بوستر الفيلم |
هذه الصورة السينمائية
الناطقة بما يرغب أن يقوله المخرج نلمحها في العديد من التفصيلات التصويرية التي
كان يستحق عليها العديد من الجوائز؛ نظرا لتعبيريتها، وهو ما رأيناه مثلا حينما
كان يستخدم الكثير من المشاهد الخلفية للشخصيات النسائية؛ حيث تهتم الكاميرا
بالكثير من التفاصيل التي تبين لنا مزاج كل شخصية من شخصياته النسائية؛ فنلاحظ في
هذه اللقطات أنه كان يركز كثيرا على كيفية تصفيف الشعر الدالة على مزاج كل شخصية
من الشخصيات.
يُقدم توماس فاشيلسكي بولندا
والكتلة الشرقية من أوروبا في التسعينيات في الوقت الذي تمت فيه إزالة سور برلين
الفاصل بين الجمهوريتين الألمانيتين، وبداية انهيار الاتحاد السوفيتي السابق
وانعكاس ذلك على دول شرق أوروبا لاسيما بولندا والتغيرات التي تحدث فيها من خلال
التركيز على أربع قصص لأربع نساء يفتقدن الحب، أو هن في حاجة حقيقية إلى الحب الذي
لا يتحقق في الحياة الواقعية، وهو ما انعكس على حياتهن جميعا بالحزن والبؤس الدائم
الذي نلاحظه على وجوه جميع الممثلات اللاتي أدين أدوارهن ببراعة في هذا الفيلم.
صحيح أن المخرج- وهو من كتب
السيناريو أيضا- لم يتناول هذه القصص الأربع بشكل منفصل، أي أن كل قصة لم تكن
منبتة الصلة بغيرها، بل كان هناك عالم كامل متكامل يجمع الجميع ويتداخل مع بعضه
البعض، لكنه كان يقدم كل قصة منفصلة ثم ينتقل إلى الأخرى في الوقت الذي تتداخل فيه
الشخصيات الأخرى حتى التي انتهت حكايتها في القصة الحالية؛ ليجعل المشاهد يتفاعل
معه ويشاركه في ترتيب الأحداث وتداخلها مع بعضها البعض.
يبدأ المخرج فيلمه بحفل عشاء
يجمع فيه جميع شخصيات الفيلم حتى الزوج الغائب الذي يعمل في ألمانيا من أجل تحسين
وضعه المالي، والذي يجعله يحادث زوجته تليفونيا أثناء الحفل للاطمئنان عليها حيث
تخبره بمدى حاجتها له، بينما ينصحه باقي الحاضرون بعدم العودة مرة أخرى إلى بولندا
حيث الفقر والمعيشة الصعبة، ولعل المخرج أراد أن يُصور لنا صعوبة الحياة في بولندا
في هذه الفترة من خلال تركيزه في العديد من المشاهد على المباني الصماء المنعزلة
وكأنه مجتمع منفصل تماما عن الحياة، مصحوبا بالألوان الشاحبة التي كان يُصرّ عليها
منذ المشهد الأول، وصولا إلى لمحة الحزن والبؤس والاكتئاب التي كانت من أهم ما
يميز وجوه النساء في الفيلم؛ ليدلل لنا أن الحياة في بولندا تكاد تكون قاتلة
ومستحيلة، ولا يمكن أن يصل أي شخص فيها إلى السعادة التي يبتغيها.
يقدم لنا المخرج حكايات أربع
نساء يتقن للحب الذي يُعد مستحيلا في هذا الوضع السياسي المتأزم، وهذا المجتمع
الذي لا يهتم فيه الرجل بحاجات الأنثى، ولكن هل نستطيع القول: إننا أمام فيلم
نسائي يهتم بحقوق وحاجات المرأة النفسية والجسدية، أو أنه فيلم مصنوع من أجل
النساء؟
في الحقيقة لا يمكن الذهاب أو
القطع اليقيني أن الفيلم هو من أفلام المرأة، وإن كان في مفهومه الأعمق هو فيلم
إنساني يحاول فهم حاجات المرأة ومدى قدرتها على التوصل إلى السعادة والدفء في
العلاقات والمشاعر التي تبتغيها لكنها تفتقدها غير قادرة على تحقيقها؛ بسبب عدم
قدرة الرجل على التعاطي معها أو فهمها.
نلمح منذ بداية الفيلم Agata أجاتا التي
أدت دروها Julia Kijowska المتزوجة منذ خمسة عشرة عاما ولديها فتاة في
عمر المراهقة، ونعرف أن أجاتا تعمل في محل لتأجير شرائط الفيديو كاسيت بينما يعمل
زوجها في المصنع الكبير في المدينة، ورغم أننا نرى أجاتا وزوجها في العديد من
المشاهد في حالة جنس شبقي عنيف؛ حتى أنه يسألها ذات مرة بعد انتهائهما من الجنس:
"ماذا حدث لك؟ أنت عنيفة جدا وهذا يؤلمني"، مما قد يجعل المشاهد يظن عمق
العلاقة الزوجية بينهما، لكننا نكتشف أن هذه المرأة الشبقة العنيفة في الليل
تتعامل مع زوجها في النهار ببرود كامل، عابسة طول الوقت، يبدو على وجهها الكثير من
الاكتئاب، أي أنها ليست سعيدة معه، وهذا ما أكده لنا المخرج غير مرة في العديد من
المشاهد منها مشهد الإفطار الذي جمعها مع الزوج والابنة حينما اقترح عليها الذهاب
في الإجازة إلى تشيكوسلوفاكيا لكنها ترفض وتفضل البقاء في البيت، وحينما يحاول لمس
يدها تنهره وتطلب منه ألا يلمسها. هذا البرود في العلاقة والتوق الشديد إلى الحب
الذي تفتقده ولا تستطيع الشعور به مع زوجها نلاحظه حينما تداعبه في المساء بعد هذا
المشهد بينما كان يغط في النوم لتعتليه بعد تعريها طالبة منه بإلحاح أن يلمسها،
وحينما يسألها مندهشا عما بها، تبدأ في البكاء قائلة له: "المسني فقط"،
وهو ما رأيناه في مشهد ثالث بعد ممارسة العلاقة الزوجية حينما يلمسها فتخبره أن
لمسته دافئة طالبة منه المزيد من التلامس واحتضانها من ظهرها لاحتوائها.
هذه المشاهد المتعددة من
الحاجة إلى الدفء واللمس هي في حقيقتها الرغبة في الحب الذي لا يترجمه الزوج إلى
مشاعر حقيقية تجعلها قادرة على أن تشعر بها؛ الأمر الذي أدى إلى أن تحيا في حالة
بؤس واكتئاب كامل راغبة في رجل الكنيسة الشاب وإن لم تفكر مرة في خيانة زوجها معه؛
مما أدى إلى علاقة متوترة فاترة يشعر معها المشاهد بالغربة والانفصال العميقين بين
الزوجين وكأنهما غريبان يلتقيان في المنزل كل مساء، وهذا ما أكده المخرج أيضا
حينما حاول الزوج الدخول معها في مغطس الحمام حيث تركت له المغطس وخرجت منه،
بالإضافة رغبتها الدائمة في الانفراد بنفسها فضلا عن نوبات من البكاء غير المبرر.
هذه العلاقة المتوترة التي
يمكن أن نُطلق عليها الافتقاد أو الفقد، أو حتى الحرمان، رغم أنه فقد لمشاعر عميقة
هي الحب نراها مرة أخرى مع مديرة المدرسة Isa "إيزا" التي أدت دورها Magdalena Cielecka والتي ارتبطت ست سنوات بعلاقة مع طبيب شاب متزوج ولديه ابنة، لكنه
بدأ يفقد اهتمامه بها بعد موت زوجته مباشرة؛ الأمر الذي انعكس على ملامحها
المكتئبة دائما ومحاولة استعادة حبيبها المنصرف عنها والذي كان يجد العديد من
المبررات كي يحاول ألا يلتقي بها، وفي المرة التي قال لها: إن كل شيء قد انتهى،
قالت له بوضوح محاولة استعادته أو عدم فقدانه: "ست سنوات وأنا أوافق على كل
شيء، ولم أقف يوما في طريقك" Six years and I agreed to everything, I never got in your way، لكنه يُصرّ على الانفصال عنها بمبرر أنه
يريد أن يرعى ابنته التي هي تلميذة عندها في المدرسة التي تُديرها.
لعل انفصال الطبيب عنها جعلها
تبحث عن الحب في أي مكان؛ حتى أنها ضاجعت أحد العابرين في محطة القطار في حمام
عمومي، لكن مما زاد مأساتها أنه بعدما انتهى منها أخبرها أنه كان طالبا لديها في
المدرسة وأنه قد رسب في إحدى الأعوام واضطر إلى إعادة الدراسة مرة أخرى بسببها؛
الأمر الذي جعلها تهرب من وجهه ويزداد اكتئابها.
تحاول "إيزا" أن
تشرح الأمر لابنة حبيبها الطبيب حينما تأخذها بسيارتها إلى منطقة منعزلة لكن البنت
تخرج من السيارة غاضبة لتعبر النهر المتجمد وسرعان ما تقع في إحدى حفر النهر ولا
تخرج منه بينما تقف "إيزا" في مكانها ليست لديها الرغبة في إنقاذها.
المعاناة والبحث عن الحب
المستحيل، أو الحب المفقود هو ما نراه مع Marzena
"مارزينا" التي قامت بدورها Marta Nieradkiewicz حيث كانت شقيقة مديرة المدرسة "إيزا"، وتعمل كمدربة
رياضية وتعليم الرقص والسباحة بينما تعاني من الوحدة الشديدة بسبب ابتعاد حبيبها
عنها في ألمانيا الغربية من أجل اكتساب قوته، ورغم أنها كانت تأمل أن تكون موديلا،
ورغم صغر عمرها وشبابها إلا أننا نلمح في قسمات وجهها الكثير من الحزن المسيطر على
جميع الشخصيات النسائية في الفيلم؛ حتى أننا قد ينتابنا الإحساس بأن شخصيات هذا
العالم جميعا مجرد موتى يتحركون من دون أي مشاعر بالنسبة للرجال، بينما النساء
موتى يحاولن الحياة من خلال حب يتقن إليه، وإن كن لا يستطعن تحقيقه في الواقع.
حينما تعرف
"مارزينا" أن هناك أحد المصورين المحترفين والمشهورين سيأتي إلى المدينة
تفكر في عرض نفسها عليه لالتقاط العديد من الصور لها كموديل، وبالفعل يذهب معها
لالتقاط الصور، ولكن لأنها تُفرط في الشراب تذهب في غيبوبة فيحملها للفراش ليعريها
ويمارس على جسدها العادة السرية ثم يتركها كنفاية ويخرج من البيت، وحينما تفيق
تبدأ في القيء غير قادرة على الصمود واقفة فتقع على الأرض باكية حياتها والحزن
المحيط بها.
ربما كانت قصة
"مارزينا" الشابة مرتبطة ارتباطا وثيقا بقصة Renata
"ريناتا" التي قامت بدورها Dorota Kolak المُدرسة العجوز في نفس المدرسة التي تُديرها أخت "مارزينا-
إيزا- والتي تم الاستغناء عنها من المدرسة بطريقة مُهينة وتعسفية، وهي سيدة وحيدة
تحيا في نفس البناية التي تسكن فيها "مارزينا" مع الكثير من طيور الزينة
التي تتركها حرة طليقة في شقتها، ولعل الوحدة الشديدة التي تشعر بها
"ريناتا" هي ما جعلتها تعيش مع الطيور وترعاها بهذا الشكل لكنها في
قرارة نفسها كانت تبحث هي الأخرى عن الحب العميق، إلا أنها كانت منجذبة جنسيا
للفتاة الشابة "مارزينا"؛ الأمر الذي جعلها تحاول التعرف عليها بأي شكل؛
فتنتظرها على سلم البناية وحينما تراها صاعدة تكسر زجاجة اللبن التي معها على
السلم، وتبعثر أشياءها مُدعية أنها وقعت؛ فتساعدها الفتاة في الصعود وتدخل معها
بيتها، وهنا تنشأ بينهما علاقة صداقة وتُصاحب "ريناتا" للفتاة في كل
مكان حتى أنها تأخذها معها إلى حمام السباحة لتعلمها السباحة والرقص أيضا، لكن
حينما تشعر الفتاة برغبة المرأة فيها تبدأ في مجافاتها والابتعاد عنها؛ مما يُصيب
"ريناتا" بالمزيد من الاكتئاب؛ نتيجة عدم قدرتها على تحقيق الحب الذي
تتوق إليه مع الفتاة، وحينما يعتدي المصور المشهور على "مارزينا" تدخل
"ريناتا" إلى شقة الفتاة لتجدها في غيبوبة كحولية عارية تماما على
الفراش بينما مني الرجل يغرق جسدها؛ فتغسلها حانية وتنظفها جيدا ثم تنسحب حزينة.
فيلم "ولايات الحب المتحدة"
من الأفلام المهمة التي تحاول معالجة موضوع الفقد، والحرمان العاطفي لدى أربعة
نماذج من النساء الحزينات المكتئبات اللاتي يحيين حياتهن كأموات تماما؛ لعدم
قدرتهن على تحقيق الحب المستحيل الذي يرغبنه، وهو ما عبر عنه المخرج توماس فاشيلسكي
بشكل بارع سواء على مستوى السيناريو، أو المستوى الإخراجي، ساعده في ذلك التصوير
البارع الذي أضفى الكثير من الثلجية والصقيع والضبابية في كل مشاهد الفيلم، سواء
كانت هذه الثلجية في صورة المكان، أو في وجوه جميع الشخصيات النسائية، لاجئا في
ذلك إلى التصوير والإضاءة الشديدة التي أضفت على المشاهد شحوبا عاليا، والملابس
التي كانت عناصر مهمة في إيصال الرسالة التي يرغبها المخرج.
محمود الغيطاني
عدد 7 يناير 2019م
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق