سمير فريد |
إن طرح السؤال في حد ذاته- مُشتملا افتراضية أي من شقيه- من الخطورة بمكان ما يجعلنا نتوقف أمامه لفترة من الوقت لتأمله؛ فمن يعملون بشكل فاعل في مجال النقد السينمائي من الندرة التي تجعلنا على يقين من أنه من المجالات التي قد تنقرض إذا لم يكن هناك المزيد من الجادين العاملين فيها، كما أنه من المجالات التي تحتاج إلى روافد جديدة وشابة لا بد لها من تناوله بجدية ودأب بعيدا عن الاستسهال وثقافة الغوغاء؛ لإكسابه المزيد من الحيوية، والنهوض به إلى آفاق أرحب.
لعل تأمل الساحة النقدية السينمائية العربية بالكامل يؤكد لنا ما ذهبنا إليه إذا ما حاولنا عمل حصر لمن يعملون في هذا المجال بجدية؛ فالنظرة المُتمهلة ستؤكد لنا أن النقاد السينمائيين في العالم العربي- الحريصين على الاستمرارية والكتابة بشكل متواصل- لا يمكن لهم بأي حال من الأحوال تخطي العشرين ناقدا فقط- هذا مع التحلي بالكثير من الأمل والنظر لمُستقبل نقدي جيد! ومع الحرص على التفرقة بين الناقد السينمائي والصحفي الفني الذي لا علاقة حقيقية له بالنقد، كما أن العاملين في مجال البحث السينمائي الجاد عددهم من الندرة ما يجعلنا نشعر بالقلق على مُستقبل البحث النقدي، فضلا عن مُستقبل الكتابة النقدية.
إذن، فثمة أخطار حقيقية، بالفعل، تحيق بالعملية النقدية السينمائية، وأهم هذه الأخطار وأولها هي ندرة العاملين في هذا المجال، أو المُهتمين به، الحريصين على تناوله بجدية.
إن التركيز على توصيف الجدية هنا فيمن يتناول النقد السينمائي نابع في الأساس من دخول العديدين ممن يجهلون مفهوم السينما إلى الكتابة في هذا المجال، وهو ما يحيل الأمر إلى فوضى عارمة يغزوها الكثير من الجهل في المعلومات والتواريخ، بل والجهل بصناعة السينما نفسها، وآلياتها، ومفاهيمها، واصطلاحاتها، وأسلوبيتها؛ ومن ثم نجد الكثير من الأحكام غير المبنية على معرفة دقيقة قد بدأت تسود الكثير من الكتابات التي يرى أصحابها بأنها بمثابة النقد، بل وبات أصحاب هذه الكتابات- الجاهلة- يتحدثون بثقة وبصوت عال باعتبار أنهم يفهمون في السينما أكثر مما يفهمه غيرهم ممن لهم دراية بهذا المجال!
أي أن الخطر الذي يُهدد عملية النقد لا ينحصر في ندرة من يعملون فيه فقط من نقاد جادين، بل بات الخطر الأكبر هو دخول عدد لا بأس به ممن يجهلون العملية النقدية، بل ويجهلون السينما التي يكتبون عنها إلى ساحة النقد! وكأنما الكتابة في هذا المجال، أو وصف أحدهم بأنه ناقد من الأمور التي قد تُكسبهم مكانة اجتماعية ما؛ وبالتالي فهم حريصون على الدلو بدلوهم فيما لا يعونه، أو يفهمونه.
لعل السبب الأساس في دخول عدد كبير إلى هذا المجال وإشاعة الفوضى الجاهلة فيه عائد، في المقام الأول، إلى الفوضى التي بتنا نعيش فيها جميعا بسبب انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، وهي الوسائل التي جعلت قطعانا هائلة من الغوغاء والجهلة يتحدثون في أي مجال بأريحية وثقة مُطلقة، ويدلون بدلوهم في كل شيء، وبأي شكل مُعتقدين من خلال ذلك أنهم يمتلكون الحقيقة القاطعة أفضل ممن يمتلك المعرفة بالفعل؛ ومن ثم بات من الطبيعي أن نرى الكثيرين ممن يؤكدون بأن فيلم ما هو من أفضل الأفلام التي تمت صناعتها في الآونة الأخيرة مثلا.
هذه الجملة كثيرا ما تصادفنا عند حديث أحدهم عن أحد الأفلام، لكننا إذا ما عدنا إلى الفيلم الذي يتحدث عنه هؤلاء الغوغاء لوجدنا أن الفيلم من المُمكن التأكيد بأنه من أسوأ ما قدمته السينما! هنا لا بد لنا من التوقف لنتساءل: كيف حكم هذا الشخص على الفيلم، وكيف سار من خلفه قطيع من الغوغاء الذي يشبهه والذي أكد على حديثه وحُكمه الفاسد الذي أطلقه؟
إنه امتهان عملية الكتابة النقدية واستسهالها، واعتبار كل من يقول كلمتين- لا يمكن توصيفهما سوى بالهراء- ناقدا رغم أنه لا يعي ما يقوله فضلا عن عدم مقدرته على الوعي بالصناعة نفسها، وتاريخها، وظروفها، وآلياتها، وأسلوبيتها.
هذه الأحكام غير المسؤولة التي يرددها قطيع ضخم من الغوغاء من خلال وسائل التواصل الاجتماعي باتت خطرا حقيقيا على عملية النقد السينمائي، وغيره من المجالات المُختلفة، كما أن هذا القطيع قادر على صناعة الأوهام، وجعل ما هو غير حقيقي في مكانة الحقيقي، أي أنهم قادرون على محو التاريخ وإعادة كتابة تاريخ جديد للصناعة والثقافة بقوتهم الغوغائية، رغم أن تاريخهم الجديد سيكون محض تزييف للحقائق، ولا أساس له من الصحة، لكن لأننا، بالفعل، في فترة زمنية لا تتحرى الدقة في جمع المعلومات، أو البحث خلفها حتى الوصول إليها، ولأننا في حقبة زمنية لا صبر فيها لأحد على المعرفة والدأب خلفها؛ فلقد باتت الثقافة مُجرد وجبة تيك أواي، وباتت المعلومات تنتقل شفهيا من فم إلى فم، وبما أن المُسيطر على المشهد الكلي، في مُعظمة، هم الغوغاء الذين يمتلكون صوتا عاليا يمثل سطوة في حد ذاته؛ فلقد تم محو الكثير من الحقائق، فعليا، وحلت محلها الكثير من الأوهام والخرافات التي باتت حقائق بديلة! هذه الخرافات والأوهام- ومن خلال هذه الفترة التي لا تهتم كثيرا بالمعرفة- تمثل كارثة حقيقة أمام الجميع؛ لأن الصحفي المُستسهل سيأخذ بهذه المعلومات الجديدة المغلوطة التي عمل قطيع الغوغاء على تكريسها بالإصرار على ترديدها ليل نهار، ومُعد البرامج الذي لا يقرأ سيأخذ بهذه المعلومات ويضعها في برنامجه؛ مما يؤدي إلى المزيد من تكريس الوهم، والقارئ غير المُدقق فيما يقرأه ويعتبر أن أي معلومة هي مُجرد شيء مُقدس سيعتنق ما قرأه أيضا، لنصل في النهاية إلى الكارثة الأفدح التي تقف دائما أمام الباحث الجاد الذي لا بد له من تنقية هذه المعلومات والوصول إلى المعلومة السينمائية الحقيقية التي كادت أن تندثر أمام هذا الطوفان من الترهات التي صنعها دخول الغوغاء إلى مجال النقد السينمائي وتكريسهم لما هو ليس بحقيقي!
سامي السلاموني |
من هنا بدأ هذا القطيع الضخم يصعد من أفلام سينمائية لا قيمة لها لمُجرد أن هذه الأفلام قد وجدت هوى لدى بعضهم، وطرحوا رأيهم الذي لم يكن مبنيا على أي أسس، أو مُقدمات تؤدي إلى نتائج، بل لا يوجد في أحاديثهم أي شكل من أشكال المعرفة، وسار خلفهم جحافل من القطيع الضخم الذي صدق على هذا الحديث، كما نرى من لا علاقة له بالنقد يتحدث عن مُمثل ما باعتباره أفضل من يقف أمام الكاميرا رغم أننا إذا ما حاولنا تحليل أداء هذا المُمثل الذي يتحدث عنه سنصل إلى نتيجة مفادها أنه أردأ من يمكن له الوقوف أمام الكاميرا!
هذه الأحكام التي لا معنى لها من قطعان الغوغاء الهادرة اليوم لا يمكن لها أن تؤدي بنا إلا إلى التفاهة في كل المجالات، وليس النقد السينمائي فقط- المُهدد فعليا بالموت- ولعلنا إذا ما رغبنا في مثال واقعي على هذا الأمر لتأملنا أمرين حدثا بالفعل- للدلالة على كيفية صناعة الأسطورة من خلال الغوغاء ومن يتبعونهم باسم المعرفة النقدية.
فكثيرون- ومنهم البعض ممن لهم علاقة حقيقية بالكتابة- يؤكدون ليل نهار أن الناقد الراحل سامي السلاموني أفضل من مر بتاريخ النقد السينمائي المصري! وهذه المعلومة يرددها عدد لا بأس به ممن يقرأون ويعملون في مجال الكتابة، رغم أننا إذا ما تأملنا تاريخ الكتابة النقدية السينمائية المصرية سيتأكد لنا، بالضرورة، أن السلاموني لم يكن سوى ناقد متوسط القيمة- صحيح أننا لا يمكن لنا بأي حال من الأحوال إنكار مُساهماته في مجال الكتابة السينمائية، لكن التضخيم من قيمة ما قدمه بمثل هذا الشكل الذي نراه الآن يؤكد لنا أن الثقافة الشفهية المُعتمدة على أقوال الغوغاء من المُمكن لها صناعة الأسطورة في كل المجالات- ولعل تأمل كتابة السلاموني سيؤكد لنا أنه لم يكن مُصيبا في الكثير مما كتبه عن العديد من الأفلام، كما أنه في العديد من كتاباته لم يكن يتحدث عن الفيلم في حد ذاته بقدر ما كان يتحدث عن أفكاره التي تدور في رأسه بعيدا عن الفيلم السينمائي الذي يتناوله، وهذا من الأمور التي تجعلنا نتساءل: فيم يتحدث هذا الرجل؟ من المُفترض أنه يتحدث عن فيلم ما وليس عما يدور في ذهنه، فأين النقد الذي قدمه إذن؟ وكيف يكون من أهم نقاد السينما الذين مروا في تاريخ النقد السينمائي المصري؟! وأين غيره من النقاد الذين أفادوا العملية النقدية على مدار العديد من السنوات وتعلم منهم الكثيرون؟!
إن العاملين بمجال النقد السينمائي لا بد لهم من توافر الكثير من الروافد الثقافية قبل الإقبال على الخوض في مثل هذا المجال؛ فالسينما تكاد أن تكون أم الفنون، وهي تحتوي داخلها الكثير من الثقافات والمعارف؛ ومن ثم فالناقد لا بد أن يكون على معرفة واسعة، أو مُلما بنصيب من العديد من المعارف، كالفن التشكيلي والتاريخ، والفلسفة، والسيميائيات، والأدب، فضلا عن آليات الصناعة السينمائية التي يتحدث فيها ويعمل على تناولها بالنقد، ولعلنا لا ننسى الناقد الراحل سمير فريد الذي كان مُثقفا حقيقيا، قادرا على تناول العملية النقدية السينمائية بسلاسة، بل وربط الصناعة السينمائية بالكثير من ألوان الثقافة والمعرفة المُختلفة وهو ما يجب أن يكون متوافرا في كل من يتناول السينما بالنقد.
المثال الثاني الذي يؤكد لنا أن قطعانا من الغوغاء من المُمكن لها صناعة الأساطير وجعلها واقعا حقيقيا لا يمكن إنكاره، وإلا تعرض لسطوة جهلهم هو حينما توفى الراحل يوسف شريف رزق الله، وهو الرجل المثقف ثقافة سينمائية فريدة، وكان عاشقا للسينما بشكل لا يمكن تخيله، وقدم لنا الكثير من المعارف السينمائية من خلال برامجه التي نشأنا عليها مُنذ كنا أطفالا، بل وساهم في جعل أعداد لا بأس بها من الجمهور تعشق فن السينما وتنكب عليه سواء بالمُشاهدة، أو المعرفة، أو المُتعة، أو العمل في هذا المجال من خلال الكتابة لدى البعض.
نقول: إنه بعد رحيل يوسف شريف رزق الله فوجئنا بقطعان هائلة من الغوغاء- بل وغيرهم ممن يعملون في مجال الكتابة النقدية السينمائية- يترحمون عليه مُؤكدين أن الحياة الثقافية والفنية المصرية قد فقدت ناقدا مُهما لا يمكن تعويضه- أي أنه كان ثمة إجماع ما ممن يعرف، وممن لا يعرف بأن رزق الله كان ناقدا لا يشق له غبار، وأن فقده هو خسارة للحياة النقدية السينمائية! رغم أننا نعرف جيدا بأن رزق الله لم يكن ناقدا سينمائيا، ولم يكتب في النقد، ولم نقرأ له أي كتب نقدية؛ فالرجل كان إعلاميا عاشقا للثقافة السينمائية وقدمها لنا بكل الحب الذي جعلنا نعشقها معه من فرط عشقه لها، لكننا لا يمكن لنا القول بأنه كان ناقدا سينمائيا فقدته الحياة النقدية!
لكن، بما أن الفترة الزمنية التي نحيا فيها هي فترة النقل الشفهي، وبما أن قطعان الغوغاء إذا ما قالوا كلمة يجدون قطعانا أخرى تسير من خلفهم؛ ومن ثم يكتسبون سطوتهم على الجميع؛ فلقد بات سامي السلاموني من أهم نقاد السينما المصرية في تاريخها- رغم تواضعه- وأصبح رزق الله ناقدا سينمائيا- رغم أنه لم يكتب في النقد، بل كان مُحبا عاشقا للسينما فقط!
يوسف شريف رزق الله |
إن أزمة النقد السينمائي الحقيقية تتمثل في أمرين مُهمين، أولاهما هو ندرة عدد الجادين والمُثقفين الواعين بآليات هذا المجال، بل واعتبار أن أي صحفي فني هو ناقد بالضرورة- أي الخلط بين ما يكتبه الناقد وما يكتبه الصحفي الفني- فضلا عن الندرة في عدد الباحثين والمُؤرخين في مجال السينما، بينما تتمثل الأزمة الثانية في هجوم قطعان الغوغاء واستسهالهم- في عصر التواصل الاجتماعي- الكتابة في هذا المجال، أو الدلو بدلوهم فيما يخصه وقد ترسخ داخلهم يقين لا يهتز بأن ما يقولونه لا يمكن نقاشه أو إنكاره؛ الأمر الذي جعلهم يكرسون للكثير من الأكاذيب والأساطير، والمُغالطات، والأخطاء، والجهل التي تنتقل منهم إلى غيرهم ممن أصابهم الكسل في الدأب خلف المعرفة؛ ومن ثم رأينا الكثير من الكوارث باسم النقد السينمائي التي سببها قطيع الغوغاء.
نستطيع القول: إن النقد السينمائي بالفعل في مرحلة حرجة من عمره، وإذا ما استمر به الحال على هذه الوضعية فمصيره المحتوم هو السكتة القلبية في أي لحظة، ولكن بما أن وسائل التواصل قد أطلقت قطعانا ضخمة لا يمكن إيقافها، وبما أنها قد أعطت الحق لكل من لا يفهم كي يدعي الفهم، وكل من لا يعلم ادعاء العلم والمعرفة؛ فالأمر سيظل على ما هو عليه إلى أن تصل العملية النقدية إلى زفرتها الأخيرة التي لن تستنشق بعدها نفسا جديدا!
محمود الغيطاني
مجلة نقد 21.
عدد يناير 2022م.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق