ثمة نَفَس روائي يجتذب القارئ منذ الجملة الأولى في رواية "خلدون ميشال" للروائي التونسي محمد الحباشة حتى أن القارئ لا بد سينتهي منها دفعة واحدة وهو ما زال لديه الشعور بأن هناك شيئا ما لم يُكتب بعد، أو أن الروائي قد تعجل في الكتابة ولم يوف عالمها ما يستحقه رغم عمق العالم الذي يتحدث فيه وتماسكه تبعا للبناء الذي رآه السارد، وهذه من المشكلات التي تواجه بعض الروائيين الذين يكون لديهم عالم روائي خصب يستطيع من خلاله الإبداع والاستمرار في السرد، لكنه يُصرّ على إنهاء هذا العالم بشكل سريع ربما لقصر النفس السردي، أو لأنه يرى كروائي أنه لم يعد لديه الجديد في إكمال هذا العالم فيتوقف سريعا عنه.
صحيح أننا نستطيع رد هذه
السرعة في إنهاء السرد إلى حرص الروائي على الاختزال والابتعاد عن الترهل السردي،
أي التقشف، لكن تأمل العالم الروائي في خلدون ميشال يؤكد لنا أن ثمة الكثير من
الفجوات التي لم يحرص الروائي على أن تكون ممتلئة سرديا؛ ومن ثم فقد
"خطف" الروائي السرد في روايته –إذا جاز لنا هذا التعبير- وعمل على
إنهائها، ليترك القارئ مُفاجأ بما حدث، متسائلا: لم كانت هذه السرعة والتعجل بينما
الرواية تحتمل الكثير جدا من السرد غير المقلق؟!
ربما كان أهم ما يميز السرد
الروائي في رواية "خلدون ميشال" هو لغة الروائي المتقشفة وجمله السريعة
المتوالية كأنها تخرج من مدفع سريع الطلقات يصل إلى المعنى الذي يريد التعبير عنه
من دون أي ترهلات أو استطرادات أو تزيدات، فالجملة الروائية هنا محكمة سريعة- لا
تحتمل التأويل- بوصولها المباشر إلى مرادها، يقول الحباشة: "حدث هذا قبل
سنتين. صباح يوم خميس من شهر جوان 2010م. كنت نائما في غرفتي التي تفتح على
الشارع، واستيقظت على صوت ثلاث طرقات على شباك النافذة. أبعدت الغطاء ونهضت. سرت
وفتحت النافذة، مطّطتُ ذراعي متثائبا، ثم انتبهت لظرف على الرخامة. أخذته ثم قلبته
في يدي باحثا عن عنوان أو اسم ما دون جدوى. نظرت من جانبي النافذة. كان هناك بعض
المترجلين. عُدت، جلست على طرف الفراش. فتحتُ الظرف واكتشفت ورقة مطوية على جهتين.
سحبتها وبدأت أقرأها. كانت تلك الرسالة من مريم. في نفس ذاك اليوم، وجد رجلٌ مريم
تتدلى من فوق سياج حديدي حول الحديقة أسفل المبنى الذي تسكنه، وقد خرج من ظهرها
قضيب حديدي نتأ من السياج"، نلاحظ هنا من خلال هذا المقطع أن الروائي يريد
الوصول إلى المعنى بأقل عدد من الجمل، وهي جمل متلاحقة لاهثة لا تحتمل البطء أو
التزيد بقدر ما هي مُركزة على الحدث، تعرف هدفها المباشر كما في قوله: "هززت
برأسي ثم صعدنا الدرج الموالي للباب، تنفسنا تلك الروائح التي تخرج من الشقق.
سمعنا صوت شجار لرجل وامرأة أثناء صعودنا، ثم رأينا رجلا يُدفعُ من أحد أبواب
الشقق التي اعترضتنا، حتى اصطدم ظهره بحائط الدرج المقابل، ثم خرجت امرأة بعده،
وقفت في الباب ثم رمت عليه حذاءه وأطبقت باب الشقة بقوة. أخذ الحذاء بخجل، نهض وهو
يعدل سترته ثم تجاوزنا في الدرج نحو الأسفل. ضحكنا لذلك، طوّقت كتفيها، وأكملنا
صعودنا. توقفت أمام أحد الأبواب، ثم أخرجت مفاتيح من حقيبتها".
هنا نلاحظ أن الكاتب يمتلك
لغة واضحة محددة تميل إلى التركيز الشديد، وربما كان هذا من أسباب الإحساس بالعجلة
السردية لدى الروائي، وإن لم يكن هو السبب الوحيد في هذا الشعور لدى المتلقي؛ فثمة
أسباب فنية أدت إلى هذا التعجل السردي.
رغم أن رواية "خلدون
ميشال" تدور في إطار مكاني محدد من خلال أربع شخصيات روائية أساسية إلا أننا
نشعر بها رواية متسعة الإطار المكاني، متعددة الشخصيات؛ فأكرم –الراوي الرئيس- من
خلال العديد من المواقف التي يذكرها في السرد، ورغم أنها مواقف خاطفة وسريعة يعتمد
فيها الروائي على التأسيس لما سيأتي فيما بعد أو محاولة إكمال عالمه الروائي إلا
أنها مواقف توحي للمتلقي باتساع الحيز المكاني وتعدد الشخصيات.
هو شاب كالعديدين من الشباب
الذين يشعرون بلاجدوى حياتهم لاسيما بعدما ترك دراسته الجامعية في تخصص الفلسفة
وفضل أن يكون كاتبا، ولكن لأن أكرم تتملكه مجموعة من الأفكار الساذجة/ المراهقة
التي نفكر فيها جميعنا في بداية حياتنا، ويرى أنها من الأهمية التي قد تجعل منه
كاتبا أو فيلسوفا لا يمكن أن يُشق له غبار؛ يقع في أزمته الأساسية وهي عدم القدرة
على تحقيق حلمه أو ذاته؛ ومن ثم يرى أن كل شيء لا جدوى منه، وأن الجميع تقريبا
يحاربه نتيجة لعدم فهمهم، في حين أن الحقيقة التي لا يدركها هو أنه لا يتعامل مع
الواقع كواقع حقيقي، بل يتعامل معه من خلال أفكاره الساذجة راغبا في التصادم مع
المجتمع فقط بشكل مجاني من دون الانتباه إلى عدم قدرته على فعل ذلك؛ لأن المجتمع
كقوة جبرية من حوله ستحيل دون هذه الأفكار الصبيانية؛ لذلك نراه يكتب العديد من
المقالات التي يعبر فيها عن افكاره الصبيانية ويدفع بها إلى العديد من الصحف في
الوقت الذي لا تُنشر فيه أي من كتاباته مما يجعله يقع أسير الانكسار واللاجدوى
الحقيقية من أي شيء.
لهذا السبب حينما كتب مقاله
"الإنسان كضد للإله" تمثلت لنا أزمته الحقيقية حينما رفضت الصحيفة نشره
له؛ فهو يرى أنه لابد أن يُعبر عن أفكاره أيا كانت هذه الأفكار، حتى لو لم يكن لها
سندا حقيقيا يستطيع الدفاع عنها، ولكن مدير التحرير يقول له بواقعية: "اسمع،
أنت في مقالك قدمت أفكارا تستفز المقدس بشدة. مبدئيا، أنا لا أنشر نصا كهذا. ستثير
ضدنا تصريحات رسمية عديدة، فضلا عن التهديدات التي ستصلنا، لهذا لم أنشر
مقالك"، وحينما حاول أكرم نقاشه قائلا له: إنه من حقه أن يكتب ما يريد، يرد
عليه مدير التحرير: "اسمع، أنا يا بني مدير تحرير. أنا مسؤول عن سمعة جريدة
تُباع بآلاف النسخ في هذا الوطن. ما تكتب أنت، أو غيرك، لا يهمني، إنما مدى قراءة
الجماهير لك، هو أكثر ما يهمني. لا تكن منفصما عن الواقع. قل لي، من الذي يرغب
الآن في قراءة تأمل نظري عن الإنسان؟!".
لعلنا لو التفتنا إلى الأفكار
المراهقة التي يحاول أكرم التمسك بها والدفاع عنها لتأكدنا أنه يحمل بذرة فشله
ورفض الآخرين له داخله، أي أنه كان السبب الرئيس في أزمته حينما ترك دراسته
الجامعية من دون سبب: "بعد ثلاث سنوات قضيتها في دراسة الفلسفة في كلية
العلوم الإنسانية 9 أفريل بتونس، قررت أن أترك الجامعة، دون أن أنال شهادة
الإجازة، لست محتاجا لأن أدرس الفلسفة حتى أصبح كاتبا"، ثم محاولة تمسكه بأن
يكون كاتبا متفلسفا فيما بعد فنراه يقول في مقاله: "ليس الإله سوى فكرة، وهي
بالنسبة إليّ موضوع سخرية للإنسان الذي يملك وعيا نقديا حقيقيا"، صحيح أن ما
ذهب إليه ليس بجديد في الفكر الفلسفي، ورأيناه لدى العديد من الفلاسفة، لكنه يضعه
في إطار مقال صحفي يرفض تماما فكرة الإله ويواجه بها البسطاء من قراء الصحف الذين
لا يمكن لهم تقبل ذلك، كما يقول في مقاله أيضا: "سبب معاناة الإنسان في كل
تجارب الحياة هو حب التملك"، و"أكبر وهم في الحياة هو أن تصدق بأنك
اكتشفت الوهم الأكبر"، وغير ذلك من الأفكار التي لا يمكن وصفها سوى بالمراهقة؛
وبالتالي يكون هو السبب الرئيس في أزمته التي نشأت، ومن ثم شعوره بالرغبة في
الهجرة من هذا الوطن الذي لا يفهمه ولا يعطيه حقه أو يهتم به، أو يؤدي إلى شعوره
بلاجدوى أي شيء، لاسيما أنه لا يستمع سوى لنفسه ولا تعنيه نصائح أحد.
لذلك يفكر أكرم منذ بداية
الحدث في الهجرة من تونس لاسيما أنه قد فقد حبيبته "مريم" حينما ابتعدت
عنه فجأة من دون أي أسباب وانتحرت، ليعرف فيما بعد من خلال خطاب أرسلته له قبل
انتحارها أنها قد فعلت ذلك حينما ضاجعها وحملت منه، وعرف والديها؛ فأرادات أن
تُنهي حياتها حتى لا تعذبه وتعذب والديها معها. لكن الروائي حينما يسوق فكرة
الرغبة في الهجرة منذ البداية فهي قد تبدو للمتلقي باعتبارها فكرة عادية وتلقائية،
ومنطقية تماما، وإن كنا سننتبه فيما بعد حينما نُنهي القراءة لنعود إلى العمل مرة
أخرى أن الروائي هنا كان يتقصد الأحداث من أجل البناء الراوئي الذي يراه، أي أن
جميع الأحداث في الرواية لم تكن عفوية بقدر ما امتلكت قدرا كبيرا من القصدية
السردية التي أتى بها الروائي كي يبني العالم الروائي الذي رسمه بدقة؛ لذلك حينما
يقول أكرم لأمه: "أمي.. أريد أن أترك تونس"، يكون رد الفعل المباشر:
"اتسعت عيناها فجأة. وضعت إصبعها على شفتيها عموديا مشيرة بعينيها نحو البهو
حيث كان يجلس والدي، تدعوني أن أسكت تفاديا للجدل. لما صمت وعدتُ إلى أكلي قالت:
لن أدعك"، وحينما يسألها عن السبب وتعرف منه أنه سيذهب من الغد إلى الحمامات
كي يعمل في مطعم والده بدلا من التعطل تخبره أنها ستذهب معه وأثناء ذهابهما سيعرف
السبب.
نلاحظ هنا أن المؤلف منذ
الصفحات الأولى لروايته يقدم لنا الأزمة التي يعاني منها أكرم، لكنه في نفس الوقت
يعمل على التمهيد بقصدية لما سيحدث فيما بعد، وكأنه يرسم خطة الرواية بدقة وهندسية
لا يمكن أن نراها في الحياة الطبيعية بمثل هذه الدقة، وهذا ما يجعلنا نرى أن
الرواية رغم أهميتها وعمقها، إلا أنها اعتمدت على العديد من المصادفات البحتة التي
لا يمكن لها أن تحدث في الحياة، ومن ثم أشعرتنا هذه المصادفات الروائية التي
أرادها الروائي أن هناك قصدية اصطناع في الحدث الروائي كي يتم كما يرغبه المؤلف؛
فإذا كان الحباشة قد جعل أكرم يُخطط منذ البداية للهجرة كي يُفاتح أمه في ذلك،
فلقد كان ذلك من أجل أن تصطحبه الأم إلى مقابر المسيحيين وتوقفه أمام قبر ما لشخص
اسمه "خلدون ميشال" لم يسمع اسمه من قبل، ولا يعرف عنه أي شيء لتخبره أن
هذا الشخص هو أخيها الذي هاجر من تونس أيضا رغم رفض الأسرة، لكنه عاد بعد عدة
سنوات إلى تونس في تابوت مقتولا بعدما غير اسمه وجعل لقبه ميشال لسبب لا تعرفه هي.
هنا نلاحظ أن ثمة خال هاجر
إلى فرنسا وقُتل، وعمل على تغيير اسمه في حين أن الابن لا يعرف عنه أي شيء من قبل،
وهذا قد يكون منطقيا أحيانا، لكن معرفة أكرم بحكاية خاله كانت حينما قرر الهجرة
فحكتها له الأم وهذا أيضا من الممكن أن يكون منطقيا رغم قصديته، لكننا سنلاحظ في
الصفحات التالية أن ثمة رجل عجوز في أحد القوارب يتابع أكرم عن كثب بالقرب من مطعم
والديه "مطعم المتوسط" الموجود في منطقة الحمامات، وأن هذا الرجل يكاد
أن يكون مرافقا له كظله، يظهر له في كل وقت وفي كل مكان: "كنت أهمّ بالجلوس،
لما رأيت قاربا يقترب من الشاطئ، يعلو من وسطه عمود خشبي، وفي داخله رجل جالس في
الخلف يمسك المحرك. كان يلبس معطفا كستنائيا وقبعة سوداء"، وفي موقف آخر من
نفس الصفحة يقول: "لما كنت أخرج من داخل المطعم نحو البهو، رأيت بالتفات عفوي
على اليمين، رجلا جالسا على مقعد آخر البهو، وهو ينظر إلى الحائط حذوه. كان يلبس
معطفا كستنائيا من الكشمير وقبعة سوداء. كان في لحيته بعض من الشيب وكانت تبدو على
ملامحه الكآبة، بدا في آخر الخمسينات من عمره. وضع مرفقيه على الطاولة ورفع ذراعيه
ثم بدأ يحرك أصابعه ناظرا إلى الحائط حذوه. لما نظرت إلى الشاطئ كان القارب راسيا،
وشاغرا. كان هو رجل القارب". أي أن ثمة رجل ما يقيم في قارب ما يعمل على
مراقبته ويحرص دائما على أن يكون بقربه، وهذا الرجل الأبكم سيكون مرافقا له فيما
بعد في الكثير من الأماكن حينما تشتد أواصر الصلة والصداقة بينهما، حتى أنه كثيرا
ما سيسهر للسُكر معه في حانة "الروتند".
إذا ما تركنا هذه الشخصية
جانبا قليلا، وهي شخصية رجل القارب الأبكم الذي بات صديق أكرم، لابد أن ننتبه إلى
"دانيا" فتاة البار "الروتند" الذي يسكر فيه أكرم، وهي فتاة
فرنسية تعمل في هذا البار وتقابل أكرم دائما بلطف يتناسب مع سلوك فتاة بار نحو
زبون دائم للمكان، لكن حينما يكتب الحباشة: "أكملت نبيذي بجرعة واحدة، حملت
علبة سجائري ونهضت مترنحا. ناديت النادلة بيد مرتخية، فلمحتها تسير نحوي ببسمتها
المعتادة وهي تحمل طبقها. أدخلتُ يدي في جيب سترتي لأدفع لها، فقالت: "أهديك
القارورتين، اترك نقودك لمرة أخرى"، ولكني وضعتُ نقودا على طبقها، ثم خرجت من
الحانة"، هنا لابد أن يلتفت القارئ إلى أن النادلة تتعامل مع أكرم بشكل من
الخصوصية غير المبررة؛ فلم يكن في السرد أي شيء من الممكن أن يُشير إلى هذه الخصوصية
بينهما سوى أنها مجرد نادلة وهو مجرد زبون دائم في البار، ولم يذكر المؤلف أي شيء
آخر عنها طول السرد، هنا يبدو هذا التعامل مع أكرم بمثابة النتوء السردي غير
المُبرر وغير المفهوم لاسيما أن أي منهما لم يبد اهتماما بالآخر أو مجرد انجذاب
نحوه، لكن هذا الموقف سيتفسر لنا فيما بعد حينما نقرأ هذا الحوار بينها وبين أكرم
حين تذهب إليه في مطعمه فجأة: ""حسنا، صحيح أني أعمل نادلة في الروتند،
ولكن ليست هذه مهنتي في الواقع، أنا أستاذة رياضيات"، ماذا؟، "نعم
وأدرّس منذ عام في معهد ثانوي بنيس في فرنسا"، يا إلهي، "أعترف أن لي
طلبا عندك، أرجو أن تساعدني في أمر مهم جدا، أنا لا أعرف أحدا هنا، غير أني ارتحت
إليك كثيرا في حواراتنا الصغيرة تلك في الروتند، كنت أنتظر الوقت المناسب لإخبارك،
منذ مدة أخذت إجازة من عملي، إجازة مرض كذبت في شأنها، ساعدني صديق طبيب، جئت إلى
نابل أبحث عن شخص، ولأني لم أكن أعرف أحدا، اشتغلت نادلة في الروتند، كنت أحتاج أن
أعرف الناس، كان ذلك سيساعدني في بحثي عن هذا الشخص، المهم أني وصلت الآن إليك،
عسى أن تساعدني"، وعمن تبحثين؟، "أبحث عن والدي يا أكرم"، وما
اسمه؟، "خلدون.. خلدون ميشال"، اتكأت على مسند الكرسي مرتبكا، وأشعلت
سيجارة".
من خلال هذا الحوار بين أكرم
ودانيا يتضح لنا أن التخطيط المُعد سلفا من قبل الكاتب وكأنه تخطيط هندسي من أجل
بناء الرواية يبدو لنا الآن شديد الاصطناع وإن ظهر منذ البداية عفويا بعض الشيء،
فالرواية تعتمد منذ البداية على المصادفات البحتة التي لا يمكن لها أن تحدث بهذه
الوتيرة في الحياة الطبيعية، صحيح أن هذه المصادفات قد نجحت في إيجاد جسد روائي قد
يبدو مُحكما بالنسبة للقارئ العادي، لكن هذا الإحكام في حقيقته يكاد يتهاوى مع
النظر إلى المصادفات التي لم تأت بشكل عفوي بقدر ما كانت متعمدة تماما من الروائي
كي يتناسب البناء الروائي مع ما أراده له؛ فمنذ بداية الرواية يُخطط الحباشة إلى
رغبة أكرم في الهجرة من تونس نتيجة أزمته النفسية، لتكون هذه الرغبة في الهجرة
سببا في معرفته بقبر خاله خلدون ميشال الذي لم يكن يعرف عنه شيئا من قبل، ثم يسوق
الحباشة رجل القارب الأبكم الذي يُتابع أكرم دائما حتى يضحى صديقا دائما له
ومرافقا له؛ لنكتشف فيما بعد من خلال أوراق يتركها هذا الرجل إلى أكرم أن هذا الرجل
ليس إلا خاله "خلدون ميشال"! لكن أن تكون ابنه خلدون- دانيا- تعمل في
نفس البار الذي يسكر فيه أكرم دائما، ثم تلجأ إليه هو دونا عن الآخرين من أجل
مساعدتها في البحث عن والدها الذي أتت من فرنسا لمعرفة مكانه، وأن تكون هي نفسها
ابنة خال أكرم، فهذه مجموعة من المصادفات التي وضعها الكاتب في السرد الروائي بشكل
قد يبدو عفويا بالنسبة للقارئ العادي، لكن القارئ الفاحص المثقف، والناقد المتخصص
لا يمكن لهما تقبل كل هذا الكم من المصادفات التي انبنت عليها الرواية.
صحيح أنه من الطبيعي جدا أن
يأتي خلدون ميشال إلى مطعم المتوسط للبحث عن شقيقته أو زوجها أو ابنهما أكرم،
باعتبار أن هذا المطعم كان إرثا من أبيه كما يقول خلدون في أوراقه: "دخلت
المدرسة متأخرا، في العاشرة من عمري. والدتي، نجاة، هي التي كانت تعمل حينها في
مطعم "المتوسط" في الحمامات بينما كنت أنا وهدى ندرس"، وهو يعرف
جيدا أنه سيجد عائلته هنا، ولكن ليس من الطبيعي أو المقبول أن تتواجد دانيا
بالمصادفة في نفس المكان الذي يسكر فيه أكرم، ولا تلجأ سوى له رغم أنها لا تعرف
مدى قرابتها به، هنا تسقط الرواية في فخ العمدية والقصدية بابتعادها الكامل عن
التلقائية التي كان يظنها القارئ بسبب هذه المصادفات البحتة التي تعمدها الروائي.
هذه المصادفات أيضا حينما
تكتمل الدائرة الروائية تُفسر لنا عدة مواقف تساءلنا عنها أثناء القراءة مثل:
"حين همت تلك النادلة بالقدوم وهي تحمل طبقها، كان ينظر إليها بعينين
متسعتين. وضعت على الطاولة القارورة وكوبا وصحنا آخر من الفول، وفي الأثناء، لم
يتوقف ينظر إليها باهتمام. لم تلاحظ هي ذلك، فقد كانت تنظر إليّ باسمة"، هذا
الاهتمام غير المبرر من رجل القارب الأبكم/ خلدون ميشال لم نفهمه في سياقه لكننا
حينما عرفنا أنه والد دانيا فهمنا أنه كان يعرفها منذ البداية أو شعر بأنها ابنته
التي تركها وعمرها عامين فقط في باريس، وهذا ما جلعنا نقول منذ بداية هذا المقال:
إن ثمة تخطيط متعمد من الروائي للرواية وكأنه يظنها معمارا هندسيا.
ثمة ثلاث حكايات خصبة داخل
رواية "خلدون ميشال" للروائي التونسي محمد الحباشة، وهذه الحكايات
الثلاث كان من الممكن لها أن تصنع من الرواية حدثا روائيا ضخما لم يحاول الروائي
استغلاله إطلاقا، ولجأ إلى الاختصار الذي لم تكن الرواية لتحتمله. الحكاية الأولى
هي حكاية أكرم وأزمته ورغبته في السفر إلى باريس وترك تونس، ثم عمله في مطعم
والديه. الحكاية الثانية هي حكاية خاله/ خلدون ميشال، أو رجل القارب الأبكم الذي
سنعرف تفاصيل حياته من خلال أوراقه التي تركها لأكرم كي يعرفه بنفسه، وكيف سافر
إلى باريس وعاش كثيرا عاطلا في حي الأفارقة إلى أن التقى براقصة في أحد البارات
التي كان يسهر فيها ووقع في حبها وانتقل للإقامة معها، وغيّر اسمه إلى اسمها ليصبح
ميشال، وعاشا معا لمدة ست سنوات، إلى أن أنجب منها دانيا، وطلبت منه أن يعمل بدلا
من تعطله وبالفعل علّمته كيف يكون عاملا في مسرح خيال الظل ويعمل الكثير من العروض
بيديه، لكنها أثناء حملها في دانيا بدأت تتغير كثيرا مما جعله يرد ذلك إلى حملها،
إلى أن تأكد من أنها تخونه فترك لها السكن واختفى، وفيما بعد انتقم من عشقيها وشوه
وجهه تماما بآلة حادة، ووضع أوراقه التي تخصه في ثياب ضحيته؛ ليوهم الشرطة بأن
الجثة تخص "خلدون ميشال" وليس شخص آخر، وأسرع بالعودة إلى تونس هاربا
بينما عادت جثة العشيق ودُفنت في تونس باعتبارها جثته. في تونس أقام في أحد
الفنادق، لكنه لم يستطع الهروب من الإحساس بالذنب نتيجة جريمته، وخشى أن يعترف على
نفسه فقطع لسانه حتى لا يستطيع الكلام مع أي مخلوق، وحينما وجد نفسه يكاد أن يفلس
عرض على صاحب الفندق أن يعمل لديه باعتباره ماهرا في خيال الظل، ووافق صاحب الفندق
وأعطاه غرفة فوق السطح، لكن مالك الفندق طرده حينما عرف أن خلدون مارس الجنس مع عاملة
استقبال الفندق في الغرفة. هنا اشترى خلدون هذا القارب كي يعيش فيه ويبدأ في البحث
عن أسرته.
من خلال حكاية خلدون ميشال
التي عرفناها عن طريق أوراقه، كان من الممكن أن نستمتع بالكثير من التفاصيل التي
تخص حياته سواء في فرنسا أو تونس، لكن الحباشة كان حريصا على أن يكون مقتصدا تماما
في هذه الحكاية من دون أي مبرر موضوعي، لكننا إذا ما تجاوزنا عن تقشفه في هذه
الحكاية رغم ثراءها الذي كان ممكنا له إفادة الرواية كثيرا، فإننا لا يمكن لنا
التجاوز مع الحكاية الأخرى التي جاءت وسط السرد الروائي كنتوء ظهر فجأة ثم اختفى
تماما ولم نعرف عنه شيئا آخر سوى في خاتمة الرواية؛ فأثناء سهر أكرم ذات مرة في
بار الروتند، تحدث ضجة وتخرج امرأة جميلة من البار غاضبة بعدما يراها أكرم بينما
يحاول العديدون من الرجال تجاذبها فيما بينهم. وحينما يخرج أكرم سكرانا يرغب في
الانتحار من فوق أحد الأبنية التي لم يتم بناءها بعد، وأثناء استعداده للانتحار
يرى نفس الفتاة التي خرجت من البار منذ دقائق تستعد لإلقاء نفسها من نفس البناية
بجواره فيسرع لإنقاذها، ويتعارفا، ويذهب معها إلى بيتها ويقضيان ليلة جميلة بعد
ممارستهما للجنس، ويعرف أنها بائعة هوى دفعتها ظروفها لذلك وإن كانت ترى أن
كرامتها أهم كثيرا من المال، لكن في اليوم التالي يرغب أكرم في الانفراد بنفسه
فيتركها مخبرا إياها أنه سيعود إليها مرة أخرى، وبالفعل حينما يعود إلى بيتها لا
يجدها وتنقطع صلته بها تماما، لكن في الصفحة الأخيرة من الرواية نُفاجأ بتوقف
سيارة بجوار أكرم: "في أحد الأيام التي تلت، أغلقت باب المطعم وكان الوقت
غروبا، خرجت نحو الطريق الخلفي حاملا سترتي على ذراعي. مشيت في ذاك الطريق، إلى
حين اقتربت مني سيارة أبطأت سرعتها، وواكبت مسيري قليلا. نظرت إليها، ولم أستطع
رؤية من بداخلها بوضوح. توقفتْ، وفُتحتْ نافذتها التي بجانب السائق. كانت امرأة
تلبس نظارة سوداء تنظر إليّ باسمة. لم أعرفها إلا حين نزعت نظارتها بأصابعها،
وفوجئت كثيرا. لقد كانت تلك الفتاة التي أنقذتها من الانتحار، تلك التي لا اسم
لها، أو مريم كما سميتها أنا. استدرت. فتحت الباب الذي حذوها، وركبتُ ثم قلت:
"لم أكن أعرف أن لك سيارة"، ها أنك قد عرفت، "لقد عدتُ قبل أيام
تماما كما وعدتك، لكني لم أجدك"، من الآن.. أنا التي أجدك دائما، ابتسمتُ ونظرت
إلى يديها الممسكتين بالمقود. كانتا جميلتين بأظافر حمراء، نظرتْ إلى مرآة الجانب
وانطلقتْ بالسيارة في ذاك الطريق. يبدو أن الليل سيكون طويلا".
هنا تنتهي الرواية بهذا
المقطع الذي يترك القارئ في الفراغ متسائلا العديد من التساؤلات: لم كانت حكاية
هذه الفتاة موجودة في الرواية؟ وهل أضافت إليها شيئا سوى مجرد تجربة سريعة في حياة
أكرم، لو لم تكن موجودة لما أخلّت بالبناء السردي؟ وإذا كان لهذه الحكاية أهمية-
وهذا يبدو واضحا من العودة إليها مرة أخرى كي ينهي بها روايته- فلم لم يحاول المؤلف
العمل عليها سرديا بدلا من ترك القارئ يهوّم في الفراغ حينما عاد إليها الروائي فجأة
ليتركنا في هذه النهاية المفتوحة التي جعلتنا نتساءل عن أهمية الحكاية، وسبب
سوقها، وسبب الإصرار على العودة إليها مرة أخرى من دون أي داع؟
من الممكن للحباشة الاستفادة
كثيرا بهذه الحكاية من أجل المزيد من الثراء في روايته لكنه فضل تركها هكذا مفتوحة
على اللاشيء من دون أي مبرر سردي أو درامي.
لعله لا يمكن لنا إنكار إحكام
رواية "خلدون ميشال" رغم اعتماد الروائي على المصادفات البحتة في
بنائها، وهذا يُدلل على أن الكاتب خطط لها كثيرا بشكل فيه الكثير من العمدية
المقصودة، كما لا يمكن إنكار لغتها الجميلة المقتصدة التي تعمدها، ولعل أهم ما يميز
رواية خلدون ميشال هو اعتمادها على المشهدية؛ حتى أن القارئ سيظل متذكرا لها بعد
الانتهاء من الرواية باعتبارها فيلما سينمائيا شاهده، وهذا يعود إلى لغة الروائي
المشهدية التي تعتمد على الوصف والاهتمام بالتفاصيل أثناء السرد بشكل محكم لا ترهل
فيه، فنراه يقول مثلا: "عبرت الباب نحو الداخل إلى ردهة مستديرة كبيرة، تعلو
حيطانها بآجر كلسي نحو زجاج مقوّس مجزأ إلى ألوان الطيف، أما البلاط فكان من
الإسفلت. لم يكن في الاستقبال سوى شاب على اليمين يتكئ على كرسي جلدي خلف مكتب،
وهو يتحدث في الهاتف. تقدمت نحوه ولما رآني استمهلني بإشارة من يده. بقيت أتأمل
بلور السقف العالي واللوحات المعلقة على الجدران. في جوانب الردهة كانت تتوالى
أبواب المكاتب بجلد عازل للصوت. لما أنهى ذاك الشاب الاتصال، سحبتُ الأوراق من
الملف، وقدمتها له".
هذه المشهدية والدقة في الوصف
نراها على طول الرواية بشكل حرص فيه الروائي على أن ينقل لنا المشهد بشكل كامل،
ولعل هذه المشهدية كانت أكبر في اللحظات الحميمية، ومنها لقائه في بيت فتاة البار
التي كادت أن تنتحر، كذلك لقائه بدانيا في مطعم المتوسط.
رغم أهمية رواية "خلدون
ميشال" كشكل من أشكال السرد الروائي المتميز والمعتمد على المشهدية، واللغة،
والأسلوبية، وقع الروائي في العديد من الأخطاء التي تؤدي بالضرورة إلى إقلاق
القارئ كثيرا؛ فتعمل على إيقافه أكثر من مرة، منها: "كانت هناك بقع من الدم
في داخل الغطاء وعلى الشرشف الأبيض وفي سروال البيجاما والكيلوت "الذين"
نزعتهما لما بدأت أشعر بانقباضات" فمفردة الذين التي جاء بها الكاتب تستخدم للجمع،
وكان لا بد له أن يكتبها "اللذين" أي بصيغة المثنى، كذلك كتابته "فكرتين
إثنتين"، في حين أن ألف "اثنتين" هنا ألف وصل لا همزة قطع، أيضا
قوله: "لم يتوقف ينظر إليها باهتمام"؛ فثمة قلق هنا في صياغة الجملة
ينتفي تماما إذا ما أُعيد تركيبها بالقول مثلا: لم يتوقف عن النظر إليها باهتمام.
يقول الكاتب في روايته:
"لقد فشلت في جعل حياتي تكون أفضل"، وإذا ما تأملنا الجملة للاحظنا ثمة
قلقا في التركيب يجعل الجملة غير يسيرة، وسبب هذا القلق هو فعل "تكون"،
وكان من الأصوب للجملة: "لقد فشلت في جعل حياتي أفضل" كي تستقيم الجملة
وتصبح أكثر قبولا وأقل قلقا، وهذا ما نراه أيضا في جملته: "لم أكن لأكون هنا
لولاك" وهنا يبدو لنا التركيب شديد التعسف في حين أننا لو أعدنا تركيبها إلى
"لولاك لما كُتب لي أن أكون هنا" فإن الجملة ستكون أفضل كثيرا روائيا
وأسلوبيا ولغويا.
في رواية "خلدون
ميشال" للروائي التونسي محمد الحباشة- وهي العمل الروائي الأول له- نلاحظ
قدرته الكبيرة على بناء عمل روائي مهم وثري ومزدحم بالكثير من الأحداث رغم بساطة
الرواية، صحيح أن ِالعمل كان من الممكن له أن يصبح أكثر ثراء وأهمية إذا ما كان قد
اهتم بالحكايات التي ساقها وقدم تفاصيلها الثرية، لكن روايته تتميز بالكثير من
المميزات السردية التي جعلتنا نستمتع بالعمل كثيرا لدرجة أننا شعرنا بالرغبة في
استمراره في السرد بدلا من التوقف وإنهاء النص.
محمود الغيطاني
مجلة عالم الكتاب
عدد يناير 2019م
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق