إذا ما تأملنا ما يكتبه الناقد الكبير صلاح فضل في جلّ مقالاته التي يستهويه وصفها بأنها نقدية سنلاحظ أن معظم ما يكتبه مجرد حشو لا طائل من ورائه، بمعنى أنه لا يفعل أكثر من تلخيص الأعمال التي يكتب عنها تلخيصًا جيدًا إلى حد ما، ثم يرفق هذا التلخيص بإطلاق مجموعة من الأحكام الانطباعية، وربما الانفعالية، من دون التعرّض للنقد الأدبي والعلمي الذي نعرفه ونفهم آلياته! أي أن صلاح فضل في النهاية مجرد كاتب "عروض" (Review) محترف للأعمال الأدبية، ويُطلق على هذه العروض نقدًا. كما أننا لم نره لمرة واحدة يُدلل على صدق ما يذهب إليه بشكل نقدي عند إطلاقه لأحكامه الانطباعية هنا وهناك، بل يكفيه أن يطلق حكمه في الهواء، وعلى القارئ المسكين- الخاضع لسلطوية فضل كما يظن- أن يصدق أو يأخذ ما قاله الناقد الحكيم كأنه كلام مقدس لا يمكن الشك فيه؛ لأنه إله النقد المصري الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
ربما كان هذا اللون من الاستسهال في ممارسة النقد، والتعامل معه بمثل هذه الأريحية من دون الاهتمام بما يكتبه هو ما يجعلني أشكك دائمًا في كل عمل أدبي يكتب عنه فضل؛ لأنه في النهاية مجرد عرض لعمل أدبي يعمل الناقد على مجاملة صاحبه لمنافع خاصة ليس لنا فيها ناقة ولا جمل. أي أن الكتابة هنا باتت من قبيل المجاملات والمحاباة فقط، وخرجت تمامًا عن إطار النقد الأدبي الحقيقي كما يُفترض به أن يكون، ففضل لا تعنيه آليات النقد لأنه صاحب الاسم المتضخم الذي لا يمكن مغالطته أو معارضته، بل ويلهث الجميع خلفه باعتباره مركزًا من مراكز القوى في النقد العربي مما يعطيه الحق بكتابة أي غثاء أو أي كلام متهافت ثم يقول وقد ارتسمت على وجهه ابتسامة عريضة: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي، هاكم نقدي، وعليكم أن تؤمنوا به!
في مقاله-غير النقدي- الذي كتبه في جريدة المصري اليوم بتاريخ 12 يونيو 2016م بعنوان ""مصائر" الشتات الفلسطيني في رواية المدهون" يصول ويجول الناقد مُدلسًا على القارئ حتى أنه يوهمه بأن رواية ربعي المدهون هي أهم رواية صدرت في الوطن العربي كله في الآونة الأخيرة، وبالتالي فلا بد لنا أن نسجد للمدهون الذي كتب هذا العمل البديع مُتحدثًا عن المأساة الفلسطينية ومعاناتها، بينما الحقيقة الأدبية التي يعرفها معظم من قرأ الرواية أن المدهون لم يكتب رواية؛ بل كتب لغوًا لا علاقة له بالأدب ولا اللغة ولا الجماليات. كما حرص من خلال هذا اللغو على تشويه التاريخ الفلسطيني والانتصار للـ "قضية الإسرائيلية"، إذا جاز لنا استعارة وصف القضية الفلسطينية وإسباغها على إسرائيل تماشيًا مع النزعة الصهيونية للمدهون في روايته.
يقول الناقد الكبير- في السن-: "مريرة وموجعة، معقدة ومزمنة، تلك حيوات الشعب الفلسطيني الشريد، موزع بين من يتوق لعودة مستحيلة، وآخر "باقي هناك" يحاول ترميم جذوره وترسيخ هويته المخلوعة، موضوع رواية ربعي المدهون التي ظفرت بجائزة البوكر هذا العام بعنوان "مصائر: كونشرتو الهولوكوست والنكبة"". خلال قراءة الفقرة الأولى في مقال الناقد صلاح فضل يتوهم القارئ بأن هذه الرواية إنما تدور حول المأساة الفلسطينية والألم الفلسطيني، ولعل الجملة الأولى التي بدأ بها فضل مقاله هي جملة شعرية تعمل على دغدغة مشاعر القارئ لا إعمال عقله ليتخذ بالتالي موقفًا شعوريًا من الرواية ويتقبّل كل ما سيجود به الناقد عليه. لقد كان فضل ذكيًا في افتتاحية مقاله من حيث اللعب على مشاعر القارئ المتعاطف بفطرته مع القضية الفلسطينية، وبذلك فهو يؤهل القارئ غير الحصيف لتقبّل مادته ويعمل على اجتذابه إلى صفه حينما يقول: "مريرة وموجعة، معقدة ومزمنة، تلك حيوات الشعب الفلسطيني الشريد"، ثم سرعان ما ينسب هذه المشاعر الفضفاضة إلى الرواية التي يتحدث عنها، باعتبار أن الروائي كان يقصد ذلك من وراء روايته الزائفة لا النازفة.
إذًا فصلاح فضل ككاتب "ريفيوهات" متمكّن كان من الذكاء بجملته الافتتاحية ما هو كفيل بجعل القارئ منساقًا خلف ما سيغدق به عليه لاحقًا، ومن هنا يكون كل ما سيأتي بذكره فيما بعد من أحكام مطلقة- لا دليل نقدي عليها- من باب اليقين الذي سيوهم القارئ بصدقه وواقعيته، في حين أن واقع الرواية لم يتطرق من قريب أو بعيد إلى المأساة الفلسطينية الموجعة التي مست شغاف قلب صلاح فضل. ولو كان الناقد فعلاً يرى فاجعة فلسطينية فقد كنت آمل منه أن يُدلل على مقولته من متن النص الروائي بما يؤكد قوله باقتباس أو اثنين، لكنه كان حريصًا منذ فقرته الافتتاحية على إيهام القارئ بأنه أمام رواية استثنائية في تناولها للقضية الفلسطينية (على نهج ما فعله المدهون في مقدمته الخائبة ممجدًا ذاته وكتابته التي لم ترد من قبل على قلب بشر)، والحقيقة أنها فعلاً استثنائية ولكن في خيانتها للقضية الفلسطينية.
يقول الناقد القدير: "مريرة وموجعة، معقدة ومزمنة، تلك حيوات الشعب الفلسطيني الشريد" في حين أن المدهون في روايته أبرز المأساة اليهودية فقط، وما عاناه اليهود سيكولوجيًا من جرّاء محرقة الهولوكوست، ولم نر حقيقةً أية مأساة فلسطينية كما ذهب فضل، فنحن نرى باسم زوج جنين في الرواية متعاطفًا مع جارته اليهودية "بات- تسيون" التي يعني اسمها في العربية "بنت صهيون" فيقول الروائي على لسان جنين: "كانت تعرف أن باسم يرتاح حين يطل برأسه من النافذة، ويرى جارتهم اليهودية، بات- تسيون، يغفو على راحته كأنه في قيلولة بعد ظهيرة يوم حار، يتابع بات- تسيون منشغلة في إنجاز لوحة جديدة"، إذًا فباسم الثائر والمستاء من الوضع الفلسطيني والراغب في العودة إلى أمريكا وترك الوطن، والذي يرى أن من يقيمون في الداخل الإسرائيلي ليسوا بفلسطينيين كاملين (بوصفه لهم "فلسطينيين نص نص")، لا يرتاح سيكولوجيا إلا من خلال تأمل جارته اليهودية "بنت صهيون"! وبما أنه يرتاح لها نفسيًا كثيرًا فهو يُفضل أن يُطلق عليها اسمًا آخر وهو "بنت السلام"، وأحيانًا كان يُدللها مطلقا عليها اسم "بات" فقط، فنرى في الرواية: "نفذ باسم رغبته واستمتع بها، صار ينادي جارته "بت- شالوم"، أُعجبت العجوز بالتسمية كثيرا، حتى أنها صارت تنتظر مرور باسم من الحارة، أو ظهوره قرب النافذة، وتتظاهر بالانشغال كي ينادي عليها، وتسمع اسمها الجديد منه"، هنا أحب أن أسأل الناقد: أين هي المأساة المريرة والموجعة التي تتحدث أنت والمدهون عنها؟ أنا لا أرى سوى مجتمع بديع يسوده السلام والحب بين أبناء الوطن الواحد من اليهود والفلسطينيين الذين يعيشون مع بعضهم البعض في سعادة ووفاق، بل ويُدلل الفلسطينيون منهم اليهود وينادونهم بأسماء التحبب والتقرّب.
في موضع آخر من الرواية نرى "باقي هناك"، وهي الشخصية التي يُطلق عليها المدهون تسمية "فلسطيني تيس" في إشارة إلى كل من أصرّ على البقاء في الداخل الفلسطيني باعتباره تيسًا، "باقي هناك" الذي يكاد يكون متيّمًا بجارته "أفيفا" اليهودية والتي يُدللها بإطلاقه عليها اسمًا عربيًا وهو "ربيعة"، متعاطفًا مع هذه الجارة التي عانت كثيرًا من المحرقة النازية الأمر الذي جعل الكوابيس تطاردها في تصوير مأساوي من المدهون لمعاناتها، فيقول مثلاً حينما أحرقت "أفيفا" بيت "باقي هناك" نتيجة كابوس قضّ مضجعها: "ذات بعد ظهيرة، استغلت جارته اليهودية أفيفا، غيابه وعائلته عن البيت، ورشت على حائطهم المجاور زجاجة كيروسين، وأشعلت النار فيه، وراحت تصرخ "شوأاه شوأاه"، حتى ملأت حارة الجمل في اللد صراخا"، والمدهون هنا يريد الإمعان في وصف المأساة الموجعة التي يعاني منها اليهود بسبب المحرقة التي تعرضوا لها في حين أننا لم نر أي وجه من أوجه المأساة الفلسطينية داخل الرواية، بل كان التركيز على المآسي اليهودية فقط. وحينما تأتي الشرطة للتحقيق في الحريق الذي افتعلته "أفيفا" يكتب: "سامح جارته وعفا عنها، ورفض مقاضاتها، قال: "خلّينا انحلها حل عرب" مع أن الطرف الثاني، المتهم، ليس عربا، قال لضابط الشرطة الذي تولى التحقيق في الحادث: "غفيرت أفيفا وحيدة وغلبانة وما حدّش بيعتب عليها، اللي شافته في حياتها ما شافه بشر، اللي شافته جننها وأفقدها أعصابها، شِئِلوهيم يعمود لتْسيداه، الله يساعدها ويكون ف عونها، زي ما بتقولوا بلغتكم اللي ما بنستغنى عنها لحتى تفهموا علينا"؛ الأمر الذي راق لضابط الشرطة الإسرائيلي كثيرًا؛ مما جعله يرد بقوله: "لو كل العرب زي هالزلمة، لكنا حرقنا كل بيوت العرب وهمّ مبسوطين ع الآخر"؛ ومن خلال الموقف الذي سقناه الآن بين باقي هناك وبين أفيفا ما يُكذّب صلاح فضل بشكل فاضح ومخزٍ حينما نقرأ قوله في مقاله: "يرصد الكاتب بدقة تناقض مشاعره في علاقته بجارته اليهودية المجنونة من أعقاب الهولوكوست الألماني، وكيف سامحها بعد أن سكبت البترول على جداره لتحرق منزله، وأصبح هو الذى ينجدها في نوباتها الهستيرية"، فهل فيما رأيناه تجاه أفيفا من باقي هناك أي لون من ألوان الصراع وتناقض المشاعر من جهة الفلسطيني الذي انتُهك بيته أم الحب والتسامح؟ وأين الدقة في تناقض المشاعر هنا؟ وهل يرى صلاح فضل في كل هذه السماجة وهذا الاندحار الفلسطيني وهذا التذلل شكلا من أشكال المرارة والوجع والتعقد المزمن كما ذهب في افتتاحية مقاله؟! إن الفلسطيني هنا مجرد شخص مُداهن ومتذلل ومحب ومتصوف في تماهيه مع مأساة أخيه اليهودي الذي عانى الكثير في أعقاب المحرقة النازية، بينما لم نر أي توحّد وتضامن مع معاناة فلسطيني واحد داخل الرواية.
في موضع آخر من الرواية حينما يتحدث الروائي عن زيارة وليد دهمان لمتحف "يد فاشيم" أو متحف ضحايا المحرقة النازية "الهولوكوست" يكتب على لسان دهمان بعد تأمله لما في المتحف: "وصلتني الرسالة، وإنسانيا فهمتها، عليّ أن أتذكر هؤلاء الضحايا، وكلماتهم الأخيرة المهربة، طلبتُ لهم الرحمة من الله كضحايا للنازيين مرة، وضحايا من يتاجرون بمأساتهم مرة أخرى"، بل وكادت الدموع تطفر من عينيه. هنا أود أن أتوقف للتوجه إلى الناقد صلاح فضل: هل رأيت في هذه الموضع وغيره من المواضع في رواية المدهون الوجع الفلسطيني ومرارته؟! نحن لم نر سوى الوجع اليهودي الذي يتعاطف معه الروائي ويغرق في وصفه، فلِمَ تحاول التدليس على القارئ بمثل ما قلته، ولمصلحة من؟!
إذا ما تابعنا الجملة النقدية العبقرية التي كتبها فضل في فقرته الأولى من مقاله نراه يقول: "موزع بين من يتوق لعودة مستحيلة، وآخر "باقي هناك" يحاول ترميم جذوره وترسيخ هويته المخلوعة" قاصدًا بذلك الشعب الفلسطيني الذي صوّره الروائي في روايته، في الوقت الذي لم نر في هذه الرواية سوى رحلة سياحية قام بها الروائي واضعًا آراءه على لسان بطله "وليد دهمان"، مثله في ذلك مثل أي سائح يزور فلسطين المحتلة من دون أي مشاعر انتماء، أو توحّد، أو حتى شفقة تجاه ما يعانيه الفلسطينيون، بل كان الانتماء كله لليهود الذين احتلوا هذه الأرض احتلالاً مُبررًا في أعقاب المحرقة النازية، فعن أي ترسيخ يحكي فضل وبطل الرواية ذاتها منسلخ عن هذه الأرض لا يربطه بها سوى الحمص والكنافة؟ ثم تأتي جملة فضل التالية التي يقول فيها: "تعرض فجيعة الجيل الثاني من أبناء فلسطين المغتربين والمقيمين كرهاً على ضفتي الأرض المستوطنة بالعنصرية"، وهنا يكمن التدليس والتزييف للواقع الثقافي بنَسب فضل للرواية ما ليس فيها افتراءً على القارئ والأدب؛ لأننا في حقيقة الأمر لم نر سوى الفجيعة اليهودية، وتشويه صورة المجتمع الفلسطيني.
في نفس السياق التدليسي يقول فضل: "بيد أن الأنغام التي تنبعث من رواية المدهون مشحونة كلها بالشجن والأسى والحسرة، لا تسمح بالتنويع البهيج ولا المزج الرائق بين الفرح والحزن، حيث يطوى الكاتب بسرعة ما قد يتيح له فرصة الغوص في ترانيم العواطف السارة"؛ أين هي الأنغام التي سمعتها أيها الناقد العظيم ولم نسمعها نحن، هل كُشف عنك الحجاب؟! أم أنها الأنغام المتصاعدة من قول المدهون: "ضحك "باقي هناك" بصوت عال، ثم بكى بصمت أعلى على ما وصلت إليه حال اليسار في البلاد، وساعدته حسنية في البكاء هذه المرة أيضا، وسألته ما سألته من قبل: "أساعدك بدمعتين يا بو فلسطين؟ بحياة الله تاخد لك نقطتين، يا زلمة والله عندي اللي يكفيني لكل المصايب، من سنة الثمانية والأربعين وأني بجمّع دموع"، هل ترى في مثل هذا التعبير السمج أي أنغام؟! وهل هي أنغام جمالية ودلالية ولغوية، أم هي أنغام العزف على معاناة اليهود في المحرقة واستمالة لقلوبنا بإنسانيتهم؟! ما تقوله الرواية إن اللحن الفلسطيني آل إلى زوال وطغى اللحن الإسرائيلي يعزفه المدهون ويطرب له القارئ العربي.
يبدع صلاح فضل أيما إبداع في كتابة الجمل الغنائية المفرغة المعنى، والتي تبتعد كل البعد عن النقد الأدبي، وهو لا يرغب من وراء هذه الجمل التي يعمل على صياغتها بشكل غنائي وأدبي إلا أن يثبت أهمية الرواية وجمالياتها الافتراضية، وإطلاق الأحكام الجاهزة والزائفة حينما نراه يقول مثلا: "هذه الوصية التي تتطلب رحلة العودة من الابنة وزوجها إلى الأرض المحتلة هي الخيط الناظم لهذا اللحن الجنائزي الممتد بحنينه وعويله معاً"؛ ففضل هنا ينظم جملة غنائية لا نقدية، كما أنه يحاول البناء على الهواء من دون وجود أساسيات نقدية يعتمدها في مقاله، أو على الأقل يحاول التدليل عليها من متن النص، فكان كل ما يقوله مجرد أحكام انفعالية وانطباعية فقط لا دليل نقدي عليها، والغريب أنه يحاول غير مرة التأكيد على "اللحن الجنائزي الممتد بحنينه وعويله معا" مع أن هذه الفكرة غير موجودة أصلاً في النص الروائي إلا بشكل سطحي ومفتعل لا يُذكر إلا للسخرية من فكرة العودة، وإحقاقا للحق أود أن أؤكد موافقتي لفضل فيما ذهب إليه من وجود لحن جنائزي، وهو اللحن الخاص بمأساة الهولوكوست والذي أثّر فينا أيّما تأثير حتى خرجنا من الرواية متعاطفين مع اليهود على حساب أهلنا الفلسطينيين.
حينما يتحدث الناقد في مقاله العجيب عن اللغة الروائية الأكثر عجائبية لربعي المدهون يقول واثقًا ثقة لا مبرر لها: "لكن ما يفتن القارئ في أسلوب الرواية هو قدرة المبدع على تجسيد روح المكان ورنين الزمان في اللهجة المهجنة المغتربة، للمقيمين أو الزوار المتواطئين معهم، كما تتجلى في الحوارات الشائعة، في هذه اللهجة التي تسرى في العمل كله تبرز المفارقات المسنونة والتناقضات المثيرة في أوضاع المتحاورين وعوالمهم المتضاربة، مما يصل في أحيان كثيرة إلى منطقة الفكاهة الدامعة، هذه اللغة التي يعجنها ربعي المدهون ويخبزها في طابونه الروائي بمهارة فائقة هي الأقدر على تمثيل عذابات الشتات الفلسطيني الموزع على الأمكنة والأجيال والثقافات برهافة شعرية فائقة"؛ هل يعتقد فضل أن هذه الفقرة المصوغة بهذه العبارات اللزجة هي فقرة نقدية حقًا؟! وبغض النظر عن أن هذا يسمى دهنًا لا نقدًا، فإن كل من يوافق فضل فيما ذهب إليه لا بد أن يطمر رأسه بالرمال خجلاً ومهانة كلما قفزت أمامه جملة من الجمل المدهونية في الرواية؛ فأي قارئ متوسط الثقافة يدرك في أي صفحة يفتحها من الرواية بأن ما يدعيه فضل يسمى مغالطة وزيفًا نقديًا؛ فالكارثة الحقيقية والأولى في رواية المدهون هي اللغة يا سيادة الناقد الفذ، والمشكلة أن المدهون ليس لديه حس لغوي أصلاً؛ وبالتالي فهو عاجز عن كتابة رواية، فكيف تأتي أنت بعد ذلك لتتغزل باللغة التي سيخبرك أي مراهق في المرحلة الثانوية إذا ما قرأها: "هذه لغة طالب فاشل يحاول تلمس خطواته الأولى في الكتابة، ومازال أمامه الكثير كي يتذوق اللغة". يبدو أن ذائقة الناقد اللغوية هنا فاسدة؛ الأمر الذي جعله يطلق حكما نقديًا مجانيًا في حديثه عن لغة عقيمة وجوفاء من دون الاستشهاد بأي اقتباس من الرواية للتدليل على هذه اللغة ذات الرهافة الشعرية الفائقة من وجهة نظره!
هل هناك من يقول في مقال نقدي: "برهافة شعرية فائقة"، وإذا ما سلمنا بالرهافة الشعرية التي تتحدث عنها، فأين موضع مفردة "فائقة" مما تقوله؟! أين التفوّق الذي رأيته ولم تره عند غيره في هذا اللغو الذي أحاق بالرواية من أولها إلى آخرها، هل هو في قول المدهون: "صُدمت عمتي، وأخذت عن أمي بقية انفعالاتها وانفعلت بها"؟ هل تعتقد أن هذه الجملة هي جملة روائية وشعرية فائقة؟ ومنذ متى كان تشييء المشاعر مقبولاً بمثل هذا الشكل الفج في عمل أدبي أو في الحياة عامةً؟ وهل من الممكن أخذ بقية الانفعالات من شخص ما ثم الانفعال فيما بعد ببقية هذه الانفعالات التي تخص الآخرين؟! أوصاف المدهون غير منطقية كي تكون أدبية، وهو عاجز عن توظيف اللغة والتعبير عنها بشكلٍ سليم ومفهوم حتى تنهال عليه بكل هذه الإطراءات الزائفة، هل هناك من يصف شخصًا ما بقوله: "نحيف إلى حافة السمنة"؟ وهل ترى في هذا الوصف المتناقض أية شعرية؟ أم تراك ترى الشعر في جملة: "أخذت شبابها كله معها، وألقت به وسط مجموعة من الشبان، انهمكت في الرقص وسط الصالة، وقفتُ أراقب جنين تتمايل حول خصرها بخفة سنبلة قمح"، هل رأيت أنت في حياتك مَن تتمايل حول خصرها؟ وكيف من الممكن لأي قارئ أن يُركب الصورة ذهنيًا حينما يتوجّب عليه أن يتخيّل أن هناك من يتمايل حول خصره؟ هل خلعت جنين خصرها ووضعته أمامها كي تتمايل حوله؟! إن اللغة هنا لا يمكن وصفها إلا بأنها هراء؛ هراء خالص، أو لغة شخص سكران ثمِل من فرط ما تناوله من الكحول الرخيص؛ في حال اعترافه بذلك ساعتها فقط يمكننا أن نلتمس له العذر ونتقبّل هذا الهذاء والهراء اللغوي، لا شاعريته الفائقة التي ذهبت أنت إليها، إلا إذا كنت تؤمن حقا بأن قوله: "قلت لنفسي حتى لا تُفاجأ وتفاجئني" فيه من الرهافة الأدبية والشعرية ما زلزل مشاعرك! لو كان هذا صحيحًا فاسمح لي أن أبلغك بأنك تفتقد إلى الحس اللغوي والحساسية الأدبية والذائقة الجمالية وأنك تتغزل برواية تعتمد التشييء في لغتها بشكلٍ لا يتفق مع الوجع والحنين الذي ألصقته بها، ومن ثم لا يصح -بعد مقالك عن المدهون- أن تكتب نقدًا عن الأعمال الأدبية؛ لأن أداة الأدب الأولى هي اللغة، وبما أنك لا تتذوق اللغة في الأساس فمن البديهي ألا تتعرض لأي فن لغوي بعد اليوم.
هل من الممكن أن أقول "قلت لنفسي حتى لا تُفاجأ وتفاجئني"؟! إذا ما قلتُ هذه الجملة أمام أي شخص فهو بالتأكيد سيتهمني واثقًا وبشكل يقيني أني أعاني من خلل نفسي، ولابد من الذهاب إلى الطبيب للعلاج قبل استفحال الحالة النفسية السيئة التي وصلت إليها، وهي الحالة التي تجعلني أحادث نفسي حتى لا تُفاجأ، أو تقوم هي بمفاجئتي فأندهش منها! أتمنى من الناقد الفاضل صلاح فضل أن يتحلى بشيء من اسمه ولو قليلاً ويهبنا من فضله بالتزام الصمت حينما يرغب بالحديث عن اللغة مرة أخرى؛ فكلامه المُطلق إنما هو دليل على انعدام الأمثلة الحية من الرواية التي تزاحم جملها بعضها في رداءتها، وإنما دليل على تملقه للمدهون على حساب الأدب.
رغم أن الناقد صلاح فضل له باع طويل- أشك فيه اليوم- في النقد الأدبي، ورغم أن الناقد لا بد أن يتحلّى بحاسة البحث الدؤوب والتدقيق في كل ما يذهب إليه، إلا أننا نرى فضل حينما يكتب ما يدعوه نقدًا لا يبذل أدنى قدر من الجهد بما يتفضّل به علينا وكأنه يمارسه بلون من ألوان الكسل والإرغام والضجر- باعتباره مجرد أكل عيش- لابد من فعله. فحينما ندقق النظر في مقاله الذي كتبه عن رواية المدهون سيتبيّن لنا أنه لم يعبأ بأي شكل من أشكال الدقة في كل ما كتبه؛ الأمر الذي أوقعه في الكثير من المغالطات غير المتعمدة التي يمكن إضافتها إلى مغالطاته التي تعمدها من أجل تجميل الرواية ومجاملة كاتبها.
يقول فضل في مقاله: "يجترح المؤلف فيها تقنية مبتكرة، تتمثل في "توليف النص في قالب الكونشرتو المكون من أربع حركات، تشغل كل منها حكاية تنهض على بطلين اثنين: يتحركان في فضائهما الخاص، قبل أن يتحولا إلى شخصيتين ثانويتين في الحركة التالية، حيث يظهر بطلان رئيسيان آخران لحكاية أخرى، ثم يذوبان في الحركة الثالثة في حضور أقربائهما وأصدقائهما من الأبطال الجدد، وينتهى الجميع في الحركة الرابعة والأخيرة إلى نقطة البداية ليصبح محور العمل كله هو العودة المستحيلة والأرض المغتربة وأشباح حروب الإبادة اليهودية والفلسطينية الماحقة"؛ بغض النظر عن استخدام مفردة "اجترح" التي أرادها الناقد هنا بمعنى "الاختيار بعناية"، فإن استخدام المفردة "اجترح" تُعزى معجميا إلى اكتساب الذنوب والخطايا، وأنت هنا وُفقت كثيرا في اختيارك لهذه المفردة؛ لأن هذه الرواية فعلاً خطيئة. إن هذه الفقرة تُدلل لنا بشكل واضح أن فضل مجرد ناقد كسول يرتكن إلى كسله ولا يرغب في نفضه عنه؛ فهو هنا يُقر بأن رواية المدهون جاءت على شكل الكونشرتو المكون من أربع حركات؛ وهو لا بدّ استقى معلوماته هنا من المقدمة الهزيلة التي كتبها المدهون وشرح لنا فيها أن الرواية كُتبت بمثل هذا الشكل الذي يتوهمه، في حين أن الكونشرتو في حقيقية الأمر يتكوّن من ثلاث حركات فقط لا غير! وهنا يتبين لنا أن فضل اعتمد على ما قاله المؤلف في مقدمته ولم يحاول تحميل نفسه عناء البحث كي يتأكد من هذه المعلومة التي تفضح جهله، ليقرّ بما قاله المدهون في مقدمته منساقًا إليه كثور في ساقية. وإذا ما كان الناقد متكاسلاً عن البحث والتدقيق في معلوماته التي يؤسس عليها نقدًا سيشهد عليه التاريخ؛ فمن الأجدى به ألا يكتب نقدًا مرة أخرى، لكن صلاح فضل سرعان ما يدهشنا حينما يعود في فقرة أخرى من مقاله ويقول: "فإن استعارة شكل الكونشرتو الموسيقى المكون في الأغلب من ثلاثة أجزاء تلعب فيها آلتا الكمان والفلوت الدور الرئيسي بجانب الفرقة الموسيقية، وتتراوح أجزاؤه بين السرعة الأولية ثم الهدوء الناعم قبل العودة للإيقاع اللاهث، هذا الشكل يلائم الرواية التي تلعب فيها النماذج البشرية والأصوات المتعددة دور الآلات الموسيقية في جوقة الحياة"، إن الرجل هنا يتناقض مع نفسه بشكلٍ غير مبرر، وهذه الفقرة تتناقض مع الفقرة التي سبقتها كذلك بشكلٍ مدهش، وهذا يعود إلى ما يلي: إما أن فضل نسي الفقرة التي سبق أن أكد فيها رباعية الكونشرتو الموسيقي، أو أنه يدرك ثلاثية الكونشرتو ولكنه يرغب في التواطؤ مع رباعيات المدهون، ولأنه لا يريد أن يغالطه على الملأ فقد كتب فقرة حول رباعية الكونشرتو ثم ألحقها بفقرة حول ثلاثيتها، ليسوق فيها التعريف الصحيح متأخرًا من دون تخطيئ الروائي.
من الجمل النقدية التي وردت في مقال فضل والتي تدل على عدم اهتمامه بما يلقيه على القارئ من استنتاجات، وعدم تدقيقه وأمانته في التحليل بموضوعية؛ الأمر الذي أوقعه في الكثير من الأخطاء التي لابد سيصدقها القارئ باعتبار أنها جاءت على لسان الناقد الكبير قوله: "في آخر اجتماع تعقده إيفانا وأسرتها ومحاميها كي توصيهم بحرق جثتها بعد وفاتها وذرو قدر من رمادها على نهر التايمز حيث عاشت عمرها الطويل، ووضع الجزء الآخر من رمادها في قنينة خزفية تسد أيقونتها الأنيقة لإيداعها فيما عساه أن يكون قد تبقى من منزل الجد في عكا وفى أحد بيوت القدس القديمة"؛ في الجملة الأخيرة من هذه الفقرة يتحدث الناقد بثقة وتعالٍ قائلاً: "لإيداعها فيما عساه أن يكون قد تبقى من منزل الجد في عكا وفى أحد بيوت القدس القديمة"، في الوقت الذي ذكر فيه الروائي داخل روايته أنها أرادت أن يكون رمادها في بيتها القديم في عكا، وإذا لم يستطع وليد وابنتها فعل ذلك فعليهما العمل على وضع الرماد في أحد البيوت الفلسطينية في القدس، أي إما هذا أو ذاك، وليس كما ذهب فضل برغبتها في وضع الرماد هنا وهناك، أي في عكا والقدس معًا، فنصّ ما قالته إيفانا في الرواية هو: "خذوا بعضي وكل روحي إلى عكا يعتذران لها حارة حارة، خذوا ما تبقى مني وشيعوني حيث وُلدت، مثلما ستشيعني لندن حيث أموت، يا أصدقائي وأحبتي، يوما ما، ولا أظنه بعيدا، سأموت، أريد أن أُدفن هنا وأن أُدفن هناك، ثم صمتت قليلا، وشاركها الجميع صمتها لدقيقة أو أكثر، قطعته بعدها لتوجه كلاما آخر لجولي ووليد: إن تعذر الأمر لسبب ما، أكون سعيدة لو أخذتما هذا النصف من بقاياي، إلى القدس القديمة، أعرف أن لوليد أصدقاء هناك، وقد تروقكم زيارتهم وترتيب وضع التمثال عندهم، أو عند أي عائلة فلسطينية يمكن أن تقبل ذلك"، لذلك توجّب عليك يا فضل أن تميّز بين وأوآتك وأوأواتك على شاكلة الصياغة المدهونية.
عدم التدقيق في تناول صلاح فضل للرواية في مقاله يتضح في غير موضع من هذا المقال مثل قوله: "فالراوي يحكى قصة لقائه في مطار القاهرة براكب تصحبه زوجته الأنيقة دائماً، يقرأ في صحيفة القدس العربي مقالاً لربعي المدهون بعنوان "لا تصدقوهم، لم ينسوني بعد أربعين عاماً"، فيستنتج أنه هو الكاتب"، ولعل هذه الفقرة وحدها من مقال فضل تُدلل على أن فضل لا يقرأ، وإن قرأ فهو يقرأ بعدم اهتمام وتركيز؛ الأمر الذي يجعله يخلط الأمور ببعضها ويترتب على ذلك مقال- غير نقدي- فيه الكثير من المغالطات والتناقضات التي تنزاح عن العمل الذي يتناوله النقد انزياحًا حادًا؛ فالراوي حكى فعلاً عن لقائه براكب تصحبه زوجته الأنيقة دائمًا، يقرأ في صحيفة القدس العربي بالفعل، لكن هذا الحدث لم يكن في مطار القاهرة كما ذهبت يا فضل، بل كان في مطار "بن جوريون"؛ لذلك أرجو منك أن تتفضل علينا بشيء من اسمك ولا تتحدث مرة أخرى في النقد الذي لا تتوخى فيه أبسط قواعد الأمانة في النقل، فقد ذكر المدهون في مشهد تحت عنوان "رجل واضح غامض" (وهو يقصد نفسه بهذا الرجل الواضح الغامض): "قادتني وزوجتي إلى غرفة تحقيق في مطار "بن جوريون" في اللد، شرطية أمن أبطأت مؤخرتها الثقيلة من خطواتنا المنتظمة خلفها"، مؤكدًا بذلك على بن جوريونية المطار لا قاهريته! كما أن إقحام المدهون نفسه كروائي داخل متن العمل لم يكن من التجريب في شيء يا سيدي القدير كما ذهبت أنت في قولك: "من الطريف أن يتجول الكاتب في روايته بشخصيته وذكرياته على سبيل التجريب السردي"؛ فأين التجريب في وجود المدهون بنفسه داخل روايته؟ هذا الأمر رأيناه في العديد من الروايات وهو ليس من الجدة بشيء، كما أود أن أطرح على حضرتك سؤالاً: ما هي الضرورة الفنية التي جعلت المدهون يتحدث عن نفسه ووضع نفسه كشخصية روائية في الرواية اللهم إلا مجرد الحديث عن نفسه فقط من دون أي طائل أو هدف؟ هل كان وجود شخصية المدهون في الرواية محركًا للعالم السردي؟ هل اعتمدت عليه الأحداث في أي شيء؟ هل قدم شيئًا جديدًا بتواجده داخل الرواية؟! كل هذه الأمور لم نرها، وبالتالي فوجود المدهون كان ثقلاً وثرثرة داخل الرواية زادها ضعفًا على ضعفها، وزادك تواطئا وتزلّفًا نقديًا على زيفك.
يحاول الناقد صلاح فضل التثاقف على القارئ، أي أنه يريد أن يظهر أمامه باعتباره ناقدًا مثقفًا عظيمًا يعرف الكثير من الأمور التي استعصت على مداركنا كقراء لذلك يتفضل بها علينا ويجود؛ فيقول في مقاله: ""بيت عروس" آخر البيوت الخاصة في حارة دهمان، يعد نموذجاً للبيوت العربية المميزة، وقد بني بحيث تتوسطه ساحة تسمى "الحوش" (في العرف الأندلسي تسمى البابتو)"؛ أظن أن الناقد المثقف هنا حينما كتب "البابتو" كان يقصد في حقيقة الأمر "الباتيو" (Patio) بمعنى البهو أو الفناء أو الحوش، لكن يبدو أنه لم يسمعها من أصدقائه جيدًا ليرددها بشكلٍ مغلوط كأنه لا سبيل للقراء إلى الإسبانية ووحده يحتكر الثقافة، فما الذي استفدته من سوق هذا التوضيح بالإسبانية؟ ها أنت تقع بالخطأ لرغبتك بالتفاصح؛ ثم ما الفائدة منه؟ هل الرواية إسبانية أم القراء إسبان؟ لقد جاء هذا التوضيح في الأساس في غير سياقه، ومقال فضل المهترئ في رواية المدهون لم يكن يحتاج "الباتيو" ليزيد من عوراته سوءة.
في مقاله يقول فضل: "أعتقد أن ظلال الواقع التوثيقي تتراءى في هذا المشهد مع شخصية المؤلف نفسه، كما أحسب أنه يتعين عليه في أحد مشاهد رواياته المقبلة أن يسجل أيضاً احتضان مطار القاهرة له أخيراً وترحيبه به عند حضوره منذ فترة وجيزة مؤتمر تجديد الخطاب الثقافي"، لابد هنا من تأمل هذه الفقرة بخشوع؛ فهنا يطلب الناقد من الروائي أن يُسجل في رواية قادمة احتفاء السلطات المصرية به في مطار القاهرة مؤخرًا حينما زار القاهرة في مؤتمر تجديد الخطاب الثقافي مع ما في هذا الطلب من سماجة لا يمكن احتمالها، فهل يظن الناقد الكبير أن الأدب قد بات يُفصّل على المقاس من أجل التحية والشكر والدعاية والاحتفاء وتبادل دعوات الزيارة واقتراح موضوعات الروايات القادمة إذا رضي عن أحدهم، بينما يسب الآخرين ويلعنهم في حال لم يكن راضيًا عنهم؟! ما كل هذه السماجة والتساهل في التعامل مع الأدب؟ وكيف تجرأت في مثل هذا الطلب من المدهون في سياق مقال نقدي؟! هل فعلاً تمازحه؟ وهل تعتقد أن السلطات المصرية لو كانت قد قابلت المدهون بشكل سيء أو منعته من الدخول مرة أخرى مثلما فعلت معه من قبل، من الأجدى به ساعتها أن يكتب رواية يسب فيها مصر والمصريين وسلطاتهم التي منعته من الدخول كما فعل في روايته "مصائر"، وهل كنت ستطلب منه ذلك؟! إن فن الرواية ليس فنًا على المقاس والمجاملات الشائهة التي نراها في نقدك أيها الناقد الكبير، بل هو فن عفوي وحقيقي يخضع لآليات الفن، وليس لآليات المصالح والشلييات وأكل العيش.
في موضع آخر من المقال الاحتفائي برواية المدهون، وهو المقال المتخم بالأخطاء والتناقضات، وتزييف الوعي الثقافي نرى الناقد يقول: "مما يوحى بأن كثيراً من النماذج والمواقف التي تسجلها هذه الرواية ليست من ورق كما نتوهم، بل هي من لحم الواقع ودمه القاني، من خبرات الشتات ومعاناة العذاب"؛ استوقفتني هذه الجملة التي كتبها فضل كثيرًا ودققت فيها محاولاً إعادة قراءتها أكثر من مرة؛ لأنها إن كانت تؤكد من جهة على واقعية رواية المدهون وأن معظم ما جاء فيها إنما يرتبط بالواقع لا سيما الوقائع والأماكن والتواريخ، إلا أنها تُدلل من جهة أخرى على فساد النقاد؛ لأن هذه الجملة تتناقض تمامًا مع جملة الناقد الفلسطيني فيصل دراج في مقاله عن نفس الرواية حينما قال: "مع أنّ في النص عناقاً بين الواقعي والمتخيّل، كما تقضي الروايات" في الوقت الذي كان فيه دراج يحاول بكل ما أوتى من مقدرة إقناع القارئ بأن الرواية فيها جنوح للخيال كي يستطيع أن يمرر المغالطات التاريخية التي ارتكبها المدهون بحق التاريخ الفلسطيني، وهنا يبدو لنا تخبط النقاد مع بعضهم البعض، وتناقضهم فيما بينهم حول عمل أدبي واحد محاولين التستر على جريمة المدهون؛ الأمر الذي يدلّ على أن التحايل على إثبات فنية العمل من عدمه أوقعهم في الحيرة واللغط.
يستكمل فضل حديثه في الجملة السابقة ليختتم مقاله العبثي بقوله: "بل هي من لحم الواقع ودمه القاني، من خبرات الشتات ومعاناة العذاب، ومن التاريخ التخييلي الأصدق والأجمل، والرؤية المجسدة للوعى والوجود والهوية"، هنا لابد أن نتوقف كثيرًا أمام التعبير "التاريخ التخييلي"، ماذا يعني صلاح فضل بالتاريخ التخييلي؟ وهل هناك تاريخ واقعي وآخر تخييلي؟! وما شكل هذا التاريخ المتخيّل من وجهة نظرك؟ ولمَ لم تفدنا بشرحك لنا حول كيفية تخيّل التاريخ ثم توثيقه في رواية والتعامل معه كحقائق؟ أعتقد أن فضل هنا يطلق الكلام على عواهنه من دون التركيز بما يقوله ليحشو هو الآخر مقاله بعبارات فخمة مجردة من المعنى؛ و يكتب لنا لغوًا لا يختلف فيه كثيرًا عن الرواية التي يتناولها؛ وهنا يتساوى الاثنان- الناقد والروائي- فيما يكتبانه من عبث. ثم عن أي دمٍ قانٍ تتحدث؟ دم اليهود في الهولوكست؟ أم دم الشهداء الفلسطينيين الذين لم يأتِ المدهون على ذكرهم في روايته؟ أم دمه هو؟ هو الذي زار فلسطين ليتغدى في مطاعمها ويحلي فمه بكنافتها التي تقطر عسلاً لا دمًا!
في مقال الناقد صلاح فضل ما يؤكد لنا أن الزيف النقدي قد بات شعار المرحلة، مؤكدًا على تساقط القامات النقدية الذين تربّى القرّاء على الثقة العمياء فيهم، ولكن حين حاول هؤلاء النقاد تزييف الواقع الثقافي بمحاباة المدهون وكتبوا فيه شعرًا أفلاطونيًا كان انهيارهم العظيم وسقوطهم من أعيننا، ومن أبراجهم العاجية العالية، ليستقروا تحت قدمي المدهون الذي نجح بالفعل في خلع قداستهم عنهم بكتابتهم عن روايته، لتقضي رواية "مصائر" بسوء مصائرهم.
محمود الغيطاني
جريدة البوابة عدد 10 يوليو 2016م
ربما كان هذا اللون من الاستسهال في ممارسة النقد، والتعامل معه بمثل هذه الأريحية من دون الاهتمام بما يكتبه هو ما يجعلني أشكك دائمًا في كل عمل أدبي يكتب عنه فضل؛ لأنه في النهاية مجرد عرض لعمل أدبي يعمل الناقد على مجاملة صاحبه لمنافع خاصة ليس لنا فيها ناقة ولا جمل. أي أن الكتابة هنا باتت من قبيل المجاملات والمحاباة فقط، وخرجت تمامًا عن إطار النقد الأدبي الحقيقي كما يُفترض به أن يكون، ففضل لا تعنيه آليات النقد لأنه صاحب الاسم المتضخم الذي لا يمكن مغالطته أو معارضته، بل ويلهث الجميع خلفه باعتباره مركزًا من مراكز القوى في النقد العربي مما يعطيه الحق بكتابة أي غثاء أو أي كلام متهافت ثم يقول وقد ارتسمت على وجهه ابتسامة عريضة: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي، هاكم نقدي، وعليكم أن تؤمنوا به!
في مقاله-غير النقدي- الذي كتبه في جريدة المصري اليوم بتاريخ 12 يونيو 2016م بعنوان ""مصائر" الشتات الفلسطيني في رواية المدهون" يصول ويجول الناقد مُدلسًا على القارئ حتى أنه يوهمه بأن رواية ربعي المدهون هي أهم رواية صدرت في الوطن العربي كله في الآونة الأخيرة، وبالتالي فلا بد لنا أن نسجد للمدهون الذي كتب هذا العمل البديع مُتحدثًا عن المأساة الفلسطينية ومعاناتها، بينما الحقيقة الأدبية التي يعرفها معظم من قرأ الرواية أن المدهون لم يكتب رواية؛ بل كتب لغوًا لا علاقة له بالأدب ولا اللغة ولا الجماليات. كما حرص من خلال هذا اللغو على تشويه التاريخ الفلسطيني والانتصار للـ "قضية الإسرائيلية"، إذا جاز لنا استعارة وصف القضية الفلسطينية وإسباغها على إسرائيل تماشيًا مع النزعة الصهيونية للمدهون في روايته.
يقول الناقد الكبير- في السن-: "مريرة وموجعة، معقدة ومزمنة، تلك حيوات الشعب الفلسطيني الشريد، موزع بين من يتوق لعودة مستحيلة، وآخر "باقي هناك" يحاول ترميم جذوره وترسيخ هويته المخلوعة، موضوع رواية ربعي المدهون التي ظفرت بجائزة البوكر هذا العام بعنوان "مصائر: كونشرتو الهولوكوست والنكبة"". خلال قراءة الفقرة الأولى في مقال الناقد صلاح فضل يتوهم القارئ بأن هذه الرواية إنما تدور حول المأساة الفلسطينية والألم الفلسطيني، ولعل الجملة الأولى التي بدأ بها فضل مقاله هي جملة شعرية تعمل على دغدغة مشاعر القارئ لا إعمال عقله ليتخذ بالتالي موقفًا شعوريًا من الرواية ويتقبّل كل ما سيجود به الناقد عليه. لقد كان فضل ذكيًا في افتتاحية مقاله من حيث اللعب على مشاعر القارئ المتعاطف بفطرته مع القضية الفلسطينية، وبذلك فهو يؤهل القارئ غير الحصيف لتقبّل مادته ويعمل على اجتذابه إلى صفه حينما يقول: "مريرة وموجعة، معقدة ومزمنة، تلك حيوات الشعب الفلسطيني الشريد"، ثم سرعان ما ينسب هذه المشاعر الفضفاضة إلى الرواية التي يتحدث عنها، باعتبار أن الروائي كان يقصد ذلك من وراء روايته الزائفة لا النازفة.
إذًا فصلاح فضل ككاتب "ريفيوهات" متمكّن كان من الذكاء بجملته الافتتاحية ما هو كفيل بجعل القارئ منساقًا خلف ما سيغدق به عليه لاحقًا، ومن هنا يكون كل ما سيأتي بذكره فيما بعد من أحكام مطلقة- لا دليل نقدي عليها- من باب اليقين الذي سيوهم القارئ بصدقه وواقعيته، في حين أن واقع الرواية لم يتطرق من قريب أو بعيد إلى المأساة الفلسطينية الموجعة التي مست شغاف قلب صلاح فضل. ولو كان الناقد فعلاً يرى فاجعة فلسطينية فقد كنت آمل منه أن يُدلل على مقولته من متن النص الروائي بما يؤكد قوله باقتباس أو اثنين، لكنه كان حريصًا منذ فقرته الافتتاحية على إيهام القارئ بأنه أمام رواية استثنائية في تناولها للقضية الفلسطينية (على نهج ما فعله المدهون في مقدمته الخائبة ممجدًا ذاته وكتابته التي لم ترد من قبل على قلب بشر)، والحقيقة أنها فعلاً استثنائية ولكن في خيانتها للقضية الفلسطينية.
يقول الناقد القدير: "مريرة وموجعة، معقدة ومزمنة، تلك حيوات الشعب الفلسطيني الشريد" في حين أن المدهون في روايته أبرز المأساة اليهودية فقط، وما عاناه اليهود سيكولوجيًا من جرّاء محرقة الهولوكوست، ولم نر حقيقةً أية مأساة فلسطينية كما ذهب فضل، فنحن نرى باسم زوج جنين في الرواية متعاطفًا مع جارته اليهودية "بات- تسيون" التي يعني اسمها في العربية "بنت صهيون" فيقول الروائي على لسان جنين: "كانت تعرف أن باسم يرتاح حين يطل برأسه من النافذة، ويرى جارتهم اليهودية، بات- تسيون، يغفو على راحته كأنه في قيلولة بعد ظهيرة يوم حار، يتابع بات- تسيون منشغلة في إنجاز لوحة جديدة"، إذًا فباسم الثائر والمستاء من الوضع الفلسطيني والراغب في العودة إلى أمريكا وترك الوطن، والذي يرى أن من يقيمون في الداخل الإسرائيلي ليسوا بفلسطينيين كاملين (بوصفه لهم "فلسطينيين نص نص")، لا يرتاح سيكولوجيا إلا من خلال تأمل جارته اليهودية "بنت صهيون"! وبما أنه يرتاح لها نفسيًا كثيرًا فهو يُفضل أن يُطلق عليها اسمًا آخر وهو "بنت السلام"، وأحيانًا كان يُدللها مطلقا عليها اسم "بات" فقط، فنرى في الرواية: "نفذ باسم رغبته واستمتع بها، صار ينادي جارته "بت- شالوم"، أُعجبت العجوز بالتسمية كثيرا، حتى أنها صارت تنتظر مرور باسم من الحارة، أو ظهوره قرب النافذة، وتتظاهر بالانشغال كي ينادي عليها، وتسمع اسمها الجديد منه"، هنا أحب أن أسأل الناقد: أين هي المأساة المريرة والموجعة التي تتحدث أنت والمدهون عنها؟ أنا لا أرى سوى مجتمع بديع يسوده السلام والحب بين أبناء الوطن الواحد من اليهود والفلسطينيين الذين يعيشون مع بعضهم البعض في سعادة ووفاق، بل ويُدلل الفلسطينيون منهم اليهود وينادونهم بأسماء التحبب والتقرّب.
في موضع آخر من الرواية نرى "باقي هناك"، وهي الشخصية التي يُطلق عليها المدهون تسمية "فلسطيني تيس" في إشارة إلى كل من أصرّ على البقاء في الداخل الفلسطيني باعتباره تيسًا، "باقي هناك" الذي يكاد يكون متيّمًا بجارته "أفيفا" اليهودية والتي يُدللها بإطلاقه عليها اسمًا عربيًا وهو "ربيعة"، متعاطفًا مع هذه الجارة التي عانت كثيرًا من المحرقة النازية الأمر الذي جعل الكوابيس تطاردها في تصوير مأساوي من المدهون لمعاناتها، فيقول مثلاً حينما أحرقت "أفيفا" بيت "باقي هناك" نتيجة كابوس قضّ مضجعها: "ذات بعد ظهيرة، استغلت جارته اليهودية أفيفا، غيابه وعائلته عن البيت، ورشت على حائطهم المجاور زجاجة كيروسين، وأشعلت النار فيه، وراحت تصرخ "شوأاه شوأاه"، حتى ملأت حارة الجمل في اللد صراخا"، والمدهون هنا يريد الإمعان في وصف المأساة الموجعة التي يعاني منها اليهود بسبب المحرقة التي تعرضوا لها في حين أننا لم نر أي وجه من أوجه المأساة الفلسطينية داخل الرواية، بل كان التركيز على المآسي اليهودية فقط. وحينما تأتي الشرطة للتحقيق في الحريق الذي افتعلته "أفيفا" يكتب: "سامح جارته وعفا عنها، ورفض مقاضاتها، قال: "خلّينا انحلها حل عرب" مع أن الطرف الثاني، المتهم، ليس عربا، قال لضابط الشرطة الذي تولى التحقيق في الحادث: "غفيرت أفيفا وحيدة وغلبانة وما حدّش بيعتب عليها، اللي شافته في حياتها ما شافه بشر، اللي شافته جننها وأفقدها أعصابها، شِئِلوهيم يعمود لتْسيداه، الله يساعدها ويكون ف عونها، زي ما بتقولوا بلغتكم اللي ما بنستغنى عنها لحتى تفهموا علينا"؛ الأمر الذي راق لضابط الشرطة الإسرائيلي كثيرًا؛ مما جعله يرد بقوله: "لو كل العرب زي هالزلمة، لكنا حرقنا كل بيوت العرب وهمّ مبسوطين ع الآخر"؛ ومن خلال الموقف الذي سقناه الآن بين باقي هناك وبين أفيفا ما يُكذّب صلاح فضل بشكل فاضح ومخزٍ حينما نقرأ قوله في مقاله: "يرصد الكاتب بدقة تناقض مشاعره في علاقته بجارته اليهودية المجنونة من أعقاب الهولوكوست الألماني، وكيف سامحها بعد أن سكبت البترول على جداره لتحرق منزله، وأصبح هو الذى ينجدها في نوباتها الهستيرية"، فهل فيما رأيناه تجاه أفيفا من باقي هناك أي لون من ألوان الصراع وتناقض المشاعر من جهة الفلسطيني الذي انتُهك بيته أم الحب والتسامح؟ وأين الدقة في تناقض المشاعر هنا؟ وهل يرى صلاح فضل في كل هذه السماجة وهذا الاندحار الفلسطيني وهذا التذلل شكلا من أشكال المرارة والوجع والتعقد المزمن كما ذهب في افتتاحية مقاله؟! إن الفلسطيني هنا مجرد شخص مُداهن ومتذلل ومحب ومتصوف في تماهيه مع مأساة أخيه اليهودي الذي عانى الكثير في أعقاب المحرقة النازية، بينما لم نر أي توحّد وتضامن مع معاناة فلسطيني واحد داخل الرواية.
في موضع آخر من الرواية حينما يتحدث الروائي عن زيارة وليد دهمان لمتحف "يد فاشيم" أو متحف ضحايا المحرقة النازية "الهولوكوست" يكتب على لسان دهمان بعد تأمله لما في المتحف: "وصلتني الرسالة، وإنسانيا فهمتها، عليّ أن أتذكر هؤلاء الضحايا، وكلماتهم الأخيرة المهربة، طلبتُ لهم الرحمة من الله كضحايا للنازيين مرة، وضحايا من يتاجرون بمأساتهم مرة أخرى"، بل وكادت الدموع تطفر من عينيه. هنا أود أن أتوقف للتوجه إلى الناقد صلاح فضل: هل رأيت في هذه الموضع وغيره من المواضع في رواية المدهون الوجع الفلسطيني ومرارته؟! نحن لم نر سوى الوجع اليهودي الذي يتعاطف معه الروائي ويغرق في وصفه، فلِمَ تحاول التدليس على القارئ بمثل ما قلته، ولمصلحة من؟!
إذا ما تابعنا الجملة النقدية العبقرية التي كتبها فضل في فقرته الأولى من مقاله نراه يقول: "موزع بين من يتوق لعودة مستحيلة، وآخر "باقي هناك" يحاول ترميم جذوره وترسيخ هويته المخلوعة" قاصدًا بذلك الشعب الفلسطيني الذي صوّره الروائي في روايته، في الوقت الذي لم نر في هذه الرواية سوى رحلة سياحية قام بها الروائي واضعًا آراءه على لسان بطله "وليد دهمان"، مثله في ذلك مثل أي سائح يزور فلسطين المحتلة من دون أي مشاعر انتماء، أو توحّد، أو حتى شفقة تجاه ما يعانيه الفلسطينيون، بل كان الانتماء كله لليهود الذين احتلوا هذه الأرض احتلالاً مُبررًا في أعقاب المحرقة النازية، فعن أي ترسيخ يحكي فضل وبطل الرواية ذاتها منسلخ عن هذه الأرض لا يربطه بها سوى الحمص والكنافة؟ ثم تأتي جملة فضل التالية التي يقول فيها: "تعرض فجيعة الجيل الثاني من أبناء فلسطين المغتربين والمقيمين كرهاً على ضفتي الأرض المستوطنة بالعنصرية"، وهنا يكمن التدليس والتزييف للواقع الثقافي بنَسب فضل للرواية ما ليس فيها افتراءً على القارئ والأدب؛ لأننا في حقيقة الأمر لم نر سوى الفجيعة اليهودية، وتشويه صورة المجتمع الفلسطيني.
في نفس السياق التدليسي يقول فضل: "بيد أن الأنغام التي تنبعث من رواية المدهون مشحونة كلها بالشجن والأسى والحسرة، لا تسمح بالتنويع البهيج ولا المزج الرائق بين الفرح والحزن، حيث يطوى الكاتب بسرعة ما قد يتيح له فرصة الغوص في ترانيم العواطف السارة"؛ أين هي الأنغام التي سمعتها أيها الناقد العظيم ولم نسمعها نحن، هل كُشف عنك الحجاب؟! أم أنها الأنغام المتصاعدة من قول المدهون: "ضحك "باقي هناك" بصوت عال، ثم بكى بصمت أعلى على ما وصلت إليه حال اليسار في البلاد، وساعدته حسنية في البكاء هذه المرة أيضا، وسألته ما سألته من قبل: "أساعدك بدمعتين يا بو فلسطين؟ بحياة الله تاخد لك نقطتين، يا زلمة والله عندي اللي يكفيني لكل المصايب، من سنة الثمانية والأربعين وأني بجمّع دموع"، هل ترى في مثل هذا التعبير السمج أي أنغام؟! وهل هي أنغام جمالية ودلالية ولغوية، أم هي أنغام العزف على معاناة اليهود في المحرقة واستمالة لقلوبنا بإنسانيتهم؟! ما تقوله الرواية إن اللحن الفلسطيني آل إلى زوال وطغى اللحن الإسرائيلي يعزفه المدهون ويطرب له القارئ العربي.
يبدع صلاح فضل أيما إبداع في كتابة الجمل الغنائية المفرغة المعنى، والتي تبتعد كل البعد عن النقد الأدبي، وهو لا يرغب من وراء هذه الجمل التي يعمل على صياغتها بشكل غنائي وأدبي إلا أن يثبت أهمية الرواية وجمالياتها الافتراضية، وإطلاق الأحكام الجاهزة والزائفة حينما نراه يقول مثلا: "هذه الوصية التي تتطلب رحلة العودة من الابنة وزوجها إلى الأرض المحتلة هي الخيط الناظم لهذا اللحن الجنائزي الممتد بحنينه وعويله معاً"؛ ففضل هنا ينظم جملة غنائية لا نقدية، كما أنه يحاول البناء على الهواء من دون وجود أساسيات نقدية يعتمدها في مقاله، أو على الأقل يحاول التدليل عليها من متن النص، فكان كل ما يقوله مجرد أحكام انفعالية وانطباعية فقط لا دليل نقدي عليها، والغريب أنه يحاول غير مرة التأكيد على "اللحن الجنائزي الممتد بحنينه وعويله معا" مع أن هذه الفكرة غير موجودة أصلاً في النص الروائي إلا بشكل سطحي ومفتعل لا يُذكر إلا للسخرية من فكرة العودة، وإحقاقا للحق أود أن أؤكد موافقتي لفضل فيما ذهب إليه من وجود لحن جنائزي، وهو اللحن الخاص بمأساة الهولوكوست والذي أثّر فينا أيّما تأثير حتى خرجنا من الرواية متعاطفين مع اليهود على حساب أهلنا الفلسطينيين.
حينما يتحدث الناقد في مقاله العجيب عن اللغة الروائية الأكثر عجائبية لربعي المدهون يقول واثقًا ثقة لا مبرر لها: "لكن ما يفتن القارئ في أسلوب الرواية هو قدرة المبدع على تجسيد روح المكان ورنين الزمان في اللهجة المهجنة المغتربة، للمقيمين أو الزوار المتواطئين معهم، كما تتجلى في الحوارات الشائعة، في هذه اللهجة التي تسرى في العمل كله تبرز المفارقات المسنونة والتناقضات المثيرة في أوضاع المتحاورين وعوالمهم المتضاربة، مما يصل في أحيان كثيرة إلى منطقة الفكاهة الدامعة، هذه اللغة التي يعجنها ربعي المدهون ويخبزها في طابونه الروائي بمهارة فائقة هي الأقدر على تمثيل عذابات الشتات الفلسطيني الموزع على الأمكنة والأجيال والثقافات برهافة شعرية فائقة"؛ هل يعتقد فضل أن هذه الفقرة المصوغة بهذه العبارات اللزجة هي فقرة نقدية حقًا؟! وبغض النظر عن أن هذا يسمى دهنًا لا نقدًا، فإن كل من يوافق فضل فيما ذهب إليه لا بد أن يطمر رأسه بالرمال خجلاً ومهانة كلما قفزت أمامه جملة من الجمل المدهونية في الرواية؛ فأي قارئ متوسط الثقافة يدرك في أي صفحة يفتحها من الرواية بأن ما يدعيه فضل يسمى مغالطة وزيفًا نقديًا؛ فالكارثة الحقيقية والأولى في رواية المدهون هي اللغة يا سيادة الناقد الفذ، والمشكلة أن المدهون ليس لديه حس لغوي أصلاً؛ وبالتالي فهو عاجز عن كتابة رواية، فكيف تأتي أنت بعد ذلك لتتغزل باللغة التي سيخبرك أي مراهق في المرحلة الثانوية إذا ما قرأها: "هذه لغة طالب فاشل يحاول تلمس خطواته الأولى في الكتابة، ومازال أمامه الكثير كي يتذوق اللغة". يبدو أن ذائقة الناقد اللغوية هنا فاسدة؛ الأمر الذي جعله يطلق حكما نقديًا مجانيًا في حديثه عن لغة عقيمة وجوفاء من دون الاستشهاد بأي اقتباس من الرواية للتدليل على هذه اللغة ذات الرهافة الشعرية الفائقة من وجهة نظره!
هل هناك من يقول في مقال نقدي: "برهافة شعرية فائقة"، وإذا ما سلمنا بالرهافة الشعرية التي تتحدث عنها، فأين موضع مفردة "فائقة" مما تقوله؟! أين التفوّق الذي رأيته ولم تره عند غيره في هذا اللغو الذي أحاق بالرواية من أولها إلى آخرها، هل هو في قول المدهون: "صُدمت عمتي، وأخذت عن أمي بقية انفعالاتها وانفعلت بها"؟ هل تعتقد أن هذه الجملة هي جملة روائية وشعرية فائقة؟ ومنذ متى كان تشييء المشاعر مقبولاً بمثل هذا الشكل الفج في عمل أدبي أو في الحياة عامةً؟ وهل من الممكن أخذ بقية الانفعالات من شخص ما ثم الانفعال فيما بعد ببقية هذه الانفعالات التي تخص الآخرين؟! أوصاف المدهون غير منطقية كي تكون أدبية، وهو عاجز عن توظيف اللغة والتعبير عنها بشكلٍ سليم ومفهوم حتى تنهال عليه بكل هذه الإطراءات الزائفة، هل هناك من يصف شخصًا ما بقوله: "نحيف إلى حافة السمنة"؟ وهل ترى في هذا الوصف المتناقض أية شعرية؟ أم تراك ترى الشعر في جملة: "أخذت شبابها كله معها، وألقت به وسط مجموعة من الشبان، انهمكت في الرقص وسط الصالة، وقفتُ أراقب جنين تتمايل حول خصرها بخفة سنبلة قمح"، هل رأيت أنت في حياتك مَن تتمايل حول خصرها؟ وكيف من الممكن لأي قارئ أن يُركب الصورة ذهنيًا حينما يتوجّب عليه أن يتخيّل أن هناك من يتمايل حول خصره؟ هل خلعت جنين خصرها ووضعته أمامها كي تتمايل حوله؟! إن اللغة هنا لا يمكن وصفها إلا بأنها هراء؛ هراء خالص، أو لغة شخص سكران ثمِل من فرط ما تناوله من الكحول الرخيص؛ في حال اعترافه بذلك ساعتها فقط يمكننا أن نلتمس له العذر ونتقبّل هذا الهذاء والهراء اللغوي، لا شاعريته الفائقة التي ذهبت أنت إليها، إلا إذا كنت تؤمن حقا بأن قوله: "قلت لنفسي حتى لا تُفاجأ وتفاجئني" فيه من الرهافة الأدبية والشعرية ما زلزل مشاعرك! لو كان هذا صحيحًا فاسمح لي أن أبلغك بأنك تفتقد إلى الحس اللغوي والحساسية الأدبية والذائقة الجمالية وأنك تتغزل برواية تعتمد التشييء في لغتها بشكلٍ لا يتفق مع الوجع والحنين الذي ألصقته بها، ومن ثم لا يصح -بعد مقالك عن المدهون- أن تكتب نقدًا عن الأعمال الأدبية؛ لأن أداة الأدب الأولى هي اللغة، وبما أنك لا تتذوق اللغة في الأساس فمن البديهي ألا تتعرض لأي فن لغوي بعد اليوم.
هل من الممكن أن أقول "قلت لنفسي حتى لا تُفاجأ وتفاجئني"؟! إذا ما قلتُ هذه الجملة أمام أي شخص فهو بالتأكيد سيتهمني واثقًا وبشكل يقيني أني أعاني من خلل نفسي، ولابد من الذهاب إلى الطبيب للعلاج قبل استفحال الحالة النفسية السيئة التي وصلت إليها، وهي الحالة التي تجعلني أحادث نفسي حتى لا تُفاجأ، أو تقوم هي بمفاجئتي فأندهش منها! أتمنى من الناقد الفاضل صلاح فضل أن يتحلى بشيء من اسمه ولو قليلاً ويهبنا من فضله بالتزام الصمت حينما يرغب بالحديث عن اللغة مرة أخرى؛ فكلامه المُطلق إنما هو دليل على انعدام الأمثلة الحية من الرواية التي تزاحم جملها بعضها في رداءتها، وإنما دليل على تملقه للمدهون على حساب الأدب.
رغم أن الناقد صلاح فضل له باع طويل- أشك فيه اليوم- في النقد الأدبي، ورغم أن الناقد لا بد أن يتحلّى بحاسة البحث الدؤوب والتدقيق في كل ما يذهب إليه، إلا أننا نرى فضل حينما يكتب ما يدعوه نقدًا لا يبذل أدنى قدر من الجهد بما يتفضّل به علينا وكأنه يمارسه بلون من ألوان الكسل والإرغام والضجر- باعتباره مجرد أكل عيش- لابد من فعله. فحينما ندقق النظر في مقاله الذي كتبه عن رواية المدهون سيتبيّن لنا أنه لم يعبأ بأي شكل من أشكال الدقة في كل ما كتبه؛ الأمر الذي أوقعه في الكثير من المغالطات غير المتعمدة التي يمكن إضافتها إلى مغالطاته التي تعمدها من أجل تجميل الرواية ومجاملة كاتبها.
يقول فضل في مقاله: "يجترح المؤلف فيها تقنية مبتكرة، تتمثل في "توليف النص في قالب الكونشرتو المكون من أربع حركات، تشغل كل منها حكاية تنهض على بطلين اثنين: يتحركان في فضائهما الخاص، قبل أن يتحولا إلى شخصيتين ثانويتين في الحركة التالية، حيث يظهر بطلان رئيسيان آخران لحكاية أخرى، ثم يذوبان في الحركة الثالثة في حضور أقربائهما وأصدقائهما من الأبطال الجدد، وينتهى الجميع في الحركة الرابعة والأخيرة إلى نقطة البداية ليصبح محور العمل كله هو العودة المستحيلة والأرض المغتربة وأشباح حروب الإبادة اليهودية والفلسطينية الماحقة"؛ بغض النظر عن استخدام مفردة "اجترح" التي أرادها الناقد هنا بمعنى "الاختيار بعناية"، فإن استخدام المفردة "اجترح" تُعزى معجميا إلى اكتساب الذنوب والخطايا، وأنت هنا وُفقت كثيرا في اختيارك لهذه المفردة؛ لأن هذه الرواية فعلاً خطيئة. إن هذه الفقرة تُدلل لنا بشكل واضح أن فضل مجرد ناقد كسول يرتكن إلى كسله ولا يرغب في نفضه عنه؛ فهو هنا يُقر بأن رواية المدهون جاءت على شكل الكونشرتو المكون من أربع حركات؛ وهو لا بدّ استقى معلوماته هنا من المقدمة الهزيلة التي كتبها المدهون وشرح لنا فيها أن الرواية كُتبت بمثل هذا الشكل الذي يتوهمه، في حين أن الكونشرتو في حقيقية الأمر يتكوّن من ثلاث حركات فقط لا غير! وهنا يتبين لنا أن فضل اعتمد على ما قاله المؤلف في مقدمته ولم يحاول تحميل نفسه عناء البحث كي يتأكد من هذه المعلومة التي تفضح جهله، ليقرّ بما قاله المدهون في مقدمته منساقًا إليه كثور في ساقية. وإذا ما كان الناقد متكاسلاً عن البحث والتدقيق في معلوماته التي يؤسس عليها نقدًا سيشهد عليه التاريخ؛ فمن الأجدى به ألا يكتب نقدًا مرة أخرى، لكن صلاح فضل سرعان ما يدهشنا حينما يعود في فقرة أخرى من مقاله ويقول: "فإن استعارة شكل الكونشرتو الموسيقى المكون في الأغلب من ثلاثة أجزاء تلعب فيها آلتا الكمان والفلوت الدور الرئيسي بجانب الفرقة الموسيقية، وتتراوح أجزاؤه بين السرعة الأولية ثم الهدوء الناعم قبل العودة للإيقاع اللاهث، هذا الشكل يلائم الرواية التي تلعب فيها النماذج البشرية والأصوات المتعددة دور الآلات الموسيقية في جوقة الحياة"، إن الرجل هنا يتناقض مع نفسه بشكلٍ غير مبرر، وهذه الفقرة تتناقض مع الفقرة التي سبقتها كذلك بشكلٍ مدهش، وهذا يعود إلى ما يلي: إما أن فضل نسي الفقرة التي سبق أن أكد فيها رباعية الكونشرتو الموسيقي، أو أنه يدرك ثلاثية الكونشرتو ولكنه يرغب في التواطؤ مع رباعيات المدهون، ولأنه لا يريد أن يغالطه على الملأ فقد كتب فقرة حول رباعية الكونشرتو ثم ألحقها بفقرة حول ثلاثيتها، ليسوق فيها التعريف الصحيح متأخرًا من دون تخطيئ الروائي.
من الجمل النقدية التي وردت في مقال فضل والتي تدل على عدم اهتمامه بما يلقيه على القارئ من استنتاجات، وعدم تدقيقه وأمانته في التحليل بموضوعية؛ الأمر الذي أوقعه في الكثير من الأخطاء التي لابد سيصدقها القارئ باعتبار أنها جاءت على لسان الناقد الكبير قوله: "في آخر اجتماع تعقده إيفانا وأسرتها ومحاميها كي توصيهم بحرق جثتها بعد وفاتها وذرو قدر من رمادها على نهر التايمز حيث عاشت عمرها الطويل، ووضع الجزء الآخر من رمادها في قنينة خزفية تسد أيقونتها الأنيقة لإيداعها فيما عساه أن يكون قد تبقى من منزل الجد في عكا وفى أحد بيوت القدس القديمة"؛ في الجملة الأخيرة من هذه الفقرة يتحدث الناقد بثقة وتعالٍ قائلاً: "لإيداعها فيما عساه أن يكون قد تبقى من منزل الجد في عكا وفى أحد بيوت القدس القديمة"، في الوقت الذي ذكر فيه الروائي داخل روايته أنها أرادت أن يكون رمادها في بيتها القديم في عكا، وإذا لم يستطع وليد وابنتها فعل ذلك فعليهما العمل على وضع الرماد في أحد البيوت الفلسطينية في القدس، أي إما هذا أو ذاك، وليس كما ذهب فضل برغبتها في وضع الرماد هنا وهناك، أي في عكا والقدس معًا، فنصّ ما قالته إيفانا في الرواية هو: "خذوا بعضي وكل روحي إلى عكا يعتذران لها حارة حارة، خذوا ما تبقى مني وشيعوني حيث وُلدت، مثلما ستشيعني لندن حيث أموت، يا أصدقائي وأحبتي، يوما ما، ولا أظنه بعيدا، سأموت، أريد أن أُدفن هنا وأن أُدفن هناك، ثم صمتت قليلا، وشاركها الجميع صمتها لدقيقة أو أكثر، قطعته بعدها لتوجه كلاما آخر لجولي ووليد: إن تعذر الأمر لسبب ما، أكون سعيدة لو أخذتما هذا النصف من بقاياي، إلى القدس القديمة، أعرف أن لوليد أصدقاء هناك، وقد تروقكم زيارتهم وترتيب وضع التمثال عندهم، أو عند أي عائلة فلسطينية يمكن أن تقبل ذلك"، لذلك توجّب عليك يا فضل أن تميّز بين وأوآتك وأوأواتك على شاكلة الصياغة المدهونية.
عدم التدقيق في تناول صلاح فضل للرواية في مقاله يتضح في غير موضع من هذا المقال مثل قوله: "فالراوي يحكى قصة لقائه في مطار القاهرة براكب تصحبه زوجته الأنيقة دائماً، يقرأ في صحيفة القدس العربي مقالاً لربعي المدهون بعنوان "لا تصدقوهم، لم ينسوني بعد أربعين عاماً"، فيستنتج أنه هو الكاتب"، ولعل هذه الفقرة وحدها من مقال فضل تُدلل على أن فضل لا يقرأ، وإن قرأ فهو يقرأ بعدم اهتمام وتركيز؛ الأمر الذي يجعله يخلط الأمور ببعضها ويترتب على ذلك مقال- غير نقدي- فيه الكثير من المغالطات والتناقضات التي تنزاح عن العمل الذي يتناوله النقد انزياحًا حادًا؛ فالراوي حكى فعلاً عن لقائه براكب تصحبه زوجته الأنيقة دائمًا، يقرأ في صحيفة القدس العربي بالفعل، لكن هذا الحدث لم يكن في مطار القاهرة كما ذهبت يا فضل، بل كان في مطار "بن جوريون"؛ لذلك أرجو منك أن تتفضل علينا بشيء من اسمك ولا تتحدث مرة أخرى في النقد الذي لا تتوخى فيه أبسط قواعد الأمانة في النقل، فقد ذكر المدهون في مشهد تحت عنوان "رجل واضح غامض" (وهو يقصد نفسه بهذا الرجل الواضح الغامض): "قادتني وزوجتي إلى غرفة تحقيق في مطار "بن جوريون" في اللد، شرطية أمن أبطأت مؤخرتها الثقيلة من خطواتنا المنتظمة خلفها"، مؤكدًا بذلك على بن جوريونية المطار لا قاهريته! كما أن إقحام المدهون نفسه كروائي داخل متن العمل لم يكن من التجريب في شيء يا سيدي القدير كما ذهبت أنت في قولك: "من الطريف أن يتجول الكاتب في روايته بشخصيته وذكرياته على سبيل التجريب السردي"؛ فأين التجريب في وجود المدهون بنفسه داخل روايته؟ هذا الأمر رأيناه في العديد من الروايات وهو ليس من الجدة بشيء، كما أود أن أطرح على حضرتك سؤالاً: ما هي الضرورة الفنية التي جعلت المدهون يتحدث عن نفسه ووضع نفسه كشخصية روائية في الرواية اللهم إلا مجرد الحديث عن نفسه فقط من دون أي طائل أو هدف؟ هل كان وجود شخصية المدهون في الرواية محركًا للعالم السردي؟ هل اعتمدت عليه الأحداث في أي شيء؟ هل قدم شيئًا جديدًا بتواجده داخل الرواية؟! كل هذه الأمور لم نرها، وبالتالي فوجود المدهون كان ثقلاً وثرثرة داخل الرواية زادها ضعفًا على ضعفها، وزادك تواطئا وتزلّفًا نقديًا على زيفك.
يحاول الناقد صلاح فضل التثاقف على القارئ، أي أنه يريد أن يظهر أمامه باعتباره ناقدًا مثقفًا عظيمًا يعرف الكثير من الأمور التي استعصت على مداركنا كقراء لذلك يتفضل بها علينا ويجود؛ فيقول في مقاله: ""بيت عروس" آخر البيوت الخاصة في حارة دهمان، يعد نموذجاً للبيوت العربية المميزة، وقد بني بحيث تتوسطه ساحة تسمى "الحوش" (في العرف الأندلسي تسمى البابتو)"؛ أظن أن الناقد المثقف هنا حينما كتب "البابتو" كان يقصد في حقيقة الأمر "الباتيو" (Patio) بمعنى البهو أو الفناء أو الحوش، لكن يبدو أنه لم يسمعها من أصدقائه جيدًا ليرددها بشكلٍ مغلوط كأنه لا سبيل للقراء إلى الإسبانية ووحده يحتكر الثقافة، فما الذي استفدته من سوق هذا التوضيح بالإسبانية؟ ها أنت تقع بالخطأ لرغبتك بالتفاصح؛ ثم ما الفائدة منه؟ هل الرواية إسبانية أم القراء إسبان؟ لقد جاء هذا التوضيح في الأساس في غير سياقه، ومقال فضل المهترئ في رواية المدهون لم يكن يحتاج "الباتيو" ليزيد من عوراته سوءة.
في مقاله يقول فضل: "أعتقد أن ظلال الواقع التوثيقي تتراءى في هذا المشهد مع شخصية المؤلف نفسه، كما أحسب أنه يتعين عليه في أحد مشاهد رواياته المقبلة أن يسجل أيضاً احتضان مطار القاهرة له أخيراً وترحيبه به عند حضوره منذ فترة وجيزة مؤتمر تجديد الخطاب الثقافي"، لابد هنا من تأمل هذه الفقرة بخشوع؛ فهنا يطلب الناقد من الروائي أن يُسجل في رواية قادمة احتفاء السلطات المصرية به في مطار القاهرة مؤخرًا حينما زار القاهرة في مؤتمر تجديد الخطاب الثقافي مع ما في هذا الطلب من سماجة لا يمكن احتمالها، فهل يظن الناقد الكبير أن الأدب قد بات يُفصّل على المقاس من أجل التحية والشكر والدعاية والاحتفاء وتبادل دعوات الزيارة واقتراح موضوعات الروايات القادمة إذا رضي عن أحدهم، بينما يسب الآخرين ويلعنهم في حال لم يكن راضيًا عنهم؟! ما كل هذه السماجة والتساهل في التعامل مع الأدب؟ وكيف تجرأت في مثل هذا الطلب من المدهون في سياق مقال نقدي؟! هل فعلاً تمازحه؟ وهل تعتقد أن السلطات المصرية لو كانت قد قابلت المدهون بشكل سيء أو منعته من الدخول مرة أخرى مثلما فعلت معه من قبل، من الأجدى به ساعتها أن يكتب رواية يسب فيها مصر والمصريين وسلطاتهم التي منعته من الدخول كما فعل في روايته "مصائر"، وهل كنت ستطلب منه ذلك؟! إن فن الرواية ليس فنًا على المقاس والمجاملات الشائهة التي نراها في نقدك أيها الناقد الكبير، بل هو فن عفوي وحقيقي يخضع لآليات الفن، وليس لآليات المصالح والشلييات وأكل العيش.
في موضع آخر من المقال الاحتفائي برواية المدهون، وهو المقال المتخم بالأخطاء والتناقضات، وتزييف الوعي الثقافي نرى الناقد يقول: "مما يوحى بأن كثيراً من النماذج والمواقف التي تسجلها هذه الرواية ليست من ورق كما نتوهم، بل هي من لحم الواقع ودمه القاني، من خبرات الشتات ومعاناة العذاب"؛ استوقفتني هذه الجملة التي كتبها فضل كثيرًا ودققت فيها محاولاً إعادة قراءتها أكثر من مرة؛ لأنها إن كانت تؤكد من جهة على واقعية رواية المدهون وأن معظم ما جاء فيها إنما يرتبط بالواقع لا سيما الوقائع والأماكن والتواريخ، إلا أنها تُدلل من جهة أخرى على فساد النقاد؛ لأن هذه الجملة تتناقض تمامًا مع جملة الناقد الفلسطيني فيصل دراج في مقاله عن نفس الرواية حينما قال: "مع أنّ في النص عناقاً بين الواقعي والمتخيّل، كما تقضي الروايات" في الوقت الذي كان فيه دراج يحاول بكل ما أوتى من مقدرة إقناع القارئ بأن الرواية فيها جنوح للخيال كي يستطيع أن يمرر المغالطات التاريخية التي ارتكبها المدهون بحق التاريخ الفلسطيني، وهنا يبدو لنا تخبط النقاد مع بعضهم البعض، وتناقضهم فيما بينهم حول عمل أدبي واحد محاولين التستر على جريمة المدهون؛ الأمر الذي يدلّ على أن التحايل على إثبات فنية العمل من عدمه أوقعهم في الحيرة واللغط.
يستكمل فضل حديثه في الجملة السابقة ليختتم مقاله العبثي بقوله: "بل هي من لحم الواقع ودمه القاني، من خبرات الشتات ومعاناة العذاب، ومن التاريخ التخييلي الأصدق والأجمل، والرؤية المجسدة للوعى والوجود والهوية"، هنا لابد أن نتوقف كثيرًا أمام التعبير "التاريخ التخييلي"، ماذا يعني صلاح فضل بالتاريخ التخييلي؟ وهل هناك تاريخ واقعي وآخر تخييلي؟! وما شكل هذا التاريخ المتخيّل من وجهة نظرك؟ ولمَ لم تفدنا بشرحك لنا حول كيفية تخيّل التاريخ ثم توثيقه في رواية والتعامل معه كحقائق؟ أعتقد أن فضل هنا يطلق الكلام على عواهنه من دون التركيز بما يقوله ليحشو هو الآخر مقاله بعبارات فخمة مجردة من المعنى؛ و يكتب لنا لغوًا لا يختلف فيه كثيرًا عن الرواية التي يتناولها؛ وهنا يتساوى الاثنان- الناقد والروائي- فيما يكتبانه من عبث. ثم عن أي دمٍ قانٍ تتحدث؟ دم اليهود في الهولوكست؟ أم دم الشهداء الفلسطينيين الذين لم يأتِ المدهون على ذكرهم في روايته؟ أم دمه هو؟ هو الذي زار فلسطين ليتغدى في مطاعمها ويحلي فمه بكنافتها التي تقطر عسلاً لا دمًا!
في مقال الناقد صلاح فضل ما يؤكد لنا أن الزيف النقدي قد بات شعار المرحلة، مؤكدًا على تساقط القامات النقدية الذين تربّى القرّاء على الثقة العمياء فيهم، ولكن حين حاول هؤلاء النقاد تزييف الواقع الثقافي بمحاباة المدهون وكتبوا فيه شعرًا أفلاطونيًا كان انهيارهم العظيم وسقوطهم من أعيننا، ومن أبراجهم العاجية العالية، ليستقروا تحت قدمي المدهون الذي نجح بالفعل في خلع قداستهم عنهم بكتابتهم عن روايته، لتقضي رواية "مصائر" بسوء مصائرهم.
محمود الغيطاني
جريدة البوابة عدد 10 يوليو 2016م
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق