الجمعة، 17 ديسمبر 2021

رياح عائلة كشنوف.. محاولات جدية للسُخرية من العالم!

من البديهي وصف العملية الإبداعية باعتبارها إعادة صياغة العالم تبعا للمفهوم الذي يراه المُبدع في خياله، سواء جعل العالم من حوله أكثر بهجة، أم تشاؤما، أم حُزنا. جعله محبوبا، أم كريها. يدعو من خلاله للسخط، أم الرضى، أم السُخرية؛ فالعالم الإبداعي في حقيقته خاضع لسيكولوجية المُبدع، ومزاجيته، وثقافته، وخبراته الحياتية أو الخيالية، أي أنه، في نهاية الأمر، الخالق لهذا العالم، القادر على التحكم فيه، وتسييره كيفما شاء من خلال آلياته الفنية التي يبتكرها من أجل إقناعنا في نهاية الأمر بما يقوم به في عملية خلقه الفريدة التي تختلف من كاتب لآخر؛ ومن ثم فعلينا تلقي هذا العالم الذي صنعه من خلال آلياته الفنية التي نجح فيها، أو أخفق، ومن هنا يأتي دور النقد الذي لا يمكن له الموافقة على عالم الكاتب أو رفضه- لأنه لا يعنيه بالضرورة- بل يعنيه في المقام الأول أدواته الفنية التي استطاع من خلالها المُبدع صياغة عالمه، وهل أقنعنا في ذلك أم فشل فيه.

إذن فالمُبدع يقوم بتقديم عالمه تبعا للصورة المُنعكسة داخله، وكيفما يراها هو تبعا لخبراته وحالته النفسية والفكرية، ومن هنا تأتي أهمية الخلق الإبداعي الذي يجعله يرى العالم وفقا لرؤيته، وليس وفقا لما يراه الآخرون، وبالتالي يبدو لنا، في النهاية، الموقف الحياتي الذي قد يراه الآخرون مُغرقا في العادية والاعتيادية، مُختلفا لدى الكاتب الذي قد يراه شديد الحيوية أو الاختلاف، أو مُثيرا للدهشة، أو السُخرية، أو في حاجة ماسة للتأمل. هنا يأتي المعنى الحقيقي للإبداع الذي يجعل من العادي غير عادي، ومن الشيء المُمل أمرا حيويا زاخرا بالطاقة التي لا يراها أو يشعر بها غيره من الأناس العاديين.

من خلال هذا المفهوم، الأقرب إلى تعريف الإبداع، يدخل القاص الأردني بيدر جهاد عالمه القصصي الفريد الذي نُلاحظ من خلاله سُخريته من العالم في مجموعته القصصية "رياح عائلة كشنوف"؛ فهو يتأمله عن كثب، يحاول الامتلاء به وهضمه، ثم يعيد إنتاجه مرة أخرى من خلال رؤيته الخاصة التي تسخر من كل شيء مهما كان جديا، أو مأساويا، أو حتى غير قابل للسُخرية التي يتخذها نهجا في تأمل العالم من حوله- ربما كي يستطيع تقبله، ويكتسب المقدرة على التعاطي مع جهامته!

علنا نُلاحظ من خلال الجملة التي صدر بها القاص مجموعته ما يُدلل لنا على ما سبق أن ذهبنا إليه، وهو ما يؤكد أن الكاتب، هنا، مُدرك إدراكا جيدا لما يفعله، ويشق طريقه في العملية الإبداعية بوعي؛ ومن ثم تصبح سُخريته، هنا، آلية فنية ارتأى القاص أنها الأكثر مُناسبة مع ما يقدمه لنا، ولنقرأ: "الكتابة هاجس إنساني، يبحث في العام عن الخاص".

ألا تُدلل هذه الجملة التصديرية على ما سبق أن ذهبنا إليه حينما أكدنا بأن المُبدع إنما يُعيد صياغة العالم- العام- من خلال ذاته، وثقافته، وسيكولوجيته- الخاص- وبالتالي فهو ينتهج من خلال هذه الصياغة الجديدة نهجا يخصه، ويراه هو الأنسب لإبداعه ألا وهو السُخرية التي سنراها على طول صفحات المجموعة؟

في قصته "موسيقى صافيناز هانم" يتبدى لنا مُنذ المقطع الأول أسلوبيته الموغلة في السُخرية من كل شيء، وهي أسلوبية تبدو لنا مشوقة، مُبهجة، مُثيرة للدهشة في حديثه عن الأشياء رغم جديتها حينما نقرأ في مُفتتح القصة: "يا إلهي! هذا لا ينتهي، من الواضح أن لا مناص من الاستماع لموسيقى السيدة صافيناز هانم كل يوم، والتي تفقدني القدرة على قراءة صفحتي المُفضلة، في هذه الصحيفة الهزيلة، التي لا تهمني، والتي تكاد لا تخلو صفحة منها من صور رئيس البلدية السمين، صاحب المُؤخرة الكبيرة، وسيارته الكاديلاك الجميلة هذه، هل قلت جميلة! أجل جميلة، والسبب، أنه كان بعيدا عندما تم صُنعها، ولم يُشارك إلا في ركوبها، أحمد الله أن رئيس البلدية لا يصنع السيارات أيضا، على الأقل حتى هذه اللحظة".

في الاقتباس السابق تتأكد لنا سُخريته؛ فموسيقى السيدة صافيناز هانم تفقده المقدرة على قراءة صحيفته المُفضلة، لكن رغم تفضيله لهذه الصحيفة نُلاحظ أنه يصفها بأنها صحيفة هزيلة، بل ولا تهمه أيضا! إن السُخرية هنا تحمل في باطنها الكثير من اللامبالاة، والتعامل مع الأشياء بسأم، وكأنه غير راغب في التعامل مع هذا العالم! لكن مع تتبع المشهد الذي رسمه في هذا الاقتباس سنراه يمعن في التهكم من كل شيء؛ فالصحيفة المُهتم بتصفحها والتي تعوقه موسيقى السيدة صافيناز هانم عن قراءتها ليس فيها أي شيء يهمه، بل يرى فيها دائما ما يثيره، أو يمقته وهو صور رئيس البلدية السمين الذي يسخر من مُؤخرته الكبيرة في دلالة منه على أنه لا يفعل أي شيء سوى الجلوس على كرسيه ومُمارسة الفساد؛ لذلك فسيارته جميلة، لكنها جميلة، فقط، لأن رئيس البلدية لم يُشارك من قبل في صناعة السيارات، أي أنه إذا ما شارك في ذلك ستتحول السيارة إلى سيارة مُنفرة له؛ لأن رئيس البلدية الفاسد سيكسبها، بالضرورة، من صفاته الفاسدة والقبيحة!

إذن، فالقاص يعي جيدا ما يفعله، ويمارس سُخريته حتى مداها الأقصى والمُتاح له حتى أنه يكاد أن يسخر من حاله أيضا في: "لقد عزمت أمري، سأذهب غدا صباحا لأصرخ في وجهها، لا نريد سماع موسيقاك من اليوم فصاعدا، يمكنك السماع وحدك، لا تشاركينا ميول أذنيك العفنة، لا، لا، أعتقد أنها ستقول لي كما تقول لجاري الغريب مُدمن الكلمات المُتقاطعة، بأنها هي من تمتلك المبنى، وبالتالي فإن لها الحق في أن تفعل ما تريد، وستشير بإصبعها العجوز، قائلة: بإمكانك الرحيل الآن لو أحببت. وفي النهاية ستذكرني بأنه قد تبقى ثلاثة أيام على آخر مُهلة منحتني إياها لدفع الإيجار، حسنا سأكتفي بلعنها من هنا بصوت خافت، خوفا من إزعاج الجيران، كما تفعل هي، كما أني كدت أنسى، بأنني وحدي من يسكن فوقها تماما، وهي دائما ما تكون تحت أقدامي، حتى وإن حدث زلزال وانهار المبنى كله سأكون أنا من يسقط فوقها"!

هنا يتبين لنا أن القاص يوغل في سُخريته حتى أنه يكاد أن يسخر من نفسه؛ ومن ثم يمتنع عما انتواه في مواجهتها بالرفض حينما يتذكر أنه مُتأخر في دفع الإيجار؛ فينتقم منها بينه وبين نفسه بلعنها في مكانه بصوت خافت؛ حرصا منه على عدم إزعاج الجيران مثلما تفعل هي معهم، ولعل السُخرية الأكثر حيوية وفكاهة حينما يتخيل أنه إذا ما حدث زلزال فسوف يسقط فوقها بما أنه يقطن في الأعلى، وفي هذا السقوط المُتخيل فوقها شيء من الانتقام بسبب غضبه من موسيقاها التي تُثير بها الضجيج كل يوم.

يتناول القاص في قصته أزمة الضجيج الذي تُحدثه السيدة صافيناز هانم يوميا بموسيقاها التي تُزعج جميع سُكان المبنى، لكنهم غير قادرين على مواجهتها باعتبارها مالكة له؛ لذلك يلتزم الجميع الصمت إلى أن يشعر السارد داخل القصة بأنه لا بد له من مواجهتها الفعلية؛ لذلك حينما يأتي الصباح يجمع الجيران جميعا لمواجهتها، ويأخذون معهم البواب الذي يمتلك نسخة من مفتاح كل شقة في البناية. يحاول الجيران مُناداتها لكنها لا تفتح لهم الباب، يدقون عليها، إلا أنها تتجاهلهم، يطلبون من البواب فتح باب شقتها فيمتثل لهم، لكننا نُفاجأ بما يرونه حينما يتم فتح باب شقتها: "عندما يفتح الباب، يهرع الجميع إلى الداخل بفوضى متوقعة. يتقدمهم إرشا الذي يتجه بسرعة إلى الصالة ليجد قالب حلوى يبدو عليه التيبس والعفن، تعلوه شمعة ورقم 80. من الواضح أنها لم تأكل منه ولو قضمة واحدة، وكأنه أُعد للتو، زجاجتان من النبيذ الفاخر، أكواب، مقاعد وطاولة كبيرة، تتوسطها السيدة صافيناز هانم التي يبدو أنها كانت تتوقع زيارة، وتنتظر أحدا ما. تبتسم للجميع. تُشغل الموسيقى بصعوبة، وتقول مُفاااجأة. قبل أن تموت مكانها"!

إن المقطع الذي أغلق به القاص قصته يمتلك فيه الكثير من الفنية التي توحي لنا بمقدرته على التحكم في سرده القصصي؛ وهو حريص من خلاله على كسر توقع القارئ؛ لأن وصفه للمشهد بمُجرد فتحهم للباب يوحي لنا بأنها بالفعل قد ماتت حينما يصف قالب الحلوى المتيبس العفن، والرقم 80، وزجاجات النبيذ وغير ذلك مما وقع عليه نظر الجميع، لكن القاص في حقيقة الأمر كان يتلاعب بأفق التوقع الذي سيصل إليه قارئه؛ ومن ثم كشف لنا أن السيدة صافيناز هانم تجلس وسط كل هذا متوقعة قدوم أحد ما، فتبتسم لتقول كلمتها الأخيرة ثم تموت. أي أن السيدة صافيناز كانت تقوم بإحداث كل هذا الضجيج اليومي الذي أزعج جميع سُكان البناية بسبب شعورها العارم بالوحدة؛ ومن ثم فلقد رأت أنها إذا ما قامت بهذا الضجيج لا بد سيصعد إليها أحد السُكان من أجل الشكوى، وهو الأمر الذي ترغبه، أي أنها راغبة فيمن يشاركها وحدتها القاسية التي جعلتها تنتظر كل هذا الانتظار حتى تعفن قالب الحلوى من أجل الاحتفال بعيد ميلادها الذي لم يهتم به أحد، لكنها حينما صعد إليها الجميع وكأنهم سيحتفلون بها لفظت أنفاسها الأخيرة في اللحظة التي تحققت فيها أمنيتها التي انتظرتها كثيرا ولم تتحقق!

يمتلك القاص، هنا، الكثير من المهارة السردية التي جعلته يستطيع التعبير عن الأزمة الوجودية والشعور بالوحدة القاسية لدى السيدة صافيناز، وهي الأزمة التي جعلتها تُزعج الجميع من أجل الشعور بالمُؤانسة حينما يصعدون إليها ومن ثم تستطيع الاحتفال بعيد ميلادها معهم، كما أن الأسلوب الساخر الذي اتبعه القاص في تناول هذه الأزمة الإنسانية القاسية يُدلل على أن السارد إنما يتناول العالم من خلال وجهة نظره المُتهكمة من كل شيء مهما كان قاسيا أو مُحزنا؛ فهو يعيد إنتاج العالم وصياغته وفقا لما يراه هو مهما كانت جهامة ما يتحدث عنه.

في قصة "مُمتلئ بالفراغ" يتأمل السارد الذات الإنسانية وخرابها المُعتمل فيها، وهو هنا لا يتأمل ذوات غيره من الآخرين، بل يحرص على تأمل ذاته، وحده، وخرابها الذي يشعره لكنه لا يستطيع التعامل معه حتى لكأنما هذه الذات قد انفصلت عنه وبات شخصين يتصارعان معا؛ فتنتصر عليه الذات الخربة في النهاية!

يتحدث السارد، هنا، عن هذه الذات مُستخدما نفس الآلية الساخرة من كل شيء؛ ومن ثم فهو يسخر طوال القصة من نفسه، يتضح ذلك في: "عقلي مُمتلئ، الورقة فارغة، ولا أعرف ماذا سأكتب لك. أحب التجربة، تجربة كل شيء. أريد أن أكون زانية، وديوثا حقيرا مُقرفا يدخن سيجارة بعد كل شيء، فارغا، يضحك كثيرا بلا سبب. متسولا يتعرقل بالرصيف ليصطدم برجل رأسمالي يلبس بدلة ثمينة ولامعة، كان يشرب قهوته قبل أن تنسكب عليه وتُفسد حلته التي ستمنعه من عقد صفقة مليونية يعدها غير ناجحة ولو مُؤقتا، ليركله ويبصق عليه وهو يقول: خنزير، حذائي القديم ينفع أكثر منك. ليرد عليه بعد أن تكور على نفسه: ابصق عليّ مرتين، أرجوك، أنا أستحق ذلك سيدي. لكنه يذهب تاركا إياه، يحاول توقع من أي جهة سوف تأتيه البركة التي يسعد بها، ضرير يصطدم بعامود ويبول في المطبخ وغرفة النوم أكثر من مرة. جلاد طويل، لا يتعب ويحب عمله. أم عاهرة تفكر في ابنها أكثر من الذين ينامون معها في السرير كل نصف ساعة"!

بيدر جهاد

إن هذا المقطع القصصي الذي بدأ به بيدر جهاد قصته زاخر بالفراغ والخراب اللذين يمتلئ بهما السارد، وهو، هنا، يسرد إدراكه لهذه الذات الخربة بأسلوبية لا تخلو من السُخرية التي يتميز بها. هذه السُخرية التي تكاد أن تقترب به من تخوم المازوخية المرضية حينما يتخيل نفسه يصطدم بأحد الأثرياء، ويطلب منه المزيد من الإهانة له! إن هذه الرغبة المازوخية تحمل في داخلها الكثير من الاحتقار للذات؛ لذلك لا بد من إهانتها من قبل الآخرين، كما أن اعترافه بمثل هذه الأسلوبية عما يعتمل بداخله، وما يشعره تجاه ذاته يحمل في داخله قدرا من الرغبة التطهرية حينما يعترف بنقائصه ورغباته المُخجلة إلى حد بعيد حينما يتعرى أمام الآخرين؛ فهو يرغب في أن يكون امرأة زانية، وديوثا حقيرا مُقرفا، ومتسولا مازوخيا، وضريرا، وأم عاهرة تفكر في مُضاجعة ابنها أكثر من مُضاجعة زبائنها!

مثل هذه الشخصية التي تحمل داخلها كل هذه الرغبات المُتناقضة والمريضة- والتي يدركها السارد جيدا في نفسه- هي شخصية تحمل في داخلها جحيما حقيقيا- بسبب إدراكه ووعيه برغباتها- كما أن ما يدركه، في حقيقته، غير قابل للسُخرية، لكنه لا يتحفظ في اعترافه من فعل ذلك ربما كشكل من أشكال التطهر مما يعانيه.

يظل السارد- داخل القصة- يُعدد رغباته التي لا بد أنها ستبدو للآخرين مُجرد رغبات شاذة لشخص مريض، فيقول: "سأحب أن أعيش يوما كحذاء، لو سألتني، كما إني لا أمانع أن أكون ملابس داخلية لعارضة أزياء بارعة الجمال، ثلاثة أيام كاملة. أي شيء آخر، عدا كوني أنا، لقد مللت من كوني نفسي أربعين عاما، أُوقظها، أُغني لها لتغفو وتنام، وأغسلها، وأستر عوراتها، أعتني بها كدجاجة لا تعلم لماذا تركد على البيض، لكنها لا تغادره البتة قبل أن يفقس"!

في هذا الاقتباس يذهب القاص بسارده إلى أقصى رغباته المازوخية والرافضة لذاته؛ فهو يتدنى في هذه الرغبات ليكون مُجرد حذاء في قدم أحدهم، أو مُجرد ملابس داخلية لامرأة جميلة، وكي يمعن في سخريته يُحدد المدة بثلاثة أيام فقط! إن السارد هنا يشعر بالملل الشديد من ذاته، لا يرغبها، يشعر تجاهها بالكثير من المقت والكراهية؛ لذلك تتملكه هذه الرغبات المريضة تجاهها، بل ومحاولة إنكارها ورفضها، وربما بسبب هذه المشاعر المُتناقضة تجاه نفسه يدور في داخله صراع لا نهاية له ليصفها بالكثير من الصفات المُتدنية: "إنها بشعة، أنانية، بل الأكثر أنانية، لئيمة، حسودة، تكره الجميع. عندما سمعتها تبوح بكلمات تشبه الحُب، استرقت النظر، لأرى أنها أحبت الخراب، تعشقه، لا تميل لأحد سواه"!

إذن، فإدراكه الواعي لهذه الذات يجعله حريصا على توصيفها بدقة؛ وربما كان هذا هو السبب الرئيس الذي جعله يدخل معها في صراع جامح مضمونه الرفض لها: "ها أنا اليوم أعريها لك تماما، إنها تسمعني الآن وتضحك، لا أدري لماذا، لكنها تضحك وتضحك، صوتها يرتفع، تصرخ بالضحك، أعتقد أنها تريد إسماعك، كم هي وقحة! أعتقد بأنها أول من قام بفعل وقح، لا شيء يوقفها، هل تسمعها؟ انتبه جيدا هنا (يشير إلى أسفل بطنه) هه، لا تسمع، مُستحيل ألا تسمع كل هذا الضجيج والخراب، لا أصدقك. حسنا، أعتقد بأنني سأملأ الورقة وأكتب لك: أنت أيضا مُتآمر معها"!

إن المقطع الختامي للقصة الذي حرص عليه القاص يُدلل على أنه في حقيقة أمره لا يتحدث إلى أحد، بل هو يحدث ذاته أيضا، ويعترف لها بما يكنه من مشاعر سخط، وغضب تجاه نفسه، أي أن السارد هنا قد وقع في حالة هذيانية، تطهرية جعلته في حالة فصامية؛ ومن ثم انقسمت ذاته إلى العديد من الأشخاص المُتصارعين مع بعضهم البعض- الذات المريضة التي تصارعه برغباتها ككيان، ثم حامل الذات/ هو نفسه ككيان ثان، ثم الشخص المُستمع لما يرويه- ولا يمكن إنكار أن القاص هنا قد نجح أيما نجاح في التعبير عن هذه الحالة الفصامية التي يتحدث عنها بشيء غير قليل من السُخرية رغم مُعاناة الشخصية القصصية.

في قصة "كرسي خشبي قديم" يحرص الكاتب على أنسنة الموجودات، إكسابها الروح، جعلها تتنفس، وتتكلم، وتتحرك. تحب، وتكره، وتشعر بالغيرة، والغضب، والفرح، أي أنه يُكسب الأشياء مسحتها الإنسانية للدرجة التي لا بد لها أن توحي للقارئ بأنها إنسانية بحتة وليست مُجرد جمادات أكسبها كاتبها شيئا من الروح الإنسانية.

يحاول القاص في هذه القصة اتباع نفس الأسلوب السردي الذي اتبعه في القصة السابقة، وهو أسلوبية الاعتراف، أو الحكي لشخص ما يرغب في الإفضاء إليه بما يكنه داخله؛ لذلك يبدأ سرده بقوله: "سأعيد سرد القصة عليك وكأنها المرة الأولى، حتى في حماسها الذي لا أفتعله، تماما، كما يرسم وجهك بريشته القديمة الصدئة تلك الملامح عليه. أنا نفسي لا أعلم كيف دخلت، كل ما أتذكره، أني وجدت نفسي في هذا المكان، حتى بت أشك بأنني خُلقت هنا، شعري مُبلل، وجدت مرآة نظرت فيها، واستغربت هيئتي؛ مما أضحكني، أجل ضحكت. كنت أشبه كثيرا نفسي، أنا تماما ما تعكسه تلك الحقيرة".

ربما نُلاحظ هنا أن ثمة شخص ما يحكي عن نفسه، ومُعاناته، أو حيرته في اكتشافه بأنه في مكان ما؛ لذلك يستمر في الحكي لشخص ما يستمع إليه؛ فيتحدث عن سرير، ومرآة، ونافذة، وقصة خيانة لا نعرف عنها شيئا، لكنها تثير الكثير من غضبه وغيرته لأنها تخصه، ورغم أن الشخص الذي يستمع إليه لا يشاركه الحديث، أو لا يرد على تساؤلاته التي يوجهها إليه إلا أنه يظنه مُتآمرا عليه؛ لذا نقرأ في خاتمة قصته: "بعد صمت للحظات يلاحظ عليه التركيز، وكأنه ينصت إلى شيء ما، قبل أن ينتفض فجأة وهو يقول: ها هي، سمعتك تقولها مرة أخرى. أجل سمعتها، حتى أنت. يستنكر بألم. لا عليك، لن ألومك، أنت لا علاقة لك، فلست وحدك من يراني مجنونا وكاذبا لا أتعدى كوني مُجرد كرسي خشبي قديم"!

إن حرص القاص على إكساب الأشياء حياتها يتضح لنا في الفقرة الأخيرة من قصته، وهي الفقرة الختامية التي من المُمكن لنا أن نُطلق عليه توصيف "حُسن التخلص"، أي لحظة المُكاشفة التي يفضي فيها القاص للقارئ بحقيقة ما كان يقصده؛ ومن ثم ستتصاعد دهشتنا عند جملة الختام حينما نكتشف أن السارد في القصة- وهو السارد الذي يشعر بالخيانة، والغيرة، والغضب، والفرح، والدهشة، والذي تعاطفنا معه- لم يكن سوى مُجرد كرسي خشبي قديم يشعر بالغيرة من خيانة المرآة له مع السرير الموجود في أحد جوانب الغرفة بينما تتجاهله بقية الأشياء وكأنه غير موجود! أي أن القاص هنا مارس العملية القصصية باعتبارها لعبة يشعر بالمُتعة في نسجها، وإيهام القارئ بها إلى أن يصل إلى لحظة الكشف الأخيرة التي يكاد أن يسخر فيها من القارئ نفسه بعدما أوهمه أن ثمة شخص يحكي، وثمة خيانة يشعر بالألم بسببها.

هل ثمة من يتذكر قصة "موت موظف" للروائي الروسي أنطون تشيكوف؟ تلك القصة التي شعر فيها كريبيكوف/ الموظف البسيط بالكثير من تأنيب الضمير لأنه ذات ليلة في الأوبرا عطس عطسة لاإرادية، وفوجئ أن رذاذه قد جاء على قفا من أمامه ليكتشف أن الجالس أمامه هو الجنرال شيريستالوف. حاول كريبيكوف غير مرة الاعتذار للجنرال الذي لم يهتم بالأمر، ولم يشعر بأي استياء، لكن الموظف ظل يؤنب نفسه بأنه قد أساء للجنرال من دون أن يقصد؛ حتى أنه حينما عاد إلى بيته ليخبر زوجته بما حدث تلقت الأمر بلامبالاة، إلا أن كريبيكوف اتخذ قراره بالذهاب إلى الجنرال في اليوم التالي ليكرر عليه اعتذاره؛ مما أشعر الجنرال بالاستياء؛ لأن الأمر لا يستدعي ذلك، كما أنه قد نسيه، لكن كريبيكوف الموظف المثالي الذي يشعر بالكثير من الذنب ذهب إليه مرة أخرى في اليوم التالي محاولا الاعتذار؛ الأمر الذي جعل الجنرال يشعر بالكثير من الغضب منه ويطرده، ليعود الموظف إلى بيته، ويغير ملابسه ويموت كمدا؛ لأنه يشعر بالكثير من الذنب للإساءة غير المقصودة للجنرال، وظنه بأن الجنرال غير راغب في قبول اعتذاره.

ربما حرصنا على التذكير بقصة تشيكوف للتشابه الكبير بينها وبين قصة "رياح عائلة كشنوف" للقاص بيدر جهاد، لكن ليس معنى قولنا بأن ثمة تشابه بين القصتين بأنه القاص الأردني هنا قد أخذ من الروائي الروسي، أو سطا على قصته، بل نحن نقصد بأن ثمة روح واحدة تربط بين القصتين، وهي روح السُخرية، والشعور بالذنب الشديد من فعل إنساني بسيط لا يمكن أن نلوم أنفسنا عليه؛ لأنه يحدث للجميع، كما أننا لا ندعي أيضا بأن بيدر جهاد قد قرأ تشيكوف، فربما هو لم يقرأه من قبل، أو حتى لم يسمع عنه، لكن ثمة روح قوية تربط السرد التشيكوفي السابق بقصة القاص الأردني هنا، ولعل هذا الرابط يعود إلى استخدام بيدر جهاد طابع السرد التسجيلي/ التقريري، ولجوئه إلى الأسماء الروسية، والبيئة الاجتماعية الروسية- في مُعظم قصص المجموعة- وفكرة الشعور بالذنب من مُجرد فعل بسيط وتلقائي لا يستدعي كل هذا الأمر.

يتحدث القاص في قصة "رياح عائلة كشنوف" عن فلاديمير الذي يعود إلى بيته بينما يشعر بالكثير من القلق والخوف الشديدين؛ حتى أنه يكون غير قادر على وضع المفتاح في باب البيت من أجل الدخول إلى أن يفتح له أبوه السيد كشنوف. يلاحظ الأب الخشية الشديدة التي يشعر بها ابنه، ويسأله عن الأمر مُنزعجا بينما تتجمع العائلة أمامه؛ فنرى أخته نتاليا التي تحب الرسم، وأخاه التوأم نيكولا، وأمه. تحيطه العائلة مُنزعجة راغبة في معرفة ما الذي أصاب ابنهم في الخارج كي يشعر بكل هذا الهلع؛ فيروي لهم بأنه كان قد ذهب إلى البلدية من أجل إصدار بطاقة هوية جديدة له، وأنهم قد أخبروه أن البطاقة ستصدر في خلال نصف الساعة، لكنه أثناء انتظاره شعر بأن مُؤخرته قد ثقلت عليه لرغبته في التبرز؛ الأمر الذي جعله يحاول التماسك من أجل انتظار صدور هويته، لكنه أثناء مرور موكب رئيس البلدية لم يستطع منع نفسه من إطلاق الريح مرتين؛ الأمر الذي أشعره بكل هذا الهلع الذي يشعر به، حتى أنه ينتظر إلقاء القبض عليه في أي وقت وهو بين عائلته كعقاب له على إساءة أدبه وأطلاق الريح في موكب رئيس البلدية، فضلا عن شعوره بالحقارة وإساءة الأدب!

أنطون تشيخوف

ربما كان البون بين القصتين شاسعا، لكن الروح القصصية، والمعنى الذي تؤدي إليه كل منهما مُتشابهين، وهو ما جعلنا نتذكر قصة تشيكوف السابقة، كما لا يفوتنا بأن القاص الأردني هنا لم يتخل عن سُخريته السردية من كل شيء، ولعلنا نلاحظ ذلك، مثلا، في قوله: "اليوم، أنا فلاديمير كشنوف، كنت ذاهبا لإصدار هوية لي كما تعلمون. يصمت ويغمض عينيه، هزة قوية من السيد كشنوف.: فلاديمير، بني. يا إلهي! هل وصلوا؟ لنختبئ جميعا، هيا ماما للمطبخ. ما الذي تقوله حبيبي؟! لا أحد هنا، كنت تتكلم عن شيء ما يخص الهوية، ثم صمت. أجل الهوية، إثباتا لشخصيتي المُنحطة، الفقيرة الأخلاق. بني أرجوك. اهدأ، ثم أكمل. حسنا أبي، حسنا، سوف أكمل بالتأكيد، حتى إنني سأعيد كل شيء من جديد. اليوم، أنا فلاديمير كشنوف، كنت ذاهبا لإصدار هوية لشخصي الرخيص، وعند انتهائي من كافة الإجراءات كانوا قد أخبروني بأنها ستصدر خلال نصف ساعة، ضبطت ساعتي ثم خرجت. عندها فقط شعرت مُؤخرتي الكريهة هذه، والتي لا تنفد حمولتها دائما. يقول بتذمر وحنق ملحوظين وهو يستدير نحو الحائط: أرجوك أبي، أين سوطك؟ أرجوك، اصفعها ثلاث مرات وبقوة من أجلي، هيا الآن. حبيبي، أعدك بهذا، لكن الآن أرجوك أكمل، فقط أكمل".

إن السُخرية هنا تتمثل في شعور فلاديمير بالرغبة في التبرز؛ ولأنه شعر بهذا الإحساس الذي حاول تأخيره مما أدى إلى إطلاق الريح في نهاية الأمر أثناء مرور موكب رئيس البلدية؛ فهو يطلب من أبيه بصدق وبشعور شديد بالندم على فعله أن يصفع مُؤخرته؛ لأنها كانت السبب في هذه الفعلة التي يراها مُشينة، بل وتبدو له كجريمة سيعاقب عليها! إن سُخرية الكاتب هنا ليست مُجرد سُخرية من الوضع السياسي الذي يتحدث عنه، بقدر ما هي سُخرية من النفس الإنسانية وأفعالها البسيطة، والطبيعية، والتلقائية التي قد تجعل أصحابها يشعرون بالكثير من الخزي والعار مما بدر منهم رغم طبيعيته، كما أن الإمعان في التهكم هو ما نلاحظه في رد أبيه عليه حينما يقول له: "جبيبي، أعدك بهذا". وإذا ما كان بطل تشيكوف قد مات حسرة بسبب عطسة عادية وتلقائية تحدث للجميع، فبطل بيدر جهاد يشعر بالكثير من الخزي والعار، والرهبة، والخشية من عقابه لأنه أطلق الريح أثناء مرور موكب رئيس البلدية.

في قصة "تقاعد مُبكر" ثمة حكاية مُتخيلة يسردها القاص بشكل مُوغل في السُخرية رغم مأساوية الحدث، فهو يتحدث عن أحد المُحققين الذي يجلس في مكتبه شاعرا بالكثير من الفراغ والعدمية لعدم وجود زبائن يلجأون إليه مُنذ فترة طويلة من أجل التحقيق في أحد القضايا؛ لذلك يبدأ في تخيل دخول إحدى النساء عليه من أجل البحث عن قطها الذي اختفى، ويبدأ في تصور حوار ما يدور بينهما ليسألها العديد من الأسئلة عن قطها، وآخر مرة رأته فيها، وغير ذلك من التساؤلات، إلى أن يصل إلى الخطة المُحكمة التي حيكت من أجل اختفاء القط. هنا يأخذ بيدها للخروج من مكتبه وقد كتب على ورقة فارغة "مُغلق للتقاعد المُبكر"!

إن الشعور بالفراغ والملل هما ما يرغب القاص في التعبير عنهما من من خلال قصته، وربما يتبدى لنا أنه كان ماهرا في نسج الفكرة والحدث حتى أننا نظل مُنجذبين إليه حتى إغلاقه للقصة، ولنقرأ الفقرة التي بدأ بها سرده: "في مبنى قديم يحتاج إلى صيانة مستعجلة يجلس المُحقق طلال عامر على كرسي أسود مرن، ينحني للوراء عن قناعة كبيرة، كجزء من عمله. يمد قدميه واضعا إياها على الطاولة التي تُصنف كصحراء خاوية إلا من منفضة مُمتلئة بأعقاب السجائر، يخرج منها دخان سيجارة كان قد نسيها، بعد أن أمسك بقبعة مُحققين دائرية خضراء يغطي بها وجهه أثناء دفع جسده قليلا للأمام، للحصول على وضعية مُريحة، لأخذ قيلولة طويلة مُتسائلا: هل حل السلام في الخارج، ألم يعد هناك حقراء وسخون يثيرون الشغب؟! لا سرقات تحدث، هل فقد كل اللصوص مهارتهم المُحترمة؟!".

إن هذا المدخل الذي حرص القاص عليه في بداية قصته كان من الفنية التي منحت القصة الشعور بالملل الذي يسيطر على الشخصة القصصية/ المُحقق، وهو نفس الشعور الذي سينتقل إلى القارئ ببساطة حتى أنه سيتمثله كأنه يعيش مع طلال عامر؛ فيقاسمه إحساسه. لذلك يبدأ المُحقق في تخيل دخول إحدى النساء إليه من أجل البحث لها عن قطها، ولعل القاص في هذا الوصف، وهذه القصة التي يتخيلها المُحقق قد برع في سُخريته من الأمر حينما نقرأ: "أعتقد أنني اليوم سأقبل بكل سهولة التحقيق في قضية قط أجرب أليف مُدلل هارب. سأقفز من الكرسي وأنا أتظاهر بالحزن الخالص للزبون، والذي بالطبع سيكون سيدة عملاقة ترتدي فستانا أزرق كئيبا، وتمسك حقيبة مسكينة فارغة إلا من العطور، وبالتأكيد لو نظرت لحذائها الأحمر سيتقطع قلبي، مُشفقا على ذلك العتال المسكين الذي لا يستريح طوال اليوم من غوريلا مُخيفة مثلها تحب قطها الأليف سبستيان. سبستيان، ذلك القط الأبيض الجميل يجب أن نجده سريعا. لا وقت نضيعه آنسة غوريلا. لا بد أنه خائف يرتجف عند إحدى حاويات القمامة، جائع، لا يعجبه ذلك الطعام النتن الذي لا يليق بقط سعيد ومُؤدب مثله. لا يجب أن يأكل. بالتأكيد سيدة غوريلا. فلا سمح الله لو أن المسكين سبستيان اضطر وأكل فقط من أجل البقاء، لأنه يفكر فيك بالطبع، ويحب أن يعيد لمّ الشمل معك من جديد سيمرض".

ألا نُلاحظ في الاقتباس السابق مدى سُخرية القاص من شخصياته حتى أنه قد جعل المُحقق- الشاعر بالكثير من الملل والفراغ- يتخيل مثل هذا الحديث واللقاء مع السيدة لتبلغ سُخريته مداها بوصفها بالغوريلا، بل وخطابها بمثل هذا التوصيف الذي رآه فيها؟ يستمر القاص في قصته التي ابتكرها داخل ذهن المُحقق إلى أن نقرأ: "ممتاز، ممتاز، الأمور تتضح لي أكثر، أين سلين الآن؟ ماذا قلت؟! هيا بسرعة، بسرعة. لقد خططا لكل شيء. حتى قدومك إلى هنا، كان لا بد أن يتخلصا منك بالطبع. المنزل فارغ بالتأكيد. سيدة غوريلا، أرجوك، سأخبرك في الطريق، لا وقت لدينا. إنها مُؤامرة، حبكة عبقرية، هيا الآن، هيا بسرعة. يمسك المُحقق طلال عامر بيد السيدة غوريلا، وهو يجرها للخارج، بعد أن كتب على ورقة بيضاء كبيرة: مُغلق للتقاعد المُبكر. مُعلقة للآن على باب المكتب في مبنى قديم قد ينهار في أي وقت مُمكن".

إن المقطع السابق الذي ختم به القاص قصته يحمل الكثير من اليأس المُغلف بالسُخرية؛ فالقصة بكاملها مُتخيلة وتدور في ذهن المُحقق، لكن القاص كان بارعا في التداخل السردي ما بين التخيل في ذهن المُحقق والواقع الذي لا يدور فيه هذا الأمر والذي جعل المُحقق يتقاعد مُبكرا؛ وبالتالي رأينا أن خروجه مع السيدة غوريلا من أجل البحث عن القط- الخيال- كان السبب في قراره كي يتقاعد عن العمل- الواقع- لأنه مُتعطل مُنذ فترة طويلة، كما يشعر بالكثير من الفراغ.

ثمة مُلاحظة لا بد من التوقف أمامها وتأملها هنيهة في المجموعة القصصية "رياح عائلة كشنوف" للقاص الأردني بيدر جهاد، وهي لجوء القاص إلى البيئة الأجنبية لا سيما الروسية سواء من خلال اختياره لأسماء الشخصيات القصصية، أو للبيئة الاجتماعية والجغرافية والثقافية التي تدور فيها أحداث مُعظم قصص المجموعة، وهو ما قد يوحي لنا كثيرا بأن المجموعة قد تمت ترجمتها من لغة أخرى لا سيما الروسية- بسبب الأسماء والجغرافيا- وهو أيضا الأمر الذي لا بد سيثير التساؤل: لم لجأ القاص إلى اختيار هذه الأسماء، أو البيئات غير العربية للتعبير عن عالمه القصصي؟

إذا ما تأملنا قصص المجموعة التي بين أيدينا سيتضح لنا أن القاص لم يكن ليمتلك الحرية السردية فيما قدمه لنا من عوالم قصصية لو لم يلجأ إلى بيئات وثقافات أخرى مُغايرة، أي أنه فضل الانسلاخ من بيئته العربية، وثقافتها، وتاريخه، لينتقل إلى ثقافات أخرى تتيح له التواشج والانصهار مع أسلوبيته السردية التي تعتمد على التهكم والسُخرية الدائمة، بل وتناول موضوعات لا تهم البيئة العربية كثيرا، أي أنه لو كان قد لجأ إلى إكساب قصصه مُحيطا وثقافة عربية لما كان قد نجح في هذه الأسلوبية التي اعتمدها لنفسه في السرد القصصي، فضلا عن أن موضوعاته التي اختارها لا تتناسب مع السيكولوجية العربية التي لن تهتم بالتأكيد- على سبيل المثال- بالجانب الأخلاقي الذي انتاب فلاديمير لمُجرد أنه قد أطلق الريح أثناء مرور موكب رئيس البلدية. إن حرص بيدر جهاد على بيئة غير عربية في عالمه القصصي منحه الكثير من الحرية السردية التي جعلته ينطلق بخياله إلى آفاق أرحب، وأكثر إنسانية قد لا نجدها في الثقافة العربية؛ لذلك كان اختياره تغريب بيئته القصصية اختيارا ناجحا ومُتناسبا تماما مع أفكاره، وعالمه، وأسلوبيته.

تأتي المجموعة القصصية "رياح عائلة كشنوف" للقاص الأردني بيدر جهاد كنموذج جديد للسرد القصصي في الأردن، استطاع من خلاله القاص- الذي قدم لنا عمله الإبداعي الأول- إقناعنا بأسلوبية قصصية تخصه وحده، سواء من خلال اللامبالاة الواضحة في تناوله لموضوعاته، أو السُخرية والتهكم الغالبين على جل قصص المجموعة، فضلا عن رغبته العارمة في الخروج من البيئة العربية وثقافتها، والانطلاق إلى آفاق أرحب وثقافة مُغايرة قادرة على استيعاب أفكاره وعوالمه المُختلفة كثيرا عما يمكن أن يفكر فيه العرب، أو يستطيعون استيعابه بسهولة إذا ما كان قد ظل حبيسا لعوالمهم وأفكارهم.

 

محمود الغيطاني

مجلة مصر المحروسة.

عدد ديسمبر 2021م

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق