الخميس، 13 ديسمبر 2018

أنا دانيال بليك.. القتل باسم القانون

في الفيلم البريطاني I, Daniel Blake أنا دانيال بليك للمخرج الإنجليزي Ken Loach كين لوتش ثمة صرخة حقيقية في وجه المجتمع الإنجليزي من قبل الفقراء والمحتاجين تأتي على لسان الفيلم وصناعه؛ حيث يحاول المخرج توجيهها للحكومة التي تتعامل مع المحتاجين والمرضى بشكل فيه من الإهانة والإذلال ما لا يمكن احتماله؛ لدرجة أن بعض المحتاجين ينصرفون عن طلب حقوقهم القانونية ويستسلمون للفقر والموت والتشرد والجوع بعدما يصيبهم الكثير من اليأس في الحصول على أي شيء، وبعدما تكون كرامتهم قد تم إهدارها تماما ومن ثم يفقدون حتى احترامهم لذواتهم، وانتمائهم لمجتمعهم.
يتناول الفيلم الذي كتبه بإتقان السيناريست Paul Laverty بول لافرتي قضية اجتماعية خطيرة يعاني منها المجتمع الإنجليزي وتنذر بالعديد من الانفجارات الاجتماعية إذا لم تحاول الحكومة السيطرة عليها، وهي قضية البيروقراطية اللامتناهية في التعامل مع المحتاجين لمعاش دعم العجز ممن يصابون بالأمراض أو الإصابات الخطيرة التي تقعدهم عن العمل؛ الأمر الذي يؤدي بهم إلى الحاجة الماسة لهذا الدعم وإلا يتم تدمير حياتهم تماما والقذف بهم نحو الفقر والعوز والجوع ثم الموت إن لم يلاقوا هذا الشكل من أشكال الدعم.
لذا ينجح السيناريست بول لافرتي بالتعاون مع المخرج كين لوتش في تقديم فيلم من أفلام الواقعية الاجتماعية القاسية الذي قد يجعل المشاهد؛ لفرط واقعية الفيلم، يظن أنه ليس إلا فيلما وثائقيا يتحدث عن مشكلة من مشكلات المجتمع الإنجليزي، ولعل هذه الواقعية والإتقان في التقديم وصناعة الفيلم كانتا في صالحه كثيرا؛ حيث أثار ضجة كبيرة في بريطانيا حينما تم عرضه؛ لا سيما أنه عبر بصدق عن معاناة الآلاف من الإنجليز الذين يموتون ويتشردون بسبب البيروقراطية في التعامل معهم؛ الأمر الذي يهينهم وكأنهم يتسولون، وليسوا مجرد مطالبين بحقوقهم من الدولة التي يدفعون ضرائبها.
يدور الفيلم عن أزمة دانيال بليك الذي أدى دوره باقتدار الممثل الإنجليزي Dave Johns ديف جونز؛ حيث يمر بليك- الذي يعمل نجارا- بأزمة قلبية تجعله غير قادر على العودة إلى العمل مرة أخرى بأمر الطبيبة المعالجة، واستشاري الجراحة، وفريق المعالجة الفيزيائية الذين يرون جميعا أنه لا بد له من التقاعد وإلا أدى عمله إلى موته بشكل لا شك فيه؛ الأمر الذي يجعله يلجأ إلى المطالبة بمعاش دعم العجز، لكنه يواجه الكثير من البيروقراطية والإهانات، بل والمراوغة الفعلية في عدم منحه المعاش مما لا يمكن احتماله، ويشعره بالكثير من الدونية، بل ويتركه على شفا التسول.
يبدأ الفيلم بشاشة مظلمة تماما بينما نستمع في الخلفية صوت إحدى الموظفات تطرح على بليك بآلية باردة مجموعة من الأسئلة بطريقة لا روح فيها؛ ولعل المخرج كين لوتش قد اهتم كثيرا أن يبدأ الفيلم بهذه الشاشة المظلمة من دون أن نرى المتحدثين لجذب انتباه المشاهد والتركيز على الآلية التي تتم من خلالها طرح الأسئلة التي لا معنى لها، ولا علاقة فعلية لها بما يعانيه بليك، أي أنه رغب أن يكون التركيز الأكبر على الموضوع قبل أن نرى الممثلين؛ نظرا لأهمية الموضوع الذي يطرحه الفيلم، فنستمع إلى الموظفة تسأله ببرود: هل يمكنك أن تمشي أكثر من خمسين مترا من دون مساعدة شخص آخر؟ هل يمكنك أن ترفع ذراعيك كما لو أنك تضع شيئا في جيب سترتك؟ هل يمكنك أن ترفع يديك إلى قمة رأسك كما لو أنك ستضع قبعة؟ وغير ذلك الكثير من الأسئلة التي لا معنى لها، ولا علاقة لها بما يعانيه من مرض في قلبه، ورغم أنه يجيب عليها في كل هذه الأسئلة وغيرها بالإيجاب، إلا أنه يحاول أكثر من مرة مقاطعتها؛ ليفهمها أنه يعاني من القلب وليس من أي شيء آخر، وأن أسئلتها لا علاقة لها بما يعانيه، لكنها ترد عليه في كل مرة بشكل فيه الكثير من التهديد: إنه عليه الإجابة عن أسئلتها بالإيجاب أو النفي فقط من دون أي توضيح وإلا سيكون الأمر ليس في صالحه وسيخرج من برنامج طلب معاش دعم العجز، لكنه يسألها بسأم: هل أنت ممرضة أو طبيبة؟ فتجيب: أنا مختصة في الرعاية الصحية. أي أن من بيدهم أمر المصابين في النهاية بأيدي أناس غير متخصصة؛ ومن ثم فهم لا يعرفون ما الذي يجب عليهم فعله سوى إلقاء مجموعة من الأسئلة الروتينية التي لا معنى لها، والتي يتم توجيهها لكل الحالات والأمراض المختلفة، ومن خلال الإجابة على هذه الأسئلة المبدئية يعطون المريض مجموعة من النقاط التي لو كانت أقل من 15 نقطة فإنه يتم رفض طلبه للحصول على المعاش مهما كانت حالته الصحية الحرجة!
بالفعل يحصل دانيال على 12 درجة فقط، وهذا يعني أنه قد تم رفض طلبه للحصول على المعاش، بل ويتم إعلامه بالرفض بعد مدة طويلة حاول خلالها مهاتفتهم كثيرا إلا أنهم كانوا يضعونه على الانتظار طويلا لمدة قاربت في إحدى المرات ساعة و48 دقيقة؛ الأمر الذي يشعره بأنه مجرد متسول، لكنهم حينما يجيبونه يخبرونه بأن طلبه قد تم رفضه وعليه أن ينتظر اتصالا من صانع القرار أولا قبل القيام بإجراءات الطعن على هذا القرار إذا رغب في الاستمرار والطعن.
يذهب بلييك إلى المبنى الحكومي وهناك تخبره الموظفة أنه لم يعد أمامه سوى انتظار اتصال صانع القرار أولا ثم القيام بالطعن، أو طلب معاش البطالة- وكأنه عاطل- بدلا من معاش دعم العجز، كما أنه عليه تقديم هذا الطلب من خلال الإنترنت، وحينما يسألها عن موعد اتصال صانع القرار لا يعطيه أي أحد إجابة نافعة، بل يخبرونه بأنه سيكون قريبا فقط.
هنا يقع دانيال في إشكالية حقيقية تجعله حائرا فيما عليه أن يفعل؛ فهو لا يمتلك سوى هاتفا محمولا عاديا لا علاقة له بالهواتف الذكية، كما أنه لا يعرف ما هو الإنترنت الذي لم يستعمله مرة واحدة في حياته؛ لذلك يضطر إلى الذهاب لأحد مقاهي الإنترنت ويطلب من المسؤول هناك مساعدته لكنه حينما يملأ بياناته جميعا ويضغط على زر الإرسال يحدث خطأ ويكون عليه البدء من جديد مرة أخرى، ويظل هكذا حتى ينتهي الوقت المحدد له في الإنترنت ويتم إغلاق الجهاز أمامه من دون أن يفعل شيئا سوى أنه أنفق المزيد من المال الذي هو في حاجة ماسة له.
يتجه دانيال مرة أخرى إلى المبنى الحكومي؛ حيث يخبرهم بعدم قدرته على التعامل مع الإنترنت وهناك يرى الموظفين يتعاملون بشيء كبير من الصلف والفظاظة والإهانة مع إحدى الفتيات التي تصطحب معها طفلا وفتاة، يفهم بليك أنهم يرفضون التعامل مع الفتاة- التي هي في حاجة إلى معاش بطالة- رغم أنها كان لديها موعدا معهم لمجرد أنها تأخرت قليلا عن موعدها، ورغم أنها حاولت أن تشرح لهم أنها انتقلت منذ أيام من لندن إلى نيوكاسل، وانها لا تعرف في المدينة شيئا؛ الأمر الذي جعلها تستقل الحافلة الخطأ وحينما انتبهت أسرعت هي وطفليها إلى المبنى ركضا، إلا أنهم يرفضون الاستماع إليها بشكل فيه من الفظاظة وعدم المسؤولية أو الشعور بالآخرين ما استفز بليك وجعله يقف في وسط المبنى وقد رفع صوته متسائلا عمن عليه الدور من المواطنين وحينما يجيبه أحدهم يسأله: هل لديك مشكلة في أن تتقدم هذه السيدة مكانك؟ فيجيب الرجل بأنه يوافق، هنا يتوجه بليك للموظفين: أظن أنه عليكم أن تتعاملوا معها الآن، لكن الموظفين يطلبون الأمن ويطرودونهم من المبنى معا.
يعرف بليك أن الفتاة كاتي التي قامت بدورها Hayley Squires هايلي سكوايرز كانت تسكن في لندن، وكانت تعاني من تسرب مائي في جدران شقتها هناك؛ الأمر الذي أدى إلى مرض طفلها ونقله إلى المشفى، لكنها تقابل صاحب الشقة في المشفى؛ ولأنها تقدمت بشكوى ضده قام بطردها هي وطفليها؛ ومن ثم ظلت تعيش لمدة عامين في نزل للمشردين عبارة عن غرفة واحدة فقط لها وللطفلين في انتظار الحصول على شقة جديدة، وحينما تم تسليم شقة لها كانت في نيوكاسل التي انتقلت إليها منذ أيام.
يتعاطف بليك مع كاتي ويعاضدها هي وطفليها لاسيما حينما يوصلها إلى شقتها ويجد أن الكهرباء مقطوعة لأنها لم يكن معها أموال لدفع فاتورة الكهرباء؛ الأمر الذي يجعل الشقة شديدة البرودة، كما أنها فضلت أن تشتري لطفليها ملابس جديدة للمدراس التي بدأت بدلا من دفع الفاتورة.
رغم أن دانيال بليك يعاني من أزمة خطيرة في صحته تكاد أن تتركه على شفا التسول لو لم يحصل على معاش دعم العجز إلا أنه يهتم بمشكلة كاتي بشكل يكاد يكون أكثر من اهتمامه بمشكلته الشخصية، وهذا ما يريد أن يقوله لنا المخرج كين لوتش: إن القليل من الاهتمام الإنساني بالآخرين من الممكن أن ينقذ حياة الكثيرين؛ لذلك يحاول أن يرعى طفليها، ويساعدها في حياتها، ويصلح لها أبواب المنزل، والصنابير التي تتسرب منها المياة، لكنه يلاحظ أن كاتي ليس لديها أي مال، كما أن الطعام لديها يكاد يكون غير موجود؛ فيأخذها إلى بنك الطعام للحصول على احتياجاتها.
لعل المشهد الأهم في الفيلم والأكثر تأثيرا هو المشهد الذي رأينا فيه كاتي في بنك الطعام حينما تحصل على احتياجاتها، حيث تنتحي أحد الأركان وتسارع- بينما أطرافها بالكامل ترتعش- في فتح إحدى علب البقول وتتناولها بيدها بشكل فيه من الجوع ما لا يمكن تخيله، وبمجرد ما تلمحها الموظفة نرى كاتي تنهار باكية وقد شعرت بالكثير من الحرج والخجل مما فعلته، هنا تحاول الموظفة تهدئتها بمساعدة دانيال مؤكدين لها أنها لم تفعل ما يستدعي الخجل أو الإحراج؛ فتخبر دانيال أنها كانت تشعر بالكثير من الجوع الذي أشعرها بأنها على وشك الغرق. نلاحظ في هذا المشهد الأداء المقنع الصادق للمثلة هايلي سكوايرز حيث ارتعاش جسمها بالكامل ومحاولة تناول الأكل بطريقة شديدة البدائية تدليلا على جوعها القاسي، ثم التركيز على ملامح وجهها بعد ذلك وعدم قدرتها على رفع عينيها في وجه أحد مطلقا نتيجة خجلها مما فعلته.
يحاول بليك التقديم على معاش بطالة في نفس الوقت الذي قدم فيه طعنا على تقرير لجنة معاش العجز، لكنهم يطلبون منه التوقيع على أنه لا بد أن يبحث عن عمل من خلال شبكة العمل على الإنترنت ومن خلال السعي خلف العديد من الوظائف. يحاول دانيال إخبار الموظفة بأنه لا يمكن له أن يعمل؛ لأن الطبيبة أكدت أن عودته للعمل سيؤدي إلى مقتله، لكنها ترد عليه بآلية رتيبة وبرود بأنه لا بد أن يبحث عن عمل ويثبت لهم أنه سعى إلى فعل ذلك كي يستحق معاش البطالة وإلا سترفض طلبه، كما أنه عليه إعداد سيرة ذاتية له وتقديمها لأصحاب العمل وإذا لم يخضع لذلك سوف يتم توقيع العديد من العقوبات عليه منها ما يصل لأسابيع في البداية ومنها ما يصل إلى ثلاث سنوات إذا تكررت.
يضطر بلييك للتوقيع ومحاولة البحث عن عمل بالفعل، وحينما يعود للموظفة ويخبرها عمن تقدم لهم بطلب عمل تؤكد له أن ما فعله غير كاف، وليس هناك دليل على أنه قد قام بذلك، فيسألها: وكيف أقدم الدليل على ذلك؟ فتخبره كان يجب أن تلتقط صور أو فيديوهات مع أصحاب العمل؛ الأمر الذي يجعله يخرج لها هاتفه ويقول لها: كيف أصور من خلال هذا الهاتف غير الذكي، ثم يقول لها: اسمعي، لقد أصبت بنوبة قلبية حادة، وقد سقطت تقريبا من على السقالات، وأريد العودة للعمل أيضا، لكن الطبيبة تمنعني من ذلك، إلا أنها لا تستمع إليه وتقول: يجب أن تلتزم بالبحث عن عمل لمدة لا تقل عن 35 ساعة في الأسبوع، ثم تهدده بتوقيع العقوبات عليه إذا لم يسع للمزيد في البحث عن العمل بشكل مرض لهم.
يبدو لنا الأمر شديد التعقيد حيث يحاول النظام الحكومي التأميني جعل الأمور أكثر تعقيدا بدلا من حلها، بل هم يرونه لا يستحق معاش العجز رغم التقارير الطبية المقدمة لهم والتي تثبت أن عودته للعمل سوف تؤدي إلى موته، كما يحاولون تعقيد حصوله كذلك على معاش البطالة وكأن النظام التأميني الحكومي الإنجليزي لا يرغب في النهاية سوى في تعذيب من يلجأ إليهم وإهانتهم وإشعارهم بالكثير من الدونية ثم يرفضونهم تماما في النهاية تاركين إياهم عرضة للتسول والعوز الشديد، والفقر وربما يصبحون عرضة للجوء إلى الجريمة أو الانتقام من المجتمع في نهاية الأمر بالإرهاب، وهذا ما أكده جار بلييك له حينما قال له: أنا أحذرك، سيجعلونك بائسا بقدر ما يمكنهم ذلك، وهذا ليس صدفة، بل مخطط له. كم من الناس لا يتمكنون من فعله؛ فيستسلمون.
لا ينسى بلييك رعايته لكاتي وطفليها، حيث تحاول البحث عن عمل لها بأي شكل لإعالة طفليها وإطعامهما، بالإضافة إلى رغبتها في العودة إلى دراستها مرة أخرى. تحاول كاتي أن تعمل خادمة في المنازل أو جليسة أطفال إلا أنها لا تنجح في ذلك حيث لم يطلبها أحد، وفي إحدى المرات تدخل إلى أحد المتاجر لشراء احتياجات أطفالها من الطعام وتأخذ القليل من الفوط الصحية في حقيبتها من دون أن يراها أحد، لكن كاميرات المراقبة تصورها ويقوم الأمن بضبطها؛ فيعطيها المدير ما حصلت عليه ويخبرها أنها لها لكن عليها ألا تعود إلى هذا المتجر مرة أخرى. تشعر كاتي بالكثير من الإهانة والهوان وبينما تنصرف من المتجر يعطيها رجل الأمن هاتفه ويخبرها أنه يستطيع أن يساعدها إذا كانت تبحث عن عمل ما.
لا تهتم كاتي كثيرا بأمر رقم الهاتف الخاص برجل الأمن، ولكن في إحدى الليالي تذهب صغيرتها إلى فراشها لتخبرها أن زميلاتها في المدرسة يسخرن منها لأن حذاءها مقطوع، ورغم أن كاتي سبق أن ألصقته لها من قبل إلا أنه قُطع مرة أخرى؛ فتخبرها الأم دامعة بأنها ستأتي لها بحذاء جديد هذا الأسبوع، وبالفعل تقوم بالاتصال برجل الأمن الذي يقابلها ونعرف أنه يعمل في شبكة للدعارة ومن ثم يرغب في استقطابها.
توافق كاتي بالفعل على العمل كعاهرة من أجل الإنفاق على صغيريها، ويكتشف دانيال الأمر بالصدفة حينما يرى الورقة التي كانت مدونا عليه رقم الهاتف، ومن ثم يذهب حيث تعمل كزبون وحينما يدخل عليها الغرفة تحاول تغطية نفسها من أمامه وتطلب منه باكية أن ينصرف. يحاول دانيال إثنائها عما تفعله فتقول له: أنا الآن في جيبي 300 جنيه وأستطيع أن أشتري لأطفالي ما يرغبونه من طعام أو ملبس، أرجوك انصرف فقط لأني لا بد أن أعود إلى عملي.
السيناريست باول لافرتي
ربما كان هذا المشهد من المشاهد المهمة أيضا في الفيلم حيث نرى انفعالات كل من دانيال وكاتي الصادقة، ومدى شعور كل منهما بالكثير من الألم والهوان بسبب ما وصلا إليه نتيجة تنكر المجتمع والنظام التأميني الحكومي لهما. ينصرف دانيال ويبيع أثاث شقته بالكامل لمحاولة الاستمرار في الحياة، وكلما سأل الموظفين عن موعد الطعن يخبرونه ببرود أن المسؤول سيتصل به لتحديد موعد؛ الأمر الذي يجعله يذهب إلى المبني الحكومي ويثور هناك ثم يخرج ليكتب على جدران المبنى معترضا من خلال علبة "سبراي": أنا دانيال بليك، أطالب بتحديد موعد اعتراضي قبل أن أتضور جوعا، وغيروا الموسيقى الكريهة على الهاتف. يقف الكثيرون من المواطنين يراقبون ما يفعله بلييك، ثم يتفاعلون معه ويقومون بالتصفيق له وتشجيعه على ما يفعله، إلا أن الشرطة تعتقله لفعله، ولأن تاريخه لا يوجد فيه أي تجاوزات يقومون بتحذيره ويخرج من قسم الشرطة.
ربما كان ما فعله بلييك من فعل اعتراضي ضد القانون هو فعل وجودي بحت يحاول من خلاله أن يقول للمجتمع بالكامل، قبل النظام الحكومي: أنا هنا، أو نحن هنا، هو وغيره ممن هم على شاكلته؛ لأن الفيلم يكاد أن يقول إن أمثال هؤلاء من المواطنين لا يشعر بهم أحد، بل لا يراهم المجتمع بالكامل، ويتحولون بالنسبة للأنظمة الحكومة التي سيطر عليها رأس المال إلى مجرد أرقام لا معنى لها؛ لذلك كان هذا الفعل هو ما عجل في تحديد موعد من أجل الطعن على قرار لجنة معاش دعم العجز، وهنا يطلب من كاتي الذهاب معه، ورغم أن كل الأمور تبدو في صالحه إلا أنه كان يشعر بالكثير من القلق، وحينما يتجه لغسيل وجهه قبل الدخول إلى لجنة الطعن تصيبه نوبة قلبية ويموت قبل الدخول إلى اللجنة.
المخرج كين لوتش
يأتي مشهد النهاية في الكنيسة كمشهد مهم في أحداث فيلم "أنا دانيال بليك" حينما تقرأ كاتي بألم الورقة التي وجدتها في ملابس دانيال حينما مات، وهي الورقة التي كان سيقرأها على اللجنة حيث يقول فيها: أنا لست بائعا ولا زبونا ولا عامل خدمة، أنا لست متهربا، ولا مجرما، ولا متسولا، ولا لصا، أنا لست رقما تأمينيا، ولا علامة على الشاشة، أنا أدفع ضرائبي، ولا أتأخر عنها، وأنا فخور بهذا. لا أتحدث قبل أن أرى، بل إنني أنظر في عيون جيراني، وأساعدهم إن استطعت. أنا لا أقبل ولا أبحث عن الصدقة. اسمي هو دانيال بليك، أنا رجل، ولست كلبا، ولهذا فأنا أطالب بحقوقي. أطالب أن تعاملونني باحترام. أنا دانيال بليك. أنا مواطن، لا شيء أكثر، ولا شيء أقل.
من خلال هذه الورقة التي كانت في ملابس دانيال وما قاله فيها يكتمل أمامنا مشهد المأساة الحقيقية التي يتعرض لها المواطنون الذين يمرون بأزمات صحية، أو أزمات تعطل في المجتمع الإنجليزي، وغيره من المجتمعات الرأسمالية في ظل نظام تأميني لا يعنيه المواطن، وحياته، وما يعانيه من هوان، بل إن هذا النظام التأميني يعمل على المزيد من احتقاره وإهانته وإشعاره بالكثير من الدونية، ولا يعطيه شيئا في النهاية، بل يتركه للجوع، والمرض، والموت، والتشرد؛ الأمر الذي يجعل من هؤلاء الأشخاص قنبلة بشرية حقيقية موقوتة في وجه هذا المجتمع قد تنفجر فيه في أي لحظة إما بالعنف، أو بالمساهمة في المزيد من الأمراض والمشاكل الاجتماعية كما حدث لكاتي وانخراطها في العمل في مجال الدعارة كي تستطيع إطعام طفليها.
الممثلة هايلي سكوايرز
يأتي فيلم "أنا دانيال بليك" للمخرج الإنجليزي كين لوتش كصرخة تحذير قوية وواضحة في وجه المجتمع الإنجليزي ونظامه التأميني الذي يعمل على إهانة كل من يلجأون إليه ثم تركهم في النهاية للفراغ ليلاقوا الموت باسم القوانين، واللوائح، والنظام ببرود لا إنسانية فيه بدلا من العمل على إنقاذهم، وتقديم ما يستحقونه من حقوق قانونية لا علاقة لها بالتصدق عليهم أو مفهوم التسول.
فيلم "أنا دانيال بليك" من الأفلام المهمة التي تتحدث عن الوجه القاتل والقاسي للمجتمعات الرأسمالية التي لا يعنيها سوى المزيد من الأرباح والصفقات والنجاحات مقابل موت الآلاف الذين لا يعنون لهم أي شيء سوى مجرد رقم من الأرقام غير المهمة.




 محمود الغيطاني
مجلة الشارقة الثقافية
عدد ديسمبر 2018م 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق