الاثنين، 10 ديسمبر 2018

طقوس للموت.. السرد الساخر والكتابة على الحافة

مع تأمل حالة السرد الروائي العربي في الآونة الأخيرة لا يمكن إنكار أن ثمة كيانات سردية جديدة ومتميزة بدأت تتمركز في ساحة السرد منافسة في هذا التميز السرد الروائي المصري/ الأقدم تاريخيا في المنطقة العربية، والأسرع تطورا عن غيره؛ نتيجة للتراكم التاريخي الطويل لدى المصريين.
لكن ثمة سرد آخر بدأ في الظهور والتطور في العديد من الدول العربية الأخرى. صحيح أن بعض هذا السرد بدأ منذ فترة طويلة وتبلور ونضج بشكل كبير، واستطاع أصحابه أن يكون لديهم الكثير من التراكم السردي والثقافي ويشكلون كتلة ثقافية لا يمكن غض النظر عنها؛ لأهميتها مثل دول المغرب العربي لاسيما الجزائر التي بات لديها تراثا روائيا ضخما من روائيين متميزين، إلا أن الظواهر السردية الأخرى- التي لا تراكم ثقافي وسردي لها مثل منطقة الخليج العربي- بدأت تخطو خطوات ثابتة وبطيئة باتجاه السرد الروائي؛ ومن ثم فهي قادرة خلال فترة وجيزة على ترك تراكمها السردي الذي سيتحول بعد عدة خطوات من التعثر أحيانا والنجاح في أحيان أخرى إلى سرد متماسك يستطيع الوقوف على قدميه ومنافسة غيره في المنطقة العربية.
نرى هذه الخطوات البطيئة والمترددة أحيانا في المملكة العربية السعودية، والكويت، وعُمان، والإمارات العربية المتحدة، وغيرها من دول الخليج؛ ولعله لا يمكن لأي متابع للساحة الثقافية العربية إنكار أن هذه الدول قدمت لنا بعض الأسماء- التي لا ننكر أنها قليلة- وإن كانت متميزة ومنافسة شرسة في الساحة الثقافية العربية.
في الآونة الأخيرة بدأت دولة الإمارات العربية المتحدة تُصدر الكثير من الدوريات الثقافية المهمة المهتمة بالثقافة، راغبة لعب دور ثقافي في المنطقة العربية، بل ونجحت في استقطاب الكثير من الأسماء المهمة في المنطقة العربية للكتابة فيها، فضلا عن الكثير من الجوائز العربية الكبرى التي أطلقتها للعالم العربي، صحيح أن هذه الدوريات لم تهتم بإنتاجها المحلي بقدر ما اهتمت بالإنتاج العربي والأسماء العربية التي تراها هذه الدوريات مُكرسة في المشهد الثقافي، لكنها فعليا غضت النظر تماما وكثيرا عن العديد من الأسماء الثقافية المحلية ولم تهتم بها إلا فيما ندر، لدرجة أن الصحف والدوريات الإماراتية تكاد لا تتحدث عن الحركة الثقافية لديها إلا من خلال الإعلام الرسمي فقط، أي الفعاليات الرسمية التي تقيمها الدولة متجاهلة في ذلك بعض الأسماء الموهوبة والمجتهدة التي تقدم من حين لآخر بعض الأعمال التي لا بد من التوقف أمامها.
لا يمكن إنكار أن الحراك الثقافي في الإمارات بدأ منذ فترة قصيرة قياسا لعمر الثقافة العربية الحديثة، كما لا ننكر أنه حراكا بطيئا نسبيا يعتمد في المقام الأول على درجة تطور المجتمع والدفع به نحو المزيد من التمدين، فضلا عن أن العديد من الكتابات الجديدة فيه ما زالت ضعيفة ومتهافتة ولم تتشكل في الكثير منها إلا ندرة منهم بدأوا يتطورون وينضجون ثقافيا ويقدمون العديد من التجارب اللافتة التي لا بد من الوقوف أمامها لتأملها وتناولها بالكتابة النقدية. نذكر من هذه النماذج على سبيل المثال الروائية لميس فارس المرزوقي التي قدمت روايتها المهمة "حدثتنا ميرة"، لكن رغم أهمية هذه الرواية في السرد الروائي الإماراتي فإن الكاتبة قد اختفت تماما من الحياة الثقافية، ولم تقدم شيئا جديدا بعد هذه الرواية لأسباب لا يعرفها أحد.
قد نستطيع رد اختفائها إلى ظروف المجتمع، أو لأسباب أخرى تخصها، لكنها في النهاية تظل أسبابا تخمينية لا يعرف حقيقتها سوى الروائية التي اختفت. لكن من بين الروائيين المهمين فعليا في المشهد الثقافي الإماراتي لا يمكن بأي حال من الأحوال لمن يطلع عليه إنكار دور الروائي علي أبو الريش/ الأب الحقيقي للرواية الإماراتية وأقدمهم في الكتابة، وأغزرهم في الروايات التي قدمها للسرد الروائي العربي، كما تم اختيار روايته "الاعتراف" من ضمن أفضل مئة رواية عربية، وهو من الروائيين الذين لا يمكن تجاهل دورهم في تطور السرد الروائي الإماراتي وإعطائه خصوصية وتفردا ليختلف عن غيره من السرد في الخليج.
من خلال تأملنا لما ينتجه المشهد السردي الإماراتي نتوقف أمام الروائي الإماراتي عبيد إبراهيم بوملحة وروايته الجديدة "طقوس للموت"، صحيح أن بوملحة له العديد من الروايات السابقة على هذه الرواية منها "رجل بين ثلاث نساء"، و"ليلة غاشية"، و"سوق نايف"، و"الذبابة"، و"الدنيا شمال"، فضلا عن مجموعته القصصية "أشجار تقف على العصافير"، لكن مع تأملنا للرواية الأخيرة "طقوس للموت" نلمح تطورا ونضجا في التجربة الروائية لديه، وهو ما يدفعه باتجاه المغامرة والتجريب في هذه الرواية لدرجة أنه يكتب على المحك والمخاطرة بتجربة السرد بالكامل التي كان من الممكن لها أن تنهار تماما وتتحول إلى كتاب تثقيفي وانتقاد لأحوال مجتمعه والوسط الثقافي العربي بشكل ساخر لولا أنه كان منتبها ومُدركا تماما لآليات السرد التي جعلته متماسك البنية، قادرا على أن يحوله إلى سرد روائي ممتع لا يمكن للقارئ تجاوزه، أو الانصراف عنه إلا بعد الانتهاء من عملية القراءة بالكامل ثم إعادة تأمل المشهد الثقافي من خلال ما صاغه بوملحة روائيا.
إذا ما تأملنا رواية بوملحة لن نجد من خلال ما كتبه حكاية بالمعني الحكائي/ الروائي المعروف لدينا؛ بل مجرد فكرة تدور حولها الرواية حتى الانتهاء منها، فثمة روائي يرغب في كتابة الرواية، وراوٍ خارجي يصف أحداث الرواية، وبطل للرواية يكاد يكون مقهورا طول الوقت من الراوي، ونستطيع فيما بعد سحب هذا القهر الواقع على بطل الرواية على الروائي أيضا باعتبارهما يتشابهان إلى درجة كبيرة؛ فبطل الرواية مقهور من الراوي، بينما الروائي مقهور من المجتمع المحيط به، فضلا عن أن بطل الرواية روائي أيضا داخل العمل، ويكاد يمر بنفس الظروف التي يمر بها الروائي الذي يكتب الرواية، كما لا يمكن إغفال أن الروائي وبطل الرواية يكادا أن يتطابقا في سماتهما السيكولوجية وثقافتيهما، وانتقادهما للوسط الثقافي العربي: "يتأمل بطل الرواية الكتب شاعراً بالضيق، نفس الروايات، نفس الروائيين، تتغير العناوين ويبقون هم، أسماءهم تُطبع بخط أكبر من عنوان الرواية، لم تعد هناك أهمية للعمل الأدبي، اسم الكاتب هو الأهم، ولو كتب هراء أو.... هذه رواية مشَلَّخَة كيف وصلت إلى هذا العدد من الطبعات. قالها بطل الرواية هازئاً، تذكّر صديقه "محمد العربي" الذي كان يعمل كأمين مكتبة في مكتبة (...)، - تم حذف اسم المكتبة لأمور تجارية. ترك بعدها العمل واختفى، كان يزوره دائماً لشراء الكتب، وعندما يشير بطل الرواية إلى رواية ما فإنه يقول له: مشلَّخة اتركها، أعرف نوعية الروايات أو الكتب التي تبحث عنها، يتجول معه في المكتبة، يعطيه الكتب التي يعرف أنها ستعجبه. سأل بطل الرواية أحد العاملين في المكتبة: رشّح لي مجموعة من الروايات القوية. طلب منه الموظف أن يتبعه، مشى خلفه إلى أن وصل إلى قائمة الكتب الأكثر مبيعاً، اعتذر منه بطل الرواية: أريد أن أحصل على روايات قوية أدبياً محكمة الحبك أو فلسفية تثير تساؤلات القارىء، لقد قرأت أغلب الكتب الموجودة في هذه القائمة وأخذت التي لم أقرأها في السابق، أريد كتباً أخرى".
إذن فنحن أمام ثلاث شخصيات من المفترض بأن إحداها واقعية/ الروائي، واثنتين متخيلتين- الراوي، وبطل الرواية-، ولكن رغم أن الشخصيتين الأخريين متخيلتين إلا أن الروائي يتعامل معهما باعتبارهما شخصيتين حقيقيتين، وهذا ما سنراه على طول الرواية من نقاش وشجار، وسب، وشد وجذب بين الروائي وشخصياته التي تعترض عليه أحيانا، بينما يحاول تهذيبها في أحيان أخرى، أو يحسن علاقته بهما غير مرة، فأحيانا يحاول الراوي التدخل في نسج الرواية تبعا لرؤيته هو؛ وهو ما يجعل الروائي يثور عليه في الكثير من الأحيان: "إن مضيت هكذا فتأكد بأنك ستدمّر الرواية، امنحني الفرصة قليلاً لأتحدث، أنا الراوي وهذا اختصاصي. رعشة سرت في جسدي، لا زلت أشعر بالخوف: صحيح بأنك الراوي ولكنك ابتعدت عن أحداث الرواية، ذكرت قصة رجل يسمّى "ريتشارد بريتين" هشّم زجاجة نبيذ على رأس "بيج رولاند" التي تعمل في سوبر ماركت، لا أعرفهم ولا أعرف سبب إقحام قصتهم في الرواية. حكّ الراوي بطنه: تلك القصة مدخل جيد للرواية، لكنك لم تدعني أكملها، اسمعني إلى النهاية وستدرك الرابط. أهم ما في الرواية المدخل، تُسيطر به على أذهان القرّاء. قال ذلك ثمَّ تحرّك من مكانه. فضاء أسود خلفه وأمامه، أطيافٌ لمقهى، طاولات وأناس يحيطهم الضباب، الرؤية غير واضحة". من خلال هذا الصراع بين الروائي والراوي ينسج عبيد بوملحة روايته التي لا تمتلك قوام الحكاية الروائية بقدر ما تمتلك روح التجريب السردي، وانتقاد الثقافة العربية، والسخرية منها بعنف يتناسب مع روايته؛ فثمة عمل روائي يُكتب لكنه في النهاية لا يقدم لنا حكاية العمل بقدر ما يقدم لنا حكاية الشخصيات الثلاث وصراعهم مع بعضهم البعض وتقديم المزيد من المعلوماتية المفيدة لتطور المتن الروائي.
هذا الصراع بين الروائي والراوي نلحظه بشكل أكبر حينما يتمرد الراوي على الروائي: "ناديته ولم يرد: سأتحدث معك كشخص بالغ. ما جعلني أغضب منك هو ما فعلته مع شقيقة الروائية. لماذا قمت بذلك؟ عقد حاجبيه غاضباً: تفو. بصق ناحيتي. لقد جنّ، لا تفسير آخر لديّ. ركض باتجاه الكتب، حمل مجلداً كبيراً بيديه، ركض بأقصى سرعته ناحية الشاشة، رماه بكل قوة عليّ. أغمضت عيني كملاكم يتأهب لتلقي لكمة قاضية لا يستطيع صدها، طاخ. فتحت عيني، الكتاب سقط على الأرض، الحمد لله بأن الشاشة لم تنكسر، يحمل الكتب من حوله ويرميها ناحيتي، خلع نعليه من رجليه ورماهما على الشاشة: يا مجنون ماذا تفعل؟ لم يرد عليّ، رواية مات بطلها وجنّ جنون الراوي فيها"، فالراوي هنا يثور ثورة عارمة على الروائي الذي يتعامل معه ويتخاطب من خلال شاشة الكمبيوتر التي تفصل بينهما، ونلاحظ أن الروائي يفقد سيطرته الكاملة على الراوي الذي يبصق عليه ويلقي عليه الكثير من الكتب. إذن فنحن هنا أمام حالة صراع حقيقي بين الروائي الذي يكتب الرواية وبين الراوي وبطل الرواية- المختلفان مع بعضهما طول الوقت-، لدرجة أن الروائي يتعامل مع الراوي باعتباره شخص ما قام باستئجاره لأداء عمل له ثم تنتهي أي صلة تربطهما ببعضهما البعض بمجرد انتهاء هذا العمل؛ فنرى الروائي يخاطب الراوي: "إن لم تخبرني عن الروايات التي عملت عليها سابقاً فاعذرني، سأغيّر لسان الراوي في روايتي وأجد راوياً جديداً يحل محلك، لا زلت في البداية وبإمكاني التخلص منك بسهولة وإعادة صياغة المسودة من جديد. إهئ، إهئ. لا تبكِ، تكلّم، أخبرني بكل شيء، لا تقلق، لن أقصيك من العمل أبداً: روايتك هي أول رواية أعمل فيها. رغبتُ في هذه اللحظة لو طردته، أوهمني بأنه راوٍ محترف وبعد الضغط عليه اكتشفت بأنه أول عملٍ له، حزنت لبكائه، يجب أن أخرجه من حزنه. ناديته، رفع رأسه لكني لم أرَ أية دمعة، لقد كان يتظاهر بالبكاء، وغد، لن أقطع عليه رزقه. لنتابع السرد. ووهوو. قفز من مكانه ووقف يحك بطنه، إنه مصاب بالجرب".
ثمة روائي هنا يرغب في كتابة رواية ما، وهو يحلم بكتابة رواية مكتملة تصلح للفوز بجائزة كبرى؛ لإيمانه بموهبته التي يتجاهلها الجميع أولا، وإحساسه بالظلم الواقع عليه ثانيا، وهو يرى أنه لا بد أن يضع فيها كل المعايير الفنية التي من شأنها إدهاش أعضاء أي لجنة تحكيم، ومن ثم ترغمهم على منحه الجائزة الكبرى، ولكن ثمة معضلة حقيقية أمام هذا الروائي الذي يتعطل السرد لديه أكثر من مرة، ويعيد بنائه وتشكيله والبدء فيه من جديد غير مرة؛ بسبب تدخل شخصية الراوي الذي يرغب في صياغة الأحداث كما يرى هو من خلال مجموعة من الأفكار والأحداث غير المنطقية، بينما تُعد تصرفات بطل الرواية التي يقوم بها معطلا آخر للسرد حيث يتصرف كما يهوى من دون رغبة الروائي أو الراوي؛ الأمر الذي يجعل الراوي يحتقره ويهزأ منه غير مرة.
نحن هنا أمام شكل روائي مُفكك تماما يحرص الروائي فيه على تفكيك الشكل الكلاسيكي أو المألوف من السرد الروائي ليعطينا شذرات سردية روائية، لا يلبث أن يلغيها لينسج غيرها باعتبار أن ما فات من سرد لا يليق أو لا يعجبه؛ فيجتهد في صياغة غيره بينما يتخلل عملية إعادة السرد، بشكل جديد، الكثير جدا من المعلومات الثقافية المتدفقة والمبثوثة في ثنايا السرد بسبب العديد من الشجارات والخلافات بين الروائي والراوي وبطل الرواية؛ مما يجعل زج الروائي للعديد من المعلومات عن عملية السرد ذاتها وكيف يجب أن تكون، أو بعض السير الذاتية لبعض المؤلفين المشهورين مثل ماركيز أو فيكتور هيجو أو غيرهما منطقية تماما، ولا يمكن للسرد أن يكتمل من دونها، أي أن المعلوماتية في النهاية تصبح من نسيج السرد الذي لا غنى للرواية عنه، وإذا ما حاولنا الاستغناء عنها يشوب السرد الروائي الكثير من النقص، فيكتب: "وضع الراوي يده على فم بطل الرواية الذي أراد أن يكمل حديثه، كان متأثراً. صفعه فسكت، نظر إليّ ويده ما زالت على فم بطل الرواية: وكيف تحارب نظرية القطيع؟ تمتمت في نفسي: لا أريد لروايتي أن تأخذ منحى فلسفياً وعلمياً، سأجيبه لأنتهي من تدخلاته: ذكر الكاتب الأمريكي "جيمس سورويسكي" في كتابه "حكمة الحشود" أن الذكاء الجماعي يتطلب استقلال الفكر وحُكم فائق واتخاذ القرارات الأكثر عقلانية استناداً إلى ردود أقل عاطفية وأكثر معرفة وتفهّم. أبعد الراوي يده عن فم بطل الرواية، حدجه بغضب: استمر"، نستطيع هنا أن نلمح ثقافة كاتب الرواية- بوملحة- الذي يصر على أن يُكسب روايته الكثير من المعلوماتية وبثها بين ثنايا السرد الروائي لتكون متنا فيه بشكل يبدو تلقائيا بعيدا عن الشعور بأنها قد تم زجها في السرد، وهذا ما سنراه في كامل السرد الروائي مثل: "قفز الراوي على الشاشة كأنه يريد خنقي: أرواح أخرى؟! تريد إخافتي. ضحكت بأعلى صوتي: أخبرني، الفضول يقتلني. رفعت رأسي إلى السقف، أريد أن أغوص في أحداث الرواية وهو يشتت السرد. فكرت قليلاً. لا مانع سأخبره ما دامت الأفكار نائمة في عقلي: بعد النجاح الباهر الذي حققته رواية ماركيز "مائة عام من العزلة" قال "خورخي بورخيس" بأنه حلم بالرواية كاملة من أولها إلى آخرها، ولكنه لن يتعب نفسه بكتابتها لعدم إيمانه بالإطالة: لماذا؟ التفت وانبطح على جنبه يستمع. لأن "بورخيس" كان قاصاً لا يؤمن بالروايات: لماذا؟ وضع خمسة كتب تحت رأسه واستلقى على ظهره، إنه مستمتع: لأنها رؤيته، استمع لما قاله وستعرف. إنه جنون منهك ومستنزف، جنون تأليف كتاب ضخم، تفصيل فكرة في خمسمئة صفحة من الممكن أن تُشرح شفوياً بشكل تام في خمس دقائق. جلس بعدما كان مستلقياً: إنّ بورخيس محقّ فيما قاله"، وغير ذلك من المواقف الكثيرة التي تستدعي المزيد من المعلوماتية عن الكثيرين من الروائيين.
تبدو لنا هنا الفقرات التي يتناقش فيها الروائي مع الراوي بمثابة محطات استراحة عن إكمال سرد الرواية، يحاول من خلالها بوملحة بث الكثير من المعلوماتية المهمة التي لا تنفصل عن العمل الروائي، ثم لا يلبث العودة مرة أخرى إلى متنه السردي برشاقة تجعلنا لا نستطيع الاستغناء عما قدمه من معلومات ممتعة ووثيقة الصلة بالرواية: "انتظر، ما الذي تفعله يا مجنون؟ عندما طلبت منك أن تنقلب رأساً على عقب رفضت ذلك، والآن قمت على الفور بخلع ملابسك، لا يريد القراء رؤيتك عارياً، قد يطالبون بحرق كل النسخ بعد طباعتها، ويحترق جسدك وأنت عارٍ معها، على العموم كنت أريد أن أقول لك: إن الروائي الفرنسي "فيكتور هوجو" صاحب رواية "أحدب نوتردام" يكتب وهو عارٍ تماماً، وعندما يشعر بأنه يواجه ضغطا زمنيا ويجب عليه إنهاء الرواية التي يكتبها، يوعز إلى خادمه بمصادرة جميع ملابسه حتى لا يتمكن من مغادرة المنزل ويركز على عمله الكتابي، وفي الأيام الباردة كان يضطر بأن يلف نفسه ببطانيته، والروائية الأمريكية "فرانسين بروس" صاحبة رواية "الملاك الأزرق": أعجبني العنوان كثيراً، لماذا لا تغير عنوان روايتنا وتختار عنواناً جميلاً مثل تلك العناوين بدل "الذباب المنظم والنمل العشوائي" الذي لا أعلم ما الذي يرمز إليه؟ لا أعتقد بأنه سيشد القرّاء لشراء الرواية"، ولكن رغم وعي عبيد بوملحة جيدا بأن المعلوماتية الكثيفة في الرواية من الممكن لها أن تدمرها تماما وتتحول بها إلى مجرد كتاب تثقيفي يود الكاتب فيه استعراض ثقافته العريضة، إلا أنه كان منتبها تماما إلى هذا الأمر؛ وهو ما جعله يحاول دائما ربط هذه المعلومات التي يسوقها بمواقف روائية وخلافية بين الراوي والروائي؛ مما يحتم عليه أن يستعرض هذه المعلومات للراوي القليل الثقافة والذي يحاول أن يتعلم من الروائي ويكتسب ثقافته منه.
يحاول الروائي منذ الجملة الأولى تشييء شخصياته وإكسابهم الحياة بالحديث إليهم، ولعله من خلال محاولته إلباسهم ثوب الحقيقة باعتبارهم شخصيات لها وجود فعلي تكتسب هذه الشخصيات مشروعية وجودها في الحياة؛ ومن ثم تعارضه وتتشاجر وتختلف معه، بل وتناقشه في كيفية كتابة العمل الروائي، فنراه يقول في الجملة السردية الأولى محدثا شخصياته: "تتوقف حياتكما عند صفحة ثناها القارئ برمي الكتاب في سلة المهملات، حرقه، إهماله على أحد الرفوف أو نسيانه في الأدراج. دعك عينه بالمنديل المليء بالمخاط: حياة مملة. أعاد المنديل إلى جيبه: تلك حياتك التي ستتكيف معها. شفط مخاط سال من أنفه: كيف ذلك؟ أصابني الخوف، كيف يستطيع الواحد منّا أن يصوّر حياة شخص آخر؟!"، نلاحظ هنا من خلال المقطع الأول في الرواية رد فعل بطل الرواية على حديث الروائي؛ فهو يدعك عينيه بمنديله المليء بالمخاط ولا يستطيع تصور هذه الحياة التي من الممكن أن يحكم عليه القارئ من خلالها بالموت بمجرد إغلاقه للكتاب، أي أن بطل الرواية يتفاعل في الحقيقة مع ما يقوله أو يكتبه الروائي ومن ثم يكتسب مشروعية وجوده كشخصية حقيقية تعيش بيننا ومن حقها النقاش والاعتراض على الروائي، كما نلاحظ اعتراض الراوي على الروائي: "لم يعجبني العنوان. إنه نفس الصوت الذي يقاطعني منذ بدأت الكتابة، ها هو قد عاد مرة أخرى: لن تلتفت لجنة التحكيم إلى رواية بمثل هذا العنوان. الصوت يزعجني، سأمضي في السرد. تخنق الغصّة بطل الرواية على جهده وتعبه ومعاناته وسهره، عاش في بيت مليء بالكتب: لا تكمل كتابة الرواية، ستدمّر البداية، دعني أقوم بعملي"، أي أن الراوي يرغب من الروائي التنحي عن العمل كي يقوم به هو بديلا عنه.
هنا يتضح لنا أن الكاتب عبيد بوملحة يُدرك جيدا ما يفعله منذ الجملة الأولى، ويعمل على التأسيس له؛ ليكتسب التجريب مشروعيته لدى القارئ وتزول الدهشة ويصبح ما يكتبه فيما بعد عاديا ومقبولا من قبل القارئ ليستمتع معه بلعبة السرد التي وضع بوملحة شروطها منذ اللحظة الأولى.
يقول بوملحة في روايته: "نهضت من مكاني؛ لأعدّ لنفسي فنجاناً من القهوة، وأفكر فيما طلبه "إرنست همنغواي" مني: انهض يا بني وأكمل كتابة الرواية: لا أعتقد يا "همنغواي" بأنك واجهت مشكلة أثناء كتابة أية رواية من رواياتك بموت بطلها في منتصف الأحداث. لنفترض بأنه قد حدث لك. لا مشكلة، ولكن هل تفاجئت أثناء كتابة إحدى رواياتك بالراوي يهجم على إحدى الشخصيات ليغتصبها؟"، حينما نقرأ مثل هذا المقطع السردي بين الروائي و"هيمنجواي" لا تنتابنا أي دهشة من دخول "هيمنجواي" للسرد وحديثه مع الروائي الذي يتخيل الكثير من الشخصيات المشهورة تُقدم له النصيحة، أو تتحدث معه باعتبارهما صديقين يتشاروان مع بعضهما البعض؛ فالروائي أسس منذ الجملة الأولى لقبول أي شيء من الممكن كتابته، أي أنه عقد اتفاقا ضمنيا بينه وبين القارئ لاستساغة كل ما يمكن أن يرد على خاطره للدخول في نسيج السرد مما يمكن له أن يفيد السرد الروائي ويزيده ثراء، ولعل هذا الحديث بين "هيمنجواي" وبين الروائي يوضح للقارئ المشكلة الجوهرية التي يواجهها الروائي حيث تتصرف الشخصيات داخل المتن الروائي كما يحلو لها؛ ومن ثم فهو غير قادر على الاستمرار في السرد بسهولة مما يجعله يتوقف كثيرا عن إتمام العملية السردية ويُعيد بنائها غير مرة، وهذا بالفعل ما يصرح به "لهيمنجواي": "لا أعتقد يا "همنغواي" بأنك واجهت مشكلة أثناء كتابة أية رواية من رواياتك بموت بطلها في منتصف الأحداث"، أي أنه يعاني معاناة فعلية من تصرف الشخصيات كيفما اتفق؛ الأمر الذي يجعله يرغب في العودة إلى بداية الكتابة السردية وإعادة صياغتها: "عليّ أن أعود إلى بدايتها وأغيّرها. أضاءت الشاشة قبل أن أضع يدي على لوحة المفاتيح، لم أرتعد، اعتدت حدوث الأمور الغريبة مذ بدأت كتابتها: هل يحدث هذا دائماً للروائيين؟! إنه الراوي يسألني، لن أرد عليه؛ أنا غاضب منه بعدما فعله. ولكن... ولكن نبرة صوته تحمل الكثير من الحزن، إنه متأثر، أجزم بأنه أدرك خطأه الذي وقع فيه، في النهاية كيف أعامله كشخص بالغ عاقل وهو مجرد راوٍ للرواية، من المحتمل أنه لا يُدرك الخطأ الذي وقع فيه، قد يكون خطئي أنا، أنا اخترته، أوجدته وشكّلته، أو إنه فقد عقله حزناً على موت بطل الرواية".
ربما نلاحظ هنا أن الروائي قد بدأت تنتابه الكثير من الهلاوس المصاحبة لكتابة روايته، فهو لا يتحدث أو يتنازع مع شخصياته فقط، بل تضيء الشاشة أيضا قبل وضع يده على لوحة المفاتيح، ولعل هذه الأحداث الغريبة التي تحدث معه مثل أن يبصق الراوي على الروائي فتعلق البصقة في شاشة الكمبيوتر من الداخل سائلة عليها وغيرها من الأحداث هي ما دفعت الروائي إلى حالة حقيقية من الجنون في نهاية الأمر: "جلس على الكرسي في غرفته، لعق بقايا القهوة في كوب، كانت رائحته قذرة، صنان وعطونة، اتجه إلى المرآة، شعره استطال: لن أحلق لحيتي أو أخفف شعر رأسي، أريد أن تكون هيئتي مثل كبار الكتاب والمفكرين عندما أستلم الجائزة، هذه المرة سأفوز، أشعر بذلك، تحرّك من مكانه ووقف أمام الجدار عارياً ينظر إلى اللوحة المعلقة: الرواية الفائزة بالجائزة الكبرى 10.000 دولار هي (الذباب المنظم والنمل العشوائي)"؛ فهو يعاني مع أبطاله الذين يتصرفون بشكل غريب، كما أنه يشعر بالكثير من الظلم الواقع عليه بما أنه يرى نفسه كاتبا جيدا لكن الحركة الثقافية المحلية والعربية تتجاهله بينما يتم منح الجوائز لمن لا يستحقونها رغم كتاباتهم المهترئة التي لا تستحق أن يقرأها أحد.
الروائي الإماراتي عبيد إبراهيم بوملحة
لعل هذه الحالة من الشعور بالغبن الواقع على الروائي رغم موهبته يحاول بوملحة تأكيدها وتعميقها داخل العمل من خلال الامتزاج الحقيقي بين بطل الرواية والروائي؛ فبطل الرواية حينما يتحدث عن نفسه وما يعانيه يكون في حقيقة الأمر يتحدث عن الروائي نفسه الذي يكتب الرواية: "جميع المكتبات تتجاوز رواياته في التنظيم الأبجدي أو تصنيف "ديوي العشري" وكأن أعماله لا تخضع لأي تصنيف، يزور المكتبات دائماً ليسأل عن رواياته، لا يعرفها البائعون إلا بعد أن يبحثوا عنها في جهاز الحاسب الآلي فيقال له بأنها قد أُعيدت إلى الموزع؛ لعدم بيع أية نسخة، وفي أحسن الأحوال يحصل على نسخة أو اثنتين في أسفل الرفوف وأبعدها، يرفعها بيديه الاثنتين، يتلفت يميناً ويساراً، يقبلها، يُعيدها إلى مكانها وهو يربت على غلافها، يُصارع نفسه لشرائها إلا أنه يتنازل عنها فقد يأتي أحد ما يبحث عنها". نلاحظ هنا أن بطل الرواية الذي هو روائي أيضا يتحدث عن حالة الظلم التي يشعر بها، والتي هي في الواقع نفس حالة الروائي الذي يكتب الرواية، أي أن بوملحة يحاول أن يبث لنا معاناة كاتب الرواية من خلال بطلها.
هذه الحالة من الشعور بالتجاهل رغم الموهبة نستطيع سحبها على عبيد بوملحة نفسه حينما ينتقد حال الواقع الثقافي المحلي في الإمارات؛ فيتبين لنا أن بوملحة يحاول أن يبث انتقاداته عن الثقافة المحلية، أو الوسط الثقافي العربي بوجه عام من خلال الروائي الذي يكتب الرواية وبطل الرواية نفسه اللذين لا ينفصلا على الإطلاق عن حال بوملحة: "وددت إغلاق الحاسب الآلي، غصّة في قلبي: انظر إلى الملاحق الثقافية في صحفنا وستعرف بأنك تحلم، التهميش ما نلقاه، صحفنا محلية وكل مواضيعها عن أدباء الخارج ومقالات منسوخة من الصحف العربية والعالمية. ارتعش الراوي: غير معقول. عقدت حاجبي: وصل الكسل بمحرري الصفحات الثقافية إلى عرض قائمة الكتب الأكثر مبيعاً في الدول الأخرى فقط. ما زال رافضاً: لا أصدقك. حركت يدي له: ارجع إلى جميع الصحف المحلية لعام كامل وراجعها، الاهتمام بالأدب المحلي والكتاب المحليين يكاد لا يتجاوز نسبة الواحد بالمئة. شهادة إبراء ذمة: أقر أنا الموقع أدناه بصفتي الفعلية (الراوي) عن عدم مسؤوليتي عمّا هو مكتوب أعلاه، وأعلن بأن الروائي هو الكاتب ويتحمل المسؤولية القانونية كاملة، وقد أصدرت هذه الشهادة لإخلاء طرفي من كل ما تفوّه به، إبراءً من أي حق أو ادعاء. هل أنا محاسب أيها الروائي؟ يرتجف خوفاً: أنت كراوٍ غير محاسب قانونياً وإنما أدبياً عن ملائمة لسانك للرواية وحسن الحبك والربط بين عناصر الرواية المختلفة وسلاسة أو منطقية الانتقالات بين الأحداث أو الشخصيات".
نلاحظ هنا أن عبيد بوملحة حينما يرغب في انتقاد الواقع الثقافي المحلي في الإمارات يسوق انتقاده بشكل صريح ومباشر، وإن كان قد جعله في شكل خلافي ونقاشي بين الراوي والروائي، بل وحرص على كتابة هذا النقد بشكل ساخر؛ ليخفف من مباشرته ومحاولة ربطه بنسيجه الروائي؛ لهذا رأينا قول الراوي: "شهادة إبراء ذمة: أقر أنا الموقع أدناه بصفتي الفعلية (الراوي) عن عدم مسؤوليتي عمّا هو مكتوب أعلاه، وأعلن بأن الروائي هو الكاتب ويتحمل المسؤولية القانونية كاملة، وقد أصدرت هذه الشهادة لإخلاء طرفي من كل ما تفوّه به، إبراءً من أي حق أو ادعاء".
الروائي الإماراتي علي أبو الريش
هذا الشكل الساخر يحرص عليه بوملحة غير مرة كلما ساق انتقادا للثقافة المحلية فنراه حينما يحاول انتقاد بعض الممارسات الحكومية مثل التصريح من قبل جهاز رقابة الكتب بطباعة عمل جديد مثلا يكون حريصا على أن يسبغ هذا الانتقاد بالكثير من السخرية الخفيفة الظل من خلال السرد فيقول: "لم يتحرّك بطل الرواية من مكانه، اقترب من الفتاة: عذراً، لم أسمع الاسم جيّداً. التفتت إليه، شهقت، شكّ في نفسه، سقطت عينه على رواية "الموتى السائرون" يحملها أحد الواقفين في الطابور، قرص بطل الرواية يده: آي، ما زلت على قيد الحياة. بلعت ريقها وهي تنظر إليه: إنه حفل توقيع أختي الروائية طوط طوط طوط لروايتها الجديدة طوط طوط طوط. ملاحظة مهمة: تم حذف اسم الروائية وعنوان الرواية لتجيزها أجهزة رقابة الكتب: أحضر موافقة خطّية من صاحبة الرواية في البداية. يتركون كل شيء، كل العناوين المذكورة في الرواية وأسماء الشخصيات ويتمسّكون بأمر تافه. أحضر موافقة ورثة الشخص الفلاني. أتضايق وأرد بأن الرواية هي توثيق لحياة أشخاص عاشوا و.. و... طاخ، يطبع ختم المنع على المسودة. حتى لا تتم رفع دعاوى قضائية عليك بعد ذلك". هنا يكتب بوملحة بسخرية أن الروائية اسمها طوط طوط طوط، باعتبار أنه قد نطق اسمها ولكن ثمة صوت رقابي دخل إلى السرد ليمحو صوته حينما نطق بالاسم مثلما يحدث في البرامج التليفزيونية حينما تضع رقابة على أي مفردة مرفوضة يقولها الضيف بإدخال صوت على صوته، وهو قد فعل ذلك سخرية من جهاز رقابة الكتب الذي يُضيق الخناق على الكثيرين من الكتاب ويمنع عنهم التصريح بطباعة كتبهم لمجرد ذكر أي اسم فيها.
لعل هذه الرغبة في مزج السرد الروائي بالكثير من السخرية هي من الأمور التي قد تؤدي إلى انهيار السرد بالكامل؛ فالكتابة الساخرة في السرد الروائي ليست دائما في صالحه، لكن بوملحة يحرص بذكاء على مزجهما بشكل يجعله مقبولا ومفيدا للسرد في نهاية الأمر لدرجة أنه يخاطر بالعملية السردية بالكامل حينما يذهب بالسخرية إلى مداها الأعمق ويسخر من العملية السردية نفسها: "وضعت الروائية طوط طوط طوط يدها على فمها وطفقت تضحك: الشعر الأبيض يغطي لحيتك ولم تتزوج حتى الآن؟! أراد الرد عليها لكنها سحبت الرواية من يده: إذاً سأضيف شيئاً إلى الإهداء لأنك غير متزوج إلى الآن. يا ترى ما الذي ستكتبه؟ هل ستكتب له أحبك؟ أم ستمازحه وتكتب له إلى الأعزب؟ أم رقم هاتفها؟ هذا ما سنعرفه في الحلقة القادمة: أيها الراوي ما هذا الذي تقوله. تنحنح: أُضيف عنصر التشويق إلى الرواية؟ لم تر شيئاً إلى الآن، سأجعل رواية "الذباب المنظم والنمل العشوائي" من أفضل الروايات التي كتبت، سيتقاتل المعجبون عليك. ضربت الطاولة: احذف كلمة "المعجبون" وغيرها إلى المعجبات. ليكون الوصف دقيقاً. نظر إليّ: ما رأيك في التشويق الذي أضيفه على الرواية؟ ستستدعى إلى جميع القنوات التلفزيونية لإجراء المقابلات معك، ستكتب عنك جميع الصحف والمجلات"، إذا ما تأملنا المقطع السابق سنلاحظ سخرية الروائي من عملية السرد التي نراها اليوم على هذه الشاكلة في الوسط الثقافي العربي، حيث يكتب الكاتب أي شيء لا معنى له ثم لا يلبث أن يتحول إلى نجم ربما يكون أكثر شهرة من نجوم السينما، وبالتالي يبدأ في الحديث المتضخم عن نفسه وعن عدد المعجبين الذين يهرولون خلفه، وعدد المتابعين له على شبكة التواصل الاجتماعي وغير ذلك.
هذ الانتقاد الساخر من الواقع الثقافي العربي نراه بشكل أكبر تجليا في: "تقترب إحدى المعجبات من الروائية، تشيد بالروائية وروعة رواياتها. تحقق أعلى المبيعات، مؤثرة، مبكية، كل فتاة تقرأ لها تتخيل نفسها بطلة الرواية. قلّب بطل الرواية نظره بين الحضور، استغرب وجود عدد كبير من النساء الكبيرات في السن، ظنّ بأنهن قد حضرن لاقتناء الرواية وإهدائها لبناتهن أو حفيداتهن، اقترب منهن، سمع نقاشاتهن وإعجابهنّ بأعمال الروائية طوط طوط طوط: ما رأيك برواياتها؟ رائعة أليس كذلك؟ التفت إلى المعجبة: لم أقرأ أي رواية لها من قبل. فتحت المعجبة عينيها مستغربة ثمّ فتحت صفحات الكتاب وبدأت تقرأ: جمالك الليلكي، ينعكس على جمالي ويقول كله لكِ، طريق الحب أمامنا سالكِ، أتوقف دلالاً وتسألني ما بكِ؟ اربطيني بحبالكِ. شعر بطل الرواية بالغثيان: ما هذا؟! ابتسمت المعجبة: هذه خواطر تكتبها الروائية وتضعها في الرواية، هل تريد أن أكمل؟ لم تنتظر أن يجيبها واستمرت تقرأ، وهو لا يسمع إلا لكِ، و كِ.. كِ.. أنفه يحكه ودمعت عيناه، شعر برغبة في العطس، يرفع يديه أمامها لتتوقف لكنها لم تنتبه، لم يستطع بطل الرواية أن يتمالك نفسه: آتشو". ربما كان هذا المقطع من المقاطع المهمة التي تنطبق على الواقع الثقافي العربي بشكل حقيقي؛ فثمة كاتبات وكتاب لا قيمة فعلية لما يكتبونه ولديهم بالفعل مثل هذا الكلام الفارغ بينما نرى الآلاف من المعجبين بكتاباتهم الذين يرون هؤلاء الكتاب آلهة في السرد الروائي، بل ويصبحون من المقدسين الذين لا يمكن المساس بهم من قريب أو بعيد، ولعل في نموذج كتابة أحلام مستغانمي مثالا واقعيا من الممكن لنا إسقاط مثل هذا المقطع عليه، وهو ما دفع الروائي هنا ليكون أكثر إمعانا في القسوة حينما ينتقد الواقع مستشهدا: "استمع لما قالته "كارمن بالثيس" الوكيلة الأدبية "لغابرييل ماركيز" عن عملها في عالم الأدب: عملٌ وسخ. كلمتان فقط ونقطة، بلاغة ومباشرة واضحة".
من خلال هذه الجملة يكون عبيد بوملحة قد انتقد ما يحدث في عالم الثقافة بقسوة حقيقية لا يمكن لها أن تُقلل من قيمة السرد الروائي أو اتهامه فيها بالمباشرة والثرثرة؛ نظرا لارتباط كل ما يسوقه من انتقادات أو سخرية أو حتى معلوماتية بشكل روايته ارتباطا وثيقا بحيث يبدو من متن السرد وليس غريبا عليه.
نلاحظ على طول رواية "طقوس للموت" أن ثمة انشغال ودراية عميقة بآليات السرد وكيفية كتابة الرواية كعمل فني، أي أن الروائي لديه من الخبرة والدراية والعلم بآليات الكتابة السردية الكثير، وهذا ما نراه في العديد من الفقرات التي يحاول فيها الروائي بث ثقافته ومعرفته في متن العمل الروائي على شكل تساؤلات وحوارات مع الراوي، وإن كان الروائي هنا منتبها بشكل لافت لما يفعله فيحرص على السيطرة على السرد من دون أن يعمل على إثقاله أو انفلاته من بين يديه، فلا يبدو ما يقوله مجرد نتوء سردي في جسد الرواية؛ لذلك نراه يتحدث عن ذلك مع الراوي فيقول: "هل سيكون ذكر هذا المثال مفيداً، ليس على الروائي ذكر كل ما يعرفه في روايته، فقط ما يدعم عمله الأدبي ويشكّله ويشذبه ويمنحه المرونة ليتناسق مع السرد وألا يقطعه بحيث تكون المعلومة مقحمة ليبين الروائي ثراءه الفكري وغزارة معلوماته بشكل لا يضيف للسرد ولا يتواشج معه. عزيزي، تطويع المعلومات في العمل الأدبي مهمة بسيطة عندما يعرف الروائي طبيعة الرواية ويدرك مدى قدرته على ترويض أفكاره في القالب الروائي وصعبة إذا كانت انسياب وإفاضة من غير روية، تحتاج إلى أدوات، كحدث أو شخصية تتبناها. الراوي يقفز يريدني أن أذكر المثال. أدركت بأني مرغم: أسميه التكنيك العقلي بطريقة السلاطين العثمانيين. ركض في أرجاء المكتبة، علمت أنه يبحث عن كتب تحكي عن السلاطين العثمانيين، طلبت منه أن يعود إلى مكانه ويستمع: الفكرة ليست مذكورة صراحةً، ولكننا نستنبط من التاريخ والأحداث عزيزي".
هنا يبدو لنا الأمر كأن بوملحة يتوجه إلى القارئ بشكل مباشر ويوضح له أن موضوع روايته التي يكتبها يتناسب تماما مع ما يفعله ويسوقه من أمثلة ومعلوماتية، ومن ثم يبدو لنا واثقا مما يفعله، مدركا أنه لا يمكن أن يكون إثقالا على كاهل الرواية بقدر ما هو مفيدا في تقدم العملية السردية التي يعمل عليها.
يفاجئنا الروائي عبيد بوملحة في نهاية روايته بحدوث مفارقة لم تكن متوقعة من قبل القارئ ولم تخطر على باله حتى السطور الأخيرة منها حينما يكتب: "عاد بطل الرواية إلى عزلته، لم يخرج منها لأشهر، انتهى من كتابة الرواية وأرسلها إلى الجائزة، تمتم: شهور قليلة فقط وأفوز بالجائزة. بقيت حياة بطل الرواية كما هي، إما أن يجلس في غرفته ليقرأ أو ينزل إلى المقهى. اقترب موعد إعلان النتائج، رنّ هاتفه النقّال، رقم لا يعرفه يتصل به، شعر بطل الرواية بأن قلبه قد توّقف، ردّ على الاتصال وجسمه يرتعش. مبروك لقد فزت بالجائزة الكبرى. لم يستطع بطل الرواية أن يتحدث، صرخ الصوت في الجانب الآخر من الهاتف. مليون دولار. نزلت الدموع من عيني بطل الرواية، ثم استوعب الرقم الكبير الذي قاله المتحدث في الهاتف، زعق غاضباً: مليون دولار؟! هل تمزح معي؟ طمأنه المتحدث وسأله عددا من الأسئلة، وعندما وصل إلى الوظيفة ردّ عليه: روائي، قال المتحدث في الهاتف: هذه أول مرة يفوز معنا روائي في تاريخ الجائزة. ضحك بطل الرواية من المزحة بأعلى صوته، تماسك، وقف منتشياً. أخيراً فازت روايتي "الذباب المنظم والنمل العشوائي" بالجائزة الكبرى، صمت على الهاتف ومن ثمّ. أية رواية؟ لقد فزت في اليانصيب! انتشر الخبر في وسائل الإعلام، الروائي الفائز بالجائزة الكبرى المليون دولار. وبعدها اختفى الروائي فجأة ولم يحدثني، هرعت إلى بطل الرواية لأسأله فوجدته قد شنق نفسه، عدت راكضاً إلى الشاشة، أخرجت رأسي بصعوبة منها، وجدت الروائي معلقاً في السقف مثل بطل الرواية، لمحت تحته مسودة الرواية مطبوعة، ركّزت نظري عليها، أخيراً عرفت اسمه. عبيد بوملحه، يمسك في كف يده منديل، أعتقد بأنه مليء بالمخاط وتفوح منه رائحة البول، خيط من اللعاب يسيل على قميصه تجمّع عليه الذباب بانتظام، والنمل أسفل جثته يدور بعشوائية. ضحكت: لن أكون مطيعاً ككلب، لن أحرق المسودة، وسأنشرها، ستسألونني عن الروائية طوط طوط طوط وأمها وشقيقتها والفتاة التي استوقفت بطل الرواية، لا أعلم عنهم أي شيء، أكملوا الرواية وحدكم؛ فلم أعد قادراً، ليساعد الرب روحي الفقيرة".
هنا نلمح ارتفاع نبرة السخرية إلى مداها الأقصى حينما يتبين لنا أن الروائي/ كاتب الرواية هو المؤلف عبيد بوملحة نفسه، وأن بطل الرواية والروائي/ المؤلف لا ينفصلان عن بعضهما البعض في كل ظروفهما السيكولوجية والاجتماعية.
ربما كانت رواية "طقوس للموت" للروائي الإماراتي عبيد بوملحة من الروايات التي تحتاج إلى قارئ متمرس على عملية القراءة، قادر على الصبر حتى نهاية العمل من دون تعجل في الحكم عليه أو الانصراف عنه، وإن كنا نستطيع الجزم أن الروائي هنا لم يشب سرده أي شكل من أشكال الإملال بقدر ما كانت أحداثه ومعلوماته شيقة تدعونا للتمسك بالرواية حتى الصفحة الأخيرة منها، مُدللا في ذلك على قدرته في التحكم بخيوط السرد، محاولا التجريب في الشكل الروائي بشكل محكم ومقدما تجربة روائية ناضجة تشير إلى وجود كتابة جديدة في الإمارات من الممكن لها المنافسة مع الكثيرين ممن يسودون المشهد الروائي العربي.





محمود الغيطاني
مجلة عالم الكتاب
عدد نوفمبر 2018م











ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق