الثلاثاء، 23 يوليو 2019

همزات سريالية.. الكتابة كمفسدة للذوق

هل من الممكن اعتبار فعل الكتابة بمثابة مفسدة للكاتب والقارئ معا؟
أجل؛ ففعل الكتابة هو مفسدة كبرى بالنسبة للكاتب الذي لم يتأسس معرفيا وثقافيا بشكل كاف ورغم ذلك يظن أنه حينما يصير كاتبا يغدو صاحب مكانة اجتماعية مهمة، يُشار له بالبنان، ومن ثم يكتسب احترام الآخرين له بما أنه يفعل هذا الفعل الذي لا يتأتى للكثيرين. هنا يصبح الفعل في حد ذاته مفسدة للكاتب؛ لأنه في حقيقة الأمر لم يندفع إلى ممارسة هذا الفعل- الجاهل بتقنياته وآلياته- إلا لشعور عميق بالنقص في داخله يريد تعويضه بالكتابة؛ وبالتالي يشعر بالاكتمال الواهم الذي هو في حقيقة أمره إحساس بالنقص وعدم ثقة في الذات، ووجه الفساد هنا هو يقينه بالوهم باعتباره حقيقة.
لكن كيف يكون هذا الفعل مُفسدا للقارئ؟ إن ممارسة الكتابة عن جهل حقيقي بآلياتها، ومن خلال نقص حاد في المعرفة والثقافة يجعل عددا كبيرا ممن يتلقون هذه الكتابة إما أكثر جهلا- إذا ما كانوا في طور التشكل الثقافي والمعرفي-؛ ومن ثم تنشأ لدينا أجيال جاهلة مُجهلة تعتبر أن هذه الكتابة هي النموذج الذي لا بد أن يُحتذى به، أو تجعل الآخرين- ممن تشكلوا ثقافيا ومعرفيا- في حالة سأم وقرف حقيقي مما تطرحه المطابع لكتاب لا يفقهون شيئا لا في اللغة، ولا في الفن، ولا في أي شيء يخص الثقافة؛ وبالتالي تبدأ شريحة كبيرة من هؤلاء القراء الواعين بالانصراف الحقيقي عن القراءة بالعربية؛ نظرا لركاكة ما ينتجه الكتاب والمطابع معا؛ فيكون فعل الكتابة هنا مفسدة من الجهتين.
إن من يقرأ المجموعة القصصية "همزات سريالية" للقاصة الإماراتية عليا خالد مترف يتأكد له أن القاصة هنا لم تكن مُفسدة لنفسها وللقارئ فقط، بل تخطى هذا الإفساد لينال من مصطلح "السريالية" نفسه؛ فلا سريالية مطلقا في أي مما كتبته بل هو مجرد هلاوس، ثم إفساد للسرد القصصي كمفهوم فني؛ لأن ما كتبته مجرد أضغاث أحلام وتوهمات، بل وتخطى هذا الإفساد لينال من اللغة العربية بشكل جرائمي تستحق عليه الكاتبة أن تنضم إلى موسوعة "جينيس" للأرقام القياسية في إهانة اللغة والتجرؤ عليها لدرجة قتلها؛ فلا توجد صفحة واحدة من صفحات المجموعة تخلو من خمسة أخطاء على الأقل لا تفرق فيها الكاتبة بين المثنى والمفرد، أو بين المرفوع والمنصوب، أو بين المجزوم والمعتل! وهذه الجرائم اللغوية التي يقوم بها كتابنا اليوم تجعلني أتساءل: هل يقع الكتاب في أي لغة أخرى غير العربية في مثل هذه الجرائم ويهينون لغتهم بمثل هذا الشكل الفج، أم أن الأمر يقتصر على لغتنا العربية المُهانة من ناطقيها فقط؟!
تدعي الكاتبة منذ البداية- عنوان المجموعة- أنها تكتب سردا سرياليا وهذا يتضح جيدا من العنوان- همزات سريالية-، وهنا لا بد من الانتباه جيدا؛ لأن الأدب السريالي الذي كان رائده ومنظره الشاعر الفرنسي أندريه بروتون ليس بالأدب الهيّن الذي يخوض مجاله أي كان، بل هو في حاجة إلى ثقافة حقيقية وعميقة للاعتماد عليها ومن ثم بناء هذ االعمل السريالي، لكننا نُفاجأ بالكاتبة منذ الصفحة الأولى تحت عنوان "الأدب السريالي" تكتب: "لم أقرأ من قبل عن الأدب السريالي، ولكني تعرفت على الفن السريالي وخصوصا ذلك الذي قدمه سلفادور دالي. كتبت مجموعتي هذه بفوضى المشاعر وبين الوعي واللاوعي. تنهض القصص من نوم عميق في ذاكرتي، وربما من ذاكرة الأماكن! تسافر بعيدا لتزورني في كل مرة بملابس جديدة كضيف جديد "بهمزات سريالية". عندما نتحدث عن السريالية فنحن نتحدث عما هو فوق الواقعية، وبقدر البعد بينها وبين الواقع تصير جزءا لا يتجزأ منه إن استطعنا فهمها جيدا"!!
بالتأكيد علامات التعجب من عندنا؛ فالمؤلفة تبدو لنا منذ الصفحة الأولى وكأنها تتفلسف وتدعي المعرفة العميقة، في حين أنها تغالط الحقيقة بادعائها المعرفة والعلم، كما أنها تناقض نفسها منذ الصفحة الأولى حينما تُطلق على مجموعتها "همزات سريالية" ثم تقول لنا: "لم أقرأ من قبل عن الأدب السريالي"؛ مما يجعلنا نتساءل: لم أطلقت على مجموعتك إذن مثل هذا العنوان، ولم ظننت أنه ينتمي إلى جنس أدبي لم تقرأي عنه أو لا تعرفين عنه شيئا؟! كما أن هذا الحديث في الصفحة الأولى يبدو لنا من قبيل المقدمة، ومن اليقيني أن الإبداع ليس في حاجة إلى أي مقدمات أو شرح من قبل الكاتب كي يشرح فيها للقارئ ما استغلق عليه؛ فالأدب ليس بكتاب علمي أو فكري، بالإضافة إلى أن المقدمة بدت لنا من قبيل التنكر مما كتبته الكاتبة؛ فبما أنها تظن عدم وجود ما يُسمى بالأدب السريالي فهي بحديثها تعتذر عما كتبته مقدما من خلال هذا القول!
لم لا نعود إلى تعريف السريالية أولا؛ كي نكون على معرفة بها قبل الخوض فيما كتبته القاصة؟
السريالية أو الفوق واقعية يعرفها معجم المعاني بقوله: مذهب حديث في الأدب والفن والرسم، يعتمد العفوية التلقائية المُطلقة، متخلصا من قيود المنطق والواقعية، إذ يذهب رواده إلى ما هو أبعد، بعيدا عن كل رقابة، يُطلقون العنان لتصوراتهم وخيالاتهم، وخير من عبر عن هذا المذهب الشاعر الفرنسي أندريه بروتون في الأدب، هكذا جاء تعريف السريالية. كما أننا إذا ما عدنا لمفهوم السريالية الفلسفي وأسباب نشأتها في أوروبا لا بد أن نتطرق إلى تعريف الدادائية التي ظهرت في زيوريخ بسويسرا عام 1916م على يد الكاتب تريستان تزارا؛ حيث انبثقت السريالية من الدادائية التي كانت مجرد حركة عبثية فوضوية في مجالي الفن والأدب عموما، ويجب ألا ننسى أن الحركتين قد نشأتا كرد فعل مباشر على ويلات الحرب العالمية وما حدث فيها من مجازر؛ ومن ثم خرجت أوروبا عن العقلانية؛ بما أن العقل عجز عن منع هذه الحرب التي قتلت الملايين.
إذن فثمة أدب سريالي بالفعل له تاريخ طويل، وهناك العديد من المنظرين له، لكن الكاتبة حتى اليوم لم تسمع عنه و"لم تقرأ من قبل عن الأدب السريالي" الذي تدعي أنها تكتب فيه، أي أنها تكتب فيما لم تقرأ عنه من قبل!!
هنا تكون الكتابة مفسدة حقيقية للجميع؛ ما دام الكاتب جاهلا أساسا بما يحاول الانتماء إليه؛ فهي تبدو هنا وكأنها تُنظر لأدب جديد أو أنها أول من اكتشفته وها هي تقدمه لنا، وبذلك تظن نفسها- وهما- أنها تُنظر لفتح أدبي جديد لم نعرفه من قبل- وهذه من مساخر الكتابة من دون معرفة-.
بعد المقدمة التي تؤكد فيها الكاتبة على جهلها المُطلق بوجود ما يُسمى بالأدب السريالي تبدأ في كتابة قصص المجموعة التي لا يمكن لها أن تُعطي القارئ أي دلالة أو معنى، أو مجرد متعة أدبية، أو حتى أي شكل من أشكال التلاعب بالسرد؛ لتنبثق المتعة على الأقل من اعتبار السرد لعبة. في قصتها "وجها لوجه" تفتتحها القاصة: "أمشي على طرق ملساء رمادية، تنزل وتصعد حينا، أستمر بالمشي في دوامة تلف بي كأنها متاهة لا تنتهي، تمتصني شيئا فشيئا. ظلمة شديدة تحيط بي إلا من إضاءة زرقاء مخضرة تتسلل من تلك الغرف ذات الجدران الزجاجية الضخمة، أزداد رعبا كلما رمقتها".
ربما تبدو لنا مقدمة السرد- رغم اللغة الأسلوبية الجافة وفقر المفردات التي لا تحمل داخلها أي دلالات- أن ثمة سردا سرياليا ستجابهنا به المؤلفة بالفعل، لكننا نفاجأ أنها تتحدث عن شيء ما كانت تعرفه منذ طفولتها وتراه على شاشات التلفاز، وأنه سبب لها الخوف الشديد منه منذ الطفولة حتى اليوم، وأن هذا الشيء يحيطها الآن من جميع الجهات في أحواض زجاجية وتخشى أن يكسر هذه الأحواض ليهاجمها، لتصرح لنا أخيرا أنها تتحدث عن سمك القرش الذي تظن أنه لو خرج من الأحواض سيلتهمها؛ ومن ثم تكتب: "فتكتب الصحف الأمريكية في بالتيمور خبرا بعنوان: تصدع هائل يصيب أحواض أسماك القرش في متحف الحوض الطبيعي، أدى إلى غرق بعض السياح والتهام سائحة من أحد الأسماك الجائعة". هنا تنتهي القصة المبتسرة التي لم تقل فيها القاصة أي شيء، ولم نفهم لم كتبتها أساسا، وما علاقة هذا السرد الذي كتبته بالشكل الحكائي- باعتبار أن فنون السرد القصصية والروائية تحتمل داخلها معنى الحكاية-؛ فما هي الحكاية التي قدمتها القاصة؟! وهنا يأتي تساؤلنا الأهم والمفصلي: أين السريالية فيما قرأناه، وهل هذا الهذر من الممكن أن يكون شيئا سرياليا؟! أظن أن ما كتبته الكاتبة لا يصلح حتى أن تحكيه لطفل؛ وإلا أفسدت ذائقته التخييلية منذ الصغر.
في قصة "السباق" قد نلمح بعض الجمل والمفردات التي تُدلل على السريالية؛ فتفتتح القصة بقولها: "لم أكن أعرف من أين جئت ولا كيف انضممت إليهم بتلك السرعة. كان سباقا غريبا والهدف منه "التضامن مع فاقدي البصر". جميع من كانوا في السباق يختلفون عني شكلا. هم شُقر، عمالقة، بشرتهم بيضاء ثلجية. ليسوا من بلدي وليسوا من ثقافتي ويتكلمون بلغة أجنبية. وبالرغم من ذلك توحدت معهم لاإراديا واصطففت معهم. شاركتهم السباق بهمة ونشاط". عند تأمل الاقتباس السابق- الذي كان مفتتح القصة-، قد يوحي لنا أن ثمة سريالية في القص رغم ركاكة الاقتباس بأكمله؛ فالجو الذي يوحي به السرد قابل لأن يكون سرياليا بالفعل، ولكن لم لا نتأمل المقطع قبل الدخول في تفاصيل السرد؟
تكتب القاصة: "لم أكن أعرف من أين جئت ولا كيف انضممت إليهم بتلك السرعة. كان سباقا غريبا والهدف منه "التضامن مع فاقدي البصر". جميع من كانوا في السباق يختلفون عني شكلا. هم شُقر، عمالقة، بشرتهم بيضاء ثلجية". لم لا نكتفي بهذا القدر من الاقتباس، ونقوم بحذف ما جاء بعده؟ هل من الممكن إذا ما اكتفينا من الاقتباس بالكامل بهذه الفقرة فقط أن نشعر بثمة انتقاص مما كتبته المؤلفة؟ بالتأكيد لا؛ لأننا إذا ما عدنا إلى الفقرة الكاملة سنجد أن كل ما كتبته القاصة بعد هذه الفقرة التي اجتزأناها مجرد ثرثرة وحشو لا معنى له؛ فهي تُعيد ما سبق أن قالته، وتشرحه بصياغة أخرى مختلفة، وهذا ما لا يمكن لفن القص- الذي يميل إلى التقشف الشديد في جمله- أن يحتمله، أي أن القاصة لديها مشكلة سردية تنسف القص أساسا وهي مشكلة الحشو والثرثرة من دون أي داع فني.
مع الاستمرار في قراءة القصة سنعرف أن بطل القصة دخل مع هؤلاء الغرباء في هذه المسابقة التي تفترض أن يجري المتسابقون في مجرى مائي ضحل لتعطيلهم، وعلى كل منهم أن يجد يابسة كي يصل قبل الآخر، لكنه يُفاجأ بأن المجرى المائي لم يكن ضحلا، بل هو عميق، ورغم أنه لا يعرف السباحة: "لم أكن أعرف السباحة وأتحاشى الاقتراب من البحر أو أحواض السباحة العميقة"، ويخاف من المياه إلا أنه يسبح حينما يشعر بأن قدميه تلامسان الفراغ: "لم أفكر لثانية بالغرق. حركت يداي بحركة دائرية كأنني أجدف. حركت قدماي إلى الأعلى والأسفل أيضا. كان لا بد لي أن أسبح"، وبالفعل ينجح في الوصول قبل الجميع إلى خط النهاية، ورغم أن الكاميرا التقطته كأول من وصل من السباق إلى خط النهاية إلا أنهم يعلنون فوز المتسابق الثاني، وأعطوه الجائزة!
قد نلمح هنا أيضا إيحاءا بالسريالية يتمثل في كابوسية أن المجرى لم يكن ضحلا؛ ومن ثم فعدم معرفته بالسباحة، ثم قدرته على السباحة بمهارة فيما بعد هو أمر مقبول إذا ما كان السرد بالفعل ينتمي إلى السرد السريالي، لكن دعنا نستمر مع القاصة حتى النهاية: "لم يسمحوا لي بالاعتراض. بسرعة وقبل أنطق بكلمة، عرض أحد مسؤولي السباق دفتر طويل بني اللون كذلك الموجود على طاولة المطاعم والذي يعرض قائمة الطعام، ثم أعلن جائزة المركز الأول زجاجة "ويسكي" عتيقة! ضحكت، لم أجد شيء يستحق الاعتراض. فصحوت من النوم راضيا"!!!
علامات التعجب من عندنا أيضا؛ لأننا بمجرد الانتهاء من قراءة النص سنتساءل: ثم ماذا؟ ما الذي تريد المؤلفة أن تقوله؟ وما الذي قدمته لنا سوى ركاكة وابتذال في السرد، يشهد عليهما الاقتباسات القليلة السابقة بالإضافة إلى الجرائم اللغوية والسياقية التي نلمحها في الاقتباسات السابقة؛ حيث حرصنا على أخذ الاقتباسات جميعها بجرائمها اللغوية من دون تصحيح، وكما كتبتها القاصة.
هل تريد المؤلفة أن تقول لنا: إنها حلمت بأنها في سباق، وحينما فازت وظلمتها لجنة التحكيم بإعطاء الجائزة لغيرها صمتت ورضيت؛ لأن الجائزة هي زجاجة ويسكي؟!! هل من الممكن أن يكون هذا هو مفهوم القاصة عن القص؟ وهل كتبت وأخذت من وقتنا وأموالنا كي تقول لنا هذه الهلاوس التي تعتبرها قصا في حين أنها تقع في أخطاء سردية لا يقع فيها طفل صغير؟ إن القاصة عليا مترف لا تعرف في حقيقة الأمر كيف يكون السرد سلسا متصلا متجانسا بحيث تُفضي الجملة إلى الجملة التالية بانسيابية من دون توقف، أي أنها تعجز في جعل الفقرات متصلة سرديا؛ لذلك نلاحظ أنها قطعت السرد غير مرة لتخاطبنا بشكل مباشر لا فنية فيه وكأنها تشرح لنا في شكل أسئلة؛ فبعد الفقرة الأولى مباشرة من قصتها التي تؤكد فيها أن بطل القصة وجد نفسه بين غرباء في السباق تكتب: "كيف كان السباق؟" لتبدأ تشرح لنا أن شكل السباق سيكون كذا وكذا، وهذا ما رأيناه مرة أخرى بشكل أكثر فجاجة حينما تؤكد أن البطل نجح في السباحة رغم جهله بها، لكن السرد يتوقف فجأة لتكتب: "مهلا! لا أعلم من أدخل تعليمات السباق في عقلي والهدف منه؟!". ولست أدري لم كانت علامتي الاستفهام والتعجب رغم أن الجملة لم تكن استفهامية، بل هي جملة خبرية.
إن السرد القصصي لا يمكن له احتمال مثل هذه الطفولية السردية، ولا السذاجة، والفجاجة التي تكتب بها القاصة مما يدل على أنها لا تعرف آليات كتابة القصة أساسا، فضلا عن عدم وجود حكاية لتحكيها لنا القاصة، بل محض أفكار ترغب في صياغتها بشكل قصصي لكنها تفشل في ذلك، كما أن ما سبق بالكامل لا علاقة له بالسريالية بقدر ما له علاقة بالهذيان والأفكار المراهقة، والتلقين الذي لمحناه في الخاتمة حينما وجدنا أن الجائزة زجاجة ويسكي؛ ولذا لم يهتم المتسابق بأنه قد تم ظلمه في المسابقة، ثم نكتشف أنه كان مجرد حلم سخيف من قاصة تعتقد هذه الأفكار السخيفة صالحة للسرد؛ ومن ثم ضياع وقتنا الأكثر سخافة.
في قصتها "ماء" يستمر معنا التساؤل الجوهري الذي نبت معنا منذ بداية السرد حتى نهايته: لماذا تكتب الكاتبة؟ وما الذي تريد أن توصله لنا من أفكار، أو صياغتة؟ تبدأ القاصة قصتها بجملة لا علاقة لها بأي شيء فبدت لنا وكأنها جملة معلقة في الفراغ منبتة الصلة بكل ما جاء بعدها من فراغ أيضا: "ألم شديد في الجانب الأيمن من الظهر، ألم آخر في الذراع اليمنى. رأس ثقيل، وصداع أشد من كل مرة"، ثم لا تلبث بعد هذه الجملة مباشرة التي لا علاقة لها بأي شيء أن تتحدث عن فيلا مجهولة تسكنها أسرتان، إحداهما فقيرة، ملامح أفرادها إفريقية ويضحكون ويرتدون ملابس ملونة، ويسكنون هذه الفيلا، بينما الأسرة الأخرى أرستقراطية وملامح أفرادها أوروبية، ويرتدون ملابس نوم بيضاء طويلة ويسكنون الملحق الخارجي من الفيلا. ربما ظنت القاصة هنا أن الوضع الغريب للأسرتين؛ حيث تسكن الأرستقراطية في ملحق الفيلا، بينما تسكن الفقيرة داخل الفيلا من السريالية في شيء؛ فثمة من يظن- عن جهل- أن انقلاب الأوضاع سريالية، لكن ثمة شخصية راوية في السرد لا تنتمي لأي من الأسرتين وهذه الشخصية ستكتشف فيما بعد من دون أي مبررات أنها اكتسبت ملامح الأسرة الأوروبية وصارت أما لطفلتين: "كنت حينها بين الأسرتين، أشاهد عن قرب، لا أنتمي لأي منهما. ولكني لاحقا وجدتني شقراء وألبس تلك الملابس البيضاء. أصبحت لي نفس تلك العيون الزائغة. كما أصبحت أما لطفلتين! هكذا إذن، لنرى ما هي الحكاية؟!".
ربما نلاحظ من الاقتباس السابق قولها: "هكذا إذن، لنرى ما هي الحكاية؟!"، وهو ما تُصرّ عليه الكاتبة دائما في مخاطبة القارئ بشكل مباشر في أكثر من قصة من دون فنية؛ مما لا يتناسب مع السرد ويخرجنا مباشرة منه، ويجعلنا نتوقف عن الاستمرار؛ لركاكة أسلوبيتها، كما نلاحظ أنها أنهت جملتها أيضا بعلامتي استفهام وتعجب غير مبررتين.
تتحدث الشخصية الراوية في القصة عن مطبخ مظلم مخيف لا يقربه أي من أفراد الأسرتين، وهو المطبخ الذي تخرج لها منه أم ثائرة- لا ندري سبب ثورتها- مخيفة الشكل لها رائحة نتنة، ومعها ابنتين على نفس الشاكلة. هذه الأم وابنتاها يرغبن في خطف إحدى طفلتيها، لكن الابنة تهرب إلى منطقة مضاءة تخشى الأم الثائرة المخيفة تتبعها إليها- ولسنا ندري السبب في الخوف من الوصول إلى هذه المنطقة-؛ فتعود إلى المطبخ المظلم متوعدة الراوية بالعودة مرة أخرى. تنام الراوية محتضنة طفلتيها لكنها تستيقظ على الفراغ حيث لا تجد الطفلتين؛ فتسرع نحو المطبخ المظلم خائفة؛ لتكتشف أنه لم يكن مظلما وثمة إضاءات خافتة فيه، وأنه ينقل الأكل من خلال مصعد داخله للعديد من الطوابق، وهنا تدخل القاصة في سرد يقرب من الهذيان الذي لا معنى له: "ذكريات تهاجم مخيلتي. ولائم، أصناف للطعام، أصوات بشر، خدم، روائح طبخ، أبخرة تتصاعد، أصوات قرع الأواني، خطوات كثيرة"، بالطبع نحن لا نعرف ما علاقة هذا الهذيان بما قبله وما بعده، ولا تفسره القاصة، وبالتأكيد أننا لسنا من الجهل والغباء ما يجعلنا ننكر سريالية هذا الهذيان إذا ما كان ينتمي بالفعل إلى السرد السريالي، لذا نرى القاصة تكتفي بالتأكيد لنا على خوف الراوية مما يحدث- ولا نعرف ما هو الدافع للخوف- ثم تأخذ ابنتيها وتهرب بهما من المطبخ حيث ملحق الفيلا: "تجاهلت الأمر، أسرعت الخطى إلى الملحق. أغلقت الباب خلفي، بحثت عن الفانوس، أشعلته، أدرت ظهري له، وجدت العجوز أمامي، تحملق بي لم يكن فمها مفتوحا هذه المرة. كانت واقفة تنتظرني في أحد أركان الغرفة، تحمل في يدها كوب ماء. مدته لإحدى ابنتاي. أشم رائحة قهوة، فتحت عيني أخيرا".
من خلال هذه القصة نلحظ وجود أسرتين لا ندري ما علاقتهما ببعضهما البعض، أو علاقتهما بالقص، ولا نعرف لم تقطنان نفس الفيلا، كما بدأت القصة بجملة لا علاقة لها بالسرد، فضلا عن أن القاصة رغبت في إيهامنا في النهاية أن السرد كله كان عبارة عن كابوس، فهل هذا يعطيها الحق في كل هذه الهلاوس حتى لو كانت كابوسا؟ حتى الأحلام والكوابيس لها منطق ومعنى، أما ما كتبته القاصة في قصتها فلا معنى أو منطق له، ولا علاقة له بسرياليتها التي تدعي الانتساب إليها. فما علاقة كل من الأسرتين ببعضهما البعض، ولم تتواجدان معا، ولم أعطتنا أوصافهما في البداية في حين أن هذه الأوصاف لم تفدنا بأي شيء في نمو السرد- الذي ليس بسرد- وما علاقة كل ما حدث بأي شيء أساسا؟! هذا فضلا عن الركاكة الصياغية والأسلوبية على طول السرد مثل: "في أجزاء من الثانية كدت قتل نفسي لأني غفيت"، وغيرها من الجمل، والجريمة اللغوية الممتدة منذ الصفحة الأولى في المجموعة: "كنت أحاول النوم مع ابنتاي على أرض باردة، كن ملتصقات بصدري، نتنفس بنفس الوتيرة، شعرت بالخوف يسري فينا مع الهواء"؛ فالمتأمل للفقرة السابقة سينتبه إلى أن مفردة "ابنتاي" جاءت بعد حرف الجر "مع" أي أنها تُكتب "ابنتي" لأنها اسم مجرور بالياء بما أنه مثنى، كذلك مفردة "كن" التي جاءت للجمع في حين أنها يجب أن تكون للمثنى "كانتا"؛ الأمر الذي جعلها تكتب "ملتصقات" بدلا من "ملتصقتين" خبر كان منصوب بالياء بما أنه مثنى.
في قصة "خذلان" يتأكد لنا أن القاصة ترغب فقط في فعل الكتابة باعتبار أن الكتابة ستمنحها لقب كاتبة، ويبدو أنها تظن في هذا اللقب الكثير من الخير؛ لذلك تُصرّ على كتابة الفراغ باعتباره سردا قصصيا، لكنه في النهاية فراغ ممل وسقيم لا معنى له: "أفلتّ ذلك الشيء وانتقلت لآخر. صديقتي لا تزال فوق المكان الأول ولكنها متشبثة معي بالمكان الآخر. من ذلك، قد تعلمون أن المكان الأول ما هو إلا شيء متحرك. هكذا أصبحنا، معلقين في الأعلى، أرجلنا تتأرجح في الهواء وبحر واسع في الأسفل. عندما انتقلت إلى المكان الآخر ولحقت بي صديقتي، اعتقدت أنها الطريقة الصحيحة للوصول لاسطوانة الألمونيوم المثبتة بالمبنى المجاور للبحر. كانت الاسطوانة تبعد مسافة مترين تقريبا عنا وتحتاج شجاعة للقفز إليها. كنت أنظر إلى الاسطوانة عندما صاح بي عامل هندي مسؤول عن تنظيم حركة السير في الأعلى قائلا: لا يجوز استخدامها، هي لخروج الناس لا لدخولهم! كان خوفي الشديد أكبر من أن أغضب منه وأتشاجر معه وأنا معلقة في الهواء وصديقتي ترتجف بجانبي. لماذا لم يخبرني من قبل؟! خرج رجلين من الاسطوانة، يتحدثون ويضحكون، لم يرفعوا رؤوسهم إلينا ثم اختفوا. صديقتي استطاعت أن تعود حيث كانت وبقيت أنا معلقة حينها خرج وجه مألوف من الاسطوانة. رفع رأسه ونظر إلينا وابتسم. في تلك اللحظة لم أستطع ان اشرح له انني في ورطة، اعتقدت ان ملامحي ووضعي يشرحا أفضل مني. ولكنه لم يفهم ولم يدرك حجم المشكلة وبالتالي لم يقدم أي مساعدة ورحل. قررت أن أبحث عن مخرج وأساعد نفسي. نظرت للعامل، كان في الأعلى جالسا بأريحية فوق ناصية عالية مثبتة جيدا فوق الأرض، سألته إن كان هناك مخرج فوق سطح المبنى لأنه الاقرب لي ولكنه لم يعطني إجابة مطمئنة. ثم سألته إن كان هذا الشيء المتشبثة به لا ينقطع، أجابني بأنه متين ومطاطي، لمحت من نبرته تشجيعا وكأنه أدرك ما أود فعله. إذن، ها قد علمتم أن ذلك الشيء ما هو إلا حبل مطاطي مثبت في المبنى. ضغطت جيدا عليه بكامل وزني وحاولت أن أستمد طاقة إضافية من جدار المبنى لأنزل إلى أسفل. وصلت هناك، للبحر. كان أمامي خيارين، إما أن أرجع إلى فوق كفعل ارتدادي للقوة التي وضعتها في الحبل المطاطي أو أن أفلته وأسبح إلى كاسر للأمواج القريب من المبنى. سبحت، مسافة خمسة أمتار ووصلت إلى اليابس أخيرا. حينها تساءلت، لماذا بعض الوجوه تخذلنا حتى في الأحلام؟!".
حرصت هنا على اقتباس القصة بالكامل، وأنا أقول هنا قصة مجازا؛ فهذا المكتوب هو اللاشيء، ولا أستطيع أن أجد له توصيفا أو تجنيسا أدبيا، ولعل من خلال القصة نلحظ أن ثمة أحاجي وتهويمات في الهواء الطلق تتحدث عنها المؤلفة ولا نعرف ما علاقتها ببعضها البعض، فضلا عن ركاكة الأسلوب السردي، والمذبحة اللغوية التي نراها على طول النص؛ حيث حرصت في جميع الاقتباسات أن أكتبها بأخطائها اللغوية- النحوية والترقيمية- كما هي من دون أي تصحيح؛ ليدرك القارئ مدى السقم والهزل الذي وصلت إليه الكتابة السردية باسم الأدب والقصة، فنحن هنا لا نجد أفكارا، ولا لغة، ولا أسلوب، ولا كتابة، ولا ثقافة، ولا سريالية، ولا أي شيء مطلقا، بل هي متاهة من اللامعنى كنموذج من الكتابة النسوية التي تُصرّ الكثيرات من النساء اتحافنا بها؛ لأنهن يرغبن أن يكن كاتبات في حين أننا نادرا جدا ما نجد امرأة تعرف ما معنى الكتابة السردية؛ وبالتالي فهن لا يفعلن أكثر من التهويمات في الفراغ التي تؤدي إلى المزيد من الفراغ من دون أي معنى؛ فندخل في حلقة مفرغة، ثم يخرج علينا الآلاف من المصفقين لهن على الإبداع العظيم الذي يكتبنه لمجرد مغازلتهن كنساء فقط في حين أن هؤلاء المصفقون يوقنون في قرارة أنفسهم أن ما قرأوه محض هراء لا يمت للأدب ولا لأي شيء بصلة، كما أن البعض يكون مضطرا للتصفيق حتى لا يُتهم بعداوته للمرأة، ورجعيته، وذكوريته؛ مما يجعل الكثيرات جدا من الأسماء النسائية تتصدر الساحة الثقافية الأدبية بركاكة تزيد من بؤس المشهد الثقافي من دون أي وجه حق، في حين أنهن فارغات تماما من أي محتوى.
نلاحظ أيضا في القصة السابقة نفس الخطأ الذي تُصرّ عليه دائما، وهو مخاطبة القارئ بشكل مباشر من دون أي داع لذلك حينما كتبت: "إذن، ها قد علمتم أن ذلك الشيء ما هو إلا حبل مطاطي مثبت في المبنى"، وكأنها تظن نفسها تجلس على "المصطبة" في الحارة لتخاطب الآخرين الذين تحكي لهم حكاياتها لإزجاء الوقت، كما رأينا أنها اختتمت قصتها بقولها: "حينها تساءلت، لماذا بعض الوجوه تخذلنا حتى في الأحلام؟!"، ونحن بالمقابل نسألها: لماذا حرصت بطلة القصة أن تخذل صديقتها وتتركها وحدها من دون مساعدتها في الخروج من المأزق الذي لم أفهم ما هو وإن كان السرد يدل على أنهما كانتا في مأزق ما.
في قصة "مقالي الأسبوعي" التي أود أن أوردها كاملة أيضا لقصرها ولعجائبيتها ما يُدلل لنا على أن كتابة المرأة هي محض هراء حقيقي، فهي إذا لم تحرص على الكتابة عن مشكلاتها الصغيرة، وتفاصيل الأشياء التافهة من دون فنية وهي الأشياء التي لا تعني العالم في شيء إلا بإصابته بالمزيد من السقم، وإذا ما تخلت عن صراخها وعذابها الذي نرى كل من يكتبن يعانين منه باعتبارها مضطهدة في مجتمعها الذكوري، فهي حريصة على أن تهوم بنا في اللاشيء؛ لتطرحنا في عالم سديمي من الهراء: "اعتقدت أن أدواتي نفذت مني هذا الصباح. وأن أفكاري طارت مع بزوغ الفجر. وأن خيالي تجمد مع برودة الطقس. صحوت هكذا وكأنني كتلة ثلج. لقد نمت البارحة ثقيل الرأس. أصبح الصداع التعيس لا يبارح وسادتي كلما أويت إليها. حلمت نعم.. ولكنها كانت شبه أحلام حتى أضغاث الأحلام تتبرأ منها. جاءتني مشوشة غير مكتملة نسيتها بمجرد إعدادي للقهوة. لم يزرني السباح ولم أر مريم ولا حتى ذلك البغيض نسيت اسمه! سالم! إنني أتظاهر بنسيان اسمه للهروب أحيانا من كوابيسه الحمقاء. إلا أنني بمجرد أن أصحو منها أضحك على غباءه فهو يعيد نفس الخطأ في جميع كوابيسي التي يظهر فيها. سالم ذو وجه غريب لم أراه يوما في حياتي قد يكون مجموعة وجوه في جسد واحد. أطلقت عليه هذا الاسم لعله يسلم من أخطاءه الفادحة التي تكاد قتله في كل مرة يحاول قتلي فيها.. أحتاجه أن يكون سالما ليتمكن من زيارتي مرة أخرى في كوابيسي. تنتابني نوبة من الضحك كلما تذكرت آخر كابوس جمعني به. فقد تمكن مني في بداية الكابوس.. ربطني على كرسي خشبي في بيت مهجور وسط غابة مظلمة، رفع سكينه الحادة أمامي متوعدا بأن يقطعني، ويشويني من تلك النار التي تخرج من عينيه.. رفع رأسه مختالا أمامي وهو يخطو بخطوات بطيئة وفجأة يسقط ويتكور على الأرض بإحدى الحبال جارحا نفسه بسكينه. يا له من غبي. للأسف تلك الكوابيس تنتهي دائما بعد أن يقع أو يغرق أو يحترق أو يجرح نفسه.. تبا له، لا يعطيني فرصة للضحك عليه أمامه. ومع ذلك.. أعترف أنه يقدم لي مادة دسمة لمقالي الأسبوعي في الجريدة الوهمية".
هذه هي القصة التي لا بد لنا بعد الانتهاء من قراءتها أن نقول: بالتأكيد أن الراوي في القصة يكتب مقالا هزليا للأطفال، أين القصة من كل هذه الركاكة الفظة؟! وما دام المقال الأسبوعي في جريدة وهمية؛ فماذا تريد إخبارنا؟! إن هذه القصة تؤكد  أن ثمة رغبة طاغية في الثرثرة التي لا طائل من ورائها تتملك المؤلفة، لكن هذه الثرثرة لا معنى لها، أي أنها ثرثرة جوفاء، لكنها رأت أن من الوجاهة الاجتماعية أن تثرثر معنا بفراغها وعنه؛ فتكتسب لقب القاصة، أو الكاتبة. هنا أيضا نستطيع أن نجأر بالسؤال بصوت منشرخ لفرط السؤال والغضب: ما علاقة هذه السماجات والهراء بالسريالية؟ هل ظنت الكاتبة أنها حينما كتبت: "رفع سكينه الحادة أمامي متوعدا بأن يقطعني، ويشويني من تلك النار التي تخرج من عينيه"، أن ثمة سريالية في هذه الكتابة؟! أظن أن أندريه بروتون المنظر الأول للسريالية لو كان ما زال حيا وقرأ هذا الهراء؛ لانتحر حسرة على ضياع مذهبه الفني الذي قضى فيه عمره من أجل التنظير له.
تمضي قصص المجموعة كلها على هذه الوتيرة من الهذيان الذي لا معنى له، وإن كنا قد لاحظنا في قصة واحدة فقط من أصل ثلاث عشرة قصة ما يمكن أن نُطلق عليه سردا قصصيا وإن لم يخل أيضا من بعض المشكلات الفنية، لكن القصة كانت تحتمل السرد والحكاية على الأقل، وهي قصة "ضيف الحارة". تبدأ القاصة قصتها من نهاية الحدث: "صرخ أحدهم، أنت عبقري! سيدة المنزل جلست على الأرض تبكي فرحا. الأطفال يصرخون ويقفزون بعد أن كانوا متجمدين خائفين! شباب الحارة يصفقون لي ويصفرون إعجابا بي!"، ليعود السارد إلى بداية قصته بشكل سلس من السرد ونعرف أنه مجرد سارق، سرق إحدى الدجاجات من أحد البيوت وذبحها بمجرد ما سرقها حتى لا تفضحه بصوتها، لكنه وجد مشكلة حقيقية أمامه وهي أنه لا يمتلك زيتا لقلي الدجاجة؛ فخرج من البيت الذي استولى عليه لغياب أهله عنه وهجرانه له منذ عام حيث سافروا لعلاج ابنتهم المريضة، وحينما خرج للبحث عن زجاجة في أي بيت من بيوت الحارة وسرقتها وجد تجمهرا كبيرا في أحد الأزقة حول نافذة أحد البيوت؛ فأيقن أن أهل البيت مشغولون؛ لذا دخل إلى البيت لسرقة زجاجة الزيت، وبالفعل وصل إلى المطبخ ووجد الزجاجة، لكنه ما أن استعد للهروب بها إلا ووجد التجمهر الذي كان في الخارج يطل عليه من نافذة المطبخ؛ حيث يوجد طفل رأسه محشور بين قضبان نافذة المطبخ، وهنا فتح زجاجة الزيت وأفرغها على رأس الطفل ليتخلص من جريمته ويهرب، إلا أن الرأس المشبع بالزيت انسل وقتها من بين القضبان وأصبح اللص بطلا في عيون المتجمهرين، وأصبح ضيف الحارة بعد أن كان سارقها.
نلاحظ هنا أن ثمة حكاية بالفعل نجحت القاصة أن تنسج منها قصة قصيرة رغم ركاكة أسلوبيتها ولغتها، ولكن التساؤل الذي لا بد أن يتبادر إلى ذهن كل من يقرأ القصة هو: إذا كانت رأس الطفل محشورة في القضبان الحديدية لنافذة المطبخ، فلم كان كل هذا التجمهر من جميع الجيران دون أن يتحركوا لإنقاذه؟ هل كانوا متفرجين فقط، أم أنهم كانوا في انتظار اللص/ المسيح المخلص ليخلص رأس الطفل بزجاجة الزيت؟
أجل هناك قصة وحكاية هنا، لكن ليس هناك منطق أو مبرر لتجمهر الناس وعدم محاولتهم التدخل؛ مما يهدم القصة بالكامل وكأنها لم تكن، أي أن عدم المنطقية نسفت القصة الوحيدة التي نجحت القاصة في أن تكتبها.
إن مجموعة "همزات سريالية" للقاصة الإماراتية عليا خالد مترف لا علاقة لها من قريب أو بعيد بالأدب السريالي، بل هي تسيء له بمحاولتها التمسح فيه عنوة، كما أن عنوان "همزات سريالية" لا معنى له ولا علاقة له بالمحتوى، ولم أفهم ما الذي تعنيه بمفردة "همزات" في عنوانها، كما تُعد نموذجا تعذيبيا لكل من يرغب في القراءة، وهي نموذج لركاكة السرد العربي وما وصل إليه اليوم من هوان على يد مجموعة من الكتاب لا يمتلكون الثقافة، أو المعرفة بآليات السرد والكتابة، كما تُعد نموذجا لما تكتبه الكثيرات جدا من النساء من هراء لا طائل من ورائه، فضلا عن افتقادها للأسلوبية، وجهلها الكامل باللغة العربية لدرجة تجعلني أظن أن الكاتبة لم تمر بأي مرحلة تعليمية من قبل، بل اعتمدت فقط على شهادة محو الأمية التي جعلتها تتعلم القراءة والكتابة بشكل مبتذل وركيك؛ مما يجعلني أُمسك عن تعداد الأخطاء لفرط كثرتها؛ فالمجموعة لا توجد فيها صفحة واحدة تخلو من خمسة أخطاء على الأقل، لكني في النهاية لا يمكن لي لوم الكاتبة الجاهلة باللغة وحدها؛ فدار النشر التي وافقت على نشر هذا الخطل، لم ترهق نفسها بعناء مراجعة النص، أو مجرد إلقاء نظرة عليه، بدليل أن حتى أخطاء الرقن الكتابية لم يتم تعديلها؛ مما يدل على أن الناشر لم يلق نظرة على المجموعة.


محمود الغيطاني

مجلة عالم الكتاب
عدد يوليو 2019م.





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق