هل من الممكن صياغة العالم من خلال خيال طفولي يحمل في طياته الكثير من البساطة والسذاجة والخيال الثري؛ ومن ثم يقتنع القارئ بمثل هذا العالم وكأنما ثمة طفلة هي من صاغته وقدمته إليه؟
يظل مثل هذا التساؤل يدور في ذهن كل من يقرأ المجموعة القصصية "النجوم لا تسرد الحكايات" للقاصة الأردنية بسمة النسور التي أكدت من خلال المجموعة مقدرتها على السرد القصصي مستعيرة عيني طفلة مندهشة وبسيطة تلبستها حالتها منذ القصة الأولى لمجموعتها القصصية حتى نهايتها. إن محاولة بسمة النسور تقمص دور الطفلة والحديث بخيالها لا يعني أن جميع قصص المجموعة يتم سردها على لسان طفلة صغيرة فقط، بل سنرى من خلال قصص المجموعة بعض القصص الأخرى التي تتم صياغتها على لسان امرأة راشدة، لكنها تحمل داخلها أيضا روح طفولية تسكنها؛ وبالتالي نلاحظ أن المرأة الراشدة الساردة تتصرف بطفولية، أيضا، لا تختلف فيها عن أي طفلة لم تزل بعد صغيرة.
نلاحظ هذه الطفولية التي تلبست شخصيات المجموعة في قصتها الأولى، مثلا، "آلام كثيرة"، ورغم أن القاصة تستخدم الضمير الثالث في السرد- ضمير الغائب- للحديث عن امرأتين تلاقتا بعد زمن طويل من القطيعة رغم صداقتهما القديمة، إلا أن ردود فعل الشخصية الرئيسية في القصة لا يمكن لها أن تختلف عن رد فعل أي طفلة ستكون في نفس هذا الموقف، وهو السعادة والشعور بالتفوق والانتقام من أجل خلاف قديم كانت قد نسيته، وكأنها إحدى الطفلات التي اختلفت مع صديقتها على لعبة ما، وحينما ضاعت اللعبة من الثانية شعرت الأولى بالسعادة الجمة، وكأنما قد نبت لها جناحين بسبب هذا الفقد لهذه اللعبة السالفة الذكر.
تحاول القاصة منذ بداية قصتها صياغة عالمها بشكل مُباشر يعمل على إدخال القارئ إلى قلب هذا العالم من أقصر الطرق بقولها: "كان لقاء المرأتين مصادفة محضة، لم تملك أي منهما تفاديها. رغم أن كلتاهما حاولتا تصنع عدم الانتباه لوجود الأخرى، غير أن قاعة الانتظار في مكتب المحامي كانت ضيقة نسبيا، كما أنجز بقية الحاضرين معاملاتهم وغادروا على التوالي؛ مما أبقاهما وحيدتين بصحبة السكرتيرة التي اعتذرت عن التأخير؛ بسبب انشغال المحامي في مكالمة خارجية مهمة"، ناهيك عن الخطأ الوارد في الاقتباس السابق الذي جعل اسم "أن" مرفوعا في "كلتاهما" بدلا من نصبه "كلتيهما"؛ حيث يُنصب المثنى ويجر بالياء، فإن القاصة وضعت القارئ بشكل مُباشر في عالمها الذي بدأت في صياغته منذ السطر السردي الأول؛ فنحن هنا أمام امرأتين لا نعرف عنهما شيئا، لكنهما في مواجهة ما، وهي نوع من المواجهة التي تحرص كل منهما على تفاديها؛ لشعور كل من المرأتين بالحرج منها؛ لذلك هيئت الساردة العالم الذي لا بد أن تلتقيا فيه وصاغته في شكل مكتب محامي، ولعل اختيار المكان لكي يكون مكتب أحد المحامين كان من الأهمية والضرورة السردية التي سنعرفها فيما بعد مع استكمال الحدث والوصول إلى نهاية القص؛ فالمرأتين كانتا صديقتين قديمتين، لكنهما افترقتا وحدثت بينهما قطيعة طويلة؛ لأن الثانية وقعت في غرام حبيب الأولى الذي مال إليها ثم تزوجا؛ الأمر الذي جعلها تشعر بالخديعة من صديقتها وحبيبها، ورغم أن المرأة الأولى قد تزوجت فيما بعد- وهو ما سنعرفه مع استمرار السرد- إلا أنها بمجرد رؤيتها لصديقتها القديمة عادت إليها غصتها، وكأن الجرح المُندمل قد عاد طازجا قد حدث في لحظتها الآنية؛ لذلك تحاول الهروب من الموقف، لكن صديقتها الثانية تبادرها بالحديث، وتؤكد لها أن الأمر قد مرّ عليه الكثير من الزمن، وأنهما قد شارفتا الخمسين، وحينما تدخل الأولى إلى غرفة المحامي نعرف أنها قد ذهبت إليه لإنهاء إجراءات الطلاق من زوجها، إلا أن المفارقة الحقيقية التي نعرفها أنها حينما تهم بمغادرة المكتب تخبرها صديقتها الأخرى أن زوجها قد مات منذ عامين، وأنها هنا من أجل الخلاف على تركته.
ربما نلاحظ من خلال هذه القصة أن الساردة تهتم بالتفاصيل السيكولوجية لشخصياتها في: "تظاهرت بالانهماك في تصفح مجلة قديمة. أحست أن المرأة الأخرى تحدق فيها، تمتمت قائلة بغيظ: ما زالت وقحة كالسابق. رفعت بصرها محاولة مواجهتها بنظرة تحمل شيئا من التحدي. غير أنها باغتتها بابتسامة تشي بمودة كبيرة، هتفت: كيف حالك؟ مضى زمن طويل، أصبحنا عجوزتين، أليس كذلك؟!"، في هذا الاقتباس يتأكد لنا اهتمام الساردة بردود الفعل النفسية لشخصياتها؛ فرغم أن المرأة الأخرى لا تمتلك تجاه الأولى أي ضغينة، إلا أننا نلاحظ أن الأولى تمتلك من الأحكام الجاهزة ما جعلها تظن أن صديقتها القديمة "ما زالت وقحة كالسابق"، رغم أنها لا تحمل أي شكل من أشكال الوقاحة بقدر ما تحمل مقدارا كبيرا من الرغبة في التودد ومد أواصر الصداقة المقطوعة، وهو ما يُدلل على اهتمام القاصة بالتفاصيل الصغيرة لشخصياتها، وطريقة تفكيرها. هذه التفاصيل نلمحها في: "كانت صديقتها الأقرب قبل أن تسلبها الرجل الذي أحبته أكثر من أي شيء. مضى وقت طويل قبل أن تفهم سر التلعثم والارتباك الذي بدا واضحا عليهما في كل لقاء. حين واجهتهما بما يدور في رأسها، تبادلا نظرة متواطئة وأطرقا صامتين. قررت أن لا تكرههما. كانت واثقة بأنهما لم يتعمدا استغفالها، وأن ما حدث كان رغما عنهما. غير أنها رفضت الاستماع إلى أي تبرير. اكتفت بالقول: كان بإمكانكما تجنيبي آلاما كثيرة"، أي أن المرأة رغم يقينها "بأنهما لم يتعمدا استغفالها" في علاقتهما مع بعضهما البعض، إلا أنها اتخذت موقفا عدائيا منهما، وكأنما قد سلبتها هذه الصديقة لعبتها المفضلة.
ربما يقول البعض: هذا لون من ألوان رد الفعل الإنساني الطبيعي ستتخذه أي امرأة في مثل هذا الموقف، لكننا حينما نقرأ نهاية قصتها لا بد أن تتغير هذه النظرة تماما، ويتأكد لنا أنها لم تكن تفكر سوى بعقلية طفلة صغيرة فقط: "غادرت المكتب. رمقت صديقتها القديمة بنظرة مستطلعة. بدت الأخيرة حزينة ومنكسرة، لوحت لها مودعة. مشت عدة خطوات باتجاه الباب. التفتت ثانية حين هتفت باسمها. تقدمت نحوها بخطى مترددة. قالت بلهجة متلعثمة: لقد مات منذ شهرين. أُصيب بنوبة قلبية. أنت تذكرين كم كان مدخنا شرها. أنجبت ولدين، ثمة مشاكل بشأن التركة. ظلت ساهمة، سقطت حقيبة يدها، تناولتها وقد انتابها ارتباك شديد. لم تعرف ما الذي ينبغي عليها قوله، ترددت للحظة قبل أن تهمس بخجل: أنا آسفة. اقتربت منها، احتضنتها بمودة قائلة: لا تحزني، اعتن بنفسك، سوف تتجاوزين الأمر. يؤسفني أننا لم نعد صديقتين هل تسامحيني؟ أنت قلت مضى زمن طويل. ربتت على كتفها بحنان. خرجت من المكتب. ضغطت على زر المصعد. تأملت نفسها بالمرآة بأسى. تذكرت تأكيدات المحامي حول خلاصها الوشيك. طغى على روحها إحساس مفاجئ بالخفة. حطت ابتسامة كبيرة فوق وجهها، أخذت تدندن بأغنية خفيفة في طريقها إلى السيارة. حين أرادت أن تدير المحرك اكتشفت أن ثمة أجنحة هائلة قد احتلت مكان ذراعيها السابقتين".
من خلال هذا الاقتباس يتأكد لنا أن المرأة لم تكن تتعامل من خلال رد فعل إنساني طبيعي، بل من خلال رد فعل طفلة فقدت لعبتها المفضلة في يوم ما على يد صديقتها، وحينما اطمأنت إلى أن هذه الصديقة قد فقدت هذه اللعبة ولم تعد أي منهما تمتلكها؛ فقد عادت إلى طبيعتها مع صديقتها القديمة، بل وشعرت بالراحة الكبيرة لدرجة شعورها بأنها قد نبت لها جناحين تطير بهما، بل وبدأت تدندن بأغنية خفيفة رغم أن الظرف لا يسمح بذلك؛ فهي من جهة تسعى في إجراءات طلاقها، ومن جهة أخرى قد علمت للتو بأن حبيبها القديم قد مات.
في قصة "المقصورة" تتشكل أمامنا هذه الرغبات الطفولية الموغلة داخل الشخصيات النسائية لقصص المجموعة، وهي الرغبات التي تتصرف من خلالها الشخصيات وتتكون ردود أفعالها بناء عليها. نرى ذلك من خلال صديقتين تذهبان إلى دار عرض سينمائي لرؤية أحد الأفلام، وترغبان في الجلوس في المقصورة المُخصصة لكبار الشخصيات رغم أن تذكرتيهما لا تسمحان لهما بذلك، لكنهما تخيلتا الكثير من العوالم غير الحقيقية لتعيشا فيها، كأن تتخيل إحداهما أنها أناييس نن، بينما تخيلت الأخرى بأنها صاحبة منصب رفيع في إحدى المنظمات الدولية التابعة للأمم المتحدة، ولكن رغم جلوسهما في المقصورة، التي كانت خالية، إلا أن الموظف المسؤول يرفض تواجدهما فيها طالبا منهما بأدب الالتزام بمقاعدهما؛ لأن وجودهما في المقصورة قد يؤدي إلى فصله من عمله. ترضخ المرأتان للموظف وقد تميزت إحداهما غيظا، إلا أنه بمجرد انتهاء الفيلم ترى إحداهما الموظف يجلس باسترخاء في المقصورة وحده بعدما منعهما من تحقيق خيالهما؛ الأمر الذي يجعل إحدى الصديقات تشعر بالقهر؛ لأنه منعها من تحقيق خيالها الجميل الذي تريد الحياة فيه لمجرد أن يسترخي في مقاعد المقصورة الوثيرة!
"اشتعلت الأنوار، نظرت إلى صديقتي. كانت منهمكة في تجفيف دموع اعتدت رؤيتها في نهاية كل فيلم حزين. تطلعت حيث المقصورة. كان الموظف نفسه جالسا هناك باسترخاء. أومأت لها بأن تنظر باتجاه المقصورة قبل أن ينهض الموظف من هناك محاولا إخفاء ارتباكه. مشينا باتجاه السيارة. اقترحت عليها أن نتناول عشاء خفيفا في أحد المطاعم القريبة. قالت بأسى: لست جائعة، فقط أود أن أصرخ؛ ذلك الوغد كسرني، المقصورة في متناول مؤخرته كل الأيام، كان ينبغي ألا نستجيب له، لكنك جبانة، رضيت بهزيمة مُبكرة. كنت أتوق لحظة تمييز صغيرة! حين أدرت محرك السيارة قلت لها: آنا كارنينا دفعت حياتها ثمنا للحظة تمييز، نحن لم نخسر شيئا، ابتهجي". إن رد فعل إحداهما بسبب حرمانها من الجلوس في المقصورة والحياة داخل خيالها الذي تخيلته باعتبارها أناييس نن، هو رد فعل شديد الطفولية في حد ذاته لا يمكن أن يشعر به الإنسان الراشد؛ فهي تريد أن تصرخ لمجرد حرمانها من الحياة داخل الخيال، وترى أن الموظف الذي جلس مكانها قد هزمها هزيمة كبيرة في حياتها رغم أن الأمر لا يمكن أن يتم تفسيره أو تلقيه بمثل هذا المعنى في الواقع، لكنها تتصرف كطفلة منعها أحدهم من اللعب بلعبتها، أو منعها من تخيل نفسها تعيش في عالم من الخيال، ولعل القاصة تؤكد على ذلك في ختام قصتها حينما تكتب على لسان المرأة التي تخيلت نفسها أناييس نن قائلة لصديقتها: "كل ليلة أغمض عيني وأحلم بأنني امرأة أخرى. أعيش في زمان آخر، ومكان آخر مع أناس آخرين، وأصحو في اليوم التالي لأكتشف أن ذلك غير ممكن. ألا يحدث لك ذلك أحيانا؟ كانت قد أطبقت باب السيارة قبل أن تسمعني أجيب: هذا بالضبط ما يحدث لي دائما". إن الكاتبة هنا تريد التأكيد على الخيالات والرغبات الطفولية التي تصوغ من خلالها شخصياتها عالميهما، كما أنها من جهة أخرى تمتلك من المقدرة السردية وتفهم سيكولوجية المرأة- وهي السيكولوجية الأكثر قربا من عالم الطفولة خلافا لسيكولوجية الرجل- ما يجعلها تصف هذه السيكولوجية وهذا العالم النسائي المختلف تماما عن العالم الذي من الممكن للرجل أن يتخيله بشكل سلس، وهو العالم الأقرب إلى الأطفال؛ فهي هنا لا تحاول التركيز على هذه التخيلات الأنثوية باعتبارها محاولة للهروب من العالم الذكوري المُسيطر والمُتحكم في عالم المرأة كما تفعل غيرها من الكاتبات اللائي يجأرن دائما ويشكين من ظلمهن والتحكم فيهن؛ فبسمة النسور بعيدة تماما عن هذه الشكوى التي تُفسد السرد القصصي وتسلبه ثرائه في نهاية الأمر، بل هي تتأمل في عالم المرأة وتنقله للقارئ بشكل فيه من السلاسة والتلقائية ما يجعل قصصها تحمل بصمة خاصة فيها الكثير من الروح الطفولية المرحة البسيطة، لكننا نلاحظ أن القاصة رغم امتلاكها لجملها البرقية السريعة التي تتناسب إلى حد بعيد مع أسلوبية القصة القصيرة وروحها التي تحتاج إلى السرعة اللاهثة، إلا أنها بدأت قصتها بجملة شديدة الطول لا يمكن لها أن تتناسب مع عالم القصة القصيرة في: "لم يكن في صالة السينما عندما وصلنا سوى عدد قليل من المتفرجين الذين توزعوا بشكل متباعد في الصالة الفسيحة التي بدت خالية تقريبا ولم يظهر أن إدارة السينما تتأهب لاستقبال شخصيات مهمة". إن طول الجملة هنا يشعرنا بأن أنفاسنا تنسحب معها لحين الانتهاء منها، وهذا الطول لا يتناسب مع السرد القصصي، وكان من الأولى بالكاتبة أن تعمل على تقطيع جملتها إلى مجموعة من الجمل القصار؛ لتكون أكثر مناسبة مع عالمها القصصي.
في قصة "النجوم لا تسرد الحكايات" تواجه النسور الحياة بالخيال الكامل، وتؤكد من خلال قصتها أن الخيال الطفولي من الأهمية التي تجعل العالم أكثر بساطة وتقبلا مما لو عشنا فيه من خلال واقع الراشدين. تتناول القصة موت جدة إحدى الطفلات وتساؤلها عن جدتها؛ فتخبرها أمها أنها قد تحولت إلى نجمة في السماء من أجل أن ترعاها وتعتني بها، وأنها تستطيع أن تحادثها كما كانت تحادثها من قبل وتحكي لها حكاياتها، لكن الجدة لن تستطيع أن ترد عليها:"وجدت المرأة- التي كانت بلا يقين- نفسها في مأزق حقيقي وهي تحاول تفسير رحيل الجدة المُباغت للصغيرة التي ظلت تتساءل: ولكن أين هي الآن؟ وهكذا ابتدعت حكاية أول نجمة تظهر في السماء. أكدت لها أن الجدة لم تبتعد تماما، بل تحولت إلى تلك النجمة؛ كي تظل قريبة منها وتحرسها في الليل. طمأنتها أن بمقدورها التحدث معها تماما كما اعتادت أن تفعل في السابق، وأضافت أن الفرق الوحيد هو أن الجدة لن تتمكن من سرد حكايتها المسائية؛ لأن النجوم لا تسرد الحكايات، لكنها لن تكف عن الاستماع"؛ فتصدق الطفلة الأمر وتعيش في عالم الخيال مع الجدة التي تحولت إلى نجمة، ورغم بساطة فكرة القصة وموضوعها إلا أنها تحمل من الأسلوبية والحبكة التي صاغتها بها القاصة ما يجعلها من القصص المُهمة في المجموعة. هنا تنسج القاصة سردها ببراعة توضح من خلالها خيال طفولي ساذج مرح: "تسللت الصغيرة إلى حجرتها. خلعت ثياب المدرسة. ارتدت قميص النوم القطني. تقدمت نحو النافذة. أزاحت الستارة. حدقت في السماء. خُيل لها أن ثمة نجمة تتقدم باتجاه النافذة. صفقت ببهجة، قالت بلوم: لماذا لم تخبريني أنك سوف تذهبين إلى السماء؟ كنت سأذكرك أن تأخذي نظارتك. الآن لن تتمكني من رؤيتي جيدا. لو بقيت في المنزل لكان أفضل. ماذا ستفعلين حين تمطر؟ ألن تشعري بالبرد؟! هل حقا تعبت من حياتك على الأرض؟ يبدو أنك تحبين أم محمود أكثر مني، من أجل ذلك لحقت بها، ربما غضبت لأنني أحب "توم وجيري" أكثر من حكاياتك، لكنك تحبينه أيضا. كنت تضحكين كثيرا حين نشاهده معا. قلت لي: هذا الفأر خفيف الظل، والقط الشرير يستحق ما يحدث له، هل نسيت؟!".
نلاحظ هنا أن بسمة النسور قادرة على تقمص شخصية الطفلة وروحها، والحديث بلسانها الذي يتوجه بالحديث إلى الجدة؛ مما يجعل الكاتبة هي الطفلة ذاتها في رؤيتها للعالم وإعادة تشكيله بناء على المعطيات الجديدة التي صدقتها الطفلة بعدما حدثتها أمها وقالت لها هذه الحكاية، لكن القاصة كانت من الذكاء ما جعلها لا تستغرق في هذا العالم الخيالي للطفلة، وتؤكد لنا في نهاية الأمر أن عالم الصغار الخيالي أكثر رحابة واطمئنانا ومقدرة على مواجهة الواقع من الكبار الذين يتعاملون مع الواقع بمعطياته القاسية؛ لذلك تكتب: "تمددت على السرير. فكرت بالرحلة الموعودة في نهاية الأسبوع. ارتسمت ابتسامة رضى على وجهها، وسرعان ما غلبها النعاس. أطلت المرأة وقد هدها الإنهاك والحزن. طبعت قبلة على جبينها. نزعت نظارة الجدة من يد الصغيرة. أحكمت وضع الغطاء على الجسد المطمئن. طوت الثياب المُلقاة على الأرض. وضعت حقيبة المدرسة على الكرسي المجاور للسرير. تنبهت إلى النافذة المفتوحة. أوشكت أن تغلقها. اتكأت على حافتها. حانت منها التفاتة إلى الخارج. أُصيبت بالدهشة حين رأت خلف النوافذ المحيطة الكثير من الأولاد يتطلعون إلى السماء بتوق كبير، ويثرثرون بلا انقطاع"، أي أن الكاتبة تؤكد في ختام قصتها أن الخيال الذي يعيش عليه الأطفال كان أفضل لهم في تقبل الواقع القاسي مما لو كانوا قد تعاملوا مع معطيات هذا الواقع نفسه، كما نجحت سرديا في تقمص حالة الأطفال والحديث بلسان حالهم مع الأمر.
هذا التقمص الكامل، والحديث بلسان الأطفال وخيالهم، والاستغراق في عوالمهم الطفولية البسيطة الساذجة نراه بشكل أكثر وضوحا في قصتها "بيت بيوت" التي تسردها القاصة على لسان طفلة مستخدمة الضمير الأول/ المتكلم في السرد؛ حيث تحكي إحدى الطفلات عن صديقتها إيمان التي تريد أن تبوح بسرها الذي ائتمنتها عليه لأبويها لمجرد أنها لم تلعب معها لعبتهما المفضلة "بيت بيوت" في الليلة الماضية ولعبتها مع جارتها سمر، ورغم أن الطفلة/ الراوية تحاول التأكيد لإيمان أن سمر جاءت إلى بيتها مع أمها وفرضت نفسها عليها ولعبت معها بلعبتها إلا أن إيمان تُصرّ على مقاطعتها، وحينما تذهب إلى بيت الراوية مع أمها تخبر أبويها أن الراوية تحب عبد الحليم حافظ وأن قلبها يخفق حينما تراه على الشاشة، وأنها أخبرتها بأنها ستتزوجه حينما تكبر. تثور الفتاة حينما تفضح صديقتها سرها أمام والديها؛ فتجذبها من شعرها وهي تصرخ باكية، وتبدأ إيمان في الدفاع عن نفسها وتعضها بقوة في يدها بينما تثور عاصفة من الضحك بين الآباء. تقاطع كل من الصغيرتين للأخرى، وتنتحي الفتاة الصغيرة/ الراوية في حجرتها باكية لتدخل لها إيمان وتطلب منها أن تلعب معها "بيت بيوت" للمرة الأخيرة في حياتهما، وبالفعل تبدآن في اللعب وتتناسيا ما حدث من إفشاء السر والرغبة في القطيعة أثناء لعبهما.
إن بساطة العالم الطفولي- الذي تتحدث عنه وتصفه الكاتبة- وسذاجته كان من السلاسة والانسياب ما جعل هذه القصة من أفضل قصص المجموعة في التعبير عن الخيال الطفولي: "اندفعت نحو حجرتي. أطبقت الباب خلفي. ألقيت بجسدي على السرير وواصلت انتحابي. أطلّت بعد قليل وقد اكتسح الندم ملامحها المضطربة. جلست عند طرف السرير دون أن تنبس. قلت بلهجة حازمة: عليك أن تعيدي الدمية التي أهديتك إياها في عيد ميلادك. أطرقت مفكرة. تأففت بضيق، ثم ردت: إن أمك من ابتاعها ولست أنت. قلت: أنا من قدمتها لك، وأريد استعادتها؛ لأنك لم تعودي صديقتي. أجابت باستسلام: حسنا، سأعيدها لك في الغد. ساد صمت عميق. ثَبتُّ ذراعي خلف رأسي، وظللت أحدق في السقف محاولة تجاهل وجودها. اقتربت بخطوات متثاقلة، قالت بحذر: لنلعب "بيت بيوت" للمرة الأخيرة. ترددت قليلا، ثم تناولت منديلين ومسحنا دموعنا. أجبت بلهجة متواطئة: حسنا، ولكنها سوف تكون الأخيرة. قفزنا عن السرير مبتهجتين. صففنا الدمى باعتناء. انهمكنا في اللعب ثانية. وظلت ضحكات الكبار تقتحم علينا الحجرة دون أن ندرك تماما ما المضحك في الأمر".
القاصة الأردنية بسمة النسور |
إن عالم الطفولة الخاص الذي تستغرق فيه القاصة وتعمل على وصفه بكل ما ينتابه من بساطة وسذاجة يكاد أن يُشعر القارئ بالتوحد فيه، بل وينتابه إحساس من المرح مُشاركا للطفلتين في عالميهما البسيط الذي نجحت الكاتبة في التعبير عنه بشكل بسيط، وإن كان فيه من الإحكام السردي ما يجعلها تدرك جيدا كيف تصوغ عالمها الذي دخلته.
هذا العالم البسيط نلمحه بشكل أكثر اتقانا في قصتها "هبوط اضطراري"؛ حيث تؤكد القاصة من خلال قصتها مدى إدراكها لما تفعله بالانغماس في هذا العالم وكيفية صياغته بشكل مُحكم فيه من الإقناع ما يجعل قصصها ذات عالم فريد يخصها وحدها بقدرتها السردية التي تغوص بها داخل عوالم الأطفال وخيالاتهم بشكل مُحكم؛ حيث تتحدث من خلال الضمير الأول على لسان طفلة تشاهد زوجة عمها الإنجليزية التي تُصرّ على دفن قطتها حينما تموت، وهو الأمر الذي يجعل أفراد الأسرة يندهشون من رغبتها ويسخرون منها فيما بينهم، وتذكر أن زوجة العم التي تحبها وتعتني بها دائما قد فضلت الرحيل إلى بلدها حينما أراد العم الزواج من أخرى ووعدتها أنهما سيلتقيان مرة أخرى: "عندما ذهبت بصحبة عمي لتوصيلها إلى المطار تشبثت بطرف ثوبها المنقط دون أن أتفوه بكلمة. شدتني إلى صدرها بقوة هامسة: سوف نلتقي يوما ما، أعدك. لم أصدقها؛ لأنها وعدتني وهي تحزم حقائبها أن تصحبني. وشوشتني قائلة: سوف أضعك في الحقيبة، ولن ينتبه أحد لاختفائك. ونعيش في بيت جميل مُحاط بحديقة صغيرة. سأنصب لك أرجوحة ونمتطيها سويا حتى يصيبنا الدوار". تعتمد القاصة على ما قالته زوجة العم للطفلة ليكون محور قصتها؛ حيث تبدأ الفتاة المُفتقدة لزوجة العم في تخيل أنها قد ذهبت معها بالفعل داخل حقيبة سفرها، وأنها قد طارت معها في الطائرة؛ ليبدأ عالمها في التشكل تبعا لخيالها الذي انبنى على ما أسرت به زوجة العم. هنا تحلم الفتاة بأنها في الطائرة تنظر إلى بيتها الصغير وجدتها، وصديقاتها، وتبدأ في سرد حكاياتها اليومية مع الصديقات والجدة والأب والأم؛ لتقوم القاصة بتقطيع السرد بأسلوب مونتاجي سينمائي ما بين حكاياتها مع صديقاتها وأشقائها، وما بين وجودها على متن الطائرة إلى أن تضطر في نهاية الأمر إلى الهبوط الاضطراري من الطائرة وتعود إلى عالمها الواقعي حينما تهددها أمها إذا لم تهبط من الطائرة التي لا وجود لها سوى في خيالها: "انهمكت أمي في نشر الثياب على الحبال المنصوبة في ساحة البيت الخلفية وهي تلعن حظها العاثر، ناديتها ثانية، رفعت رأسها نحوي وهتفت بحدة: متى ستكفين عن التصرف ببلاهة؟ اهبطي على الفور. قلت لكاتيا: أريد أن أعود إلى أمي. قبلتني باستسلام، ثم فتحت النافذة. دفعتني برفق إلى الأسفل. رفعت بصري نحوها. كانت عيناها تذرفان الدموع. لوحت لي قائلة: تذكريني دائما. غابت الطائرة. تلاشى هديرها تماما. أخذت أحلق في الهواء وقد فردت ذراعيّ على اتساعهما. خشيت من السقوط في طشت الغسيل. غير أنني صحوت وكانت جدتي تحتضنني وهي تردد: اسم الله عليك".
نلاحظ هنا أن القاصة لم تُسرّ إلينا بحقيقة الأمر، وأن العالم الذي ذهبنا إليه مجرد عالم يدور في أحلام الفتاة إلا في نهاية قصتها حينما تصحو من نومها بينما جدتها تجلس إلى جوارها، وهو أسلوب تتبعه القاصة في معظم قصصها تقريبا؛ حيث نلاحظ أننا نكتشف حقيقة العالم في نهاية القصة فقط، وهو أسلوب تبرع الكاتبة في استخدامه.
في قصة "منذ ذلك الحين" تنجح القاصة في التعبير عن عالم المرأة من خلال امرأة ذات سيكولوجية مرحة تحرص دائما على تدبير العديد من المقالب لكل من يحيطونها من أجل الضحك معهم من خلال ردود أفعالهم؛ فتارة تتصل بشقيقها وتعمل على تغيير صوتها وتوهمه بأنها فتاة تحبه ومُغرمة به، وبالفعل يصدقها أخوها إلى أن يكتشف أنها هي من تفعل به ذلك؛ فيقسم أن يقتلها إن لم تكف عن شقاوتها، ثم تنتقل المرأة للحديث عن زواجها وعلاقتها المثالية مع زوجها، إلى أن تفكر ذات مرة في تدبير أحد مقالبها مع زوجها؛ فتطلب من زميلها في العمل أن يتقمص دور أحد جيرانهم في نفس البناية، وأن يتصل بزوجها ويتهمه بأنه يستقبل النساء في شقته: "خطر لي تدبير مقلب مُحكم لزوجي، وهكذا رجوت أحد زملائي الذي يتقن التقليد مُهاتفة زوجي. لقنته بالضبط ماذا يقول. أدرت قرص الهاتف. ضغطت على الزر الأرجواني الذي يتيح للجميع سماع صوت من على الخط الآخر. حاولنا جاهدين كتم ضحكنا ونحن نستمع إليه يخاطب زوجي بلهجة حانقة قائلا: السيد..؟ أنا جارك، أقطن في الطابق الأرضي. أود أن أحذرك من تصرفاتك الرعناء. إن الجيران يتذمرون من سلوكك غير الأخلاقي. وقد قررنا إبلاغ مالك البناء. هذا الأمر مُخجل لا يمكن السكوت عنه. لا يجوز أن تستقبل امرأة أخرى أثناء غياب زوجتك. نحن عائلات محترمة ولن نرضى عن هذه التجاوزات المخزية. جاء صوت زوجي متلعثما. ملأت نحنحته فضاء المكتب. أدركت مدى ارتباكه قبل أن يجيب قائلا: من أنت لتخاطبني بهذه اللهجة؟ لا يحق لك اتهام الناس هكذا. أنت مُخطئ أيها السيد وعليك الاعتذار على الفور، إن المرأة التي تتحدث عنها بهذا الشكل المُبتذل هي شقيقتي الصغرى، إنها تأتي لتساعدنا في الاعتناء بالمنزل؛ لأن زوجتي موظفة كما تعلم ما دمت تراقبني. أقفل السماعة مُحتدا. قال زميلي ضاحكا: ما ذنبي كي أتعرض للتوبيخ بسبب نزواتك الطائشة؟ لن أستجيب لك ثانية مهما حصل. رددت بلهجة معتذرة: أظن أنه احتد لأن المُزحة طالت شقيقته. أنت تعرف حساسية هذا الأمر. أعترف أنني قسوت كثيرا هذه المرة. ليس من اللائق أن أجعل من مساعدتها لنا موضوعا للدعابة. سوف يقتلني عندما يكتشف تورطي في المؤامرة. حاولت جاهدة مُشاركة الزملاء الذين ظلوا يضحكون طوال الوقت؛ لأنهم كانوا يجهلون أن شقيقة زوجي الوحيدة سافرت بصحبة زوجها إلى استراليا قبل عامين، ولم تعد منذ ذلك الحين".
إن القصة هنا لا يمكن لها أن تكتسب قيمتها وحبكتها إلا من خلال النهاية التي أنهتها بها الكاتبة؛ فلولا هذه الجملة الأخيرة لما كان للقصة أي ثيمة سوى مجرد سرد جيد فقط من دون هدف، لكن الجملة الأخيرة هي التي أكسبتها مشروعيتها وذكائها وإتقانها؛ وبالتالي لا بد أن يعود القارئ مرة أخرى إلى بدايتها ليُعيد قراءتها بمجرد الانتهاء منها؛ ليستعيد العالم القصصي مرة أخرى بناء على معرفته ومعطيات الكاتبة التي أوضحتها في السطر السردي الأخير.
تمتلك القاصة بسمة النسور المقدرة على استعارة التقنيات السينمائية واستخدامها بذكاء داخل سردها القصصي بما يخدم هذا السرد في مشهدية بصرية تجعل القصة أكثر قربا وتجسدا للقارئ الذي يقرأها. نرى ذلك، على سبيل المثال، في قصتها "كي يكتمل المشهد"، وهي القصة التي تتحدث فيها القاصة عن أحد الأشخاص الذي يخرج من السجن بعد عدة سنوات، ولا يوجد أي أحد في انتظاره، وحينما يستقل سيارة تاكسي ينظر إليه سائقها بارتياب ويسأله من أين يأتي يقول: "كنت في زيارة أحد الأصدقاء، المسكين كان تاجرا محترما تورط في قضايا شيكات حتى أشهر إفلاسه، وهو الآن نزيل السجن، كل ذلك نتيجة ثقته المُفرطة في الآخرين. طالما نصحته أن يكون أكثر حذرا غير أنه لم يستمع. تخيل أن زوجته طلبت الطلاق؟ أليس ذلك منتهى الجحود؟"، هنا تعمل القاصة على صياغة عالم هذه الشخصية بهدوء وتؤدة من دون أن تفضي للقارئ بالعالم دفعه واحدة، بل تبثه المعلومات جرعة بعد أخرى بسلاسة وهدوء. لذلك يهبط الرجل إلى وسط المدينة محاولا استعادة ذكرياته القديمة حينما كان حرا طليقا منذ سنوات؛ فيذهب إلى مطعمه المُفضل الذي كان يلتقي بزوجته السابقة فيه، ويستعد ذكرياته معها، ويسأل عن صاحب المطعم الذي كان يعرفه؛ فيخبره النادل أنه قد مات. يتناول طعامه ثم يغادر المطعم للمشي وحده في وسط المدينة متأملا ما حوله، لكنه يشعر بالوحشة الشديدة، وعدم قدرته على التكيف مع ما يراه، وتنتابه رغبة شديدة في العودة إلى السجن مرة أخرى، أو أن يكون للمدينة نافذة وباب؛ حتى يكتمل المشهد الذي يراه، وتصبح المدينة كالسجن الذي كان فيه، ويرغب في العودة إليه مرة أخرى: "ظل يتأمل المشاهد المتلاحقة، أحس بالوحشة. تمنى لو يعود إلى زنزانته. طرد الفكرة مؤكدا لنفسه أن كل ما يحتاجه هو فترة بسيطة للتأقلم. غير أنه كان على يقين بأن كل ما تحتاجه المدينة هو بوابة كبيرة ونوافذ عالية، وحراس متأهبون حتى يكتمل المشهد"، أي أن الكاتبة كانت بارعة في سبر أغوار سيكولوجية الشخصية التي تتحدث عنها، وبالتالي قدمت من خلال سردها العديد من المعطيات التي جعلته في النهاية يرغب في العودة إلى السجن مرة أخرى، لا سيما أنه قد اعتاد وجوده فيه؛ ومن ثم باتت الحرية بالنسبة له تشعره بالوحشة؛ لأنه غير قادر على التكيف معها.
نلمح من خلال هذه القصة المشهدية البصرية التي حرصت عليها الكاتبة باستخدام تقنية الفوتومونتاج في: "وضع بعض "الفكة" في الصحن الفارغ. ثبت حقيبته الصغيرة فوق كتفه وغادر. لم يشعر بالتعب. لم يرغب في أن يستقل تاكسي. ابتعد عن الضجيج. وصل إلى تلة مطلة على المدينة. لمح امرأة تركض مذعورة نحو جهة غامضة. لمح رجلين متأنقين يسيران بخطى بطيئة وقد انهمكا في حوار هامس. علا صوت شرطي السير عبر مكبر الصوت يحث السائقين على إفساح الطريق. دبت فوضى مفاجئة حين داهمت السلطات المُختصة الباعة المتجولين للتأكد من التراخيص اللازمة. قرفص متسول عند الزاوية وقد أنهكه الاستجداء. دب شجار بين مراهقين حين عبرت فتاة على قدر من الجمال"، إن هذه المشهدية التي حرصت من خلالها القاصة على استخدام تقنية الفوتومونتاج، كانت من أهم الأساليب السردية والتقنية التي استطاعت من خلالها إيصال الحالة النفسية التي وصلت إليها شخصيتها القصصية؛ ومن ثم شعورها بالوحشة والرغبة في العودة إلى السجن مرة أخرى؛ فمن خلال تتالي الصور وانسيالها أمام الشخصية القصصية شعر بعدم مقدرته على التفاعل أو التماهي مع هذا المجتمع الذي يمور أمامه؛ ومن ثم فلكي يكتمل المشهد الذي يراه أمامه؛ كان لا بد له أن يتخيل المدينة من خلال شبابيك وأبواب وحراس؛ كي يستطيع التكيف معها مرة أخرى، والشعور بالاطمئنان.
لكن، رغم مقدرة القاصة الأردنية بسمة النسور على صياغة عالمها القصصي ببراعة من خلال خيال امرأة تتمثل عالم الطفولة، أو من خلال مقدرتها على التعمق في سيكولوجية شخصياتها القصصية؛ لتثبت من خلال ذلك أنها لديها عالم قصصي يخصها وحدها تستطيع من خلاله التفرد بتقديمه، مبتعدة في ذلك عن الكتابات الغثة التي كثيرا ما تتحفنا بها الكثير من الأقلام النسائية التي لا تقدم لنا سوى الهراء، ومؤكدة على أن الموهبة في النهاية هي المقياس، وأن المرأة التي تمتلك الموهبة والمقدرة السردية تستطيع أن تقدم لنا عالما إبداعيا مُهما بعيدا عن الصراخ والبكاء من ذكورية المجتمع الذي يظلمها، إلا أننا لاحظنا عدم اهتمام الكاتبة باللغة التي تكتب بها، بل وإهمالها تماما، حتى أنها تكاد أن تكون قد قامت بإلغاء جميع الهمزات في اللغة العربية وتجاهلتها، ومن ثم اخترعت لها لغة أخرى تخصها من دون همزات؛ فلا اهتمام بهمزات القطع والوصل على طول المجموعة، فضلا عن أنها تضع الهمزات أحيانا في غير مواضعها كأن تكتب "بامكانكما" مهملة في ذلك الهمزة "بإمكانكما"، وكتابتها "باغنية"، بدلا من بأغنية"، و"كاس" بدلا من "كأس"، وفي مواضع الوصل تحولها إلى قطع فتكتب "لإستقبال" بدلا من "لاستقبال"، و"إمرأتان" بدلا من "امرأتان"، ومن المعروف في اللغة أن الألف في لفظ الجلالة هي ألف وصل دائما إلا في حالة النداء بحرف النداء "يا" حينها تتحول ألف الوصل إلى همزة قطع؛ فنقول "يا ألله" بدلا من "يا الله" إلا أن الكاتبة لم تدرك ذلك وتركتها كهمزة وصل كما هي. كما أنها لا تعرف أن الفعل المعتل لا بد من حذف حرف العلة من نهايته حينما يكون في حالة الأمر؛ ومن ثم كتبت "اعتني" بدلا من "اعتنِ". كما نصبت الفاعل بدلا من رفعه في قولها: "طغى على روحها إحساسا مفاجئ بالخفة" رغم أن كلمة إحساس هنا فاعل، وفي حالة التسليم جدلا بأنها منصوبة لكان ما بعدها منصوبا مثلها لكننا لا تعرف لم نصبت الفاعل، ورفعت صفته رغم أن الصفة تتبع الموصوف في الإعراب، وغير ذلك الكثير من الجرائم اللغوية التي جعلت من مجموعتها مذبحة حقيقية للغة لم تساهم فيها بسمة النسور وحدها، بل ساعدها في ذلك دار النشر المتقاعسة عن أداء دورها في مراجعة ما يقدمه لها الكاتب لغويا؛ الأمر الذي جعل الإهمال في اللغة يصل إلى أن دار النشر نفسها قد أهملت الهمزات في "ترويسة" المجموعة، وهي الترويسة المكتوب فيها معلومات الناشر فرأينا الناشر يكتب "إستنساخه" بهمزة قطع بدلا من ألف الوصل، كما يكتب كلمة "الإخراج" من دون همزة محولا إياها من همزة قطع إلى ألف وصل؛ الأمر الذي يُدلل على أن دور النشر لا يعنيها سوى المكسب فقط من دون الاهتمام أو الاعتناء بما تقوم بتقديمه إلى القارئ.
مجلة عالم الكتاب.
عدد أغسطس 2020م
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق