطأ غريب حينما
كتب: "كنت جنينا يودع خطوته الأخيرة في عالم التكوين في بطن من اللحم اللزج
الدافئ. ويمد بصره الصغير الضيق إلى النور"، فالبصر لا يمكن وصفه بالصغر ولا
الضيق مطلقا، صحيح أننا نفهم ما يقصده باعتباره يتحدث عن جنين، لكن الوصف لم يكن
متناسبا مع ما يرغب في أن يقوله، كما لاحظنا القليل جدا من الأخطاء اللغوية في
السرد الروائي، ولعلنا صرنا نشعر بالسعادة الجمة حينما نجد عملا مكتوبا بالقليل من
الأخطاء رغم أن انتفاء الأخطاء هو القاعدة، لكن لأن معظم من يكتبون بالعربية باتوا
يجهلونها؛ فيرتكبون الكثير من الجرائم في حق اللغة أثناء الكتابة؛ أصبح القليل من
الأخطاء من الأمور المبهجة لنا.
محمود الغيطاني
مجلة الشبكة العراقية
عدد 30 أكتوبر 2018م
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق