السبت، 16 يونيو 2018

هيا نشتر شاعرا.. أن تحيا "كروبوت"

ما معنى أن تعيش في عالم رأسمالي لا تعنيه سوى الأرقام، ومعدلات النمو الاقتصادي، والتحرك في الحياة فقط من أجل معايير الربح والخسارة؟ وماذا لو استمر تقدم الإنسان بمثل هذه الوتيرة التي نراها حولنا يوما بعد يوم؟
لاشك أن تقدم الإنسانية على المستوى التكنولوجي يؤدي بها يوما بعد آخر إلى المزيد من الرغبة في الوحدة، والجفاء، وتجاهل المشاعر، أو السخرية منها باعتبارها غير عملية، وغير منتجة، كما يؤدي هذا التقدم الكبير إلى قطيعة في  العلاقات بالآخرين، أو تحولها إلى مجرد علاقات نفعية تعتمد على مدى الفائدة المرجوة من العلاقة، أو الإنتاجية التي ستفرزها هذه العلاقات ومدى فائدتها وغير ذلك، حتى على مستوى المشاعر ستكون محكومة في المقام الأول بالأرقام والتقارير كأن نُحدد كم مليمتر من اللعاب استهلكته حينما قبلت هذه الفتاة مثلا، أو كم مليمتر من السائل المنوي أفرزته حينما ضاجعت أخرى، وهكذا.
هذا التشيؤ لكل شيء في حياتنا هو ما يمكن أن نصل إليه إذا ما استمرت وتيرة التقدم، والانحياز للرأسمالية وعلاقات النمو والإنتاج، والطفرات التكنولوجية التي يشهدها المجتمع الإنساني التي تسير بخطوات سريعة نحو تدمير الإنسانية أكثر من إفادتها، ولعلنا نلمح ظلا من هذا المستقبل الكابوسي اليوم من خلال التقدم التكنولوجي الذي جعل الإنسان مكتفيا اكتفاءً يكاد يكون كاملا بالإنترنت أو بالهاتف المحمول في كل علاقاته بالبشرية، حتى مع أسرته التي قد يحادثها من خلال الإنترنت وبرامج الاتصال الجديدة رغم أنه يعيش بينهم وعلى بُعد عدة خطوات قليلة منهم قد لا تتجاوز الخمس خطوات، لكنه يُفضل الاتصال بمن هم حوله من خلال وسائل الاتصال الحديثة مستغنيا في ذلك عن العلاقات الحميمة والجلوس معهم، أو التعامل المباشر.
ربما إذا ما فكرنا مليا بما سوف تؤدي إليه هذه الطفرات في التقدم سنتخيل عالما كابوسيا لم يكن ليتخيله كتاب الخيال العلمي من قبل، أو بالأحرى أن العالم الذي نحياه الآن وما يمكن أن يكون عليه في المستقبل إذا ما كان أحد الكتاب قد صوره من قبل لقلنا أنه يتمتع بخيال فائق، وأنه يستحق جائزة على هذا الخيال الذي ينقلنا إلى هذا العالم الشديد البرودة والاصطناع والجفاف، لكن الحقيقة أننا بالفعل دخلنا إلى هذا العالم ونجتاز فيه مسافات شاسعة كل يوم.
لعل التفكير في مثل هذا العالم المتحول هو ما دفع الروائي البرتغالي أفونسو كروش إلى كتابة روايته "هيا نشتر شاعرا" التي ترجمها للعربية المترجم عبد الجليل العربي، والتي صدرت عن دار مسكلياني التونسية، لكننا نلمح أن الرواية رغم طرافتها الفعلية، ورغم أنها تأتي كصرخة تحذيرية من المأزق الذي دخلت إليه الإنسانية وتستمرئه، إلا أنها تكاد تكون رواية مصنوعة، جافة، لا روح فيها، ولا عفوية في السرد الروائي، بل هناك تقصد وتعمد كبير في الكتابة يجعل السرد أحيانا ثقيلا ومملا رغم قصر الرواية، لا بسبب العالم الجاف البارد المصنوع الذي يتحدث عنه الروائي، بل لأن المؤلف تأمل الكارثة التي تسير باتجاهها البشرية ثم أراد أن يُعبر عن هذه الكارثة روائيا؛ فكتب هذه الرواية الطريفة التحذيرية التي اكتسبت جفافها من جفاف عمدية الكتابة وليس من جفاف العالم الذي يتحدث فيه الروائي.
العالم الروائي في المطلق لا يمكن أن يكون عالما قصديا متكلفا، بل لابد من أن يكون فيه قدر كبير من العفوية السردية؛ وهذه العفوية هي التي تُكسب العالم الروائي جدته وطرافته، وحميميته، وصدقه، فإذا ما فقد السرد الروائي عفويته وبدأ من تعمد الكتابة، أي بدأ من سيطرة الفكرة المجردة على ذهن الروائي؛ الأمر الذي يجعله يقول: لابد من صياغة رواية تُعبر عن هذه الفكرة، هنا تسقط الرواية تماما في السطحية، والجفاف، وصعوبة السرد، وعدم قدرة المتلقي على التعاطي مع عالمها مهما كان طريفا. وهذا ما فعله أفونسو كروش في روايته التي كان من الممكن لها أن تكون من أجود الروايات، إلا أن الصنعة والعمدية في السرد كانت واضحة كثيرا؛ مما أفقدها الكثير من الخصوصية والحميمية التي يشعرها القارئ مع العمل الروائي، لاسيما أن هذه الصنعة أدت إلى صعوبة إغلاق السرد، أي أن الروائي وجد صعوبة في وضع نهاية حقيقية لهذا العالم الذي صنعه ودخله متعمدا؛ فلم يجد سوى مجموعة من التقارير والمقالات التي تتحدث في الموضوع الذي يكتب عنه كي يُثبت من خلال هذه التقارير أهمية الثقافة في صناعة المجتمعات، وأهمية الاستثمار في الثقافة معتمدا في ذلك على التجربة البرتغالية التي كان استثمارها في الثقافة مفيدا ومربحا كثيرا في رغبة من الروائي أن يقول: إن تهميش الثقافة باعتبارها غير منتجة هي فكرة غير صحيحة؛ لأنها إذا ما تم الاستثمار فيها سوف تقدم الكثير من المردود.
إن تشيئ كل مفردات المجتمع يؤدي إلى تقطع أواصر الصلة بين الجميع، لدرجة أن المجاز في الحديث، أي الاستعارات، والتشبيهات، والكنايات وغير ذلك من الأدوات التي تؤدي إلى تشكيل الصور في اللغة والحديث تبدأ في الزوال الكامل؛ لتغدو العلاقات التي تربط المجتمع هي علاقات النمو والإنتاجية فقط، ولعل زوال الاستعارات والتشبيهات تماما من حياتنا هو ما يجعل المجتمع ينظر إلى الشعراء، والفنانين، والكتاب باعتبارهم كائنات لا ضرورة لها؛ لأنهم لا ينتجون شيئا ماديا ملموسا يؤدي إلى المزيد من النمو الاقتصادي، بل إن إنتاجهم غير ملموس وبالتالي لا قيمة له. هنا يتحول المفكرون والفنانون، والشعراء، والكتاب وغيرهم إلى عبء لا ضرورة له في المجتمعات؛ لأنهم غير فاعلين فيه من خلال علاقات الإنتاج، وهذا ما يريد الروائي التعبير عنه في روايته، أي نظرة المجتمع إليهم؛ ومن ثم طلبت الفتاة المراهقة الصغيرة من والديها أن يشتريا لها شاعرا: "أود أن يكون لي شاعر. هل يمكن أن نشتري واحدا؟ أمي لم تقل شيئا، انشغلتْ بجمع الأطباق؛ أربعة صحون شوربة، أربع ملاعق شوربة، ثم أعلمتْ الحضور بأن تقديم اللحم سيكون خلال ثلاثين ثانية. أما أبي فما إن انتهى من مضغ قليل من الخبز، حوالي ثلاثة عشر جراما. حتى حرك فكيه خمس مرات ثم أجاب: ولماذا لا يكون رساما؟ قالت أمي: هذا مستحيل، إنهم يخلفون كثيرا من الأوساخ، فالسيدة 5638,2 لديها واحد منهم ويلزمها ما بين ثلاث ساعات إلى أربع لتنظيف الوسخ الناجم عن استعماله الألوان في تلك الأشياء البيضاء"، ربما نلاحظ هنا أن سيطرة علاقات الإنتاج على المجتمع الرأسمالي قد دفعت هذ المجتمع إلى التسمي بمجموعة من الأرقام مثل السيدة 5638,2، وهذا ما سنراه مع جميع شخصيات الرواية، فلم تكن هناك شخصية واحدة لها اسما طبيعيا، بل مجموعة من الأرقام فقط، ربما تدل على مدى إنتاجية صاحب الرقم من عدمه، ومدى فائدته لمجتمعه، كما نلاحظ أيضا أن المجتمع بدأ يُفاضل بين الفنان والشاعر والنحات وغيرهم باعتبارهم مجرد "حيوانات داجنة وأليفة" من الممكن أن توضع في المنازل كديكور أو لتزجية أوقات الفراغ والاعتناء بهم كالببغاء، وأسماك الزينة وغير ذلك.
هذا التعامل مع الكتاب باعتبارهم ديكور أو زينة نلاحظه في: "أشار أبي إلى الشاعر الأخنف الذي تفتقر ملابسه إلى أسماء ماركات راعية، وسأله إن كانت تلك النسخة مُخربة. وهي الخاصية الأكثر شيوعا بين الشعراء وتضاهي العنف لدى الكلاب. أجاب صاحب المحل: أقل من اثنين في المائة. من الضروري دائما أن يكون لديهم قليل من التخريب وإلا فإن القيمة الشعرية لديهم تنزل كثيرا ولا تُحقق أرباحا، فلا يشتريهم أحد، وينتهي بهم الأمر إلى راقصين أو هامسترز. وماذا يأكل؟ أي شيء. ليسوا متطلبين كثيرا. في أغلب الأحيان، وبعد مرورهم بثلاث حالات خاصة بهم أو أربع في الأسبوع، يصلون إلى درجة نسيان الأكل تماما. بعضهم يغادر الطعام عند المنتصف ويهيم من دون وجهة. يحدث لهم ذلك كثيرا عند غروب الشمس أو ظهور القمر أو الضباب، وهذا سلوك معهود وتقليدي لديهم. لا تستغربوا إن رأيتموهم واقفين لمدة طويلة وكأنهم يقومون بحسابات ما. لا، ليسوا كذلك، فهم أبسط من أن يقدروا على عملية حسابية بسيطة. تلك الوقفات هي بالضبط اللحظات التي يبدأون فيها بخلق القصائد في أذهانهم. إنها عملية باهرة. لن تندموا إن اشتريتم شاعرا، فضلا عن أنهم أكثر نظافة من الرسامين"، فصاحب المتجر هنا لا يتحدث عن إنسان بقدر حديثه عن شيء يبيعه لا علاقة له بالحياة أو الإنسانية.
بسبب هذه النظرة إلى الفنانين والكتاب الذين لا ينتجون ما هو ملموس بالنسبة للمجتمعات الرأسمالية التي لا يهمها سوى الإنتاج والنمو المادي؛ تحول الإنسان إلى مجرد روبوت لا مشاعر فيه، ولا يعترف بها، بل يراها مجرد ترهات لا معنى لها، وأصبح كل ما يعنيه في حياته هو الأرقام التي يمكن له أن يحققها كإفادة له وللمجتمع المحيط به؛ ولعل هذا ما جعله ينظر إلى الكائنات الطبيعية كالكتاب والفنانين وكأنهم كائنات مندثرة منذ قرون أو أنها كائنات هبطت إلى الأرض من كوكب آخر. نلاحظ هذا الاهتمام الشديد بالأرقام في: "قطعنا ثلاثمائة واثنتين وأربعين خطوة من المحل حتى البيت. أنا وأبي والشاعر"، و"وضعتْ أمي الشراشف، وهي برعاية شركة لتصدير الخضار والفواكة. دارت حوالي أربعين درجة أو خمسين، انحنت قليلا، ضربت السرير ثلاث مرات بيدها اليمنى وهي تبتسم للشاعر"، كذلك الدقة التامة في: "جلسنا حول المائدة. وكانت من خشب الماجنو، وفوقها ثريتان من القصدير، وشمعتان موقدتان، وغطاء برعاية عطور فراغنس تراي تراي أوريانتال  Fragance tres tres oriental 2.1، وصحون وملاعق ومناديل لأحد عشر شخصا وللتفصيل: أمي، وأبي، والشاعر، وأخي، وستة ضيوف سأقدمهم حسب توقيت وصولهم أو بالأحرى، الضيف 1، الضيف 2، الضيف 3، إلخ.. ترتيب عددي إذن. جنس الضيوف غير مهم؛ لذلك لن أشير إليه. يتكون العشاء من مقبلات (مائة جرام من عجين الكبد، وخمس عشرة قطعة خبز متنوعة بحوالي 30 جراما لكل قطعة)، شوربة قرنبيط، حوالي مائتي مليمتر في كل صحن، وسمك السالمون طبقا رئيسيا، قطع من مائة وخمسين جراما من السمك المربى مع خضار سوتيه في زيت السوجا (حوالي عشرين مليمترا من الدهون غير المشبعة)، سِنّا ثوم، وفلفل وملح"، من خلال هذا الاقتباس يتأكد لنا أن الحياة في مجتمعات الإنتاج الرأسمالي ليست سوى حياة لا معنى لها سوى الأرقام، أي أنها حياة جافة، باردة، ميتة تماما.
أفونسو كروش
هذه البرجماتية التي تنشأ في المجتمعات الرأسمالية وتقتل في الإنسان كل معاني الإنسانية، هي ما تجعله يبتعد رويدا عن المجاز، والتشبيهات، والاستعارات، والمشاعر باعتبارها أمور غير ملموسة؛ ومن ثم فهي لا فائدة منها ما دامت غير مادية؛ لأنها لن تُغير في علاقات الإنتاج المادي والنمو الاقتصادي، هنا تصبح هذه الأمور مجرد آثار مندثرة، وبابتعاد الإنسان عنها تماما تفقد التشبيهات والاستعارات معناها؛ حتى إنها إذا ما ذُكرت أمام أي فرد من أفراد هذا المجتمع الجديد لا يستطيع فهمها أو تفسيرها؛ فهو اعتاد الأمور المباشرة الواضحة التي لا تحتمل أكثر من معناها، أما ما يمكن له أن يحمل معنيين فلا يعول عليه؛ لذلك حينما مرّ والد الفتاة التي اشترت شاعرا بضائقة مالية أراد أن يعرض الأمر على أسرته ويوضح لهم أن مصنعه يتعرض للكثير من الخسارات؛ ولذلك لابد لهم من ممارسة سياسة تقشفية؛ فقال لهم: "علينا أن نبدأ إجراءات شد الحزام، صرح أبي. لم أفهم البتة ما معنى هذا، قال أخي. ماذا؟ شد الحزام. يعني علينا ألا نفرط في المشتريات، وعلينا أيضا أن نقتصد، وندخر، ونخفض المصاريف"، ولكن لأن المجتمع لم يعد يستخدم الاستعارات والتشبيهات في مجتمع لا يعنيه سوى الأرقام المباشرة؛ ومن ثم استغنى عن المجاز، هنا لم تفهم الفتاة أو أخوها ماذا تعني جملة "شد الحزام"؛ لذلك تسأل والدها: "أعرف ذلك، ولكن ما دخل الحزام في الموضوع؟ أليست وظيفته شد السروال؟"، هنا نلاحظ أن المجاز انتهى تماما من حياة هذه المجتمعات باتجاه المباشرة التامة، رغم أن المجاز هو الذي يخلق الحياة والخيال، أي أن المجتمع بات مجتمعا من دون خيال أو تصورات تماما؛ لذلك يرد عليها والدها: "إنه لفظ أثري. ربما، في قديم الزمان، كان الحزام صالحا لمنع الاستهلاك"، ورغم إجابة الأب لابنته إلا أنها لم تكن إجابة شافية، أو موضحة، أو كاملة؛ فهو لم يبحث في الأمر من قبل كي يعرف سببه، هو مجرد "لفظ أثري" بالنسبة له، ولم يعنه أن يعرف ما هو سببه، أو كيف نشأ.
هذا الاهتمام الجم بعلاقات رأس المال هو ما جعل الفنون والمشاعر مجرد أشياء لا قيمة لها، أو أثرية، في مجتمعات اعتادت على الجفاف ولم تعد قادرة على استيعاب الفن والمجاز، وهو ما جعل الفتاة وغيرها من أفراد المجتمع حريصين على اقتناء الفنانين باعتبارهم وسيلة مهمة لاعتدال مزاجهم، وهذا ما تؤكده الفتاة: "أريد أن يكون لدي شاعر، فما المشكلة؟ هناك دراسات تؤكد أن الحصول على رسام، أو راقص، أو ممثل، أو حتى شاعر، يساعد على مقاومة الضغط، ويخفض من الكوليسترول، وهو ما يجعلنا مواطنين وموظفين أكثر إنتاجية وأكفاء ومركّزين".
إن عدم الاعتداد بالمجاز هو ما يجعل الفتاة والمجتمع يرون في مجاز الشعراء مجرد كذب: "منذ قليل بدأت أفهم ماذا كان الشاعر يقول، ولم أجد في ذلك أي رطانة، بل سمعت كلاما حقيقيا. ولكن مرّ وقت طويل لأفهم تلك الأكاذيب"، لذلك حينما يؤكد لها الشاعر أن هذا مجرد مجاز تندهش لترد عليه: "آسفة، ولكن الحذاء ليس قفازا عاشقا للأيدي الخطأ. في العالم الذي نعيش فيه كلنا يسمي ذلك كذبا ويعتبره شيئا قبيحا جدا، وقد تُسحب منا نقاط كثيرة من السيرة الأخلاقية".
لكن المفاجأة هي أن تتأثر الفتاة بالشاعر وتبدأ تتحدث بالمجاز مثله، وهو الأمر الذي سيجعلها غريبة على مجتمعها ويعرضها للكثير من السخرية، وإن كان مجاز الشاعر سيؤثر على الأسرة بالكامل؛ فتبدأ الزوجة تشعر بضرورة أن يكون لها رأي وموقف بعدما كانت مستسلمة تماما لرغبات زوجها فقط مطيعة له، وهنا ستطلب منه الطلاق، كذلك الزوج الذي يمر بمشاكل مادية حقيقية في مصنعه أثرت على الإنتاج وأدت للكثير من الخسائر سيتأثر بالشاعر ويستعمل التدفئة داخل المصنع؛ مما يؤدي إلى زيادة إنتاجية العمال الذين كانوا يعملون تحت درجات حرارة منخفضة أثرت على إنتاجيتهم، كما أن شقيق الفتاة جعل الفتاة التي يحبها تهتم به من خلال عبارات مجازية أملاها له الشاعر؛ فأعجبت بها الفتاة ومن ثم اهتمت بالفتى، كل هذه التغيرات نحو الأفضل كان مجاز الشاعر هو السبب فيها، رغم أنه حينما رسم نافذة على الجدار فوق سريره، وأكد لهم أنه يرى من خلالها البحر ويشم نسيمه؛ اعتبروه مجنونا وكل ما فعله أنه أوسخ الحائط بما فعله، في حين أنه كان يتغلب على جفاف الواقع من خلال خياله الذي يجعله يرى البحر في نافذته التي يراها بخياله، وهذا الخيال هو القاسم الأساس الذي يجعل الفنانين دائما ما يتغلبون على مشكلاتهم الكبيرة؛ فحينما أكد لهم الوالد أنه لابد من التقشف حاول الشاعر استعمال خياله من أجل الفتاة التي تقتنيه: "بدأ الشاعر في تجسيم بيت شعري بالسباجيتي. فقسم بأصابعه العجين وفصله حتى كوّن كلمة. قرأت: محار. تفضلي بالأكل آنستي، قال مشيرا إلى "المحار". لا. شكرا. ثم شرع في تفصيل السباجيتي حتى كوّن كلمة "لحم": هل تفضلين لحما؟".
هذا الخيال الناجح هو ما جعل الوالد يتغلب على مشكلاته المادية والخسارات الفادحة في الإنتاج لمصنعه حينما استعان بخيال الشاعر دون وعي، أي أن خيال الشاعر كان هو السبب الأساس في إنقاذ المصنع: "فتشتُ مكتبه بحثا عن آثار تُفسر تلك الطريقة المبتكرة في حل مشكلة اقتصادية عويصة. وجدتُ في أحد جيوب أبي، المليئة بالحسابات والأرقام، كتابة بقلم رصاص على منديل ورقي: "القبلة هي الأنجع لحرارة الجسم". ذلك هو السبب. نعم، أنا متأكدة. قال الشاعر هذا البيت لأبي، وربما كتبه هو بنفسه، وفجأة ظهرت الفكرة فتفاعل الاقتصاد معها إيجابا. واليوم، في كل أنحاء البلد هناك متصرفون واقتصاديون يستعملون التقنية نفسها: إذا كان العمال يعملون تحت درجة حرارة لطيفة ومناسبة فإنهم ينتجون أكثر. وها هم الآن يستعملون التدفئة في كل مكان. كل الدراسات تُجمع على أن وفرة الإنتاج تغطي تكاليف الاستثمار في التدفئة وما يتبعها من استهلاك يومي للطاقة".
لكن رغم تأثر حياة الأسرة بالكامل بالشاعر واستفادتها منه إلا أن الوالد يُصرّ على التخلص منه تماما وتركه في أحد الحدائق، لكن المشكلة الحقيقية التي ظهرت للروائي البرتغالي أفونسو كروش حينما نسج عالمه الروائي المصنوع من أجل التحذير من خطر الرأسمالية وعلاقات الإنتاج، والتقدم. وبعدما أوصل الروائي رسالته التي يرغب في إيصالها، أي التحذير من هذا العالم، وقع في كيفية إغلاق هذا العالم الذي بدأه؛ فلم يستطع أن ينهيه روائيا، ولعل هذا ما يؤكد لنا أن الفن حينما يكون سبيلا لإيصال رسالة بشكل عمدي يتحول إلى شيء فاشل، أو فني تلقيني، أو مصنوع ومن ثم يفقد جمالياته التي يتميز بها، وهنا لجأ الروائي إلى كتابة فصل بعنوان "ما يشبه الخاتمة" لم يكن له أي علاقة بالسرد الروائي، أو بالرواية كلها إلا من حيث الفكرة؛ فالروائي لجأ إلى مجموعة كبيرة من الأخبار والتقارير والتجارب التي تؤكد أهمية الاستثمار في الثقافة، وأن الثقافة رغم أنها لا تنتج شيئا ماديا من الممكن لمسه إلا أنها إذا ما تم الاستثمار فيها فإنها تكون مربحة كثيرا كما تؤكد التجربة في البرتغال، ولعل هذا الفصل الأخير ما يُدلل على أن الفن المصنوع لا يمكن أن يكون فنا أصيلا؛ ومن ثم يفقد سحره، كما أنه أثر بالسلب على العمل ككل رغم طرافته.


محمود الغيطاني
مجلة عالم الكتاب
عدد إبريل 2018م


هناك تعليق واحد:

  1. الفن الروائي هو خلق يضاهي الخلق الإلهي . حيث شخصيات من لحم ودم تتحرك وتفكر وتبكي وتتألم شخصيات مستقلة لها أخلاقها وقوانينها الخاصة . تماماً كالحرية التي ننعم نحن بها والتي تجعلنا نواجه الإله ذاته ..الصديق العزيز . محمود الغيطاني سعيدة بقراءتك من جديد لمقالاتك متعة تضاهي متعة قراءتي لنص أدبي . وهنا سر النقد .

    ردحذف