الخميس، 16 مارس 2017

إنه مجرد مشهد!!



في نهاية ديسمير 2003م كنت قد انتهيت من كتابة روايتي الأولى "كائن العزلة". بالتأكيد لم أجد سبيلا لنشرها في ذلك الوقت؛ فلم تكن لي أي علاقات وثيقة بالوسط الثقافي، كما أني لست من شلة معينة- وهذا هو المرض السقيم الذي يحكمنا-. كان تواجدي في المجال الثقافي باعتباري ناقدا سينمائيا فقط.
حاولت البحث عن ناشر في ذلك الوقت لكني لم أنجح فيما رغبته؛ فوضعت الرواية في درج مكتبي. ولكن بعد مرور ستة أشهر، وبالتحديد في 29 يونيو 2004م وجدتني أبدأ في كتابة رواية جديدة لأنتهي منها بعد ست سنوات كاملة، أي في 11 مارس 2010م، وهي رواية "كادرات بصرية"، التي فازت فيما بعد بجائزة ساويرس عام 2012م.
لم يكن في ذهني أي شيء حينما شرعت في الكتابة. مجرد رغبتي في أن أكتب فقط. كان لدي مشهد واحد يروق لي روائيا، لكني لم أكن أعرف ما الذي سيؤدي إليه هذا المشهد، وكيف سيتطور أو يكون، وهل هناك امتداد روائي لما أراه أم لا. إنه مجرد مشهد.
كنت كثيرا ما أتأمله مستمتعا به، كم هو رائع هذا المشهد. كان ما يعجبني فيه أنه يعبر عن جزء مني؛ حيث كنت أرى نفسي في ذلك الوقت أني من النقاد السينمائيين الجيدين جدا، ورغم أني أكتب في مجال النقد السينمائي منذ ثلاث سنوات- وأعي جيدا أهمية ما أكتبه وجديته-  إلا أني لست معروفا بشكل جيد؛ نظرا لعدم اختلاطي بالوسط النقدي السينمائي.
هنا كان المشهد الافتتاحي. ناقد سينمائي يتلقى دعوة من "المركز الكاثوليكي للفيلم" لحضور مهرجانه السنوي باعتباره ناقدا مهما ومكرسا، رغم أنه يعاني من التجاهل في وسطه النقدي، بل ومحاولة تهميشة، فكيف سيكون رد فعله في تلقي هذه الدعوة؟
لم يكن في ذهني أي شيء سوى هذا المشهد الثابت الذي يأبى على التحرك؛ كي أرى أمامي الصورة متحركة كما يحدث في الكاميرا السينمائية. بدا لي الأمر وكأني أمام كاميرا فوتوغرافية عادية جدا. تلتقط الصورة لتؤبدها وتجعلها ثابتة. كنت أتمنى في تلك اللحظة عدسة الكاميرا السينمائية، هذه العدسة التي تكون سرعتها في الحركة 24 كادرا في الثانية الواحدة كي يكون المشهد طبيعيا. لا أنكر أني كنت أفكر في المشهد بشكل سينمائي صرف. وهذا بالفعل ما اكتسبته من طول مشاهدتي للسينما والكتابة عنها. فلقد اكتسبت ذاكرة سينمائية لا تفكر سوى بهذا الشكل السينمائي فقط؛ حتى أني حينما أرغب في تذكر بعض الكلمات فهي تتشكل في ذاكرتي بشكل سينمائي وكأني أرى فيلما ما.
ماذا سيكون الوضع؟ وكيف سيكون رد فعله؟ وكيف ستسير الأمور؟ وما الذي سيدور في خلده، وكيف سيتصرف؟ هذا ما كنت أفكر فيه فقط. أما كيف ستسير الأمور فيما بعد، فلا أنكر أنها كانت مجهولة لي تماما. لم يكن في رأسي أي شكل من أشكال التخطيط أو الرؤية المستقبلية. مجرد أن هذا المشهد يروق لي، ويروق لي أيضا أن أفكر في كيفية استكماله.
بدأت في كتابة ما أراه أمامي وكأنه صورة سينمائية متحركة. تجرأت على سبر أغوار تفكير الشخصية التي أعتبرها شخصيتي أنا. تساءلت: ماذا سأفعل إذا ما حدث معي ذلك؟ بدأت في رسم المشهد بدقة. كما عملت على تثبيته إلى أقصى حد ممكن من الثبات معتمدا في ذلك على تقنية التداعي الحر. أي أني كلما رأيت شيئا أو تذكرت شيئا؛ أدى بي هذا التذكر أو الرؤية إلى موقف ما سبق أن عشته من قبل؛ وبالتالي أعمل على سرده. أعجبتني اللعبة كثيرا؛ لا سيما أن الكتابة بالنسبة لي ليست أكثر من لعبة ممتعة أمارسها بقدر غير هين من المتعة. كنت كلما تقدمت في الكتابة خطوة تعجبني اللعبة أكثر فأعمل على صناعتها بشكل فني أكثر إحكاما. لابد أن تكون اللعبة محكمة بالفعل. هذا ما قلته لنفسي. بدأت أسير بخطى ثابتة فيما أسميه اللعبة الفنية التي أحبها. سيظل المشهد ثابتا إلى أقصى قدر من الثبات بينما يدور حول الحدث- تلقي الدعوة- الكثير من الأحداث التي تعتمد على التداعي الحر في ذهنية البطل الروائي.
بدأت أرسم العديد من الشخصيات في حياة البطل من خلال هذا التداعي. فكلما تذكر شيئا تنبع شخصية جديدة مثل لميا، والفنان التشيكلي، وذو الرأس البيضاوي. كانت هذه الشخصيات الثلاث تقريبا هي شخصيات الرواية بالإضافة إلى البطل الراوي- الناقد السينمائي- الذي كنت حريصا ألا يكون له اسم داخل الرواية، بالإضافة إلى "دينا" الشخصية الأمريكية الجنسية التي تعيش في القاهرة والتي ستظهر في الفصل الثالث من الرواية وستتعلق بها كل الأحداث فيما بعد.
بالتأكيد لم يكن هذا التنظيم والشكل موجودا في ذهني. فالحقيقة أني لم يكن في ذهني أي شيء. وأني كنت أتقدم كيفما اتفق. فلا أحداث مستقبلية. ولا أي فصل من الفصول. كان الأمر شبيها بشخص يسير في نفق معتم تماما. لا يمكن رؤية كفيه من خلاله. وبالتالي فقد كنت أسير- كمؤلف- في الظلام، لكني كنت مستمتعا بعدم معرفتي ما الذي سيحدث فيما بعد. لذلك حينما ظهرت شخصية دينا الأمريكية وفرضت وجودها على الرواية وعملت على التدخل في أحداثها كنت سعيدا بذلك أيما سعادة؛ لأنها عملت على توجيه الرواية وجهة جديدة لم أكن أعيها أثناء الكتابة.
بلغ الفصل الأول من الرواية 38 صفحة بمعدل كلمات 7942 كلمة بينما الحدث متوقف تماما كما حرصت على ذلك. نجحت بالفعل في تثبيت الحدث وعدم تحركه مراهنا في ذلك أنه لن يكون مملا للقارئ، بل سيكون مستمتعا هو الآخر في معرفة إلام أريد الوصول به. كنت أراهن في عدم شعور القارئ بالملل من الحدث غير المتحرك على أسلوبيتي في الكتابة، وأني أمتلك أسلوبا يجذب القارئ فيجعله غير راغب في التوقف عن القراءة مهما طال به الأمر.
حينما انتهيت من هذا الفصل الطويل كنت أرى الأمر باعتباره لقطة سينمائية. هنا قررت أن تكون الرواية على شكل سينمائي رغم أني لا أعرف بالفعل ما الذي سيدور في الفصل التالي ومتى سأنتهي من هذه الأحداث الغائبة عني فعليا. وضعت عنوانا للفصل الأول: لقطة شاملة Full Shot ولقد اعتمدت في ذلك على معرفتي بتقنيات السينما. أجل، ستكون الرواية مبنية بشكل سينمائي كامل. بدأت أفكر في الأمر. ما هي المغامرة التي أرغب في كتابتها؟ إني أريد أن أكتب رواية تمتح من السينما أكثر مما تأخذ من أي فن آخر. بالفعل أردت أن أكتب ما هو مختلفا. كنت حريصا على أن ألعب بشكل فني مدهش بالنسبة للآخرين. هنا قررت أن جميع فصول الرواية ستكون بعناوين سينمائية، أو بعنوان لقطة من اللقطات السينمائية. كما أن كل لقطة من هذه اللقطات سوف تعبر عن عنوان الفصل الذي اخترته لها تماما وتكون منطبقة على العنوان، بمعنى أن اللقطة الاعتراضية Insert Shot  وهي اللقطة التي تكون بين لقطتين سينمائيتين لتوضيح شيء ما. أي أنها تشبه في السياق اللغوي الجملة الااعتراضية تماما، لا علاقة لها بما قبلها أو بعدها لكنها تضيف شيئا مهما إلى السياق، سيكون هذا العنوان للفصل معبرا بالفعل عما يعنيه، وهنا جاء الفصل الذي يحمل هذا العنوان لا علاقة له بما قبله ولا ما بعده إلا أنه أضاف إضافة مهمة للرواية والقارئ معا.
لكن ما هو الإدهاش في ذلك؟ أنا لم أفعل شيئا سوى أني جعلت عناوين الفصول سينمائية فقط. هنا قررت أن استخدام كل تقنيات السينما التي أعرفها في هذه الرواية. ستكون هذه الرواية سينمائية بالفعل. بل وصل بي الطموح إلى إصراري على أن يرى القارئ- لهذه الرواية- ما يقرأه. إذن فالهدف الذي وضعته هنا في رأسي أن أجعل القارئ مشاهدا يرى كل ما أكتبه في خياله وأمام عينيه وكأنه يشاهد فيلما سينمائيا لا يقرأ رواية.
بالتأكيد كنت أعتمد في هذا الهدف على أسلوبيتي في الكتابة وأراهن عليها. وإما أنجح في أن تكون كتابتي كفيلم سينمائي يُرى لا يُقرأ، أو أفشل في ذلك – رغم أن الفشل لم يتطرق إلى ذهني أبدا-.
بما أني في الفصل الثاني لم يكن لدي ما أكتبه ولا أعرف ما الذي يجب عليّ أن أفعله كي تسير الأمور؛ فلقد كتبت فصل "لقطة اعتراضية" التي أضافت فقط للأحداث لكنها لم تكن استمرارا للحدث الروائي الفعلي الذي كنت حريصا على تثبيته إلى أقصى درجة. هنا بدأت أفكر كسينمائي حقيقي وليس كروائي. إذا كان فصلي الأول هو اللقطة الشاملة التي تستطيع أن تعطيك تفاصيل كاملة للمشهد، وإن كانت ليست تفصيلية. أي أنها الباب الذي من خلاله تستطيع الدخول إلى هذا العالم. إذن لم لا نقترب قليلا بالكاميرا من هذا العالم كي نراه بشكل أوضح؟
هنا كان الفصل الثالث الذي عنونته بـ: "لقطة من مستوى العين" Eye- Level Shot التي تعني لقطة في نفس مستوى عين شخص عادي ينظر إلى الشيء المُصور، وهي تُعتبر زاوية قياسية في السينما. وهو الفصل الذي حاولت فيه الاقتراب أكثر من المشهد الذي أكتب فيه بينما أسير مغمض العينين في أحداث الرواية. كان كل ما أفعله هو أني أريد اللعب الفني، والتميز، وإخراج رواية لم يخرجها أحد من قبلي. لا أنكر أني كنت أرغب في التفرد من خلال هذه الرواية. كما كنت أشعر بمتعة حقيقة أثناء كتابتها. حتى أني حينما انتهيت من كتابتها كنت أعرف جيدا أنها رواية مميزة ولابد أن تفوز بجائزة ما.
في الفصل الثالث بدأت الرواية تأخذ منحى آخر لم يكن في ذهني تماما. بدأت أحداث سجن أبو غريب التي حدثت في العراق أثناء الاحتلال الأنجلوأمريكي تطفو على السطح. أذكر أني حينما جرت هذه الأحداث كنت أجلس أمام شاشة الكمبيوتر بالساعات أقلب في هذه الصور البشعة. كنت كلما انتهيت من التقليب فيها أُعيدها مرة أخرى. كان من يراني أعيد رؤية الصور عشرات المرات يظن أني كنت مستمتعا بها، أو أشعر بالنشوة من الصور العارية للرجال والنساء الذين يتعرضون للتعذيب. لكني كنت أرى أمورا أخرى في هذه الصور. كنت أتأمل تفاصيل البشاعة. انحناءات الأجساد المتراكمة بعضها فوق بعض. وقفة الجنود الأمريكيين بجانب كومة الأجساد العارية التي يتم تعذيبها. كنت أتساءل: ما الذي يدور في ذهن هذا الجندي وهو يأخذ صورة تذكارية مع هؤلاء المساكين بينما يبتسم في وجه الكاميرا مزهوا؟ وهل سيباهي بهذه الصور أصدقاءه حينما يعود إلى وطنه؟ كنت أتأمل الصور من الخارج بشكل سينمائي. هل يحاول هؤلاء الجنود تصوير هذا العذاب بشكل سينمائي؟ كانت هناك بعض اللقطات التي أُخذت بشكل سينمائي بالفعل مثل لقطة عين الطائر. هل يُعقل أن هذه الأفلام والصور التي يتم تصويرها ستكون لصالح إحدى شركات البورنو في المستقبل؟
كانت هناك الكثير جدا من التساؤلات التي تُترى على ذهني أثناء جلوسي بالساعات أمام هذه الصور متأملا لها. هنا حرصت على الاحتفاظ بكل هذه الصور. بحثت على شبكة الإنترنت عن كل ما يخص التعذيب في العراق. جمعت كل ما أمكن لي من صور. وكل ما كُتب تقريبا عن الموضوع. حينما كنت أقوم بذلك الأمر لم يكن في ذهني أني سأستخدمه فيما بعد كمادة روائية في رواية. كان الأمر مجرد رغبة في الاحتفاظ بهذه البشاعة. لكني أثناء كتابة كادرات وحينما ظهرت شخصية "دينا" الأمريكية في المؤتمر السينمائي الذي عقده المركز الكاثوليكي للفيلم – كما تشير أحداث الرواية- بدأت كل هذه الأحداث والصور تطفو في ذاكرتي السينمائية والروائية مرة أخرى. فكرت غير مرة: لم لا تكون هذه المادة الوثائقية مادة سينمائية وروائية داخل الرواية؟
قبل هذه الفترة الزمنية التي كتبت فيها الرواية كنت أعرف من خلال ماسنجر "الياهو" امرأة أمريكية اسمها "دينا"، وكنا نتحدث كثيرا مع بعضنا البعض حتى أن حديثنا كان يصل إلى ست ساعات متتالية، كما كنا نتحدث أيضا من خلال الهاتف العديد من المكالمات الدولية. لم تكن تكنولوجيا الاتصالات قد تطورت بمثل هذا الشكل الذي نحيا فيه الآن. وبالتالي لم يكن متاحا لنا الحديث المباشر من خلال ما نعرفه الآن مثل الفايبر، أو الواتس آب، أو غيره من برامج الاتصالات. كانت تحكي لي عن نفسها الكثير. عرفت عن سيكولوجيتها ما لم يعرفه طليقها الأردني الذي أخبرتني عنه. وعن حياتها في الولايات المتحدة وغيره. هنا كانت دينا هي البطلة الثانية في الرواية والتي تعلقت بها الكثير من الأحداث.
بدأت الأحداث تأخذ منحى جديدا. صحيح أنها لم تنفصل عن العالم الروائي الذي بدأته، لكنها أصبحت أكثر جدية. كنت منذ بداية الأحداث مهتما بشخصياتها المثقفة وعالم السينما ومشاكله، ونقاش قضاياه، صحيح أني حينما بدأت أعمل على إدخال أحداث سجن أبو غريب إلى الرواية لم أنفصل عن عالم السينما الذي كان هو المتن، لكني استخدمت هذه الصور والأحداث بما يثري المشهد أكثر.
رأيت أني أدخلت نفسي في مأزق فني حقيقي؛ فأن أستخدم هذه المادة لابد لي من البحث كثيرا؛ لأني سأستخدم الكثير من المواد الوثائقية التي لابد من صياغتها في شكل روائي فني، وبما يخدم الشكل السينمائي الذي استقررت عليه أيضا. هنا كانت السينما هي خير معين من أجل جعل المادة الوثائقية تبدو في شكل فني غير شاذ على الرواية. كنت حريصا على أن تكون المادة الوثائقية هي المتن في الأحداث، بمعنى أن القارئ لا يمكن له أن يتجاوزها، بل يقرأها باعتبارها متنا روائيا مهما، بل إذا ما تجاوزها تسقط منه أحداث الرواية.
استخدمت تقنيات القطع السينمائي المفاجئ في بعض المواضع من أجل وضع مادة وثائقية مناسبة، كذلك الفلاش باك Flash Back، والمقاطع التسجيلية، وغيرها من التقنيات الكثيرة التي ساعدتني على جعل المادة الوثائقية متنا في الرواية لا يمكن تجاوزها من قبل القارئ، ولا يمكن له أن يشعر معها بالملل.
استمرت كتابة الرواية ست سنوات كاملة من الكتابة وإعادة الكتابة مرات، والبحث عن الوثائق والأحداث التي تتناسب مع هذه الرواية. كما حرصت على أن يكون في نهاية الرواية "سبت مراجع" مثلها في ذلك مثل الكتب البحثية تماما؛ وبالتالي كتبت في الصفحة الأخيرة أسماء المراجع التي لجأت إليها في كتاب هذه الرواية.
حينما انتهيت من كادرات بصرية وأعدت قراءتها مرة أخرى؛ شعرت بمتعة جمة لم أشعر بها من قبل. قلت: هذه هي روايتي التي لم يسبقني إليها أحد، ولا أعتقد أنه سيفعلها أحد مثلي فيما بعد. لا أنكر أني أحببت الرواية كثيرا، وكنت متحديا بها فنيا، حتى وصل شغفي بها إلى أني أعدت قراءتها عشرات المرات، وما زلت حتى اليوم أقرأها مستمتعا في كل مرة متعة مختلفة عما قبلها.
لم يكن الأمر مُخططا كما يدعي الكثيرون من الكتاب. بدأ الأمر بمجرد مشهد لا أعرف كيف أعمل على تنميته. لكنه لم يكن مجرد مشهد.





محمود الغيطاني



مجلة عالم الكتاب
عدد مارس 2017م

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق