لكن، بما أن الروائي لا يعنيه، في الحقيقة، سوى العملية الإبداعية؛ فهو يضع في طيات عمله الفني الكثير من الوقائع المسكوت عنها، سواء على المستوى السياسي، أو الاجتماعي، أو حتى الثقافي؛ وهذه الوقائع التي يهتم بها المُبدع لا يعني لجوئه إليها رغبته في كتابة التاريخ- فالعملية الإبداعية بعيدة تماما عن التسجيلية- بل يضعها من أجل خدمة النص الروائي الذي يعمل على إخراجه في شكله الأكمل، أي أنه يكون مُخلصا لنصه الروائي قبل إخلاصه لأي شيء آخر، وبما أن الوقائع التي قد يلجأ إليها من شأنها أن تخدم النص، وتخرجه بالصورة المُرضية بالنسبة له؛ فهو يهتم ببثها داخل نسيج نصه لتُشكل تاريخا آخرا موازيا للتاريخ الرسمي- غير الموثوق فيه- لكنه يُعد في النهاية التاريخ الأكثر صحة، والأقرب إلى الحقيقة.
ربما لهذا السبب يلجأ العديدون من دارسي المُجتمعات الإنسانية، وحراكها السياسي، والاجتماعي، والثقافي إلى الاعتماد على العملية الإبداعية، أو ما قدمه الروائيون من أعمال تُشكل الصورة الحقيقية لمُجتمعاتهم، وما حدث فيها، ومن خلال هذه الأعمال يمكن لهم في النهاية التوصل إلى التاريخ المسكوت عنه الذي تغاضى عنه التاريخ الرسمي في العديد من المُجتمعات الإنسانية.
إذن، فالأدب يكاد أن يلعب دورا خطيرا، ومحوريا في التأريخ للمُجتمعات؛ نظرا لأنه يهمه في جوهر الأمر سوق الوقائع كما حدثت بما يخدم العمل الإبداعي الذي يكتبه، أي أننا يمكن لنا القول: إن الأعمال الإبداعية في جل الثقافات الإنسانية تُعد بمثابة الضمير الجمعي الذي يحرص على الحفاظ على الذاكرة الإنسانية كما حدثت، سواء كانت هذه الذاكرة سياسية، أم اجتماعية، أم ثقافية، لكنها في النهاية تُعد الذاكرة الأكثر نقاء ونصاعة في التاريخ الإنساني، والتي لا تتعامل مع وقائع التاريخ ببراجماتية، أو بالحذف والإضافة من أجل أي مصالح أخرى.
رأينا مثل هذا التأريخ غير المقصود في العديد من الأعمال الروائية مثل ثلاثية نجيب محفوظ التي تُعد بمثابة التأريخ الاجتماعي للمُجتمع المصري في مُنتصف القرن الماضي، ورواية "جذور" Roots للروائي الأمريكي أليكس هيلي Alex Haley التي تُعد بدورها تأريخا لموضوع العبودية في الولايات المُتحدة الأمريكية، وهي العبودية التي مُورست بقسوة من الأمريكيين ضد السود.
أي إننا إذا ما قلنا بأريحية: إن الأدب هو المدونة التاريخية الحقيقية التي يمكن الاعتماد عليها- لا سيما في الدراسات الاجتماعية والسياسية- بعد الانتهاء من قراءة رواية "مياه مُتصحرة" للروائي العراقي حازم كمال الدين لا نكون قد خالفنا الواقع، أو ابتعدنا عنه كثيرا؛ نظرا لاهتمام الروائي بالكثير من الوقائع الدموية، وأساليب التعذيب السياسي، والشكل الاجتماعي، والثقافي، والديني للمُجتمع العراقي الذي يتناوله من خلال جثة تم تفجيرها وتحولت إلى أشلاء، بينما تطفو روحها في الأثير مُتأملة للعديد من الوقائع والتاريخ، هائمة فيما يشبه النفق الذي يأخذها إلى الماضي حينا، والمُستقبل في أحيان أخرى!
هذه الروح التي تروي لنا وقائع ما حدث في العراق يحرص الروائي على وجودها مُنذ الجملة الأولى في روايته بينما تعبر أحد الأنفاق المجهولة- أو ما يُهيأ لها- التي وجدت ذاتها فيها؛ فنقرأ: "روحي تسعى للانفكاك عن جسدي، وأنا أمسك بتلابيبها، أحلّق فوق نفسي تاركا أشلائي حيث يدور كل شيء بفوضى عارمة. هرج، وحرائق، وخضار يتناثر، ولحوم قصابين تختلط بأشلاء قتلى، لصوص يسرقون جرحى، ورجال شرطة يتحسّبون من الاقتراب، وسيارات إسعاف تدور حول نفسها وتدور. أمرٌ عصي على التصديق. كالسديم أتكثف في حيّز مُبهم. أطوف، أو أطفو في الحيز الغامض. لا سبيل لتحديد طبيعة ما يحدث. شيءٌ ما يستحوذ عليّ ويلفني على نفسي كما لو أنني رداء في غسالة كهربائية. ثمة ما ينفرج بغتة فيكشف لي طبيعة الحيز الغامض. إنه نفق ذو امتداد لا أرى نهاية له. أسمع تموجات صوتي تنجذب إليّ، تلف عليّ، تكبلني، تحيلني ماكنة هاذية. يردد صوتي داخل النفق بنبرة آلية وكأني لست الذي يحكي. يتشربني مزيج من هسهسة ريحٍ، وصرير صلصال، وزفير نارٍ، وموج بحر. خليطٌ توحده ذبذبات خابية الرنين. أرى نفسي في أتون النفق، يسحلني صوتي الذي يردد: السفاح، أنا السفاح. أنا مرميّ في تجويف كامن في النفق".
من خلال هذا المقطع الافتتاحي للرواية سنُلاحظ عدة مُلاحظات تأسيسية للسرد الروائي، أولا: اهتمام الروائي مُنذ المُفردة الأولى- روحي- على التأكيد بأن ثمة روح ما هي التي تحكي، وبذلك يكون الروائي قد حدد راويه مع أول كلمة من روايته، أي أننا سنمضي في رحلة روائية من خلال روح الجثة التي تم تفجيرها وتحويلها إلى أشلاء! ثانيا: لجوء الروائي إلى تقنية السينما المشهدية من خلال السرد، هذه التقنية تتضح لنا من خلال تقطيعه للجمل وحرصه على قصرها حتى لكأن كل جملة تلي سابقتها مُجرد لقطة سينمائية تُضيف على اللقطة السابقة عليها- تأمل قوله: هرج، وحرائق، وخضار يتناثر، ولحوم قصابين تختلط بأشلاء قتلى، لصوص يسرقون جرحى، ورجال شرطة يتحسبون من الاقتراب- ألا يبدو لنا الأمر- مشهديا- حيث تضيف كل جملة على سابقتها مشهدا جديدا يحرص الروائي على كتابته بمثل هذه المشهدية، وكأنه يكتب لنا أحداثه من خلال الكاميرا؟ الأمر الثالث الذي سنُلاحظه هو حرص الروائي على التهويم الغامض حتى يبدو لنا الجو السردي حلميا- إذا ما جاز لنا التعبير- وكأننا نعبر مع الروح حلما ما لا ندري مدى اقترابه من الواقع أو الخيال، بل هو جو تتساوى فيه الحقيقة مع الوهم، وإن كنا سنرى من خلال هذا السرد الحلمي الكثير من تاريخ العراق الدموي ووقائعه التي حدثت فيه، لا سيما لعائلة روح الراوي، وللراوي نفسه الذي سنعرف أن اسمه حازم كمال الدين السفاح، أي أن الروائي، هنا، كان حريصا على حالة الالتباس لدى القارئ بإدخال نفسه- الروائي- إلى داخل النص باعتباره شخصية روائية، أو كأنما يتحدث عن السيرة الذاتية للعراق من خلال سيرته هو، وسيرة عائلته!
إذا ما كان الروائي قد حرص مُنذ البداية على قوله: "أنا السفاح"؛
فإن هذه الجملة لا بد لها أن تثير في خيال القارئ العديد من التساؤلات والظنون،
حتى أنه من المُمكن لنا الاعتقاد بأنه مُجرد انتحاري فجّر نفسه في جمع ما، ومن ثم
تحول إلى أشلاء بسبب انتحاريته؛ لذلك سيحرص الروائي على إيضاح هذه الجملة من خلال
سرده لجزء من تاريخ العائلة وسبب تسميتها بالسفاح حينما يكتب: "أنا لست
سفاحا، أرد على صوتي بغضب! لقبي العائلي هو السفاح"، وسُرعان ما ينخرط
الروائي في سرد قصة جده الأكبر- حمد الحمود- الذي رأى طاووسا صغيرا يدخل بساتينه؛
ولأن الطاووس كان جائعا سيلتقط شقفة تمر، ويقلبها بمنقاره، ورغم أن الطواويس لا
تأكل التمور إلا أن الجد سيثور على الطاووس ويطارده آمرا إياه- وكأنه كائن يفهم-
إعادة التمرة وإلا قتله، وأثناء مُطاردته للطاووس سيبتلعها هاربا؛ الأمر الذي سيشعل
غضب الجد ويجعله يطارد الطاووس في كل أنحاء القرية، رغم أنه طاووس القرية المُقاتل
في مُباريات ذلك الزمن. أليكس هيلي
سيهرع أهل البلدة لرؤية المُطاردة الغريبة بين حمد الحمود والطاووس الذي يستعينون به في مُبارياتهم ضد القرى الأخرى، ويطلبون منه الكف عن مُطاردته وتهديده بالقتل إن لم يُعد إليه شقفة التمر: "يجب أن يُعيد شقفة التمر وإلا، سأقطع رقبته! سأقتله، سأذبحه!"، أما الطاووس المُدرب على القتال فحينما يرى أهل القرية وقد التفوا حوله مع حمد الحمود فسيظن أنه في قتال، وسيبدأ في العديد من المناورات مع الجد إلى أن ينجح الجد في إمساك رقبته قائلا له بغضب: "أخرج الشقفة من شقك وإلا سأذبحك! والله العظيم أذبحك!"، ورغم جنون الجد في توجيهه لمثل هذا الحديث للطاووس إلا أن أهل القرية سيتوسلون إليه كي يترك طاووسهم، لكنه لن يعيرهم اهتماما، ويشد بيده على رقبة الطاووس إلى أن يقتله: "بعد برهة من الزمن سيذبل الطاووس على مرأى من أهل القرية المُصابين بالذهول من ارتكاب جريمة قتل في العلن. لن يأبه جدي أمام ذلك الذهول، بالعكس، سيضرب طوق العمى على عينيه ويُدير معصمه دورة تفصل الرأس عن الجسد؛ فيسقط بدن الطاووس مُترافسا على الأرض حتى يسلم الروح بعد حين. هناك، وسط ساحة القرية سيقف جدي الأكبر مُلطخ اليدين بالدم، وفي راحة يده رأس مقطوع. ما أن يدرك أهل القرية معنى الرأس المقطوع فوق راحة الكف؛ حتى ينهالوا بصب اللعنات على القاتل. وبناء على أعراف ذلك الزمان، سيعلنون أن رقابنا تحمل دم خطيئة. ولأن أيادينا مُلطخة بدم الطاووس سيطلقون على عائلتنا لقب السفاحين الذين لا يتورعون عن إراقة الدماء. من هناك سيظهر لقب السفاح كنية للأسرة"!
إذن، فتاريخ العراق الدموي ليس من خلال السياسة، والديكتاتور، والسجون، والتفجيرات فقط، بل إن المواطن العراقي نفسه مُجرد مواطن دموي، لا يتفاهم مع أحد، بل يركن إلى القتل مُباشرة من دون تروي، ولعل هذه الميزة التي تُميز المواطن العراقي هي ما جعلت العراق مُجرد بلد دموي على طول تاريخه الطويل.
يحاول الروائي حازم كمال الدين من خلال أحداث روايته مُتابعة التاريخ الثقافي للعراق، أو نشأة الأساطير الشعبية التي تُسيطر على المواطن العراقي؛ لذلك يستعرض لنا نظرة الآخرين تجاه من يموتون: "في كل جمعة سيتجمع في المقبرة بعض سُكان الأعظمية؛ ليرووا وقائع الموتى. وقائع تتطور أسبوعا بعد آخر. وعبر تراكم أيام الجمعة، يتطور القص الشفاهي، وتقترب الوقائع من صيغ الأساطير. فتلك هي عادة أهل البلاد. يكرهون الإنسان حتى مماته. فإذا ما غادر أرض الفناء استعادته ذاكرتهم في هيئة أسطورة تهدف التفوق على واقع أيامهم، والسمو على خرائبهم التي لا يمر عليها الإعمار مهما تبدلت الأقدار. أسطورة تولد ويشتد عودها وتتوهج، ويتم التغني بها بينما رفاة الميت، موضوع الأسطورة، تغوص أعمق فأعمق في التفسخ والتفتت والموت. سيقول أبو عمران إن لكل ميت قصته الفريدة، مُشيرا إلى شاهد قبري: هذا مثلا. وسيجوس بيده شاهدة القبر: رجل من بابل وافته المنية على إثر معركة ضروس مع عقرب طوله 12 مترا، وعرضه ثلاثة أمتار. وبعد صمت وقور سيضيف: عندما نبشنا قبره، فجرا، لكي نقص قطعة من الكفن، ونأخذ جزءا من أشلائه ونسلمها لجده الثالث من ناحية أمه، الشيخ هجول التكريتي، الذي قرر إيصالها بنفسه إلى النجف، وجدنا وجه المرحوم حازم كمال الدين ما زال حنطيا، والدماء تسري دافئة في عروقه، وكادت آذاننا أن تسمع صوته ينادينا لولا أن غطت على ذلك صرخات جده المفجوعة وهو يرى وجه حفيده نورانيا مُبتسما وكأن الملائكة تزفه إلى النعيم".
إذن، فمُتابعة الأساطير الشفهية لدى المُجتمع العراقي، وكيف يستطيع كل شخص اختلاق أسطورة عن الميت، هو ما يميز هذا المُجتمع الذي يركن للخرافة أكثر من لجوئه إلى الواقع؛ لذلك يحفل تاريخ أسرة حازم بالعديد من الأساطير والخرافات: "بيد أن الخرافة التي تخص جد ابن حفيدي وصديقي، وحملت اسم (سيرة الآباء في إنقاذ الأبناء) هي الأهم بين أساطير عائلتنا"! أي أن الروائي حريص على تعريف القارئ بكم من الخرافات التي يؤمن بها المُجتمع العراقي حتى لكأنه مُجتمع لا يمكن له الاستمرار في الحياة من دون وجود هذه الأساطير!
يكتب كمال الدين: "إنها خرافة تحكي عن طفلة جميلة عمرها 11 سنة في مُحيط منطقة الأعظمية. أمها وسيطة أرواح مجوسية، وأبوها عرّاف من غابات الأفيون الأفغانية. تقول الخرافة: إن أمها دربتها مُنذ المهد على لبوس الخشوع حتى نبتت لها برعمة في الثدي عند بلوغ التاسعة من العمر. يومها حطمت وشاح خشوعها، وعلّمتها أصول إشاعة الشبق، وأطلقتها لاصطياد العشاق تعشعش في رأسها الوصية التالية: إذا ما أوقعت عشيقا في حبال الشهوة تمنعي، وراوغيه. عند مُنتصف الليل اكشفي له عن جزء من صدرك. رويدا رويدا ضميه إليك وقبّليه. اتركي لسانك يجول في ثنايا فمه. اقبضي على لسانه واسحبيه إلى كهوف فمك، ومصيه حتى يصل بلعومك. واصلي المص إلى أن تنط من خلف أذنيك مجسات، ويستطيل من عجزك ذنبٌ ينتهي بشوكة سم. اغرزي الشوكة في رقبته، وانفثي الزفير في فمه. سيغدو الزفير وسُم الشوكة زبدا وموجا يلد عفاريت تتغلغل إلى أحشائه فتلتهم أوصاله ولا تبقي داخل البدن شيئا غير الخواء وقبض الريح. بعد أن تستوطن العفاريت جسده المجوف، ويصبح عبدا ملغوما بالعفاريت أرسليه للقيام بالمهمات التي نريد. طفلة تحذو حذو نجاري حصان طروادة الخشبي، لكنها لا تصنع حصانا من خشب، وإنما عشيقا آدميا مجوف الجسد تملؤه العفاريت"!
هذه الأسطورة التي مرت بعائلة كمال الدين، وهي الأسطورة التي يؤمن بها العديدون من العراقيين مع غيرها من الخرافات هي ما تُشكل الثقافة الشعبية هناك، وهذه الطفلة التي يطلقون عليها العقرباء هي من سيتزوجها جد حازم كمال الدين في محاولة منه لإنقاذ ابنه من براثنها، حيث كان الابن- والد حازم- يرغب في الزواج منها، لكن الجد ينتهز فرصة عدم وصول الابن إلى حفل الزواج في الموعد، ويقوم بالعقد عليها والدخول بها، بل تحمل منه ويستولدها ولدا أسماه خالد، وهو عم حازم كمال الدين، الذي سيهرب أبوه من القرية، ويلعن أبيه- الجد- لاختطافه عروسه ويقرر عدم العودة إلى البلدة مرة أخرى، وحينما يتزوج من أخرى يكون حازم كمال الدين هو الابن له.
يحرص كمال الدين من خلال سرده على إيهام القارئ دائما بعدم انتظام الزمن، أي أنه يتنقل بين الماضي والمُستقبل بفوضوية مُتعمدة، بل يلجأ إل التصريح بذلك للقارئ للمزيد من الإيهام، ولعل هذه التقنية التي يحرص عليها الروائي تعطيه المزيد من الحرية في السرد، والتنقل بين العديد من الحكايات التي قد لا تكون مُترابطة، لكنها تضيف إلى السرد الروائي المزيد من الثراء الذي يخدم الحكاية التي يرغب في سردها؛ لذلك يكتب: "أنقذف فجأة خارج التجويف الذي يخبرني عن الماضي بصيغة المُستقبل فأجدني في النفق. في أتون سُرعته العصية على الإدراك، وفى أوار التراطم في أرجائه أتكربح في زاوية ما. ينبني حولي جدار سديمي معفر بالبثور. ذكريات تعشعش في تفاصيل البثور. ذكريات تمتصني وكأنها اسفنجة، وكأنني ماء. أشعر ثانية أن كل ما سيجري هنا يتموضع في المُستقبل. بما في ذلك أحداث الماضي!"، إذن، فهو حريص على إرباك القارئ من أجل المزيد من الحكايات المُتناثرة هنا وهناك، ومن خلال هذه الحكايات يتشكل لنا قوام الرواية التي يرغب في تقديمها لنا، وهي تقنية تدل على وعي الكاتب، وإدراكه لما يفعله من أجل الوصول إلى الشكل الفني الذي يرغب في كتابته.
بما أن الكاتب قد أعطى لنفسه حرية التجول في الزمن من أجل نسج العديد من الحكايات التي تُشكل البنيان الروائي، فهو يعرج إلى الحديث عن الحياة المذهبية وجنونها في العراق حينما يختلف الأب والأم على مكان دفن جثة حازم كمال الدين المُمزقة إلى أشلاء؛ فالأب يرغب في دفن الجثة في النجف حيث الطقوس الشيعية، بينما الأم ترغب في دفنه في مقبرة الأعظمية السنية، وأمام هذا الخلاف على مكان دفن الجثة: "سيخاطب عبود العكايشي، صديقي ومُجايلي في مقعد الدراسة الذي ظل يلتقيني حتى يوم مقتلي، وإذ يلتفت إليه أبي بعد لأي سيقول: أرجو أن تفكر بنصيحتي! فالطريق إلى النجف مهول! إنه مثلث الموت! ولما يرى أن أبي أعطاه الأذن الطرشاء سيخاطبه مرة أخرى: تصوّر. لقد سلكناه مُؤخرا برفقة جنازة بعد أن زوّرنا لأنفسنا بطاقات أحوال مدنية سنية وشيعية. صدقني يا عم! ما أن انطلق الباص من مرآب الكرخ إلى مدينة الكاظمية حتى أدار السائق موجة المذياع على محطة تبث تلاوات القرآن باعتباره حلا تقبله كافة الطوائف المُتحاربة، ومن بوابة الكاظمية حتى نهاية مدينة الدورة وضع مُساعد السائق كاسيت المقاومة الإسلامية، ومن منطقة أبو دشير إلى قضاء الحصوة هيمنت أغاني تُمجد صدام حسين. وفي المسافة الواقعة بين قضاء الحصوة وقضاء الإسكندرية حل صمت حائر أعقبته تعاليم من السائق أن نُكرر كلمة (عجل يابا) بمُناسبة وبلا مُناسبة. وعجل يابا كما تعرف هي المُفردة التي ما زال يستخدمها أزلام النظام السابق عند حواجز التفتيش. وبعد اجتيازنا (جرف الصخر) تلقينا منه تعليمات جديدة تنصحنا بالكلام بلسان كربلائي فصيح، وإبدال كلمة (لعد) البغدادية بـ(جا) الكربلائية، ومُصطلح رض (رضي الله عنه) السني إلى ع (عليه السلام) الشيعي لنقي أنفسنا الذبح على إحدى الطريقتين الإسلاميتين، ومع ذلك أوقف الباص الذي نستقله مُلثمون في مُثلث الموت، ودققوا في هوياتنا، وحينما تمعنوا بهوية الميت اكتشفوا أن اسمه (عبد علي)! فأنزلوا تابوته من سقف الباص بالركلات وأعقاب البنادق، وذبحوا جثته بعد أن دحرجوها خارج التابوت، وصادروا رأسها، واستحوذوا على غطاء التابوت، وأجبرونا أن نُعيد تثبيت التابوت على سقف الباص حاسرا لكي يمر على بقية الحواجز والمُدن عبرة لمن اعتبر. لقد فعلوا ذلك يا عم سعدون لأننا أخطأنا وفاتنا أن نشتري للمرحوم (عبد علي) بطاقة أحوال مدنية مزوّرة سنية"!
أي أن الوضع المذهبي في العراق لا يمكن وصفه سوى بالجنون الديني، إنه
الجنون الذي يدفع مجموعة من البشر لفصل رأس إحدى الجثث لمُجرد اختلاف الميت عنهم
في الدين، فلا يكفيهم أنه مُجرد جثة ميتة في طريقها للدفن، بل لا بد لهم من عقابه
حتى بعد الموت بفصل رأسه عن جسده! وهو ما سنراه غير مرة على طول الرواية، لا سيما
حينما يتم اختطاف حازم كمال الدين من قبل مجموعة من المُجاهدين لمُجرد نكتة قالها
لم يكن يقصد من ورائها سوى الضحك فقط: "داخل غرفة مُقفلة أثاثها فاخر، وأرضها
مرمر أخضعوه لتعذيب جسدي ونفسي مروّع بهدف انتزاع الاعتراف بـ(خطيئة الغداء
الأخير) تمهيدا لذبحه! وخطيئة الغداء الأخير هي نكتة حكاها ابن حفيدي الأعز،
وتعرّض فيها لزوجة النبي محمد، فجعلها تلعب دورا أثار استياء كلا الطائفتين.
فالطائفة السُنية رأت عدم جواز التطرق بالنكات لزوجة الرسول، بينما رأت الطائفة
الشيعية أن النكتة تبرئة لها من جرائم الوهابيين. والنكتة كما رواها لاحقا صديقه
عبود العكايشي تقول: إن زوجة الرسول ذهبت بعد الظهر إلى الله عز جلاله وقالت:
طلقني من النبي! فقال علام الغيوب وقد علت وجهه صدمة: لِمَ يا أجمل زوجات رسول
الله؟! فبكت وقالت: طلقني! فقال عز جلاله برقة الإله: يا من خلقتك من طين وجعلتك
في أجمل تكوين، وزوجتك أحب المخلوقات أجمعين. لماذا تطلبين الطلاق وأنت في الجنة
الموعودة ترفلين؟! فقالت: لقد تعبت وحقك! كلما قاربت الساعة الثانية عشرة ظهرا
انهالت طرقات مُرعبة على بابنا. يذهب الرسول الكريم ليرى من الطارق، ثم ينادي
عليّ: جاءنا عشرة ضيوف. اطبخي بسرعة. اطبخي بسرعة. جاءنا عشرون ضيفا، جاءنا
ثلاثون. اطبخي بسرعة. اطبخي بسرعة. انتحاريون يقتلون العراقيين لكي يتغدوا هنا على
مائدة الرسول الكريم، وما عليّ إلا أن
أطبخ بسرعة. اطبخي! اطبخي! اطبخي! طلقني يا رب العباد، طلقني! لقد تعبت من الطبخ!
فوعدها العزيز الحكيم أنها لن تطبخ مُستقبلا وأن تلك الوجبة التي جهزتها لذلك
اليوم إنما ستكون الغداء الأخير! وبعد اجتماع الخالق الحكيم برسوله الكريم، عاد
سيد الخلق إلى البيت وطرد الانتحاريين ما أن طرقوا الباب ظهرا. فانتشر أولئك على ضفاف
أنهار الخمور يكرعون منها ويسبحون فيها ويعربدون. فضاع صفاء الأنهار وامتزجت
بالقيء، وأبى سُكان الجنة الاقتراب من الأنهار حتى تُنظف وتُجرف. وذهب الانتحاريون
إلى الحور العين. وبعد أن ساد الهدوء ساعات طوالا في تلك الغرف الملونة الأضواء،
ساحت خيوط الفجر لتكشف عن طابور طويل من حوريات مُمزقات الثياب تراصفن عند بوابات
الخروج من الجنة يطلبن حق اللجوء إلى جهنم. واحدة صاحت بحارس البوابة أن أبو حذافة
ظل يدير رأسها للتقبيل كما يدير رأس رهينة حتى انقطع رأسها! وأخرى قالت: إن أبو
الجماجم أجبرها أن تضع عبوة ناسفة في رحمها قبل أن يأتيها من دبرها! وحين رأى
الغلمان المخلدون أولئك الانتحاريين قادمين صوبهم، وكان الغلمان (لؤلؤ مكنون) أرق
من النساء، تركوا الطواف على المُؤمنين بكؤوس الشراب، وتنكروا في هيئة خبازين
سخّموا وجوههم؛ الأمر الذي دفع الانتحاريين لإقامة حواجز ونقاط تفتيش داخل الجنة
بحثا عن (الغلمان المخلدون)!"نجيب محفوظ
إن مُجرد مزحة لا قيمة لها، ولا يرغب من ورائها كمال الدين سوى في الضحك أدت به إلى اختطافه من المُتطرفين في قلعة السؤدد، ولاقى هناك من العذاب والهوان، والتنكيل به ما لا يمكن تخيله حتى تم قتله! أي أن الجنون المذهبي في العراق قد بلغ أوجه للدرجة التي يتعرض فيها أي إنسان للتعذيب والاختطاف والقتل لمُجرد جملة قد لا يقصد من ورائها أي شيء!
إن هذا التفكير الديني المُتطرف المُتعلق دائما بالأساطير الدينية وما سيحدث بعد الموت هو ما يجعل أبو الجماجم- أحد المُتطرفين- يسلك سلوكا عجيبا ينتهجه الكثيرون من زملائه: "من عادات أبو الجماجم أن لا يخلع الحزام الناسف أبدا، وأن يغلف أعضاءه الجنسية بعلبة بيبسي كولا يربطها إلى وركه بسلسلة تنتهي بقطعة حديد اسطوانية؛ لأنه مسكون بقناعة لا تفنى أن كل شيء في جسده سيتناثر إذا انفجر الحزام الناسف، لكن تغليف قضيبه وخصيتيه بعلبة البيبسي كولا وربطها بقطعة الحديد الاسطوانية سيضمن إنقاذ تلك الأعضاء من التمزق، ووصولها سالمة إلى الجنة حيث الحور العين و(الغلمان المخلدون) ينتظرونه على أحر من الجمر. وهو يُدافع باستماتة عن نظرية استخدام علبة البيبسي كولا درعا لأيره: نعم! أنا أستخدم علبة مصنوعة في بلاد الكفار. أنا آخذ منهم ما أستفيد منه! قارن نظريتي مع نظريات المُجاهدين الذين يستخدمون وسائل أخرى للحفاظ على الزبر. إن استخدامهم علبة بلاستيك أو حفاظة أطفال، وحشوها بالمواد الحافظة للتلف لا تضمن الوصول بسلام إلى الجنة. لقد رأينا ذلك بأم أعيننا. فكم مرة وجدنا زبر أحد الشُهداء مفلوقا بعد أن احترق فيه البلاستيك، أو تفحم داخل حفاظة أطفال!"
إنه الهوس الديني الذي يعمل على المزيد من تغذية الخرافات داخل أذهان المُتدينين؛ ومن ثم فهم لا يمكن لهم الاستمتاع بحيواتهم بقدر ما يهدرونها في خرافاتهم من أجل المجهول/ الآخرة التي لا يمكن لأحد امتلاك اليقين عنها، لا سيما الخرافات الجنسية الخاصة بالجنة التي تحركها الحور العين، والغلمان المخلدون!
إن مُجتمع مُصاب بكل هذه الأوهام، والخرافات، والهراءات باسم الدين، لا بد له أن ينظر إلى المرأة نظرة احتقار وتقليل من شأنها، ورغم أنهم يفعلون كل هذه الأمور من أجل الحصول على المرأة باعتبارها الأداة الأولى للمُتعة في الحياة، إلا أنهم يحقرونها كثيرا في تناقض غير مفهوم منهم؛ فإذا ما كانت المرأة هي الأداة الأولى للسعادة بالنسبة لهم، فلا بد لها أن تكون شيئا ثمينا يحترمونه ويقدرونه بما أنها تمنحهم السعادة التي يرغبونها، لكنهم رغم جوهريتها في أوهامهم إلا أنها مسلوبة الكرامة والشأن دائما، وهو ما سنراه في حديثه عن أمه مثلا- باعتبارها تمثل كل النساء في العراق: "ستتصل تليفونيا بأصدقائي السينمائيين (جماعة المُختار) الذين سيأتون ويقومون بما ينبغي لتحرير البيت من أشلائي المُتحللة. وسأراها تذهب معهم إلى المقبرة رغم أن الأعراف تحظر على الأنثى، كائنا من كانت، المُشاركة في جنازة الذكر، أو تغسيله، أو الصلاة عليه، أو دفنه. فالنساء، إذا ما مات عزيز عليهن لا يذهبن إلى المقبرة إلا بعد عبور اليوم الأربعين بحسب المُعتقدات. ذلك أن الميت بعد أربعين يوما يكون قد غادر الدنيا إلى ملكوت السماء، ولن يتألم إذا زارت قبره امرأة"! أي أن الأم لا يمكن لها المُشاركة في تغسيل أو دفن، أو زيارة ابنها باعتبارها شيئا دنسا سيؤدي إلى ألم الميت! إن النظرة للمرأة باعتبارها تُسبب الألم للميت إذا ما زارت قبره أمر فيه الكثير من الدهشة والاحتقار الذي لا يمكن توصيفه، وهي نظرة عمل على ترسيخها والتكريس لها العديد من الأديان التي تُحقر من شأنها في أدبياتها!
هذه النظرة الدينية، والتعصب المذهبي هو ما سيجعل كل من الأب والأم يختلفان على دفن جثة حازم حتى يصلا إلى حل وسط في أن يكون الدفن على الطريقة السنية في الأعظمية، ودفن آخر على الطريقة الشيعية في مدينة النجف! لذلك حينما يحاول الأب دفنه في النجف: "سيذهبون إلى مُتعهد الدفن، وصانع التوابيت في مركز المدينة طالبين منه صناعة تابوت خاص لا يتجاوز طوله خمسة عشر سنتيمترا! وسيحدجهم مُتعهد الدفن بنظرة من يرى حشدا من الممسوسين مُتسائلا: ماذا أصاب السادة الأكابر؟ أتسخرون مني؟! فيقول أكبرهم في المرتبة العائلية إنهم لن يدفنوا جثماني في التابوت، وإنما قطعة من كفني ومن جسدي، وهو يقصد بذلك كفي ذات الإصبع المقطوع. وسيستعر غضب مُتعهد الدفن، ويكاد أن يكفر بالله وبالإسلام! ولكن بعد أن يدفع له أكبرهم رشوة موشاة بشروح شرعية تخص المُحرّم، والمنهي عنه، والمكروه، وغير المُستحب، وأبغض الحلال، والظرف الأمني التعيس سيوافق وهو يقسم أن هذا (شرك بالله) مُخالف لتعاليم الإسلام، وأنه سوف يصلي أربعين ركعة تكفيرا عن هذه الخطيئة، وبأعلى صوت سيلعن النقود التي استلمها منهم، ومن خلق النقود كذلك"!
ألا نُلاحظ هنا أن التاريخ الدموي للعراق لا يصنعه سوى الأديان التي تعمل على التكريس والتأسيس له باسمها، وبأساطيرها التي لا تنتهي؟! إنها الخرافات الدينية التي تحرك العراقي باتجاه العنف، والقتل، والتدمير باسم الدين!
لكن، هل يعيش المواطن العراقي داخل جحيم الأديان وأساطيرها المُحركة للآخرين فقط، وهل يعد الخلاف المذهبي الذي يحول الحياة هناك إلى جحيم حقيقي هو الأمر المُسيطر على مُقدرات الحياة فقط؟ يؤكد لنا حازم كمال الدين من خلال تجوال روحه في النفق السرمدي الذي ينقله إلى الماضي حينا، وإلى المُستقبل أحيانا أخرى أن هناك العديد من الأمور الجحيمية الأخرى التي تحرك حياة العراقي هناك، لا سيما الأمن الذي يبطش بالجميع، ويتشكك في الجميع، ومن ثم يريهم الكثير من العذاب، والإهانة، والقسوة التي قد تؤدي بهم إلى الموت في المُعتقلات من دون أي سبب سوى التشكك فيهم!
إن المواطن العراقي مُراقب طوال الوقت من قبل الأمن، ومن ثم فإن أي تغيير من المُمكن أن يلمحونه على أي مواطن من شأنه أن يؤدي بهم إلى التشكك في هذا المواطن، وبالتالي اعتقاله وتعذيبه من أجل انتزاع الاعترافات منه بشأن هذا التغيير، وسببه، وما يفكر فيه، والأمر الذي يرغب في فعله! وهو ما سنراه حينما يتم اعتقال حازم كمال الدين لمُجرد أنه قد أقلع عن الكحول بسبب مرض السُكر: "سيعتقلني الحرس الوطني بسبب التغير المُباغت لطبائع حياتي! بلا مُقدمات سأقلع عن تناول المشروبات الكحولية ومُلحقاتها، وسيأخذ وزني بالتناقص السريع حتى أبدو كمن أخضع نفسه لتدريبات رياضية قاسية. سأطلق لحيتي فتنضح من ثنايا وجهي غابة شيب كانت قبلا تخضع لنظام حلاقة يومية قاسية، وستبرز لحواشي وجهي كاريزما سينمائية، أو هالة نورانية كما يجب أن يسميها أصدقائي. ستأخذ قدرتي على النظر بالتراجع كما لو أني انهمكت بقراءة كتب الله وتفاسيرها دون هوادة. إذا ما جالست الأصدقاء في بار اتحاد الأدباء سيستعصي عليّ أن أمنع نفسي من الذهاب إلى دورة المياه كل نصف ساعة تقريبا. وكأنه يتوضأ! سيستغيبني صديقي عبود العكايشي بسخرية تصل مسامعي وأنا في دورة المياه. وكلما أعود من هناك سأشعر بعطش فاحش وسأطلب قنينة ماء غير مفتوحة"! سنُلاحظ أن مُجرد التغير في السلوك بسبب مرض السكر الذي أصاب حازم كمال الدين سيكون لافتا لنظر رجال الأمن؛ الأمر الذي سيجعلهم يعتقلونه باعتباره يمهد لجريمة ما، أو لتفجير ما سيقوم به: "ستكون تلك أسبابا كافية لكي يرى فيّ مخبرو الحرس الوطني رجلا يتحول فكريا من العلمانية إلى التعصب الإسلامي"!
أي أن المواطن لا بد له أن يظل على ثباته طوال حياته وإلا سيكون مصيره الاعتقال والتعذيب من أجل الاعتراف بما ما لا يفكر فيه أو يرد على باله مُطلقا! لذلك يكتب: "أنا حازم كمال الدين الشهير بأفلامي اليسارية اللماحة المُعادية للديكتاتور والبعث، والمعروف بأني أسهر كل ليلة في حانة اتحاد الأدباء، ولا أغادرها إلا محشورا في تاكسي، أو في عربة صديق عزيز، أو على متن سيارة إسعاف تنتهي بي في مُستشفى الطوارئ حيث غسيل المعدة، وحقنة الأنسولين، أو علبة الكوكاكولا، أو قبضة السُكر القابل للالتهام، أقول: أنا حازم كمال الدين الشهير لن أسلم منهم! سيستخدمون ظهور الشيخ هجول التكريتي، جدي الثالث لأمي، والعقيد السابق في الأمن الخاص المتحول من عقيد أمن إلى شيخ جامع، ويستخدمون إقلاعي عن تناول الكحول برهانا على تحولي إلى أصولي من جماعة الزرقاوي. لذلك سيعتقلونني في قلعة أبو زعبل، ولن يصدقوا أبدا أنني تركت الكحول التزاما بنصائح الطبيب المناوب في مُستشفى الطوارئ الذي خيرني بين الإقلاع عن مُعاقرة الكحول، أو الموت في واحدة من النوبات التي تداهمني بسبب مرض السكري الذي يكاد أن يقضي على بنكرياسي قضاء مبرما"!
إن الأساطير الشعبية التي سبق أن تحدثنا عنها وأكدنا أنها تسيطر على
العقلية العراقية وتكاد أن تكون المُحرك الأساس لها، هو ما سيبزغ لنا مرة أخرى
حينما يتم اعتقال حازم كمل الدين في قلعة أبي زعبل؛ لذلك سيظن المُدير المسؤول بأن
حازم مُجرد عقرب استنادا إلى الأسطورة القديمة التي تحكي بأن جده قد تزوج من
عقرباء أنجبت منه خالد- عم حازم- يتضح ذلك حينما نقرأ: "في تلك القلعة
التابعة للحكومة كان المُدير المسؤول مُتيقنا أن حازم كمال الدين سيستحيل عقربا
عملاقا عندما ينتصف الليل، وأنه سيقضم حناجر من يحيطون به، مُستندا بذلك الاعتقاد
إلى خرافة القصة الشهيرة عن فتاة الأعظمية التي قيل إنها تحولت عند مُنتصف الليل
إلى عقرباء عملاقة، وقضمت حنجرة الشاب المسيحي، ثم تزوجها جده عبد الحميد وأنجب
منها عمه خالدا. وكان مُدير القلعة يرى في التثبت من وجود ذيل لحازم دليلا ماديا
على جريمة تحوله من المذهب الشيعي إل المذهب السني. فالسني أو من يلتحق بالمذهب
السني ينبت له دائما ذيل. أو هكذا سادت المُعتقدات الشعبية التي يعتبرها مُدير
القلعة من المُسلمات"! أي أن سيطرة الأساطير التي يحيا عليها المواطن العراقي
ستجعل حازم أسيرا لها، بل وسيؤدي الاعتقاد بهذه الأساطير إلى اتهامه الدائم وتعرضه
للكثير من التعذيب داخل قلعة أبي زعبل رغم أنه لم يفعل أي شيء سوى الإقلاع عن
تناول الكحول بسبب ظروفه الصحية.حازم كمال الدين
يحرص الروائي على وصف الدموية والتعذيب الشديد في مُعتقلات العراق فيكتب عن تعذيب حازم: "لقد التقى ابن حفيدي الأعز بهدهد الأهوار بعد استراحة من وجبة تعذيب شنيعة سبقها حجز في (الهولوكوست) الرابض في الحديقة الخلفية للقلعة. والهولوكوست هو حاوية حديدية عملاقة يُحشر فيها صيفا مُعتقلون لا يعترفون بما ينبغي أن يعترفوا به، وتوصد عليهم لمُدة ستة أيام، ولا يقترب من الحاوية أي شخص. لا طعام هناك ولا شراب. لا شيء سوى تحول أمنية إطلاق السراح إلى رغبة جامحة بالوصول إلى الموت! فمن يلقى حتفه هناك يتخلص أخيرا من سعير مُعتم يموت فيه حتى الهواء. أما أولئك الذين لا توافيهم المنية فعليهم أن يتدبروا أمرهم لكي يبقوا على قيد الحياة كأن يستخدموا جثث زملائهم أفرشة، وأغطية، وسجاجيد تفاديا لمُلامسة أجسادهم لحرارة الحاوية الحديدية الخرافية، أو أن يضطروا إلى أن يأكلوا من لحم الجثث المُحيطة بهم مُستعينين بما جاء في الآية القرآنية (فمن اضطر غير باغٍ ولا عادٍ فلا إثم عليه)"، أي أن المُعتقلين هناك يتعرضون لمجموعة من الأساليب والحيل التعذيبية التي لا يمكن أن يتخيلها، أو يحتملها أحد، وهو ما سنراه مرة أخرى حينما يخرج كمال الدين من مُعتقل أبي زعبل، ويتم اختطافه من قبل إحدى الجماعات التكفيرية ليبدأوا تعذيبه بدورهم، فنرى أمير البساتين/ زعيم قلعة السؤدد التي اُختطف إليها حازم يقول لمُساعديه: "استخدموا الطريقة الآتية: ضعوه في قدر، وأحكموا إغلاق الغطاء. اشعلوا نار التعذيب واتركوها خافتة. دعوا النار تسري من خارج القدر حتى يسخن القدر ثم يغلي. سيتعرق، وهذا مُفيد للطهي. ثم سيغلي داخل القدر. وحين تهمد حركته افتحوا الغطاء وانظروا. إذا كان جلده قد تكرمش وتحمّص فاخرجوه وثبتوا رأسه على شواية الباربكيو، واتركوه حتى يتفحم. وإذا لم يكن قد اعترف بعد رشوا رأسه المشوي بالماء البارد. إن سقوط قبضة ماء واحدة عليه ستكون كفيلة بتمزيقه إربا إربا! وبعد أن أعاد قضيبه إلى كلسونه أضاف عبارة: إذا كانت لديكما أفكار أخرى فالطريق أمام الإبداع مفتوح. انتبهوا، أريده أن يعترف. لا أريده أن يموت!".
إنهم يتفننون في الأساليب الدموية من أجل تعذيب الجميع وانتزاع الاعترافات منهم، رغم أن المُعتقلين لم يرتكبوا أي جريمة من المُمكن أن يعاقبوا عليها، ولكن بما أن العراق بالكامل يسوده التوجس الأمني من الجميع، وبما أن كل مواطن مُتهم لمُجرد أي اختلاف في سلوكه؛ فلا بد من الإبداع كما قال أمير البساتين، وهذا الإبداع لا يكون إلا في أساليب جديدة من التعذيب والتنكيل الدموي!
هذا التوجس الأمني الدائم هو ما جعل المُتطرفين يختطفون حازم لمُجرد أنه قد خرج من قلعة أبي زعبل؛ فالخروج من مُعتقل أبي زعبل يعني- بالنسبة لهم- أنه عميل، أو خائن، لذلك: "لم يمض المرحوم حازم كمال الدين ليلته الثالثة بسلام. فعندما جنّ السحر اهتز باب بيته وانخلع شباك نومه، وانتُزع من أحضان زوجته، وحُشر في صندوق سيارة. ولم يسمع ابنه الأكبر (بشار) المُهتز كسعفة نخلة أي رد على توسلاته بترك أبيه سوى عنعنة بخيلة صفعت وجهه كرذاذ بصقة: أبوك رافضي وعميل! لو لم يكن كذلك لما أُطلق سراحه! لو لم يكن كذلك لما تجرأ على إهانة زوجة رسول الله. ماذا تنتظر من رافضي مُلحد يعيش في الأعظمية غير الخيانة؟!"! أي أن مصير المواطن الدائم هو التشكك فيه، التشكك فيه في البداية ودخوله مُعتقل الدولة وتعذيبه وإهانته إلى أن يتأكدوا بأنه لا خوف أو خطر منه، ثم التشكك فيه مرة أخرى من قبل الجماعات المُتطرفة باسم الدين؛ لأنه خرج من مُعتقلات الدولة ولم يبق فيها إلى الأبد، وبالتالي لا بد من اختطافه لمعرفة السبب في خروجه! إنه الهوان الجحيمي الحقيقي في العراق، وهو ما يصور لنا الدموية التي يعيشها المواطن هناك.
لكن، هل تكتفي الجماعات المُتناحرة هناك بالتنكيل بالشخص الذي يتشككون فيه فقط؟ لا، إنهم ينكلون بعائلته بالكامل وكل من يمت له بصلة، وهو ما فعله المُختطفون بأسرة حازم بعد اختطافه: "لن أعرف أبدا النهاية الحقيقية لأسرتي. فحين سيعتقلونني في قلعة السؤدد ستجري الأمور الفعلية هكذا: سيرشون بيتي بالنفط، ويضرمون النيران كما قال أبو الجماجم، ولكن بعد أن تكون سيارة الاختطاف غادرت المكان ودخلت القلعة. وفي أوار حريق غرف النوم والصالون، وفوضى انفجارات الطناجر وقنينة الغاز سيلعلع صوت زوجتي مُناديا على الأطفال. ولحظة تجد نفسها بالقرب من التنور، وترى أن المُجاهدين يرونها ولا يرونها وسط الدخان وألسنة اللهيب، ستضرب التنور بعصا؛ فينفلع نصفين، وتحشر نفسها داخله، وتعيد تركيبه بارتباك مرعوب. لن تعرف زوجتي أي شيء عن مصائر أبنائنا، لأن المُجاهدين سيفتحون شقي التنور وينتزعونها. لن تعرف أن ابنتنا سميرة تعيش حقا في قلعة السؤدد التي أقبع فيها بعد أن زوّجوها من جلاد أبيها، أبو حذافة، وعمرها 11 سنة، ولن تعرف أن ابنتنا ولدت بعد تسعة أشهر حفيدا سيصبح ذا شأن في ساحات الجهاد! كذلك لن تعرف أنهم غسلوا دماغ ابننا الأكبر بشار، وأقنعوه بالجهاد فتسلق المناصب، ومنحوه رتبة أمير خلال شهرين. أما أنا فلن أعرف أن ابني الأصغر جمال رفض الانخراط في الجهاد؛ فرموه للأسود التي اعتادت على التهام لحم البشر من أزمان عدي صدام حسين"! أي أنهم عملوا على إنهاء حياة عائلته وتخريبها تماما، ورغم أن المؤلف يحرص من خلال سرده على الكثير من الإيهام بسرد العديد من الأحداث والحكايات بأكثر من شكل، وأكثر من وجهة نظر؛ الأمر الذي يجعل القارئ غير قادر على معرفة القصة الحقيقية كما حدثت بالفعل، فيذكر الكاتب روايات مُختلفة لسبب موت حازم مثلا، أو يذكر روايات مُختلفة عن نهاية أسرته غير ما قرأناه في الاقتباس السابق، لكن رغم تغير التفاصيل في القصص تكون النتيجة النهائية، والمحصلة واحدة فيها جميعا، وإن اختلفت الطرق والأساليب فقط؛ مما يُدلل على أن الروائي يعمل على الانطلاق بخياله إلى إيجاد طُرق مُختلفة للحكاية الواحدة لتنتهي في النهاية نهاية واحدة.
من خلال أسلوبية سردية يحرص فيها الروائي على عدم مُتابعة القصة حتى نهايتها؛ ليترك الفرصة للقارئ من أجل إعمال الخيال، ومن ثم إشراكه معه في تخيل وبناء العمل الروائي نُلاحظ أن أمير البساتين في قلعة السؤدد رغب في تعذيب حازم من خلال حبسه مع عقرب شرس لا بد أنه سيقتله في مُقابل أن يعترف حازم بأمر لا يعرف عنه أي شيء، ورغم أنه قد تحدث كثيرا عن تفاصيل االصولات والجولات، والهروب، والهجوم، والدفاع بين حازم والعقرب، إلا أنه لم يهتم بإغلاق الحكاية وذكر نهايتها، وبالتالي لم يعرف القارئ هل نجح حازم في الهروب من العقرب، أم نجح العقرب في قتله- لاحظ أن أمير البساتين قد أكد عليه أنه إذا ما قام بقتل العقرب فسوف يتم ذبحه- ولعل عدم اهتمامه، وحرصه على عدم إكمال الحكاية أو إغلاقها يعود إلى أن الروائي قد ترك سبب مقتل حازم مُلتبسا مُربكا من خلال روايتين مُختلفتين، فالرواية الأولى تؤكد أنه قد تم تفجيره في أحد الأسواق في بغداد وتحولت جثته إلى أشلاء، بينما الحكاية الثانية تؤكد أنه قد مات بلدغة عقرب خطير بعدما دارت بينهما الكثير من الجولات، وهناك من يقول: إنه قد تم ذبحه على يد المُجاهدين، لكننا لا يمكن لنا في نهاية الأمر التحقق من طريقة موته الحقيقية التي حدثت؛ لأن الروائي كان حريصا على سوق الروايات المُختلفة، ولكن رغم اختلاف الروايات وتفاصيلها إلا أنها تؤدي بنا في النهاية إلى نتيجة واحدة، وهي مقتل حازم كمال الدين.
نُلاحظ عدم اهتمامه بإغلاق صراع العقرب معه في: "احتشد المُجاهدون حول شاشات التليفزيون لمُتابعة النزال بين العقرب والرجل وهم مأخوذون بدوار الاثنين حول نفسيهما، وحول بعضهما البعض، ومأسورون بخدع العقرب القتالية، وكيف يختفي تحت حجر ثم يظهر من خرم، ويغوص في فطر، ويطل من صدع، وكيف تخون ابن حفيدي إمكانية الرؤية وتضيع قدرته على التمييز بين العقرب وبين نبتة طالعة من شق في الصخور"، هنا يغلق الروائي هذه الحكاية على الفراغ من دون مُتابعتها، ولا يعود إليها مرة أخرى، وإن كان يلمح من خلال بعض الحكايات على ألسنة الآخرين بأن كمال الدين قد مات بسبب عقرب ما، بينما يحكي غيرهم بأنه قد مات في سوق شعبي قد حدث فيه تفجير، أي أنه حريص على إيهام القارئ، وعدم التصريح له بسبب مقتل حازم، ربما لأن طريقة القتل، وسببه لا تعنيان الكثير، فالأهم لدى الروائي هنا أن حازم كمال الدين قد قُتل، وأن روحه الهائمة في النفق السحري الذي ينقلها في الزمن هي التي تروي لنا وقائع ما يحدث في التاريخ العراقي.
ربما لهذا السبب يوغل المؤلف أكثر في هذا الإيهام حينما نقرأ على لسان روح كمال الدين: "إنني في عدم، عديم اللون، والمكان، والطعم، والزمان. لا لون أسود ولا أبيض، ولا ما بينهما، ولا تنويع عليهما. لا أرى سوى ذاكرة أشلائي المُبعثرة بعد القصف الأمريكي على السوق، أو بعد تقطيعها في قلعة السؤدد، وهي تدوب رويدا رويدا فلا يبقى سوى وجه العدم، وجه اللاشيء"، أي أن الروائي، هنا، يوغل في المزيد من الإيهام، والأكثر من التساؤلات والتخمينات كي يترك لنا في الخيار في نهاية الأمر من أجل الارتكان إلى الشكل الذي نشعر معه بالراحة في تخيل نهاية حياة حازم من بين الحكايتين المُختلفتين.
إن حالة اللايقين التي حرص عليها الروائي طوال أحداث روايته تتجلى في: "لماذا تختلط الأمور عليّ وقد كانت قبل لحظات مُجسمة مُتماسكة؟ هل عليّ التصديق بأني في نفق الموت الذي كتب عنه الطبيب الهولندي بيم فان لومل وتُرجم للعربية Pim Van Lommel وسخرتُ مما كتبه، أم أن ذلك الطبيب العجيب لم يكذب يوم أكد أن تجربة النفق هي خروج للروح من الجسد ولقاءٌ لها مع أرواح أخرى، واستقبال لمعلومات لم تكن معروفة في الحياة؟ وهل ما يجري لي الآن أحداث حقيقية أم هلوسات وكوابيس؟ إنني على يقين من أن ما يحدث هو موت فعلي ولا سبيل لي للعودة إلى الحياة، لكنني على يقين أيضا بأنني لست ميتا، وأنني سأعود إلى بدني، وما هذه التجربة إلا رسالة هلوساتية تريد أن تدفعني للتراجع عن إلحادي حين أستيقظ من حالة فقدان الوعي! ما كل هذا الهراء يا حازم بن كمال الدين السفاح؟ ميثٌ أنا لم لست ميتا؟! لقد خمدت أعضاء جسدي تماما بعد أن استحالت أشلاء، ولقد شاهدتها بنفسي تدخل الهدأة الأخيرة بينما أنا أطفو بعيدا عن موقع المقتلة. لقد مكثت أشلائي هناك بينما أنا أحلق فوق تلك الفوضى وذلك الهرج اللذين اتسما بهجعة تناقض الكارثة! ما معنى ما أقول الآن؟ إنني أقول أشياء لا أفقه منها ولو مثقال ذرة!".
نُلاحظ من خلال الاقتباس السابق- الذي نرى أنه يمثل في حقيقته الشكل البنائي للعمل الروائي بأكمله- حرص الروائي على حالة الإيهام واللايقين، وهما الحالتين اللتين تسيطران على السرد مُنذ بدايته حتى النهاية؛ الأمر الذي يُكسب العديد من الحكايات التي يرويها الروائي شكلا من التشكك الدائم مما يجعل القارئ في النهاية يركن إلى الحكاية التي يرى أنها الأقرب إلى نفسه، أو الأقرب إلى ثقافته واقتناعه هو شخصيا، أي أن الروائي يترك حكاياته وقارئه نهبا للاحتمالات المُتعددة والمُختلفة من خلال هذا الشكل السردي اللايقيني، وهو الشكل الذي حرص عليه الروائي مُنذ بداية العمل واستمر عليه حتى النهاية؛ لذلك قرأنا في البداية: "إنني لست سوى أشلاء سينمائي مُترامية ستعلوها كثبان النسيان، ولن يقول أحد: إني كنت من أشجع من وقف بوجه الطاغية. ذلك أني حين جابهته لم أكن مُنتميا لحزب يأخذ على عاتقه، ولمصلحته، تسطير مأثرتي! هل تراني أكذب أم أستبق الأحداث؟ هل أعاني من عقدة الرقيب الذي زيّف فيلمي أيام الطاغية، وعاد فاحتل موقع الرقيب مُجددا في الزمن الأمريكي؟ هل أعاني من الإحساس بالعار؟ اسم فيلمي الذي زوّروه مياه مُتصحرة. أنا حازم كمال الدين. هل قُتلت نتيجة ما قيل إنه قصف عشوائي أمريكي على سوق خضار شعبي في بغداد، أم ما قيل إنه اختطاف مجموعة قطعت رأسي؟ لا أعرف الحقيقة بالضبط. فمُنذ أن رأيت السماء يحمر لونها في مُنتصف النهار، وأنا أُحلّق فوق سوق الخضار الشعبي، أقصد مُنذ أن حزّ عنقي سكين والتمع دمي على صفحته كما ينتثر لون فوق قماش لوحة زيتية وأنا أطوف في سماء مُقفلة رانيا إلى أشلائي. أنا مُرتبك".
هذا الارتباك الذي يحرص الروائي على التصريح به، وهذا الارتباك في سبب موته، أو الطريقة التي مات بها، هو ما يهتم به المؤلف بطريقته الفنية من خلال تصريحه في الاقتباس السابق، بالإضافة إلى سرد الحكايات المُختلفة والمُتباينة التي تنتهي في النهاية إلى مقتله، وإن اختلفت الطرق والأساليب. وبالتالي فإذا ما كان الروائي حريصا على التصريح بأنه لا يعرف الحقيقة بالضبط؛ فنحن أيضا لا نعرف الحقيقة وإن كان كل منا سيرتكن إلى ما يميل إليه في تفاصيل الموت، وهي تقنية سردية ذكية تمنح الكاتب المزيد من الحرية في السرد وجذب القارئ إليه حتى النهاية.
إن رواية "مياه مُتصحرة" للروائي العراقي حازم كمال الدين من الأعمال الروائية التي تسرد التاريخ بشكل فني إبداعي، صحيح أن العمل الروائي هنا لم يكن عملا معنيا بالتاريخ بقدر اهتمامه بالشكل الفني للعمل، لكنه من خلال العديد من الوقائع، وتجول روح الشخصية الروائية في نفقها الذي جالت فيه بعد موت صاحبها نجح في التجول عبر تاريخ العراق الذي يتميز بالكثير من الدموية سواء على مستوى السيكولوجية العراقية للمواطنين، أو على المستوى السياسي والقهر الذي يلاقيه المواطن العراقي على يد الأنظمة السياسية المُختلفة التي حكمته، أو على يد المُتدينين والمذهبيين والجماعات الجهادية التي تعيث في العراق قتلا وتقطيعا على مرّ الزمن ليتم تخضيب أرضه بكميات من الدماء لم تحدث في مكان آخر على مرّ التاريخ، أي أن الروائي كان يمتلك من الوعي والإحكام الفني، والمقدرة على السرد ما جعله يتجول في تاريخ العراق، ومذاهبه، ومُعتقداته، وأساطيره الشعبية، وثقافته من خلال روح جثة تسري عابرة في الزمان التاريخي لترصد لنا الكثير من الأمور التي تدين هذه الثقافة.
محمود الغيطاني
مجلة عالم الكتاب
عدد أكتوبر 2021م.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق