قد يرى البعض أن فن كتابة القصة القصيرة أكثر طواعية وسهولة من كتابة الرواية؛ لذا يُقبل العديدون على كتابتها من دون معرفة آلياتها الفنية التي هي أكثر إحكاما وحبكة من كتابة الرواية التي تحتمل بعض الثرثرات أحيانا، أو بعض التأملات، وتعدد الشخصيات والأمكنة المختلفة، بل وإبداء رأي الروائي في بعض الأوقات، وغير ذلك مما يحتمله فن الرواية فيما لا يمكن للقصة القصيرة احتماله.
لكن، هل يعني ذلك أن فن القصة القصيرة هو فن هش لا يحتمل التجريب؟
إن عدم احتمال القصة القصيرة لهذه الأمور التي يمكن تجريبها في فن الرواية لا يعني أنها الفن الأكثر هشاشة؛ ومن ثم لا تحتمل المزيد من التجريب؛ فهناك الكثيرون ممن كتبوا القصة وجربوا فيها، وبرعوا فيما قدموه بشكل متميز لم يقدمه غيرهم مثل القاص السوري زكريا تامر، على سبيل المثال، وغيره من كتاب القصة، لكن عدم احتمال القصة لآليات الرواية يتأتي من خصائصها التي نشأت عليها، أي أن آلياتها التي تخصها بمثابة البصمة الوراثية التي لا تكون الكتابة حينها منتمية إلى القصة إلا بها، لا سيما الإيجاز، والجمل القصيرة البرقية اللاهثة السريعة المتلاحقة، والشخصيات القليلة التي قد تصل إلى شخصيتين فقط، ومحدودية المكان الذي يدور فيه الحدث، هذا فضلا عن "برقية" الحدث الذي يشبه التماع برق في السماء واختفائه سريعا، أو ما يُشبه فلاش الكاميرا الذي سرعان ما يختفي بمجرد وميضه.
هذه السرعة اللافتة في تقديم القصة القصيرة يشبه إلى حد ما تجميد الزمن للحظات على لقطة واحدة، أو زواية واحدة من زوايا الحياة، ثم التعامل مع هذه الزاوية بمنطق زمني آخر يختلف تماما عن المنطق الآني الواقعي؛ لذلك قد نجد أن الزمن الفني في إحدى القصص القصيرة يكاد يكون عمرا كاملا، في حين أننا موقنين أن هذا الزمن لا يكاد يتخطى دقائق معدودة في الحياة الواقعية، أي أن القاص المتمكن من أدواته في القص يستطيع تحويل الزمن الحقيقي الواقعي إلى زمن آخر مختلف تماما من خلال زمنه الفني باستعمال آليات كتابة القصة القصيرة، ولا نشعر أنه قد أطال في تجميد هذا الزمن وتأمله وتشريحه والحديث عنه، وهذا من مميزات فن القصة. كما أن الخيال يلعب دورا لا يمكن التغاضي عنه في كتابة القصة. صحيح أن الخيال لا غنى عنه في كتابة الرواية، لكن تعود أهمية الخيال وبلاغته في كتابة القصة إلى قدرته على تحويل هذه اللحظة القصيرة جدا في عمر الزمن الواقعي إلى عالم متكامل- قد يكون طويلا جدا- في الزمن الفني، كما أن الخيال يلعب دورا لا يمكن تجاهله في كتابة القصة حينما يحوّل اللاواقعي إلى واقع يتقبله المتلقي رغم أنه يشعر باليقين الكامل أن ما يقرأه لا يمكن لعقله أن يستسيغه بسهولة، ولكن بلاغة الخيال، وبراعة القص، واستخدام لغة تتناسب مع فنية القص هم ما يجعلون القارئ متواطئا ومصدقا ما يذهب إليه القاص رغم أنه لا يستقيم معه في حياته الواقعية.
هذه التأملات في الآلية الفنية لكتابة القصة القصيرة هي ما تدفعك إليه دفعا قراءة المجموعة القصصية "مرور هادئ حول العالم" للقاص المصري محمد إمبابي؛ حيث نلاحظ أن الخيال قد اكتسب بالفعل بلاغة في تقديم القصص التي كتبها الكاتب؛ ومن ثم كان تميزها بفضل هذا الخيال أولا، ثم إتقانه لآليات كتابة القصة سواء من حيث اللغة القصصية، أو من حيث البناء الفني لفن القصة.
هذه البلاغة في الخيال نلاحظها بشكل جلي في قصته "عين رأت"، وهي القصة الأخيرة من مجموعته، حيث يمعن القاص في استقطاب القارئ نحو ما يكتبه ببلاغة خيالية تجعله يصدق كل ما يذهب إليه الكاتب، لكنه يصفعه في نهاية القصة بقوة- من دون الخروج من الشكل الفني الذي بدأه-؛ ليقول له: إن هذا مجرد خيال، لا علاقة له بالواقع، لكنه سيظل في إطار ما هو فني لا يمكن الخروج عنه.
يتحدث القاص عن الطفل "سيد" البطيء الفهم والاستيعاب، والذي لا يستطيع الحركة إلا بمساعدة الآخرين؛ لذلك تحمله أمه على ظهر الحمار وتسنده بكتفها في رحلتي الذهاب والإياب إلى كتّاب الشيخ "جاب الله"؛ ولأن سيد لا يستطيع الاستيعاب السريع؛ فالشيخ يؤجل تحفيظه للقرآن حتى ينتهي من باقي أطفال القرية الذين لا بد لهم أن يذهبوا إلى أهلهم كي يساعدونهم في أعمال الزراعة في الحقل، ثم يتفرغ له هو و"عامر" الذي يأتي بأفعال تشبه البله فضلا عن غبائه الشديد: "اعتاد الشيخ جاب الله أن يترك سيد لنهاية اليوم مع "عامر العبيط"، لأنهما بطيئا الفهم ويتطلبان منه مجهودا، بجانب أنهما لا يدفعان مالا ولا يقدمان شيئا مما يقدمه الناس.. قطعتي جبن، قدحي ذرة، أو رغيفين من الخبز الطارج في أيام الخبيز، فكان ينتهي من باقي الأطفال مبكرا ليلحقوا بآبائهم في الحقول، بينما يقعد كل من سيد وعامر متجاورين في انتظار أن يحين دورهما في آخر النهار. لم يجد الشيخ ما يدعوه للعجلة فيما يتعلق بهما على الإطلاق، فليس وراء أي منهما مصلحة تُقضى أو نفع يُنتظر، ولا يصلح أي منهما لفعل أي شيء بمفرده أو مُرفقا بعون من الغير، فاستعوض أهلهما المولى في طعامهما وكسائهما بلا مردود، كمن يجود بالسُقيا والسباخ على نخلة ذكر يعرف جيدا أنها لا تطرح، ونذروهما لله". يعفي الشيخ جاب الله سيد من تعلم الكتابة، ويقتصر تعليمه له على القراءة وحفظ القرآن فقط، ويلاحظ تقدم سيد في الحفظ؛ لذلك يحتفظ به وحده؛ نظرا لوجود أمل في تعلمه، بينما يستغني عن عامر الذي لا أمل منه في أي شيء. ونتيجة للانتظار الطويل من سيد وصمته الذي لا ينتهي؛ فهو لا يجيد فعل أي شيء في حياته سوى التأمل الطويل الصامت؛ الأمر الذي أكسبه القدرة على تحليل ما يراه وربط الأمور ببعضها البعض وكأنه يتنبأ بالغيب، ويعرف ما لا يعرفه سواه: "أثناء صمته المصحوب بهش الذباب المتجمع حول وجهه بهزة رأس كل بضع دقائق، كان سيد يفعل أفضل ما يُجيده، النظر والمراقبة، ينظر متفحصا كل شيء.. وجوه الناس وأحوالهم، هيئاتهم المتقاربة، تحياتهم عند اللقاء وسلامهم عند الرحيل، حتى حفظ عن ظهر قلب مواقيت دخول وخروج الناس بمهارة جعلته يدرك متى سيجيء فلان ومتى سيرحل. راقب أحمال البهائم المُتزايدة والمتناقصة من البرسيم، والتي تشي بإذا ما كان صاحب البهيمة سيخرج غدا للحقل أم لا. استطاع وحده بالنظر أن يدرك أن بقرة "شعلان" عُشر من المقدار المتزايد من البرسيم، الذي لاحظ أنها صارت تلتهمه وحدها مؤخرا، وبعد أن لاحظ أيضا أنها صارت ترفص بساقيها كل من يحاول الاقتراب، ذلك بالرغم من أن شعلان لم يُخبر أحدا بأنه "نطط" عجل الحاج "زغلول" عليها سرا منذ شهر".
هذا التأمل الطويل من قبل سيد، وهو التأمل الذي لم يكن عمديا أو قصديا بقدر ما كان مفروضا عليه بسبب الوحدة الطويلة والصمت الدائم، أدى إلى مقدرة سيد على تحليل ما يراه أمامه والوصول إلى العديد من الحقائق التي كان يحتفظ بها لنفسه فقط، ولا يسر بها لأحد، حتى أنه استطاع تفسير سر أناقة الأستاذ "ياسر" موظف محكمة البندر الابتدائية، الذي يظن أهل القرية بأكملهم أنه ينفق بلا حساب على مظهره؛ ومن ثم يمتلك الكثير من الألبسة التي لا يستطيع أي منهم أن يمتلكونها: "لكن الحقيقة التي لم يدركها أحد سوى سيد، إثر مُراقباته، هي أن الأستاذ ياسر ليس "بِزا" ولا يحزنون، بل ليس لديه في الحقيقة سوى بنطالين فقط، أحدهما مرتوق من فتق عند- لامؤاخذة- المِحشم، وثلاثة قمصان بألوان مختلفة ومعطف وكوفيتين، يتبادل ارتداءها حسب جدول مُنتظم لا يعلمه إلا هو، بصورة تجعله يمضي أطول فترة بين كل مرة وأخرى لذات الـ"طقم"، فيبدو للناظر أن الأستاذ ياسر لا يُكرر "طقما"، وأنه يمتلك دولابا ولا دولاب العمدة".
بالفعل ينجح سيد في حفظ ستة وعشرين جزءا من القرآن؛ وهو الأمر الذي يجعل الشيخ جاب الله يقربه إليه ويهتم به كثيرا، حتى أنه يُجلسه إلى جواره في كل مكان، وليس أمامه كما كان يفعل في السابق: "صار سيد قادرا على أن يصحح لشيخه بعض الأخطاء، وأن يُسعفه مُكملا عند وقفات السهو، الأمر الذي غيّر من وضعه لدى شيخه تماما، فقربه واصطفاه، إلى أن جاء اليوم الذي قرر فيه الشيخ جاب الله أن يُبدي بسيد فخرا لم يُبده بأحد من قبل، وأمر "العيال" بحمله وأن يجلسوه بجانبه فوق المصطبة، ليربت على كتفه قائلا: جدع يا سيد، حافض يا سيد".
هذه القدرة التأملية الطويلة من قبل سيد جعلته يربط الأشياء ببعضها البعض، بل ويسبح في الملكوت حينما يستمع إلى شيخه يرتل القرآن وكأنه يحلق من شاهق؛ ليرى الأمور في الأسفل من خلال رؤية بانورامية شاملة ودقيقة، ويحدث ذات مرة أن تتأخر الحكومة في فتح المياه للقرية من أجل سُقيا أراضيهم؛ الأمر الذي أدى إلى جفاف الترع واحتراق المحاصيل الزراعية بالكامل، ورغم أن القرية بدأت تعاني من قسوة عدم وجود المياه، إلا أنهم خشوا الشكوى لأولي الأمر من الحكومة وفضلوا الصبر حتى يتذكرونهم ويفتحوا لهم المياه ظنا منهم أنهم لن يتذكرونهم مرة أخرى، ولكن قدرة سيد على الرؤية المستقبلية التي اكتسبها من طول التأمل جعلته يرى المياه قادمة ويخبر بها شيخه قبل أن يحدث الأمر؛ مما يجعل الشيخ جاب الله يظنه من أهل الخطوة وأولياء الله الصالحين: "في يوم كانت الشمس أنهت ما عليها، ولم تجد شيئا آخر لتفعله، فهمّت بالغروب، وبينما سيد جالس بجوار شيخه وحدهما مواجهين مغرب الشمس، ظلل قرصها المتهاوي خلفهما، فبديا بعمامتيهما كحبرين بلوحة شرقية. قرأ الشيخ من سورة ق: "ونزَلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد. والنخل باسقات لها طلْعٌ نضيد. رزقا للعباد وأحيينا به بلدة ميْتا كذلك الخروج". تطوّح سيد على جانبيه طربا. ارتقت به كلمات الله، كما ترتقي به كل مرة، وفي ارتقائه منفصلا عن الدنيا، شعر سيد بشيء، وهو ينظر إلى السماء من أعلى، رأى أسراب "أبو قردان" خرجت من بطن المسقاة، وتعششت أفرع الشجر، وكلاب العزبة لم تعد تلهو بالقرب من خيط الماء الرفيع باحثة عما تأكله، حتى فئران المسقاة، اختفت وسكنت جحورها، مُخلّفة وراءها صمتا. دفعه ذلك الشعور إلى أن يمد بصره نحو الجنوب من حيث يأتي "الطرف"، ليرى بما عهد من الغبشة حين تحليقه، دفقات الماء تندفع بقوة من بوابة الهدّار نحو باطن المسقاة، لتهدأ وطأتها بعد عدة أذرع حاملة أمامها أكواما من القمامة سرعان ما اختفت. عندما وصل الشيخ لقوله: "وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد"، وقبل أن يُكمل، توقف سيد عن التطوح، وتسارعت أنفاسه، وقال بصوته المُتباطئ، وهو سارح، كأنما لا يعني بقوله أحدا: يا سيّدنا.. الطرف جيّ. وقرت تلك الجملة في أذن جاب الله، وكان على وشك الاستكمال فتوقف. ضاقت حدقتا عينيه، وأمعن النظر في سيد، الذي لبث سارحا، همّ الشيخ أن يسأل، ولكن قبل أن يفعل، وصلته من مسافة بعيدة أصوات اللغط والضوضاء مُنبئة بشيء، وبالانصات سمع أطفال العزبة يصيحون صيحتهم المعهودة عند مجيء الطرف: الله حيّ.. الطرف جيّ. الله حيّ.. الطرف جيّ".
هنا تأكد الشيخ أن سيد من أهل الخطوة ومن أولياء الله الصالحين الذين يرون الشيء قبل حدوثه؛ لذلك أصرّ على أن يأخذ سيد معه إلى "البندر" حينما يتجه إلى مولد "المعتوق". يبدأ القاص في حكاية ذهاب سيد مع شيخه إلى البندر، وهي الرحلة التي يحكي فيها سيد مشاهداته وملاحظاته في البندر بالتفصيل؛ حيث الأفندية الذين يختلفون عن أهل القرية في ملابسهم، وطريقة مشيهم، ويصف المولد بالتفصيل، ثم رحلته مع الشيخ إلى حفلة الشيخ "التوني" الذي يتمايل رواده حوله من فرط اندماجهم مع الأناشيد الصوفية التي يغنيها.
يصف سيد كل شيء بالتفصيل في هذه الرحلة، وهي الرحلة التي يتحدث عنها القاص بقوله: " عندما ذهب سيد للبندر مع شيخه، كانت تلك أول مرة يخرج فيها من العزبة، وأول مرة يرتدي فيها جلبابا مكويا ويتعطر بالمسك، وأول مرة يركب فيها سيارة، حملوه وأركبوه بها مُفردين له مقعدا بجوار السائق، فأصابته رهبة وداهمه خوف، كخوفه من موسى الحلاق الذي لم يأمن له قط. فزع في البداية من أن يترك نفسه، وهو معدوم الحول والحيلة لقطعة من الحديد. وإذا ما كان اعتاد أن يترك نفسه بلا حول أو حيلة للناس، فهم مُستأمنون، أما تلك "الحديدة"، فيخلق ما لا تعلمون! كيف تدور تلك ولم تُزمجر؟ وكيف يقعد بها الراكب مُغلقا عليه بابها، ليجد نفسه بعد برهة وصل إلى جهته؟". يستمر القاص في سرد رحلة سيد إلى البندر مع شيخه كما رآها سيد بكل تفاصيلها: "عند وصوله للبندر، كانت تلك أول مرة يرى فيها غرباء لا يعرفهم، رأى لتوّه رجالا لا يشبهون رجال العزبة، يرتدي بعضهم ملابس غريبة لم ير مثلها من قبل، وتتدلى من أعناقهم قماشات طويلة لأمر غير مفهوم، في البداية ظن أنها شيء من قبيل الرُتبة، كالشرائط المعلقة على ذراع وطربوش شيخ الخفر، إلا أن شيخه لما لاحظ نظرته المتسائلة، أخبره بأن ذلك هو زي الأفندية".
ينجح القاص هنا من خلال سرده في جذب القارئ لهذه الرحلة إلى البندر بكل التفاصيل التي رآها سيد حتى انتهاء الشيخ التوني من أناشيده الصوفية التي تنتهي بذهاب رواده إلى عالم آخر من الدروشة والتوحد في هذا العالم: "التوني يشدو، والموسيقى تتسارع، والفتاة جُنت. أمسكت بضفيرتيها الطويلتين لتدور بهما كراقصي التنورة، والفتى انخعلت مقلتاه، واحتقن وجهه، وفغر فاه كمخبول بذكر من أذكار الثريد، وسيد ظل ينظر لئلا يفلت من مصيدته شيئا، والفتاة ما زالت تدور، والتوني يصدح كُل القلوب إلى الحبيب تميلُ. والناي والكمنجة أشرقا بالنور، والفتى لما تبسمت، تبسم. ومعي بهذا شاهدُ ودليلُ. دنت من الفتى، ليخرّ على ركبتيه، ونزّ من صدره العرق كأن به كوّة. أما الدليل إذا ذكرت حبيبهُ. ألقت عليه محرمتها بدلال، فبكى. نزلت دموع العاشقين تسيلُ. لحظتها انطفأت الشموع، وساد الظلام وذُهل الخلق، وعلت أصواتهم بحثا عن الضوء، وما إن ضغط أحدهم زر القابس، حتى حضرتهم الرؤية، فشاهدوا الفتى منطرحا، حيث كان سارحا، ممسكا المحرمة بكلتا يديه، وقد سال من فمه اللعاب. أما سيد، فلم يكن موجودا. حلّق تاركا خلفه كل شيء، ليرى وحده في الظلام ظل الفتاة جاريا خارج القاعة في ضوء القمر، الذي كان قد اكتمل في غير ميعاده".
ربما نلاحظ من خلال هذا الاقتباس السابق المقدرة السردية لدى محمد إمبابي الذي نجح أيما نجاح في خلق عالم فني، وصياغة عالم مكتمل يمور بما فيه من حركة ووجد وتصوف وسموق أرواح كل المشتركين فيه؛ فالعالم هنا يمور بالحركة التي لا تهدأ لحظة واحدة، بل هو في تصاعد مستمر، وفوران يؤذن بالانفجار، حتى وصل من خلال وصفه السردي المتسارع اللاهث إلى نقطة الصفر/ الانفجار التي هدأ بعدها كل شيء حينما صمتت الموسيقى وتوقف التوني عن أناشيده، وهذا يؤكد مقدرة القاص السردية في صياغة عالم فني قادر على حبس القارئ معه؛ لتلهث أنفاسه مع ما يدور في هذا العالم وكأنه جزء لا يمكن أن ينفصل عنه، لكن المقدرة الفنية لإمبابي لا تتجلى في مقدرته على صياغة العالم في هذا المشهد الأخير فقط، بل نراها واضحة تماما بعد انتهاء هذا المشهد حينما يكتب: "ربت الشيخ جاب الله على كتفه قائلا: اصحى يا سيد، وصلنا. أفاق سيد ناظرا حوله ليجد نفسه في السيارة، وقد وصل للبندر، ليرى بعينيه لأول مرة غرباء لا يعرفهم، يرتدي بعضهم ملابس غريبة لم ير مثلها من قبل، وتتدلى من أعناقهم قماشات طويلة لأمر غير مفهوم".
إن هذا الاقتباس الذي أنهى به القاص قصته يؤكد مقدرته على امتلاك السرد بشكل مُحكم؛ حيث يصدمنا بهذه الجملة الختامية وكأنها يصفعنا على وجوهنا لنفيق مما سبق أن صدقناه وعشناه معه في رحلة سيد إلى البندر، وهنا نكتشف أن هذه الرحلة لم تحدث بعد، بل كانت مقدرة سيد على رؤية ما سيراه مستقبلا. وهو ما رآه أثناء نومه في السيارة متجها إلى البندر، أي أنه رأى ما سيحدث مسبقا في أحلامه، ورغم أن العقل والمنطق لا يمكن لهما التجاوب والموافقة على ما ذهب إليه الكاتب، إلا أن بلاغة السرد والخيال تجعلنا نميل إلى التصديق لا سيما أن القاص يمتلك أدواته التي تجرنا معه منساقين خلفه فيما يسرده، ومن هنا تتجلى لنا بلاغة الفن، وقدرته على التأثير حينما يكون قادرا على إقناعنا بما لا سبيل إلى اقتناعنا به.
إن مقدرة الكاتب هنا على صياغة عالمه القصصي بشكل فيه من الفنية ما يقنعنا ويجعلنا منساقين خلفه مستعينا في ذلك بالخيال وتملكه لأدوات القص نراه بشكل جلي في قصته "الذي خاض النهر"، وهي القصة التي يتحدث فيها عن السيد "أليكسيس" المكسيكي الذي ترك "مكسيكو سيتي" بعدما عانى كثيرا من شظف العيش هناك؛ ففضل الرحيل مع زوجته الحامل إلى "كانكوون"، لكن الزوجة يأتيها المخاض بمجرد وصولها؛ فيستعين ببعض سكان المدينة على توليدها، وتلد توأما يُطلق على كل منهما اسم "بينو" ظنا منه أن الجنين قد انقسم في بطن أمه إلى اثنين نتيجة سبب ما: "قرر السيد أليكسيس أن يُسميهما على الفور ودون انتظار. أصر أن يسمي كليهما "بينو". كيف لا وهما- حسبما آمن- طفل واحد انقسم بداخل الرحم لسبب ما؟! لعله اصطدم بطن أمهما من الخارج بشيء صلب أو ما شابه. إذاً فلا مفر من الاعتراف بالحقيقة.. "بينو" و"بينو" هما في الأصل "بينو" واحد، ولكن لاحقا، ولأجل التفرقة الضرورية، التي كان يستوجب معها أن يكون لكل منهما اسم مستقل، أشار لأحدهما بـ"بينو أونو"، والثاني بـ"بينو دوس"، أي "بينو الأول"، و"بينو الثاني"".
لكن تحدث إحدى المعجزات التي يتميز بها ابنه "بينو أونو" حينما يكونون في الكنيسة وبمحض الصدفة يكون كورال الكنيسة ناقصا بغياب أحد الأطفال لوعكة أصابته صباح الأحد، وهنا يتأمل القس الأطفال الموجودين في الكنيسة ليختار "بينو أونو" مكان الطفل المتغيب، ورغم أن "بينو أونو" لم يتدرب من قبل على الأغاني الكنسية، إلا أنه بمجرد ما يمسك الورقة المكتوبة فيها الأغنية الدينية إلا ويبدأ في الغناء مع الكورال من دون أي شكل من أشكال النشاز، لكن المعجزة التي ظهرت أن الكلمات المكتوبة على الورقة كانت حروفها تحترق بمجرد ما يغنيها "بينو" لتترك مكانها على الورقة مفرغا تماما: كان "بينو أونو" يغني: "المسيح قام.. المجد للرب في الأعالي"، حينما حدثت المعجزة.. اصفرّت الورقة بكفه الصغيرة، وارتعشت لنراها جميعا، وهي تستشيط رويدا رويدا لتتصاعد منها خيوط دخان رفيعة دقيقة لا تغمي، وكأنما تلك الخيوط الرفيعة من الدخان كانت ترسم بحرقها في الورقة شيئا. من مواقعنا على كراسي القاعة، رأينا الورقة في يد "بينو أونو" تحترق من فوق السطور ببطء دون أن تشتعل كلية، وكأن أحدا ما أعاد كتابة الكلمات بالحرق الدقيق في الورقة بدلا من القلم.. نفذت من ثنايا الورقة أطراف شعاع الشمس الآتي من خلف "بينو أونو"، فرأينا بأم أعيننا الورقة من ظهرها المقلوب، وقد صارت مفرغة بالحرق بدلا من الكتابة".
انتشر خبر "بينو أونو" ومعجزته في كل مكان حتى وصل إلى "بلايا ديل كارمن" في ظرف أسبوعين، ومنها إلى "تولوم" في ظرف أقل من شهر، إلى أن جاء القرية مجموعة من العربات الفخمة التي تجرها الخيول، وترجل منها عدد من السادة ذوي القبعات المرتفعة والسترات الأنيقة، ليسألوا عن "بينو أونو" وأبيه. قابل السادة والد "بينو أونو" ليقدم له رئيسهم نفسه بقوله: "الرقيب أول إجناسيو فيا، من جيش جلالة الإمبراطور ماكسيميليان الأول". هنا يؤخذ "أليكسيس دي تورا" والد "بينو" ويظن أن الأمر متعلقا بسرقته السابقة لدجاجات جارته حينما كان يتضور جوعا: "ارتبك أليكسيس، وجعل يفكر في أي جُرم ارتكبه ليصل الأمر لأن يرسل له جلالة الإمبراطور أحد ضباطه. حاول استبعاد أن يكون الأمر متعلقا بسرقة الدجاج من حظيرة جارته السيدة الهولندية العجوز، حينما كان يقطن بـ"مكسيكو سيتي"، ولكنه لم يُفلح في أن يطرد تلك الفكرة. استرسل في التفكير لائما نفسه على تكرار تلك الفعلة الخبيثة أكثر من مرة، وحدّث نفسه بأنه لو اكتفى بمرة واحدة أو مرتين لما لاحظ أحد، لكثرة الدجاج في حظيرة السيدة، ولكن ست عشرة مرة! يا لك من بغل يا أليكسيس!".
لكن أليكسيس يطمئن حينما يعرف أن سبب هذه الزيارة هو وصول خبر معجزة ابنه "بينو أونو" إلى الإمبراطور الذي أرسل هذا الوفد للتأكد منها، وبالفعل يتأكد الوفد بالكامل من المعجزة حينما يغني "بينو أونو" أمامهم: "أخرج "بينو أونو" من الدرج قطعة خشبية مستطيلة، ابتعد بها قليلا نحو باب غرفة الاستقبال المفتوح على الحديقة، ليكون في منتصف حزمة الضوء، وبدت نظراته إلى قطعة الخشب في تلك اللحظات القصيرة، التي ظل "إجناسيو" يتابعه خلالها بكل تركيزه، مضطربة بشكل مخيف، ذلك الاضطراب الذي يعرفه "إجناسيو" جيدا. الآن، وقف "بينو أونو" في وضع الغناء، وقد حددت الشمس لجسده على الأرض ظلا طويلا امتد لمنتصف الغرفة. تجمدت الموجودات، وحلت نفحة هواء متثاقلة كزائر إضافي، وبعد أن استكان وابتسم ابتسامة اندلعت من عينيه الخبيثتين، بدأ في الغناء: وداعا "خوان"، وداعا "روزاليتا"، وداعا صديقي "خيسوس" و"ماريا". خرجت الكلمات المصحوبة بنغمة شديدة الرقي من فم "بينو أونو" بطبقة صوت ثابتة لا تدافُع فيها ولا غوغائية، لتجذب بمفردها أذهان الحاضرين نحو الصورة التي يتحدث عنها فأدركها الجميع دون عناء. عندما تصعدون للسفينة الكبيرة، ستفقدون أسماءكم ولن ينادونكم سوى بالمهاجرين. كان اللوح الخشبي، الذي يُمسك به "بينو أونو" في الوقت ذاته، وتحت التأثير الساحر ذاته بدأ في الاحتراق من واجهته، وبدأت الحروف في التشكل فوق سطحه بشكل مُعجز، ولم يكن ذلك كله للمرة الأولى، بعد أن حدث من قبل بقاعة كنيستنا، التي لا تُشبه كاتدرائية نوتردام. توقف بينو عن الغناء، بعد أن أصبح لوحه الخشبي مُفرّغا بكلمات أغنيته الحزينة، وبعد أن وصلت أذهان جميع الحاضرين إلى حالة غير عادية من الاستثارة والتوتر جراء ما شهدوه مما لا ينطبق عليه غير وصف المعجزة".
القاص محمد إمبابي |
يحاول السادة التأكد من عدم وجود أي احتيال فيما حدث، وبالفعل يوقنون أن ما رأوه كان معجزة حقيقية حدثت أمامهم، وهنا يطلب قائدهم/ إجناسيو أخذ "بينو أونو" معهم حيث: "يرغب جلالته في ضم بينو أونو للحاشية الإمبراطورية، حيث ستُدرس موهبته بشكل علمي وتُولّى بالرعاية الكاملة في ظل إمكانيات لا كذب في القول إنها غير محدودة، ذلك بجانب العمل على تنميتها والاستفادة منها، وسيراعي جلالته، ورجاله المكلفون كافة أن يكون بينو أونو هو أول المستفيدين، وبالطبع سيعود ذلك على أسرته بالكثير مما لن يتوافر في ظل الظروف العادية". يرفض أليكسيس طلب إجناسيو ويؤكد له هو وزوجته أنهما لا يرغبان في التخلي عن أي واحد من ابنيهما، فيحاول إجناسيو إقناعهما بأن طلبات جلالة الإمبراطور لا يمكن أن تُرد، لكنهما يصران على موقفيهما. يحاول إجناسيو بكافة الطرق إقناع الوالدين بأخذ بينو معهم لكنهما يصران على الرفض؛ فيهدد إجناسيو أليكسيس بأنه إذا رفض ذلك سوف يعتقله ويودعه السجن بتهمة سرقة الدجاج من جارته الهولندية، بل وسيتم سجن زوجته أيضا باعتبارها كانت تعرف؛ ومن ثم فهي مشاركة له في الجريمة، وسيتم إيداع الطفلين في أحد الملاجئ ثم يذهبان إلى الإمبراطور في نهاية الأمر.
يحتار الزوجان فيما يجب عليهما فعله بعد هذا التهديد؛ ولأن كل من بينو أونو، وبينو دوس سمعا هذا التهديد صراحة؛ فلقد انسحبا من غرفة المعيشة بعدما استأذن إجناسيو في الذهاب إلى دورة المياة، وبعد مرور فترة من الزمن سمع الجميع صوت صراخ إجناسيو الشديد آتيا من دورة المياة وحينما ذهب الجنود لرؤية ما يحدث فوجئا: "في آخر الطرقة الضيقة، كان الرقيب "فيا" مُلقى على أرضية دورة المياة المفتوحة، والنار تشتعل في ثناياه بشكل قبيح.. كان "بينو أونو" يغني في مواجهته مباشرة بوجه شاحب شبق مستغرق، وكأنما لا يعنيه من العالم شيء. التقمت النار وجه الرقيب "فيا" متسلقة زيه العسكري من الرقبة لأعلى، كحية التفّت حول ضحيتها بعد شهور من الجوع. انتفض الجميع رعبا، وأصاب والد "بينو أونو" الخرس.. كان الرقيب "إجناسيو" يصرخ بضراعة ممسكا وجهه المشتعل، بينما لم يتوقف "بينو أونو" عن الغناء: جدي الذي خاض النهر بأكلمه، أرادوا أن يأخذوا كل ماله، أبي الذي خاض النهر بأكلمه، أخذوا منه كل ماله. وبينو دوس.. بينو دوس، الذي كان واقفا بجوار شقيقه يبادله أبيات الغناء بصوت جهوري، صرخ فجأة منتشيا، فازداد استعار النار بجسد الرقيب "فيا". لم يعد الأخير قادرا على الاحتمال، فأخرج سلاحه، وأطلق على رأسه النار. ساد السكون، وكأنما كانت بدايات القيامة قد أوشكت على الاندلاع، ظلت أصداء صوتيّ كل من "بينو أونو" و"بينو دوس" تتأرجح في الهواء، وبدأت جثة الرقيب "فيا" في التفحم كلية حاملة رائحتي الكربون واللحم المحترق".
هنا يتبين لنا مقدرة القاص محمد إمبابي في صياغة عالم قصصي يخصه وحده فقط، وبمقدرة على الإقناع فيما يذهب إليه، ولكن مقدرته الفنية والخيالية تتضح لنا بشكل أكبر حينما نقرأ بعد هذا الاقتباس مباشرة المقطع الأخير الذي أنهى به قصته حينما كتب: "لاحقا.. انتشر خبر وفاة نصاب مُحترف يعمل بفرقة سيرك جوال بنواحي "كانكوون"، أثناء محاولة ابتزاز أسرة بسيطة، بعد أن اعترف شركاؤه بفشلها، وبوفاته أثنائها محترقا".
إن المقدرة القصصية لدى إمبابي جعلته يبني عالما خياليا معتمدا على آليات القصة التي يمتلكها جيدا، متسلحا بأسلوبية تخصه تماما، لكن التساؤل الذي لا بد أن يرد على أذهاننا حينما نقرأ القصة هو: لماذا آثر القاص على أن تكون شخصيات قصته مكسيكية، ولماذا دارت القصة في فضاء غير عربي لا سيما أنه كان يمتلك من الأسلوبية في هذه القصة ما يوحي لنا بأن هذه اللغة لا تخص اللغة العربية، وكأنما قد تمت ترجمة القصة بالفعل إلى العربية. بالتأكيد نحن هنا لا نُشكك في انتماء القصة لصاحبها، لكننا نتساءل عن السبب الذي جعله يذهب إلى أن تكون الشخصيات ومسرح القصة الذي تدور فيها لا ينتميان إلى عالمه العربي الذي ينتمي إليه، وإن كان ذلك لا ينفي براعته فيما قدمه لنا، لكن ما يجعلنا نُشدد على هذا التساؤل هو قصته الأخرى التي كانت بعنوان "دي لا لونا" التي دارت أحداثها أيضا في المكسيك حيث بطلتها السيدة "لوث دي لا لونا" التي يعرف الجميع عنها حياديتها الكاملة تجاه وجود أو عدم وجود أي شيء، وهو الأمر الذي تطور معها إلى عدم الاهتمام بأي شيء، أو التعلق به؛ الأمر الذي جعلها تتخلى عن أي شيء من الممكن لها أن تتعلق به، بل وتترك أيضا اهتمامها بما تحب من الطعام وكأنها دخلت حالة من حالات الزهد الكامل في الحياة وكل ما يتعلق بها، لدرجة أنها حينما اكتشفوا وفاتها وجدوا في أحشائها بعض العشب الذي ينبت على باب بيتها؛ الأمر الذي يُدلل أنها وصلت إلى حالة تامة من الزهد غير المبرر في أي شيء: "بعد أعوام عديدة لاحقة عندما توفيت، وقام الطبيب العدلي بتشريح جثمانها لمعرفة سبب الوقاة- الذي اشتبه البعض أنه كان انتحارا- وجد أن بقايا الطعام نصف المهضوم المتبقي في أمعائها لم يكن سوى بعض حبوب القمح، والذرة الجافة، بجانب نوع من الأوراق الخضراء رجّح أنه من نخيلة عشبية ما. تأكد من ذلك لاحقا بمجرد النظر إلى رقعة النجيل الخضراء، التي تنبت على جانب مدخل الباب، والتي حُشّت بعناية أكثر من مرة".
نقول إن رسم الشخصيات والإصرار على أن تكون مكسيكية، وعلى أن يكون مسرح الحدث مكسيكيا أيضا لا يمكن له أن يقلل من فنية القصص التي يقدمها محمد إمبابي، لكنه يطرح تساؤلا جديا حول السبب في ذهابه إلى ذلك.
في قصته "ريتا" يقدم إمبابي قصا شديد العذوبة في لغته القصصية، والتعبير عن المشاعر الإنسانية من حيث ارتباط "سيد أبو الدهب" الشهير بـ"أبو كلبة" بكلبته "ريتا" وإطلاق الناس عليه هذا اللقب؛ بسبب الارتباط الشديد بينهما. نلاحظ في هذه القصة كيف يبني القاص عالمه بحرفية ومهارة سردية بحيث يصوغ العالم كله في حكاية سيد مع كلبته، وكأنما كل ما دون هذا العالم مجرد فراغ لا أهمية له، ولا مكان من الممكن له أن يحتمله؛ فالعالم هو سيد وريتا كلبته فقط، وما حدث لهما من أحداث. يبدأ القاص سرده بشكل يُهيء من خلاله القارئ للعالم الذي يريد السارد إدخاله إليه؛ بحيث يتحول العالم بأكمله إلى هذا العالم القصصي فقط، ومن هنا تأتي براعة إمبابي في صياغة العالم القصصي الذي يُقبل عليه؛ حيث يعمل على أن يكون العالم القصصي هو المحيط الأساس الذي يحيط بالقارئ؛ فلا يفكر في أي شيء خارج هذا المحيط؛ لذلك يفتتح قصته مباشرة من قلب الحدث القصصي الذي سنعرف تفاصيله فيما بعد: "تجشأ "سيد أبو الدهب" الشهير بـ"أبو كلبة" واحدة، وهو يجرع من قرعة البوظة بخمارة صبحي الكائنة بـ"محلة سُبك"، ثم تنهد، وقال لمن بجانبه: مش تاعبني غير بصة عينيها، كانت بتقوللي: كدة أهون عليك! انزلقت من عينيه دمعتان تبعهما بسحب مخاطه المُتدلي، ثم استأنف الشرب في صمت. أصابت الرجل حيرة.. هل تلك من فم سيد أم هي ضرطة؟ كان على وشك القول مطمئنا إنها لا بد ضرطة لسوء الرائحة، لولا أن ما سمعه جليا من صوت مصاحب، كان صوت تجشؤ. سأله بلا مبالاة حقيقية: إلا هو أنت موتها ليه؟"
من خلال هذا المقطع الافتتاحي نستطيع ملاحظة أن القاص يعمل على صياغة عالم سيد وريتا بذكاء من الكلمة الأولى في قصته، بل ويضع المتلقي في قلب هذا العالم مباشرة؛ ومن ثم يجذبه من تلابيبه مستحوذا على اهتمامه الذي لن ينصرف عن القصة إلا مع آخر كلمة منها؛ ليظل القارئ متأملا ما دار فيها من عالم ثري ومشاعر صادقة نجح إمبابي في التعبير عنها. يبدأ القاص بعد هذا المقطع الافتتاحي في الحديث عن سيد أبو الدهب الابن الوحيد لأبوين فقيرين تماما، وكيف أنه لم يجد في حياته أي شيء من الممكن أن يكون جيدا؛ لذلك كان يرى دائما أنه سيء الحظ في كل شيء، حتى أن سوء الحظ قد بلغ به أنه كان ابنا وحيدا لهذين الأبوين الفقيرين اللذين تركا له الكثير من الديون. يعثر سيد في أحد الأيام على كلبة صغيرة في صندوق ويلاحظ أنها نظيفة ومعها طبق من اللبن، يأخذها سيد إلى بيته وقد فرح بها؛ حيث ستكون الونس الوحيد له في حياته. لم يعرف سيد أن كلبته من فصيلة ثمينة "جيرمان شيبرد" لكنه اهتم بها أيما اهتمام، وأطلق عليها اسم "ريتا" بل كان يؤثرها على نفسه في الطعام أيضا؛ لذلك حينما عمل ميكانيكيا في إحدى الورش في قريته كان يأتي لها بيوميته كلها الكثير من الفروج الذي يقوم بطهيه حتى تأكله الكلبة من دون معاناة. يرتبط سيد ارتباطا شديدا بكلبته ويعتبر نفسه أبا لها، ويصطحبها معه أينما ذهب حتى أنها كانت تذهب معه إلى ورشته. لكن بعد انتشار السيارات الأوتوماتيك ركد سوق الميكانيكية في البلدة؛ الأمر الذي اضطر صاحب الورشة إلى إغلاقها تماما: "بعد انتشار سيارات الأوتوماتيك، التي تستلزم صيانتها ماكينات الوكيل المتطورة، ركد سوق الميكانيكية بالبلدة، واقتصر الزبائن على سائقي الأجرة والشاحنات، الذين لا يدفعون شيئا من باب الزمالة والعشم، ومن يدفع منهم فإنه يدفع بالشُكك، أو يعد بالدفع حين ميسرة لا تأتي. ولذلك توقفت حال سيد وورشته، التي يعمل بها، وبمرور نهارات كثيرة متتالية بلا زبون واحد، قرر صاحبها الأسطى عرفة غلقها، بعد أن أصبحت لا تأتي بمصاريفها وأجرة الصنايعية العاملين فيها. ويوم أن صرف الأسطى عرفة تلميذه سيد نادى عليه وقال: واد يا سيد.. الحالة زي ما أنت شايف، وربنا عالم امتى هتُرزق ونتعشى زفر تاني! ثم مال عليه، وأردف ناصحا: أنا من رأيي تبيع الكلبة دي لحد ما ربك يُفكها. إنت يا ابني مش حمل مصاريفها دلوقت، ويا دوبك تعرف تكفّي نفسك أكل. ثم نفحه عشرين جنيها، وقال له: روح يا ابني الله يسهلّنا ويسهلّك".
لا يفكر سيد في الخلاص من كلبته المرتبط بها ارتباطا قويا، وينفق كل ما يمتلكه عليها حتى يبدأ في الاستدانة من الجميع، ويقضي العديد من الأيام من دون طعام هو وكلبته؛ الأمر الذي يجعله يفكر في بيعها بدلا من أن تموت من الجوع معه، ورغم حبه الشديد لها، وارتباطه القوي بها إلا أنه يجد بيعها أفضل من الموت جوعا، وبالفعل يبيعها لأحدهم بخمسمئة جنيه سدد بها ديونه وأكل بعد الامتناع عن الطعام لعدة أيام بسبب عدم وجود المال، ولكن الكلبة كثيرا ما كانت تهرب من صاحبها الجديد وتذهب إلى سيد الذي يعيدها بحزن إلى صاحبها الجديد الذي أحكم وثاقها حتى لا تهرب مرة أخرى، إلا أن الكلبة نجحت في قطع وثاقها والهروب مرة أخرى إلى سيد، لكنها أثناء مرورها على قضبان السكة الحديد يصدمها القطار فيقطع رجليها الخلفيتين وجزء من ذيلها: "أثناء عبورها المتلهف لقضبان السكك الحديدية، وعلى حين غفلة، لحقها "الإسباني" بنفيره المدوي ليلتهم في غمضة عين ساقيها الخلفيتين وقطعة من ذيلها، تاركا إياها مبعثرة على بازلت المزلقان الأسود. في لحظة مهملة لا تزن لأحد شيئا، صارت ريتا نصفا، بنصف روح، بعد أن كانت منذ لحظات مكتملة تنبض بما عهدت عليه نفسها دوما، بالحياة، وبحب سيد كانت ريتا. ظلت تعوي وتنزف في مكانها إلى أن أدركها بعض المارة، فتعرفوا عليها على الفور. حملوها فوق دراجة بخارية لمنزل سيد، الذي صرخ منهارا عندما رأى الدم يسيل من فخذي عزيزته المبتورين. في البداية ظن أن مالكها الجديد هو من فعل ذلك، فأقسم أن يفلقه نصفين، ولكنهم سرعان ما أخبروه بأن الفاعل هو حديد القطار البارد".
يسرع سيد بريتا للطبيب الذي أنقذها من الموت، لكنها باتت عبئا شديدا عليه لا سيما أنه لا يجد المال الذي يعيش منه، كما أن حياتها صارت صعبة بعدما أصبحت غير قادرة على الحركة من دون مساعدته. يجد سيد عملا في إحدى القرى المجاورة لقريته كميكانيكي، كما أن صاحب الورشة وفر سكنا للعمال المغتربين، لكنه فكر في ريتا التي لا يمكن لها أن تتحرك من دونه، ولا يمكن له أن يتركها وحدها فتموت، كما أنه لا يمكن أن يأخذها إلى السكن المشترك حيث أن صاحب العمل لن يقبل بذلك لا سيما أنها كلبة غير قادرة على الحركة وحدها. يفكر سيد في التخلص من ريتا رحمة بها؛ فيسكر حتى لا يرى أمامه ويطعنها ملقيا بها في أحد المصارف: "لن يستطيع أن يتركها ويرحل ليأكله قلبه خوفا وقلقا، سيُريحها ويرتاح. وتمهيدا لما انتواه، شرب سيد زجاجتي براندي مخلوطتين بالسبرتو الأحمر، حتى اهترأ حلقه واحتقن وجهه وغابت عنه ملامح الدنيا، ولم يبق فيه منه مثقال حبة، كان حينها حيوانا صرفا، فتصرف بما يليق. لف ريتا في ملاءة وحملها إلى شاطئ المصرف نازلا لأسفل نحو حافة الماء المنساب بسلاسة، لم تخل من بضع دوامات صغيرة، وهناك لم يعط نفسه فرصة للتفكير. وفي لحظة كتلك، التي سبق أن مرت بها ريتا على قضبان القطار، جاءت أخرى، لينغرس فيها نصل مطواة سيد بجانبها، لتُبلل دماؤها الدافئة الملاءة وقميصه مرة أخيرة. أفلت سيد يديه من حولها، ودموعه من عينيه، قائلا: سامحيني يا ريتا.. سامحيني يا بنتي. ثم تركها ليبتلعها الماء إلى أن غابت، وظهرت على سطح المياه بضع فقاعات حملت زفيرها الأخير. وفي النزع، لم تفعل ريتا أي شيء؛ ظنت بعقلها البسيط أن سيد يفعل ما عليه فعله، ربما كان يساعدها لتصبح قادرة على اللعب معه مرة أخرى".
هكذا ينجح إمبابي في إغلاق قصته بشكل فيه من المشاعر المحتشدة ما يجعل القارئ نفسه يتأثر بها كثيرا، متعاطفا معهما هما الاثنين؛ ليظل القارئ متأملا ما حدث لفترة غير قليلة من الوقت؛ مما يُدلل على تأثير القصة ومدى قدرة القاص على التعبير عما يريد أن يقوله من خلال عالمه الخاص جدا الذي يصوغه خياله.
في قصة "غير صالح للونس" ينجح القاص في سرد القصة على لسان قطة بشكل غير قليل من الإقناع، وبدلا من أن يشكو الإنسان ما يحدث له نجد أن القطة هي التي تشكو حياتها وصعوبتها وما تلاقيه من البشر وغيرهم من الحيوانات لأحد الذين عطفوا عليها، واشترى لها قرصي لانشون؛ فيبدأ القاص قصته بكتابة: "يااااه! إن حجرك دافئ جدا يا أفندي، ثم هذا الدخان، هذا الدخان الطالع من حنكك.. شهي لذيذ، يبعث على الاسترخاء. ما به يا أفندي؟ هل هو الحشيش؟ لا أعلم. ويدك.. يدك حلوة، تداعب رأسي وتدعبس فيه عن القمل والبراغيث، التي نكحته أكلا وشربا حتى شبعت. تطردها أو تقرصها لتنفجر بالدم، الذي جرعته مني غيلة- ولتطفحه سما هاريا- فأنتشي لسماع صوت الـ"فرقعة"، وكأنما بعثك الله لتنتقم لعاجزة مثلي، لم تستطع باللحس والخمش والعض أن تطرد من فرائها تلك الطفيليات القذرة".
يستمر القاص في السرد على لسان القصة التي تشكو حالها للأفندي الذي يحنو عليها، وكيف أن جميع الناس يحاولون تفاديها والابتعاد عنها ظنا منهم أنها قطة جرباء، غير نظيفة ونجسة كما يصفون الكلاب، ثم تسرد عليه صعوبات حياتها في البحث عن الطعام، وكيف أنها تراقب قمامة السادة الذين يتركون الكثير من بقايا الأكل في قمامتهم، ومن ثم تكون بمثابة وجبة شهية لها، قد يقاتلها من أجلها غيرها من القطط، ولكن الصعوبة الأكبر أن الآدميين أيضا قد باتوا يقاتلونها على هذه الوجبات التي تعيش عليها في القمامة. ثم تحكي له كيف أنها كانت تنتظر ذات ليلة خروج الخادم بالقمامة من عند سيده الذي يترك الكثير من بقايا الطعام في قمامته، وبالفعل حينما خرج أسرعت إلى صندوق القمامة لتحصل على وجبتها إلا أنها فوجئت بأحد الفتيان الذي جرى على الصندوق للأكل منه، وحينما رآها ركلها ركلة قوية ثم بدأ يأكل، إلا أنها لم تتحمل إهانتها وضياع وجبتها بهذا الشكل فقفزت عليه وأطلقت أظافرها في وجهه وعضت أنفه؛ الأمر الذي جعله يهرب صارخا. بعدما تحكي القطة بعض معاناتها وحكاياتها للأفندي الذي عطف عليها تخبره أنها غير صالحة للونس؛ لذلك فهي لا يمكن لها أن تذهب معه إلى بيته، وتخبره أنها في انتظاره في أي وقت يشعر فيه بالوحدة لتحكي له المزيد من الحكايات: "لأنك حنيّن أقول لك: والله لو أنني أصلح للونس لقلت لك اصطحبني لبيتك، ولكنني أعلم بأن ذلك ليس ممكنا، فأنا لست من قطط البيوت، ولا مكان لي سوى الشارع رغم ما به من قساوة، وربك كريم وتُرزق وأتعشى كل ليلة الحمد لله. روح يا
أفندي روّح، وأرح جسدك من هذا البرد، وإذا ما صعُبت عليك نفسك، وضاقت بك الحال، ولم تجد لك أحدا، فتعال. تعال كل بضعة أيام لأحكي لك عن شيء جديد لم أحك لك عنه من قبل، فليس بجعبتي أكثر من الحواديت، وليس بجعبتك شيء. فليكُب الملآن منا على الفاضي".
ينجح القاص هنا في التعبير عن مدى البؤس الذي يعيشه الإنسان نفسه وليس القطة التي تحكي الحكاية؛ فهو من يشعر بالوحدة والبؤس، وهو من يحتاج إلى المؤانسة، وليس القطة، ورغم أن القطة تلاقي في حياتها الكثير من البؤس والصعوبات في حياتها، إلا أنها ترى حياتها أفضل من هذ الأفندي الذي تشعر تجاهه بالشفقة في حالة من حالات تبادل الأدوار المثيرة للكثير من السخرية السوداوية.
ينجح القاص محمد إمبابي في مجموعته القصصية "مرور هادئ حول العالم" في صياغة العالم
من حوله بشكل شديد الخصوصية نجح فيه من خلال لغة سردية قصصية تخصه وحده وأقنعتنا بما يقدمه من عالم قصصي، تأملناه كثيرا بعد انتهاء كل قصة من قصصه؛ حيث يترك عالمه بأثره داخلنا لنظل نجتره كثيرا؛ نظرا لبراعته فيما يقدمه سواء على مستوى الخيال، أو مستوى اللغة التي يتميز بها، أو حتى على مستوى آليات القص التي يتقنها بشكل مُحكم؛ ليدلل لنا أنه من كتاب القصة الجدد الذين يستطيعون تقديم الكثير فيها، والعمل على تطوير آلياتها.
مجلة عالم الكتاب.
عدد يونيو/ يوليو 2020م.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق