رغم معرفة القوات البحرية الروسية بالانفجار الذي حدث للغواصة التي تحتوي على مفاعل نووي- بسبب انفجار أحد الطوربيدات على الأرجح- لم تتحرك البحرية الروسية من أجل إنقاذ الناجين من طاقمها إلا بعد مرور 12 ساعة كاملة، كما أنهم لم يكن لديهم أي غواصات للإنقاذ؛ حيث كانت الغواصتان الرئيسيتان للبحرية خارج روسيا في ذلك التوقيت، ولا يوجد لديهم سوى غواصة واحدة مُهترئة تكاد أن تكون خُردة؛ الأمر الذي جعلهم يفشلون غير مرة في الاتصال بالغواصة الغارقة، وبالتالي لم ينجحوا في إنقاذ ما يُقدر بثلاثة وعشرين بحارا نجوا من الانفجار الذي حدث في مُقدمة الغواصة، وأرسلوا الكثير من الإشارات التي تُدلل على وجودهم داخلها أحياء.
هذا التراخي الكامل في إنقاذ البحارة الناجين اتضح من رفض روسيا البات والحاسم في تقبل أي مُساعدة من القوات البحرية للدول الأخرى، حيث عرضت كل من بريطانيا، وفرنسا، والنرويج، والولايات المُتحدة على الحكومة الروسية آنذاك بقيادة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين التدخل من أجل إنقاذ البحارة، لكن الحكومة الروسية رفضت بشكل قاطع تلقي أي شكل من أشكال المُساعدة خوفا على أسرارها العسكرية مُضحية في ذلك ببحارتها، بل وواجه بوتين- الرئيس الروسي- الكثير من الانتقادات؛ نتيجة لأنه لم يقم بقطع إجازته الصيفية على شاطئ البحر، ولم يعد إلى موسكو لمُتابعة المأساة إلا بعدما تعالت الكثير من الأصوات التي نددت بخموله؛ الأمر الذي جعله في نهاية الأمر يعود إلى الكرملين، ويوافق على قبول المُساعدة للإنقاذ من الأسطول البحري البريطاني تحت الضغط الكبير، ولكن بعد مرور سبعة أيام كاملة على الحادث؛ الأمر الذي أدى إلى موت البحارة جميعهم في نهاية الأمر.
إن المأساة السياسية التي
نُسجت حولها العديد من الأقاويل عن السبب الحقيقي في انفجار الغواصة ما زالت مجرد
أسرار عسكرية لا يعرف عنها أحد السبب الحقيقي في حدوثها، فهناك من يؤكد أن السبب
الأساس هو انفجار أحد الطوربيدات داخل الغواصة، وهناك قول آخر يؤكد أن إحدى
الغواصات الأمريكية قد اصطدمت بالغواصة الروسية مما سبب هذا الانفجار، وهناك قول
ثالث يؤكد أن سبب الانفجار هو طوربيد خارجي- وليس داخلي- تم إطلاقه عليها من
الخارج، كما أن ما حدث للبحارة داخل الغواصة في الفترة التي تلت الانفجارين،
ومحاولة استنجادهم إلى أن ماتوا داخلها لا يعرف عنه أي شخص شيئا؛ الأمر الذي أثار
المُخيلة الروائية والسينمائية حول الأيام التي ظل فيها البحارة أحياء داخلها
آملين في إنقاذهم، وهو ما دفع الكتاب وصُناع السينما إلى تخيل ما حدث للبحارة في
هذه الفترة؛ وبالتالي رأينا كتاب المؤلف الأمريكي Robert Moore روبرت مور الذي كان بعنوان A Time to Die وقت للموت، وهو الكتاب الذي اعتمد عليه السيناريست الأمريكي Robert Rodat روبرت رودات صاحب فيلم Saving Private Ryan إنقاذ الجندي ريان 1998م؛ فكتب سيناريو الفيلم البلجيكي Kursk الذي أخرجه
المُخرج الدانماركي Thomas
Vinterberg توماس
فينتربرج.الرئيس الروسي فلاديمير بوتين
من أين يكتسب الفيلم البلجيكي Kursk الذي يتحدث عن أزمة هذه الغواصة قيمته الفنية والإنسانية التي تجعلنا نرى فيه فيلما جيدا حري بنا إعادة مُشاهدته عدة مرات وتأمل ما حدث فيه مرة أخرى؟
إنه يكتسب هذه القيمة المُهمة من نهايته التي ختم بها المُخرج فيلمه؛ فالذكاء الفني للمخرج الدانماركي توماس فينتربرج جعله يربط بمهارة بين المشهد الأول في الفيلم ومشهده الأخير، وبين هذين المشهدين عمل على التركيز على العلاقات الإنسانية وأثر هذا الانفجار في تدمير الكثير من الأسر والروابط، والعلاقات العاطفية بين البحارة العالقين أسفل المياه، وبين زوجاتهم المُنتظرات لهم على السطح بخوف، ويأس وأمل بالغين.
يبدأ المُخرج فيلمه على مشهد الطفل ميشا- قام بدوره المُمثل الروسي Artemiy Spiridonov أرتيمي سبيريدونوف- الذي يغوص تحت الماء محاولا تحقيق رقم قياسي جديد يخصه في الغوص بينما يد أبيه ميخائيل- قام بدوره الممثل البلجيكي Matthias Schoenaerts ماتياس شوينيرتس- مُمتدة أمامه داخل الماء ليرى الطفل من خلال ساعة أبيه المدة التي من المُمكن له فيها أن يبقى تحت الماء.
تتمثل براعة المخرج هنا في رغبته في الربط بين هذا المشهد، كأول مشهد في الفيلم، ومشهد النهاية حينما يرفض الابن ميشا- داخل الكنيسة- أخذ العزاء ومُصافحة قائد البحرية الأدميرال فلاديمير- قام بدوره المُمثل السويدي Max Von Sydow ماكس فون سيدو- الذي تقاعس كثيرا في إنقاذ البحارة ومنهم أبيه وبالتالي كان سببا في موته، أي أنه يحمله المسؤولية في موت الأب، ولعلنا لاحظنا أن المخرج هنا قد نجح إلى حد بعيد في التعبير عن العلاقة الوثيقة التي كانت تربط الطفل بأبيه، ومدى تعلقه به طوال أحداث الفيلم، وانتظاره الطويل له حتى يصعد من تحت الماء.
بعدما يعرفنا المخرج، من خلال مشهده الأول، على الابن وأبيه البحار في الأسطول البحري الروسي، وأمه تانيا الحامل في طفل جديد- قامت بدورها الممثلة الفرنسية Léa Seydoux ليه سيدو- ينتقل إلى تعريفنا بباقي أفراد الفيلم من البحارة قبل بدايته في عرض المأساة التي ستأخذ توقيت الفيلم بالكامل؛ فينتقل بنا إلى البحارة الذين يتوجهون إلى تسلم مُرتباتهم، لكن الموظفين يخبرونهم: لم نتلق أي شيء من موسكو؛ الأمر الذي يجعلهم يسلمون البحارة القليل جدا من النقود؛ ليقول ميخائل ساخرا: إذن ما الذي يفترض بنا أن نقتات منه؟
نعرف أن أحد البحارة يقع في أزمة شديدة بسبب تأخر الرواتب لأن حفل زفافه خلال أيام، ولا بد له أن يجهزه تجهيزا جيدا، وحينما يتجه البحارة معه من أجل حصوله على احتياجاته واضعين كل ما يمتلكونه من مال في يده، يرفض الموظفون من البحارة الآخرين تسليمه ما يرغبه بسبب عدم كفاية الأموال؛ الأمر الذي يجعل ميخائيل يخلع لهم ساعته من معصمه ويقدمها لهم بدلا عن المال؛ وهو ما جعل جميع البحارة من أصدقاء العريس يحذون حذوه من أجل إتماما زواجه.
لا بد لنا هنا من مُلاحظة أن المخرج قد حرص على التركيز على هذه التفصيلة الدقيقة وعرضها من دون تعجل؛ لأنه سيبني فيما بعد أحداث فيلمه على هذه التفاصيل الإنسانية العميقة بين الأصدقاء من البحارة/ الضحايا الذين تربطهم الكثير من مشاعر الصداقة؛ لذلك نراه يستعرض هذه الصداقة في حفل الزفاف، وبكاء البعض منهم تأثرا حينما تعرف زوجاتهم أنهم قد باعوا ساعاتهم من أجل إتمام زواج صديقهم.
ثمة مُلاحظة هنا لا يمكن التغاضي عنها، في فيلم المخرج الدانماركي توماس فينتربرج، من دون التوقف لتأملها هنيهة، وهي المُلاحظة التي تخص المصور السينمائي الإنجليزي Anthony Dod Mantle أنتوني دود مانتل الذي قام بتصوير الفيلم حيث لاحظنا أن المصور كان حريصا منذ بداية الفيلم على استخدام الكادر الضيق في التصوير، لكنه سرعان ما يلجأ إلى اتساع الكادر ليملأ به الشاشة بالكامل بمجرد غوص الغواصة تحت سطح الماء من دون أي مُبرر فني من المُمكن له أن يقنعنا بهذا التغيير في حجم الكادر؛ فنحن إذا ما ذهبنا إلى أنه قد تعمد فعل ذلك لتكون الرؤية أكثر اتساعا داخل الغواصة- أي تناسبا مع ضيقها- كان من الأحرى به- بناء على هذا التفسير- العودة إلى الكادر الضيق حينما ينتقل إلى تصوير الأحداث التي تجري على سطح الأرض، ثم العودة إلى اتساع الكادر مرة أخرى حينما ينتقل إلى الأحداث داخل الغواصة، لكننا رأينا أنه لم يحافظ على هذا التبادل مما يعني أن تغييره للكادر لم يكن له أي معنى يبرره، أو أي دلالة فنية يريدها أن تصل للمُشاهد، كما أننا لاحظنا أن المصور قد عاد مرة أخرى إلى الكادر الضيق قرب نهاية الفيلم حينما نقل لنا مشهد موتهم جميعا داخل الغواصة؛ الأمر الذي أدى إلى التباس الرؤية والتساؤل عن سبب حرص المخرج والمصور على التلاعب بالكادر بمثل هذا الشكل غير المُبرر.
يحرص المخرج بمجرد هبوط الغواصة تحت سطح الماء على توضيح العديد من الظروف التي يعاني منها الأسطول البحري الروسي، وهي الظروف التي لا يمكن أن يمر بها أي أسطول بحري، ففضلا عن تأكيده مع مشاهد البداية على معاناة الدولة الروسية من أزمات مالية تجعلها تتأخر في دفع الرواتب لبحارتها، نرى الأدميرال جرودزنيسكي- قام بدوره الممثل النمساوي Peter Simonischek بيتر سيمونيشيك- يقول لأحد الضباط مُتأملا البحر بعد هبوط الغواصة: ثلثي غواصاتنا يتم تفكيكها من أجل قطع الخردة، هل تتذكر "كوتوسوف" أول سفينة أقودها؟ تخلت عن صواريخها، والآن توصل اللحم والخضروات إلى قاعدتنا في بوليارني، الآن إذا ما هاجمنا الأمريكيون يمكن للكوتوسوف أن ترش الملفوف عليهم! أي أن القوات البحرية الروسية في حالة يرثى لها من الفقر والحاجة الشديدة؛ الأمر الذي يجعل وضع الأسطول في حالة خطيرة، وهو ما سنلاحظه فيما بعد حينما تنفجر الغواصة ولا يستطيعون نجدتها بسبب عدم وجود غواصات صغيرة قادرة على الإنقاذ سوى غواصة واحدة مُتهالكة تماما؛ وبالتالي تعجز غير مرة في الاتصال بالغواصة الغارقة وإنقاذ من داخلها من الجنود.
يلاحظ أحد البحارة أن درجة حرارة أحد الطوربيدات تستمر في الارتفاع الأمر الذي قد يؤدي إلى انفجاره، ومن ثم يتصل أحد البحارة بالقائد ليخبره بالأمر ويطلب منه التصرف في إطلاق الطوربيد قبل الموعد المُحدد له خوفا من انفجاره داخل الغواصة، لكن القائد يرفض الأمر مُخبرا إياه أنه لم يتبق لهم على الموعد الأصلي للإطلاق سوى سبع دقائق؛ ومن ثم عليه الانتظار، لكن الوقت لم يسعفهم، وبالتالي ينفجر الطوربيد في الداخل ليليه انفجار أكبر من بقية الطوربيدات بعد دقيقتين.
يموت جميع البحارة الذين كانوا في مُقدمة الغواصة، ويحاول الآخرون الذين في مُؤخرتها إغلاق جميع القمرات والاحتماء بالقمرة الأخيرة فيها مُنتظرين إنقاذ زملائهم الذين على السطح لهم. لعل هذا المشهد الذي حرص عليه المخرج يتميز بالكثير من الذكاء حينما قال ميخائيل لأحد زملائه الخائفين من أجل طمأنته: ليو، ستنجو، انصت إليّ، تخيل أنك على السطح، وأصدقائك محاصرون هنا، ستفعل المُستحيل لإنقاذهم، كل ما كنا لنفعله لهم سيقومون به هم من أجلنا الآن. نقول إن هذا المشهد كان من المشاهد المُهمة في الفيلم؛ لأنه يؤكد لنا من خلال حديث ميخائيل مدى الإيمان واليقين من قبل بحارة البحرية الروسية بالقيادة التي تقودهم، ومدى حرصها على سلامة وحياة جنودها، في حين أن الأحداث التالية تؤكد لنا أن القيادة الروسية لا تعنيها حياة جنودها بقدر ما يعنيها الأسرار العسكرية التي لا يجب لها أن تتسرب، أو تعلم عنها أي جهة أخرى شيئا؛ ومن ثم ضحوا بحياة جنودهم في مُقابل أن تظل أسرارهم العسكرية طي الكتمان!
هذا الإهمال من قبل القيادة، والتهرب من المسؤولية تجاه البحارة نراه مرة أخرى حينما يخبر الأدميرال فلاديمير أُسر البحارة بمعلومات مغلوطة عن الوضع يؤكد من خلالها على أن الغواصة على بعد 500 متر تحت سطح بحر بارنتس، وأن هذا يجعل الرؤية في الأسفل مُنعدمة، لكنهم يبذلون قصارى جهدهم في محاولات الإنقاذ. إن هذه المعلومات المغلوطة تجعل أحد البحارة السابقين المتواجد مع أسر الضحايا يخبر زوجة ميخائيل بأن هذا الكلام غير صحيح، وأن بحر الشمال لا يصل إلى هذا العمق، كما أن الرؤية فيه تشبه النظر من خلال زجاج؛ فيرد الأدميرال مُتهربا من كذبه: أزواجكم وأبناءكم بحارة في البحرية الروسية، كل واحد منهم قطع عهدا للدفاع عن بلاده بحياته، رجال الإنقاذ في الموقع المعني يفعلون كل ما في وسعهم، إنهم مُجهزون بشكل جيد بأحدث التقنيات التي تضاهي أو حتى تفوق أي شيء تقدمه الحكومات الأجنبية! أي أن الحكومة الروسية كانت مُصرة على خداع أسر البحارة بتقديم المزيد من المعلومات المغلوطة عن أزواجهم، لا سيما أنهم لا يمتلكون بالفعل أي تجهيزات أو تقنيات، بل مجرد خردة لا يمكن لها أن تنجح في إنقاذ الجنود.
تقدم العديد من الدول عروضها بالمُساعدة من أجل إنقاذ البحارة، لكن البحرية الروسية تُصرّ على الرفض التام بصلف شديد حفاظا على أسرارها العسكرية، وهو الأمر الذي يجعل أحد الجنود الإنجليز يسأل قائد الأسطول الإنجليزي ديفيد- قام بدوره الممثل الإنجليزي Colin Firth كولين فيرث- لماذا يماطلون؟ فيرد عليه: يقومون بحماية أسرارهم البحرية، ويحاولون تجنب المهانة الوطنية، فيقول الجندي: أليست خسارة غواصة رئيسية مصدرا للمهانة؟ لكن القائد يقول: ليس إذا كان بإمكانهم إلقاء اللوم علينا، فيتساءل الجندي: الاصطدام، أم عدم إنقاذنا لهم؟ فيرد ديفيد: ربما كلاهما. هنا يقول الجندي: ماذا إذن؟ ننتظر؟ ليرد ديفيد بيأس: ننتظر، لكن الجندي يعاود السؤال: والرجال الذين في القاع؟ يقول ديفيد: ينتظرون أيضا!
إن هذا الحوار القصير بين الجندي الإنجليزي وقائد بحريته له العديد من الدلالات العميقة التي تؤكد مدى استهانة البحرية الروسية ببحارتها وحياتهم التي تضيع هباء لمجرد الرغبة في الحفاظ على الأسرار العسكرية، ومحاولة الظهور أمام العالم بالكرامة اللازمة لها كدولة من الدول العظمى التي لا تُقهر، وبالتالي فهي ليست في حاجة إلى المُساعدة من أي دولة أخرى، وهو الأمر الأشبه بالكوميديا السوداء المأساوية التي تصور امبراطورية عظمى قد شاخت ووصلت إلى خريف عمرها، وباتت كل آلياتها العسكرية مجرد خردة غير صالحة لأي شيء، ورغم يقينها من ذلك ما زالت تصر على تفوقها في كل شيء لا سيما التفوق العسكري.
يحاول الرجال الناجون في الأسفل بكافة الطرق البقاء على قيد الحياة لأقصى مُدة مُمكنة لحين إنقاذهم من قبل قادتهم في الأعلى، ولعل المصور الإنجليزي أنتوني دود مانتل كان من المهارة والذكاء الفني والانتباه ما جعله حريصا على أن تبدو وجوه جميع المُمثلين داخل الغواصة باللون الأزرق دلالة منه وتأكيدا على النقص الحاد في الأكسجين؛ الأمر الي يعرضهم للاختناق، كذلك للإيحاء ببرودة الموت المحيط بهم.
يحاول ميخائيل دائما- باعتباره القائد في الأسفل- طمأنتهم وإعطائهم جميعا المزيد من الأمل، لكن أثناء تغيير إحدى كبسولات الأكسجين لا ينتبه الجندي المُمسك بها إليها؛ فتلامس الماء الذي يكاد أن يغمرهم داخل القمرة مما يؤدي لانفجارها وحدوث حريق ضخم يحاولون الهروب منه بالغطس تحت سطح الماء الشديد البرودة. لكنهم حينما يصعدون مرة أخرى يصل إلى يقين ميخائيل أنهم قد انتهوا بسبب الحريق ونفاذ الأكسجين تماما، وأنهم لم يبق لهم سوى دقائق معدودة قبل الاختناق؛ لذلك يؤكد لهم أنه فخور بصحبته لهم في الفترة الماضية.
حينما تتأكد البحرية الروسية تماما من فشلها وعدم مقدرتها على إنقاذ بحارتها العالقين في الأسفل يوافقون على مضض بعد مرور أسبوع بالكامل بالسماح للبحرية البريطانية على التدخل وإنقاذ الجنود، لكنهم حينما يهبطون يتأكدون بأن جميع البحارة قد ماتوا، وأن القمرة التي كانوا يحتمون بها قد تم غمرها بالكامل بالمياه.
هنا ينتقل بنا المصور إلى الكادر الضيق مرة أخرى من دون مُبرر، وينتقل إلى عزاء أُسر البحارة في الكنيسة وحضور جميع قادة البحرية الروسية، فتقرأ تانيا على الحضور الرسالة المُؤثرة التي كتبها الزوج قبل موته مُباشرة واحتفظ بها في ملابسه: قبل أن يموت زوجي كتب لي رسالة إلى ابننا ولطفلنا الذي لم يولد بعد: لا أحد يمتلك الأبدية، لكنني أردت أكثر، أردت أن أعطيك أكثر، المزيد من الأطفال. حبي ابننا والطفل بالنيابة عن كلينا، أخبريهما مرارا وتكرارا إني أحبهم كما أحببتك، وابحثي عن رجل آخر لتحبينه، لكن حبيني أيضا؛ لأنني لست سوى لحظة بالنسبة لك، أنت أبديتي.
إن هذه الرسالة المُؤثرة التي تركها ميخائيل لزوجته من المُمكن لها أن تلخص لنا الأثر العميق، والمُؤلم الذي يريد صناعه إيصاله لنا من خلال أحداثه المأساوية التي تسببت فيها إهمال وتراخي، وصلافة القيادة الروسية العسكرية، وتفضيلها الأسرار العسكرية على بحارتها، وهو الأثر الذي نراه على وجه ميشا- ابن ميخائيل- من خلال نظرة الكراهية والعدوانية التي ينظر بها إلى الأدميرال فلاديمير في الكنيسة، حيث كان السبب في وفاة جميع البحارة، ورفض عروض إنقاذهم، حتى أن الطفل يرفض مُصافحته حينما يتقدم له بالعزاء؛ الأمر الذي يجعل البحارة- زملاء أبيه- يقدرونه على موقفه ويلحقون به خارج الكنيسة ليعيدوا إليه ساعة أبيه التي سبق له أن باعها في بداية الفيلم من أجل زواج صديقه.
هنا ينهي المخرج الدانماركي توماس فينتربرج فيلمه حينما يكتب على الشاشة: 71 طفلا فقدوا آبائهم على متن الغواصة كورسك؛ ليبين لنا شكل المأساة التي حدثت بسبب إهمال الدولة الروسية وقادتها، لا سيما الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وعدم اهتمامهم بشأن بحارتهم. كما لا يفوتنا الموسيقى التصويرية البديعة التي تميزت طول أحداث الفيلم باللحن الجنائزي الحزين الدال على حدوث المأساة منذ البداية حتى نهايته، كذلك الأداء الجيد لطاقم الفيلم من المُمثلين، لا سيما حرصهم على إبداء مدى البرودة الشديدة التي كانوا يشعرون بها داخل الغواصة بعدما غمرتهم مياه بحر الشمال المُثلجة؛ فرأيناهم طيلة الوقت يرتعدون، حتى أن أطرافهم لا تكاد أن تستقر لحظة واحدة، لكن، ثمة تساؤل مُهم لا بد من وروده على ذهن كل من يشاهد الفيلم البلجيكي كورسيك مفاده: لم حرص المخرج توماس فينتربرج على تجاهل دور الرئيس الروسي بوتين فيما حدث؟ ولم لم يحاول أن ينقل لنا ردود فعله في أي مشهد من مشاهد الفيلم؟ ألم يكن هو المسؤول الأول والأخير عما حدث باعتباره صاحب القرار؟ أي أنه هو من أصدر الأوامر برفض جميع المُساعدات الدولية التي انهالت على الحكومة الروسية من أجل إنقاذ البحارة، كما أنه كان غير مهتم، وشديد التراخي مع الحدث وكأنه لا يعنيه بدليل أنه لم يقطع إجازته الصيفية ويعود إلى موسكو إلا بعد الضغط الجماهيري. إذن، ألم يكن من الأحرى بالمخرج التركيز على هذا الأمر، أم أن السياسة لا بد لها أن تلعب دورها في إرهاب الفن؛ وبالتالي تراجع المخرج عن ذكر الرئيس الروسي بأي شكل من الأشكال طوال أحداث فيلمه؟!
محمود الغيطاني
مجلة الشبكة العراقية.
18 يناير 2022م.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق