لم يكن رأفت الميهي ببعيد عن مجال السينما المصرية أو
دخيل عليها حينما قدم أول أفلامه "عيون لا تنام" 1981م كمُخرج؛ فهو المُخرج رأفت الميهي
يعمل
في مجال السينما منذ فترة مُبكرة كمُترجم، ومُنتج، وسيناريست منذ أن كتب أول
أفلامه "جفت الأمطار" 1967م الذي أخرجه سيد عيسى، ورغم أن هذا الفيلم لم
يلاق النجاح اللازم أو الإقبال الجماهيري عليه، إلا أن الميهي لم يتوقف بسبب ذلك،
بل قدم مع المُخرج كمال الشيخ أربعة أفلام سينمائية أخرى كتبها له، وقد كانت من
أنجح الأفلام المصرية في هذه الفترة، وهي: "غروب وشروق" 1970م الذي صب
اهتمامه على الانتقاد السياسي فيما قبل الفترة الجمهورية في مصر، ثم كتب سيناريو
فيلم "شيء في صدري" 1971م عن رواية لإحسان عبد القدوس بنفس العنوان، وهو
الفيلم الذي يحمل نقدا أيضا لفترة الملكية وما سادها من فساد، ثم فيلم "الهارب"
1974م[1] الذي
لا يخلو من النقد السياسي ومُمارسات رجال الشرطة في التنكيل بمن يمارسون الفعل
السياسي، والزج بهم وبذويهم في السجون، لتكون آخر مرحلته مع المُخرج كمال الشيخ
فيلم "على من نطلق الرصاص؟" 1975م، وهو الفيلم الذي يمثل تجاه كمال
الشيخ السينمائي من حيث البحث عن الأدلة من خلال منظور تشويقي، ومن خلال التوصل
إلى قصاصات صغيرة من الدلائل التي تؤدي إلى انكشاف الحقيقة في نهاية الأمر، وقد
كان من الأفلام التي تحاول نقد الفساد الذي يدور في المُجتمع المصري.
قدم الميهي الكثير من الأفلام التي قام بكتابتها لغيره من المُخرجين، ولعل فيلمه "غرباء" 1973م للمُخرج سعد عرفة كان من أهم الأفلام التي كتبها حيث يعمل على انتقاد ما يدور في المُجتمع من صخب فكري، وتشدق العديدين بالكثير من الأفكار والأيديولوجيات والمذاهب التي يرون أنها الحقيقة الكبرى بينما يرون من سواهم غائبين عن هذه الحقيقة.
إذن، فرأفت الميهي من أكثر الذين عملوا في السينما مُتبنين موقفا تجاه الحياة والمُجتمع المُحيط بهم، ولعل موقفه النقدي تجاه كل ما يدور من حوله بدا واضحا في الغالبية العظمى من الأفلام التي كتبها للسينما وأخرجها غيره من المُخرجين. وبما أن الفنان دائما ما يحاول السعي نحو الكمال؛ ولأن رأفت الميهي رغب في امتلاك رؤيته السينمائية الكاملة مثلما يرغب هو في تقديمها وبروحه وثقافته التي تخصه وحده؛ فلقد اتجه إلى الإخراج السينمائي لما يكتبه- لاحظ أن جميع الأفلام التي أخرجها الميهي كانت من تأليفه هو، أي أنه لم يخرج فيلما واحدا لم يكتبه.في عام 1981م أخرج الميهي فيلمه الأول "عيون لا تنام" عن المسرحية الأمريكية "رغبة تحت شجر الدردار" Desire Under the Elms للمسرحي الأمريكي يوجين أونيل Eugene O Neill الذي كان من أفضل الأفلام للتعبير عن الواقع المصري؛ الأمر الذي جعل الميهي من أهم رواد الاتجاه الجديد في السينما- الواقعية الجديدة- جنبا إلى جنب مع رائدها محمد خان. أي أن فترة الاضمحلال الطويلة التي مرت بها السينما المصرية، والتي كادت أن تصل بها إلى السكتة القلبية التامة قد أفرزت العديد من شباب السينمائيين المُثقفين أصحاب الموقف مما يدور من حولهم؛ ومن ثم اهتموا أيما اهتمام بنقد الأوضاع القائمة، سواء من أجل تصحيحها المُباشر، أو لمُجرد التأمل فيما يحدث وتنبيه الجميع إلى أن الوضع الراهن لا بد له أن يؤدي في النهاية إلى كارثة اجتماعية واقتصادية حقيقية تحيق بالجميع؛ ومن هنا اكتسبت هذه السينما الجديدة أهميتها؛ لاهتمامها بالبسطاء ومُشكلاتهم، ومُعاناتهم، بل والتعامل معهم بقدر غير قليل من الحنان والحب من دون الذهاب إلى إدانتهم أو النظر إليهم باعتبارهم لا يحق لهم الحياة في هذا المُجتمع، أو لا يحق لهم مُجرد الحلم في حياة ووضعية اجتماعية واقتصادية أفضل.
يتناول الميهي في فيلمه الأول "إبراهيم" صاحب ورشة سيارات كبير في العمر. يتزوج من فتاة فقيرة تُدعى "محاسن"، وهو الأمر الذي يخشاه إخوته؛ بسبب خوفهم من احتمال مُشاركتها لهم في الميراث، وفي نفس الوقت يشعر "إسماعيل"، الأخ الأصغر لإبراهيم، والذي يعمل لديه في الورشة بالكثير من مشاعر البغضاء والكراهية نحو الأخ الأكبر إبراهيم؛ الأمر الذي يدفعه لاختلاق المشاكل طيلة الوقت مع محاسن، لكن، سرعان ما يتبدل حال العلاقة بين محاسن وإسماعيل ويميل إليها؛ ومن ثم تكون بينهما علاقة عاطفية جامحة تُثمر عن طفل في أحشائها. يظن إبراهيم، الأخ الأكبر، أن زوجته حامل بطفله، لكن حينما يحين موعد ولادتها يخبره الطبيب أنه لا بد من الاختيار بين الطفل أو الأم، فيختار إبراهيم الطفل مُفضلا إياه على الزوجة؛ فالطفل هو امتداده ووريثه الذي يرغبه كي يرث الورشة ولا يأخذها إخوته. هنا لا يتمالك إسماعيل نفسه ويهجم على أخيه الأكبر قاتلا إياه، وينتهي به الأمر إلى اللوثة العقلية.رغم اقتباس العمل السينمائي من المسرحية الأمريكية إلا أن الميهي قد عمل على كتابتها بما يتناسب تماما مع الواقع المصري في الثمانينيات، وبالتالي لم يبق من الأصل الأدبي سوى الفكرة العامة الراغبة في الحديث عن جنون التملك؛ فالأخ الأكبر هنا هو من تعب سنوات طويلة من أجل إنشاء هذه الورشة وبقائها، ومن ثم الإنفاق على أشقائه الثلاثة، صحيح أن هناك شقيقين منهم قد سافرا إلى الخليج من أجل محاولة الثراء بعيدا عن أخيهم الأكبر، لكن الأخ الأصغر ظل مع إبراهيم الذي رباهم واعتنى بهم؛ ولأن إبراهيم يرى أنه صاحب الحق في المال وفي كل شيء؛ بعد سنوات الشقاء التي مر بها؛ فهو يتزوج من محاسن لتأتي له بالطفل الوريث لهذه الورشة، وهذا ما يُفسر في نهاية الفيلم تمسكه بالطفل من دون الزوجة والتضحية بها؛ فالطفل هو الامتداد الذي سيشعره أن شقاءه طوال عمره لم يأخذه غيره. لا يمكن إنكار أن الميهي قد نجح في التعبير عن شعور التملك، كما كان فيلمه نموذجا من أفلام الواقعية الجديدة التي تحاول التعبير عما يدور في هذه الفترة الزمنية والآثار الاقتصادية والاجتماعية وكم الصراعات التي تركتها فترة السبعينيات على ما بعدها؛ وهو ما جعل، مثلا، أصحاب الحرف اليدوية هم أصحاب السيادة في المُجتمع؛ حيث بات المُجتمع يفضلهم على المُتعلمين والمُثقفين وغيرهم، وهذا ما رأيناه في الفيلم تماما.
قدم لنا الميهي في أول أفلامه فيلما شديد الواقعية يعمل على تأمل العلاقات الاجتماعية في المُجتمع المصري وما آلت إليه من صراعات دموية مُخيفة تنبئ بانفجار وشيك في المُجتمع؛ الأمر الذي جعل الأخ الأصغر يقتل أخاه بسبب هذا الصراع؛ لذلك حينما رأينا فيلمه الثاني "الأفوكاتو" 1984م كانت الدهشة القصوى من الانقلاب الأسلوبي في تناول هذا الواقع رغم أنه لم يحد عن مساره في نقد هذا الواقع العبثي السوداوي المأساوي بكل ما يموج فيه من تناقضات لاعقلانية.لا يمكن إنكار ارتباك النقاد- والجمهور أيضا- أمام رأفت الميهي حينما بدأ أسلوبه الفني الجديد الخاص به في السينما المصرية، وهو الأسلوب الذي كان هو رائده، وما زال، من دون أن يقلده أحد غيره في مثل هذا الاتجاه. فالميهي من المُخرجين الذين يتأملون الواقع بعُمق، ويعمل على انتقاده، لكنه يرى أن هذا الواقع السوداوي العبثي لا يمكن له أن يكون أفضل مما هو عليه، وسيظل هكذا بشكل أبدي، أي أن الجميع قد بات عالقا في اللحظة الآنية بقتامتها ومأساويتها. صحيح أن مثل هذه النظرة القاتمة كان من المُمكن لها أن تدفع غيره من المُخرجين إلى تقديم الكثير من الأفلام المليودرامية المُغرقة في البكائيات، لكنه لم يقع في مثل هذا المأزق ونجا بنفسه حينما اختار السخرية من هذا الواقع، ورأى أنها السبيل الوحيد إلى تقديمه ومحاولة مُعالجة مُشكلاته- رغم أن مُعظم أفلام الميهي تقريبا تؤكد أنه لا سبيل للخلاص من هذه المأساة التي نحياها؛ ومن ثم نرى أبطاله في نهاية أعماله السينمائية دائما ما تستسلم لما هو كائن؛ لأنه ليس في الإمكان تغيير هذه المهزلة التي نعيش فيها!
نقول: إن ارتباك النقاد أمام ما يقدمه الميهي من أفلام بأسلوبه الجديد الذي يخصه وحده- أسلوب المسخرة- أو السخرية من الواقع هو ما دفع جل نقاد السينما المصرية إلى الارتباك في تحديد المفهوم أو المصطلح على أفلامه السينمائية؛ وبالتالي رأينا العديد من المفاهيم التي يطلقها النقاد على هذه السينما المُختلفة والغريبة بالنسبة إليهم.
اعتبر مُعظم نقاد السينما المصرية أن ما يقدمه رأفت الميهي من أفلام تندرج تحت مُسمى أفلام الفانتازيا، أي أنهم رأوا في كل ما هو غريب عليهم في الأسلوب السينمائي مُجرد فانتازيا؛ بما أن العقل لا يمكن له أن يتقبلها بسهولة، أو لأنها خارجة عن المألوف وعما هو مُتعارف عليه في صناعة السينما. وربما كان هذا الاستسهال في تحديد المفهوم من الكوارث التي بقيت متداولة بين العديد من الأجيال حتى اليوم من دون محاولة النظرة المُتأملة؛ من أجل وضع تحديد لهذا الاتجاه السينمائي.رغب الميهي هنا في أن يكون مُتفردا في لغته السينمائية؛ وبالتالي آل على نفسه أن يأخذ تجاها يخصه وحده- مثلما فعل يوسف شاهين في أفلامه التي اختلفت عما يقدمه غيره من مُخرجي السينما المصرية؛ فكان خارج السرب- ورأى أن الوسيلة الوحيدة لتأمل الواقع وتقديمه ومحاولة إلقاء الضوء على مُشكلاته هو التعالي على هذا الواقع؛ من أجل رؤيته رؤية كلية من بعيد، ثم السُخرية منه؛ لعل السُخرية تكون علاجا ناجحا لما يدور من حولنا. صحيح أن مُعظم أفلامه من المُمكن إدراجها تحت مُسمى الأفلام الكوميدية، لكنها ليست الكوميديا بالمفهوم الذي نعرفه، بل هي الكوميديا السوداء التي تجعل المُشاهد يضحك على نفسه وكأنه يبكي، أي أنه يضحك باكيا إذا جاز لنا التوصيف.
يُعرّف الفيلم الفانتازي بأنه: فيلم من مواضيع خيالية
عادة، تتضمن أحداثا سحرية وخارقة للطبيعة ووجود مخلوقات أو عوالم خيالية غريبة.
وهذا النوع يُعد مُختلفا تماما عن أفلام الخيال العلمي وأفلام الرعب، رغم أن هذه
الأنواع تتداخل فيما بينها، لكن أفلام الفانتازيا في الغالب لديها عنصر من السحر
والأساطير والتعجب والهروب من الواقع، ولعل خير مثال على أفلام الفانتازيا فيلم
"سيد الخواتم" 2001م Lord Of The Rings للمُخرج النيوزلندي بيتر جاكسون Peter Robert Jackson حيث يضم الفيلم جميع عناصر الفانتازيا تقريبا.
إذا ما تأملنا مفهوم الفيلم الفانتازي السابق، ثم حاولنا
تأمل ما يقدمه المُخرج رأفت الميهي من سينما تسخر من الواقع؛ فإننا بالضرورة لا
يمكن لنا أن نُطلق على ما يقدمه المُخرج سينما الفانتازيا، أو أفلام الفانتازيا؛
لأنه لا توجد ثمة فانتازيا فيما يقدمه الميهي هنا، ومن ثم يكون إطلاق هذا المُسمى
عليها من قبيل الظُلم لأفلامه، فضلا عن الجهل بالمُصطلح الذي تم إطلاقه في غمرة
فوضى إطلاق المُصطلحات من نقاد السينما المصرية؛ لذلك لم نكن مع الناقد سمير فريد
وغيره من النقاد حينما رأوا أن فيلم "الأفوكاتو" أو غيره من أفلام
الميهي إنما تُعبر عن الفانتازيا.
أندريه بريتون
ثمة نقاد آخرون- وهم أقل- أطلقوا على سينما الميهي مصطلح
Film Parody أو المُحاكاة الساخرة في محاولة منهم لفهم
ما يقدمه الميهي من أسلوب سينمائي جديد ومُختلف، لكن إذا ما عرفنا أن المقصود بهذه
المُحاكاة الساخرة هو: كل أثر أدبي أو فني يُحاكى فيه أسلوب أحد المُؤلفين على نحو
تهكمي يثير الضحك والسخرية؛ سيتأكد لنا أن هذا المُصطلح بعيد كل البعد عما يقدمه
المُخرج من أفلام. وقد جاء في قاموس المعاني: "الباروديا": أثر أدبي أو
مُوسيقي يُحاكى فيه أسلوب أحد المُؤلفين على نحو يثير الضحك والهُزء، أي أن
البارودية هي المُحاكاة الساخرة لأحد المُؤلفين، مُحاكاة تهكمية أو ساخرة. ولعل
أكثر الأفلام نموذجا على "الفيلم البارودي" هو فيلم "قابل
الإسبارطيين" Meet The Spartans 2008م للمُخرجين Jason Friedberg and Aaron Seltzer الذي كان مُحاكاة ساخرة لفيلم 300 للمُخرج
زاك سنايدر Zack Snyder 2007م، ومثله أيضا فيلم "فيلم
مُرعب" Scary Movie 2013م للمُخرج الأمريكي مالكولم لي Malcolm D. Lee بأجزائه العديدة الذي كان يسخر فيه من سلسلة أفلام الرعب الشهيرة
"منشار" Saw 2004م للمُخرج جيمس وان James Wan وهو الفيلم الذي أُنتج منه سبعة أجزاء حتى عام 2010م للعديد من
المُخرجين، وسلسلة أفلام "صرخة" Scream المُنتجة في
أعوام 1996م، 1997م، 2000، 2011م للعديد من المُخرجين أيضا؛ لذلك حينما نقرأ ما
كتبه الناقد حسني عبد الرحيم عن الميهي: "محاولته الجديدة "علشان ربنا
يحبك" تدخل في نفس الإطار الذي يعمل عليه منذ سنين، وهو "المسخرة
الاجتماعية" كما في أفلام "السادة الرجال"، و"سيداتي
آنساتي"، و"سمك لبن تمر هندي"، وتشتمل جميعا على فكرة نقد الزيف
المُسيطر في حياتنا الاجتماعية، وجميعها "بارودي"- مُحاكاة ساخرة- وليس
كما اصطلح سواد النقاد على تسميتها "بالفانتازيا"؛ فالميهي في مُعظم هذه
الأفلام يقدم رؤى واقعية مُتطرفة وكاريكاتورية لكي يسخر منها، ولم أشعر في أي منها
بأنه يكذب، بل على العكس دائما ما انتابني شعور بأنه يترافع في قضية شخصية جدا
وحميمية"[2].
نقول: مع قراءة ما ذهب إليه الناقد حسني عبد الرحيم لا
يمكن لنا أن نأخذ بما ذهب إليه، صحيح أنه كان مُصيبا في عدم الموافقة على ما ذهب
إليه مُعظم النقاد في أن الميهي يقدم سينما الفانتازيا، لكنه لم يحالفه الحظ في
تعريف هذه السينما حينما رأى أنها "سينما البارودي"؛ لأن الميهي لا
يحاكي سوى الواقع فقط، أي أنه لا يحاكي عملا فنيا سابقا، أو كاتبا سابقا، أو أي
أثر سابق عليه؛ ومن ثم لا يمكن أن تكون هذه السينما الساخرة من الواقع- سينما
المسخرة- هي سينما البارودي، ومن غير المُمكن أن يستقيم معها هذا المفهوم.
سيجموند فرويد
إذن، ما هو المفهوم أو الإصطلاح الذي من المُمكن لنا أن نضع تحته أفلام رأفت الميهي الساخرة؟
إذا ما تأملنا المفهوم القادم ربما نستطيع الاقتراب أكثر
من مفهوم اللغة السينمائية التي يقدمها الميهي في أفلامه حينما نعرف أن:
السيريالية Surrealism وهي مُشتقة من كلمة فرنسية الأصل تعني حرفيا
"فوق الواقع"، وهي حركة ثقافية في الفن الحديث والأدب تهدف إلى التعبير
عن العقل الباطن بصورة يعوزها النظام والمنطق، وحسب مُنظرها أندريه بريتون Andre Breton فهي آلية أو تلقائية نفسية خالصة، من خلالها يمكن التعبير عن واقع
اشتغال الفكر إما شفويا أو كتابيا أو بأي طريقة أخرى، وهي فوق جميع الحركات
الثورية. أي أن السيريالية، كمفهوم، هي أكثر المفاهيم التي من المُمكن لها أن تعبر
عما يقدمه الميهي من أفلام سينمائية تعلو فوق الواقع من خلال تأمله ومحاولة
السُخرية منه، ولعله في نقد عالم النفس النمساوي سيجموند فرويد Sigmund Freud للسيريالية ما يؤكد سيطرة العقل والمنطق على هذا المذهب والاتجاه
الفني، أي رغم فوضوية هذا الاتجاه الظاهري كما يتبدى لنا، إلا أنه كان نتيجة قدر
كبير من التفكير العقلاني الذي يرغب في التعبير عن الواقع من خلال آليات وطرق
مُختلفة تكون فيها السخرية مُحركا أساسيا، وقد بدأ فرويد نقده للسيريالية بتصريحه:
إن ما لفت نظره في السيرياليين هو وعيهم وليس لاوعيهم، بما يعني أن التجارب
التلقائية التي قام السيرياليون بإظهارها وكأنها إطلاق للاوعي كانت مُنظمة للغاية
من قبل نشاطات الأنا، بما يشبه مُراقبة الأحلام خلال الحلم؛ وبالتالي فإنه خطأ من
حيث المبدأ اعتبار قصائد السيرياليين ونشاطاتهم الفنية الأخرى كتعبير مُباشر عن
اللاوعي؛ لأنها في الحقيقة مُحددة ومُنفذة من قبل الأنا، وبهذه الطريقة- حسب
فرويد- يمكن أن يُنتج السيرياليون أعمالا عظيمة، لكنها تكون أعمال الوعي وليس
اللاوعي، فقد خدع السيرياليون أنفسهم باعتبار أنهم ينتجون من خلال اللاوعي؛ ففي
التحليل النفسي السليم، لا يعبر اللاوعي عن نفسه بشكل تلقائي، وإنما من خلال تحليل
عمليات المقاومة والنقل- تحويل الرغبة أو الدافع من الموضوع الأصلي لموضوع بديل
عند الشخص في علم النفس- خلال عملية التحليل النفسي.
من خلال فهمنا للسيريالية وآليتها الفنية، ومن خلال نقد
سيجموند فرويد لها؛ حيث أكد أنها نتيجة نشاط عقلي واع تماما وتأملي يتأكد لنا أن
أقرب المفاهيم الفنية على ما يقدمه المُخرج رأفت الميهي هو "الأفلام
السيريالية"، أو "السينما السيريالية"، وهو المفهوم الذي ذهب إليه
الناقد عصام زكريا في وصف سينما رأفت الميهي حينما كتب: "تنتمي أفلام رأفت
الميهي منذ "الأفوكاتو" إلى الأسلوب السوريالي بوضوح. وهو مُصطلح فرنسي
الأصل يعني حرفيا "فوق الواقعي". إذا كان الفنان الواقعي ينقل صوره من
الواقع، فإن الفنان السوريالي يستلهم صوره من انعكاس هذا الواقع على ذاته. بمعنى
أبسط: من أحلام يقظته ومنامه والخيالات والأفكار "الغريبة" التي
تنشأ في عقله نتيجة عدم استيعابه وعدم قبوله لما يحدث في الواقع"[3]،
ولعل هذا المفهوم الأقرب إلى الصحة والاتساق مع ما قدمه الميهي من سينما يكاد يكون
هو المفهوم الوحيد الصحيح والذي لم يذهب إليه سوى الناقد عصام زكريا في محاولة
تقريب هذه السينما من تقعيد المفهوم.
الناقد عصام زكريا
لكن رغم استقرارنا على هذا المفهوم- السينما السيريالية- فيما قدمه المُخرج رأفت الميهي من أفلام تتناول الواقع المعيش، وهي السينما التي لا يمكن لها بأي حال من الأحوال الانفصال عن الواقعية والاتجاه الجديد الناشئ في السينما المصرية- فهي تنطلق من هذا الواقع وتتخذ منه مادة أساسية في جميع أفلامها وإن كانت تحاول السخرية منه- إلا أننا نذهب إلى تسميتها "سينما المسخرة"؛ لأن هذا المُسمى هو الأقرب إلى روح هذه السينما، وإلى قول المُخرج نفسه في العديد من الحوارات.
يقول رأفت الميهي: "عندما أنتقد المُجتمع، لا بد أن
أعلو عليه أولا كي أشاهده جيدا وأستوعبه، بمعنى أنني أحاول ألا أغرق في تفاصيله؛
لكي أرى تناقضاته، وهكذا أستطيع أن أسخر منه، وبصراحة شديدة أنا أرى أن الواقع
مُؤلم جدا، وإذا لجأت إلى تصويره واقعيا ستكون الصورة قاتمة وكئيبة جدا"[4].
إذا ما تأملنا هذا التصريح من الميهي في حواره السابق
يتأكد لنا أن المُخرج يدرك جيدا ويعي ما يفعله، وأنه يهدف في المقام الأول إلى
السخرية من الواقع الذي ينطلق منه بعدما يعلو عليه قليلا من أجل تأمله بشكل واعٍ،
ويؤكد الميهي أنه- نتيجة نظرته اليائسة السوداوية- لا يمكن له تقديم الواقع كما
هو؛ وإلا تحول الأمر إلى البكائيات والمليودراميات مما لا يرغبه في السينما التي
يقدمها؛ فكان الحل الذي اختاره هو السخرية من هذا الواقع وتقديمه في شكل هزلي يجعل
المُشاهد يضحك على نفسه وما يعانيه وكأنه يبكي، وهو أسلوب سينمائي انفرد به الميهي
وحده في السينما المصرية ولم يقدمه غيره من المُخرجين فيما عدا المخرج السوداني
سعيد حامد في فيلمه الأول "الحب في الثلاجة" 1993م، لكنه لم يستمر في
تقديم أفلام تخص هذا الاتجاه ونحا باتجاه موجه أفلام المُضحكين الجُدد التي سادت
في حقبة التسعينيات من عمر السينما المصرية، وهو ما سنعود إليه في هذه الحقبة فيما
بعد.
المُخرج كمال الشيخ
إذن، ففي فيلمه الثاني "الأفوكاتو" يعلن الميهي عن اتجاهه الخاص به فيما يقدمه من سينما مُختلفة، وإن كانت تسير في نفس إطار أفلام الواقعية الجديدة التي بدأها المُخرج محمد خان. يتناول الفيلم الواقع المصري في الثمانينيات، وهو الواقع الذي تركت عليه سنوات الستينيات والسبعينيات بأثرها السياسي والاقتصادي والاجتماعي؛ فتحول المُجتمع المصري إلى مُجتمع شائه، غير واقعي من المُمكن أن تتخيل فيه أي شيء، وكل شيء، وهو ما أراد الميهي تصويره في فيلمه من خلال المحامي "حسن سبانخ" القادر على تحويل كل شيء لصالحه ولصالح موكله بالقانون، يحاول سبانخ التأقلم مع أوضاع السجن أثناء قضائه عقوبة الحبس لمدة شهر؛ بسبب إهانته للمحكمة في إحدى القضايا، ويتمكن من إقامة العديد من العلاقات الملتوية أبرزها مع تاجر المُخدرات حسونة محرم، وسليم أبو زيد، أحد مراكز القوى في الستينيات، ويلعب سبانخ على جميع الحبال، ويبدأ في تحريك النظام القضائي وأوضاع المُجتمع المقلوبة كعرائس الماريونيت. ينجح سبانخ في إخراج حسونة محرم من السجن وإعادته لواجهة المُجتمع مرة أخرى؛ تمهيدا لقيام سبانخ نفسه بالنصب على حسونة في "خبطة العمر"، حيث تضمنت خطة سبانخ اتهام حسونة بالإتجار في العملة المُزيفة، وتزويج شقيقة زوجته لحسونة، لكن حسونة ينجح في الإيقاع بحسن وإدخاله السجن، ولأن سبانخ يعشق التلاعب فسرعان ما يستأنف نشاطه من داخل أسوار السجن مُتحالفا مع سليم أبو زيد في عملية جديدة تبدأ كما انتهى الفيلم بالهروب منه، وبدء حياة ملتوية جديدة.
نلاحظ في فيلم الميهي أنه يقدم رؤية شديدة السوداوية للواقع المعيش من خلال إطار ساخر هزلي كاريكاتوري؛ فالمُحامي قادر على قلب كل الحقائق وإقناع هيئة المحكمة بما يريده، والحراس الفقراء داخل السجن يقومون بخدمة سجنائهم من الأغنياء الذين يعيشون فيما يشبه المُنتجع داخل السجون، وأحلام سبانخ نفسه لا تتعدى رغبته في شراء دراجة لابنه، وتليفزيون ملون، وإجراء عملية لزوجته التي تزعجه بشخيرها أثناء النوم، وهو يسكن في الحواري المليئة بالقمامة ومياه المجاري الطافحة، ورجال الأعمال الذين كانوا نتيجة طبيعية لسياسة الانفتاح السابقة، لا يعنيهم المُجتمع بقدر ما يعنيهم تكديس المزيد من الثروات من خلال أي طريقة حتى لو كانت الإتجار في المُخدرات، وشقيقة زوجته غير قادرة على إتمام زواجها بخطيبها لضيق اليد، أي أن المُجتمع بالكامل في حالة انقلاب للمعايير بشكل لا يمكن احتماله، وهو ما يستقيم معه الشكل الساخر الكاريكاتوري الذي قدم من خلاله الميهي لفيلمه، ولعلنا نلحظ أن الفيلم لا ينتهي نهاية أقل سوداوية، بل يؤكد المُخرج على أن هذه المهزلة الاجتماعية والاقتصادية مُستمرة إلى النهاية ولن تنتهي. يتأكد لنا ذلك من مشهد النهاية الذي هرب فيه سبانخ وسليم أبو زيد من السجن؛ كي تستمر الدائرة التي لا نهاية لها.رغم السوداوية القاتمة والتشاؤمية التي تميز بها الفيلم لم يكن الميهي يتخيل أن الواقع المعيش أكثر سوداوية وبؤسا وكابوسية مما قدمه في فيلمه حينما تعرض هو وكل من شارك في الفيلم إلى المُحاكمة بتهمة إهانة القضاء، والمُحامين، والإساءة للمُجتمع، وتشويهه، وفي هذا الشأن يقول الناقد والمُؤرخ السينمائي محمود علي: "كان أغرب قرار يصدره القضاء في قضية فنية تتعلق بحرية التعبير. المفروض أن القضاء المصري هو الحصن والدرع لضمان حق حرية التعبير. هكذا كان دائما موقف القضاء المصري. من هنا كانت الدهشة إزاء الحُكم على فيلم "الأفوكاتو" في نفس الوقت الذي كان يُعقد فيه مؤتمر الإبداع العربي بالقاهرة! والحكاية بدأت عندما تقدم كل من إبراهيم شاهين عمارة، وأبو الفضل حسني، ومحمد عبد العزيز جابر، وأحمد خليل، وشمس الدين عثمان المُحامون بدعوى ضد مُخرج الفيلم رأفت الميهي، وعادل إمام، وحمدي يوسف، وصلاح الصالح مُدير الرقابة، ورئيس مجلس إدارة شركة الدقي فيديو فيلم، وشركة التوزيع الداخلي والخارجي (يوسف شاهين وشركاه) يطالبون فيها: بوقف عرض الفيلم من دور العرض كافة، وسحب أشرطة الفيديو الخاصة به من الأسواق مع عقاب المُعلن إليهم عدا الأخير بخصوص المواد الواردة بعريضة الدعوى، وإلزامهم بـ 101 جنيه تعويضا مؤقتا باعتبار أن الفيلم يحمل قذفا مقصودا به رجال القانون من قضاة ومُحامين ورجال شرطة. وأن القذف جاء في صور مُقززة وإشارات بذيئة وألفاظ يعف عن ذكرها اللسان!"[5].
إذن، من المُمكن القول: لقد انقلب السحر على الساحر، بمعنى أن ما قدمه الميهي من مُجتمع شائه تحكمه مجموعة من العلاقات الهزلية اللاعقلانية تماما قد تجسم أمام عينيه في شكل كابوسي، أكثر كابوسية من فيلمه و"من هنا كان الحُكم في هذه القضية هو الأول من نوعه، فلم يكتف الحُكم بوقف عرض الفيلم إلى حين الانتهاء من مداولة القضية، بل قضى بحبس كل من رأفت الميهي، وعادل إمام، وحمدي يوسف (المُمثل)، ويوسف شاهين، ومُدير شركة الدقي فيديو فيلم، وعادل الميهي سنة مع الشغل وكفالة عشرة آلاف جنيه لكل منهم؛ لوقف التنفيذ، وألزمت المُتهمين بأن يؤدوا للمُدعين بالحق المدني مبلغ 101 جنيه على سبيل التعويض المؤقت"[6]!لكن، رغم هذه المأساة التي تعرض لها كل صُناع هذا الفيلم الذي تحول إلى كابوس حقيقي بعيدا عن شاشات السينما إلا أن المحكمة حكمت في نهاية الأمر بتبرئة الجميع باعتبار أن الفيلم مُجرد خيال لا علاقة له بأشخاص مُعينين، وكان مما جاء في حيثيات البراءة: "وباستعراض المحكمة لمشاهد الفيلم فإن المشهد الذي يتضمن عبارة (أنا مُحامي نصاب، أنصب على الزبون في 50 أو 100 جنيه)، هذا القول وغيره مما تضمنه الفيلم من مشاهد لا يتضمن قذفا أو سبا أُسند إلى شخص مُعين من المُدعين بالحق المدني أو إليهم جميعا، ولا صلة لشخص أو اسم المُحامي في الفيلم (حسن سبانخ) بشخص أو اسم أي من المُدعين بالحق المدني، فجميع مشاهد الفيلم لا تنطوي على إسناد واقعة مُعينة إلى المُدعين بالحق المدني تُوجب عقابهم جنائيا أو احتقارهم عند أهل وطنهم، وإن المُحامي في الفيلم لا يرمز إلى مهنة المُحاماة، فالفيلم ليس به هجوم على أي فئة، لا يُنكر أصلا أن بكل طائفة فئة قليلة من الذين حادوا عن الواجب وقواعد المهنة التي يعملون بها. وأضافت حيثيات الحُكم أن فيلم "الأفوكاتو" قُدم في أسلوب كاريكاتوري؛ بحيث يُدرك المُشاهد أن نوع ما شاهده، نوع من المُبالغة ولا يحدث في الواقع، وشخصيات الفيلم كاريكاتورية، فلم يحدث أن شاهدنا في تاريخ القضاء المصري قاضيا يعاكس ويغازل سيدة في أثناء انعقاد الجلسة بالمحكمة وبألفاظ سوقية مُبتذلة، وليس واقعيا أن الفيلم يعمل على حث المُشاهدين على تصديق ما يعرض، بل بالعكس يدفع المُشاهد إلى عدم تصديق ما يشاهده"[7]، أي أن القضية انتهت بعد فترة بتبرئة الجميع بعدما عاش الميهي كابوسه الذي صنعه على الشاشة بشكل أكثر قتامة في الواقع.
في عام 1986م يتخلى الميهي عن هذا الأسلوب الساخر؛ ليعود إلى الاتجاه الواقعي الذي يقدم الواقع كما هو من دون أي سخرية في فيلمه "للحُب قصة أخيرة"، لكن يبدو أن الواقع نفسه يسخر من الميهي- ملك المسخرة- فلقد فوجئ الميهي، مرة أخرى، برفع دعوى قضائية على فيلمه الجديد وعلى بطلي الفيلم معالي زايد، ويحيى الفخراني بدعوى احتواء الفيلم على مشاهد جنسية، "وبذلك رأينا عام 1986م قضية من أغرب القضايا التي ظهرت في المُجتمع المصري، والتي قُصد بها فرض الرقابة الاجتماعية على السينما المصرية- فصار هناك رقيبان خارجيان هما المُجتمع، والرقيب على المُصنفات الفنية، فضلا عن الرقيب الداخلي- حينما أُثيرت قضية الفعل الفاضح العلني عند عرض الفيلم؛ فتقدم البعض ببلاغ للنائب العام يُفيد بأن هناك فعلا فاضحا تم بين يحيى الفخراني، ومعالي زايد؛ الأمر الذي جعل المُخرج والفنانين يدافعون فيه عن أنفسهم باعتبار أن مشهد الفراش واللقاء الجنسي الحميم كان من صميم العمل؛ حيث كان الزوج مُصابا بمرض في القلب، وعليه فإنه يترتب على لقائه مع زوجته الكثير من أحداث الفيلم، ولكن، مرت القضية في النهاية بسلام حينما تمت تبرئة كل من معالي زايد ويحيى الفخراني من التُهمة الجديدة، بل والشاذة التي وجهها لهم المُجتمع صاحب القيم الجديدة"[8].في هذه القضية يقول الناقد علي أبو شادي: "شهد بداية العام القبض على صُناع فيلم "للحُب قصة أخيرة"، المُخرج رأفت الميهي، والفنانين يحيى الفخراني، ومعالي زايد، والمُنتج حسين القلا، وتحويلهم إلى نيابة الآداب واتهامهم بارتكاب فعل علني فاضح؛ بسبب أحد المشاهد في الفيلم، والذي سبق أن صرحت الرقابة بعرضه. تفجر الموقف وانعقد مُؤتمر عام للمُثقفين دافع فيه وزير الثقافة الدكتور أحمد هيكل عن حق الفنان في حرية التعبير، وساند المُثقفون والسينمائيون صُناع الفيلم، وأُفرج عن الجميع بكفالة ضخمة، وتم تجميد الدعوى، وكان وراء هذه المعركة الساخنة السريعة بعض المُتعاطفين مع التيار الإسلامي المُتشدد"[9].إذن، فالواقع بكامله يزداد ثقله الكابوسي الحقيقي على الميهي؛ ومن ثم رأينا مثل هذا الترصد اللاعقلاني لما يقدمه من سينما، ورغم أن فيلمه الثالث "للحُب قصة أخيرة" لم يكن فيه ما يمكن أن يستدعي مُقاضاته، إلا أنه مرّ بالتجربة مرة ثانية؛ لتؤكد له أن هذا المُجتمع بالفعل لا يستحق سوى السخرية.
ربما كان السبب الجوهري والوجيه في هذا الترصد بالمُخرج
هو فضحه الدائم للمُجتمع وتعريته أمام نفسه، لا سيما سُخريته من خرافاته وعلاقاته
الاجتماعية التي يظنها المُجتمع متوازنة، في حين أن الحقيقة تؤكد وجود اختلال
حقيقي في هذه العلاقات، لا يرغب المُجتمع نفسه في الانتباه إليها، أو يحاول
إنكارها؛ ففي فيلمه "للحُب قصة أخيرة" يتحدث عن "رفعت"
المُدرس الذي يُصاب بالقلب، ويتزوج من "سلوى" الفتاة الفقيرة، والغريبة
عن جزيرة الوراق التي يقطنها في قلب النيل، رغم رفض والدته التي تحاول إقناعه
بتطليقها مُقابل حقه في الميراث. لكنه يفضل زوجته التي اختارها ويحبها على أي مال.
تخاف سلوى على حياة زوجها لمرضه، ورغم عدم إيمانها بالمُعجزات إلا أنها تلجأ
للتبرك بالشيخ "التلاوي"، و"القديسة دميانة". يتفق رفعت مع
صديقه الدكتور "حسين" لإيهام سلوى بأن هناك خطأ في التشخيص، وأنه سليم؛
فتعتقد أن المُعجزة قد تحققت بتبركها للأولياء، وتحاول الأم إقناعه بالسفر للعلاج
في الخارج وترك زوجته لكنه يرفض، إلى أن يتوقف قلبه تماما.
لا يخفى علينا أن الفيلم عمل على فضح الموروثات الدينية
الشعبية التي ترى التبرك بالأولياء- سواء في المسيحية أو الإسلام- من المُمكن أن
يكون لها مفعول السحر؛ ومن ثم يقومون- الأولياء- بما لا يستطيع العلم أو الإنسان
القيام به، كما أشار الفيلم إلى أن هذه الأمور تدخل في عداد الوهم
والنصب أيضا، ولعل أهم ما نلمحه في فيلم الميهي فضلا عن رهافته في تناوله للعلاقات
الإنسانية، وعلاقة الحُب بين رفعت وسلوى، أنه يقدم شخصياته في حالة اغتراب كامل
على المستويين الوجودي والاجتماعي، حتى أن هذه الشخصيات تستسلم في نهاية الأمر-
كما هو الحال لدى الميهي في كل أفلامه؛ حيث لا يوجد في الأفق ما يُدلل على ما هو
أفضل مما هو قائم؛ لذلك يكون الاستسلام للأمر الواقع هو الحل دائما.
يوجين أونيل
في عام 1987م يعود الميهي بنشاط وجرأة أكبر ليسخر من المُجتمع بالكامل في فيلمه "السادة الرجال"، وتتجلى هنا لدى الميهي مدى المرارة التي يستشعرها تجاه المُجتمع الذي يتحدث عنه، أي أن المُخرج يزداد تشاؤما في تناول أحوال مُجتمعه، ولعل هذا التشاؤم يتضح لنا من مشاعر المُخرج نفسه تجاه شخصياته في الفيلم، فهو لا يميل إلى أي طرف من الطرفين، ولا يتعاطف معهما، بل يبدو مُلتزما بالحياد تجاه الاثنين معا، مُوقنا بأن كلا منهما يستحق المصير الذي ذهب إليه، وأن هذا المُجتمع لا مجال للتعاطف معه أو الشفقة عليه، بل لا بد من الاصطدام القوي به لإفاقته مما يرتع فيه من عبث وفوضوية ستؤدي به حتما إلى الدمار في كل شيء لاسيما مُؤسسة الزواج التي يسخر منها في فيلمه.
يتحدث الفيلم عن "أحمد" وزوجته "فوزية" التي تعاني من مُعاملة زوجها، وعدم اهتمامه بها بالشكل الذي ترغبه والكافي لها كأنثى، تطلب فوزية الطلاق من زوجها، لكنه يرفض طلاقها؛ فتقرر فوزية إجراء عملية جراحية للتحول من امرأة إلى رجل. تعاني فوزية من مصاعب جمة بعد تحويل جنسها؛ نظرا لانتماء مشاعرها لجنس النساء، وفي ظل هذه المُعاناة للوالدين يفقد طفلهما الكثير من الاهتمام والرعاية؛ الأمر الذي يدفع أحمد في نهاية الأمر إلى الاستسلام للأمر الواقع والتحول إلى أنثى كي يعيش مع زوجه "فوزي" الذي كان فوزية.
ربما نُلاحظ هنا أن الميهي أطلق سُخريته إلى مداها الأكبر؛ فهو يسخر من المُجتمع مُمثلا في مُؤسسة الزواج، كما أنه لا يتعاطف مع أي من الطرفين بل يسخر منهما معا؛ فالرجل فظ شديد الغلظة لا تهمه المرأة في شيء سوى من أجل رغباته فقط، بينما المرأة تنتظر الفرصة كي تسنح لها وتقوم بالانتقام من هذا الرجل بمُمارسة نفس الأفعال التي كان يمارسها عليها حينما تتحول إلى رجل مثله، ولعل اليأس من إصلاح أي شيء في هذا المُجتمع المُهترئ هو ما يجعل أبطال الميهي يستسلمون للأمر الواقع في جميع أفلامه؛ وبالتالي يستسلم أحمد لهذا الواقع بتحوله إلى أنثى في نهاية الأمر، أي أن الأمور لدى الميهي تزداد عبثية ومرارة وتشاؤما بشكل سوداوي لا تبدو من خلاله أي بارقة أمل في الأفق القريب أو البعيد.علنا كلما رأينا فيلما جديدا لرأفت الميهي يتأكد لنا أنه يشتط به الخيال في فيلمه الجديد أكثر من فيلمه السابق؛ حتى أننا نتساءل: ما الذي من المُمكن له أن يقدمه في فيلمه القادم، لكن المُخرج الراغب فعليا في سينما جديدة تخصه وحده من خلال سخريته القاتمة ينجح في أن يقدم لنا ما يثير لدينا المزيد من الدهشة نتيجة مقدرته على التجديد والمضي قدما في المزيد من السخرية، بل وتحطيمه للشكل الفني المُعتاد في السينما المصرية، وتقديم شكل جديد لا يخص سواه فقط؛ لذلك كانت دهشتنا حينما قدم الميهي فيلمه التالي "سمك لبن تمر هندي"، وهو الفيلم الذي وصفه بنفسه "بالمسخرة".
في هذا الفيلم يعمل المُخرج على تحطيم الشكل الفني للفيلم السينمائي المُعتاد- لاحظ أن تحطيم المضمون كان في أفلامه السابقة- فيبدأ الفيلم بمشهد أثناء التصوير نرى فيه المُخرج نفسه ومُساعديه، ويتوجه فيه مُمثلو الأدوار الرئيسية بالحديث إلى الجمهور؛ ليؤكدوا أن الفيلم مُجرد خيال، وأن الأماكن غير مقصودة، كذلك الأحداث ومهن الشخصيات.
هل يمكننا الذهاب هنا إلى أن المقصود بهذا المشهد هو نفي شُبهة أي اتهام للمُخرج وصُناع الفيلم بأنهم يقصدون أناسا بأعينهم، وأحداثا بعينها حتى لا يخرج أحدهم ويتهمهم قضائيا مرة أخرى بعدما حدث في فيلم "الأفوكاتو"؟
قد يكون هذا هو هدف المُخرج بالفعل، لكنه من خلال هذا الشكل المُدهش للمُشاهد- الذي لم يعتد هذا الشكل في السينما المصرية- أضفى المزيد من السُخرية والتجديد والصدمة؛ الأمر الذي أفاد فيلمه من الناحية الفنية لاسيما أن الفيلم يزاوج ما بين الحالة الواقعية والحالة فوق الواقعية- وليست الفانتازيا كما يحلو لنقاد السينما الذهاب- فهو لا تعنيه الفانتازيا ومُسمياتها بقدر ما يعنيه السخرية مما يدور حوله وإضحاكنا على أنفسنا وما نفعله، ولعل هذه الحالة من الفوضى الاجتماعية التي يتأملها الميهي في أفلامه تجلت بشكل مُكتمل في هذا الفيلم الذي جعل عنوانه "سمك لبن تمر هندي"، وهي جملة يطلقها المصريون على حالة الفوضى الكاملة التي لا يستقيم فيها أي عقل أو ترتيب أو منطق؛ وبالتالي يتحول الأمر في هذه الحالة إلى فوضى وعبثية كاملة.يتحدث الفيلم عن الطبيب البيطري "أحمد سبانخ" وحبيبته "إدارة". يرغب أحمد في الزواج من إدارة منذ سنوات طويلة لكن ظروفه الاقتصادية تعمل على تأخير زواجهما دائما؛ الأمر الذي يدفع والده إلى السفر للخليج بهدف الحصول على المال ومُساعدة ابنه، وبعد رفض الأب تقديم جزء من دخله إلى المسؤولين عن سفره للخارج يتعرض لمُضايقات منهم ويموت، وبعد نقل جثته إلى مصر يشك الإنتربول في انتماء أحمد ووالده لتنظيم إرهابي ويقوم أحد الضباط بمُراقبته، ويجد أحمد وخطيبته نفسهما في نهاية الأمر حبيسين في "المشرحة" التي ليست في حقيقتها إلا "المُستشفى الخاص لعلاج مشاغبي العالم الثالث".
هنا تبلغ السخرية لدى الميهي أوجها؛ فالمُستشفى الذي يعالج، يقتل المرضى، وملابس الأطباء هي نفسها ملابس المرضى، والأطباء يقرأون الكف والفنجال، والأعضاء البشرية تُشوى وتُؤكل في الأرغفة، والموتى يُبعثون في المشرحة، فيبدو الأمر وكأننا قد دخلنا إلى واقع خيالي، أو هو واقع الأحلام التي يجوز فيها أن يحدث أي شيء من خلال أي شكل غير منطقي، بل تستمر سُخرية الميهي من كل شيء وليس من المُجتمع فقط؛ فيسخر في مشهد مُهم من أحد مشاهد فيلم "الكرنك" حينما نرى الضابط يقول لمعالي زايد: دا زميل اللي اغتصب سعاد حسني في الكرنك يا معالي"! كما يستمر في سُخريته التي نراها حينما يسخر من المشهد الأخير من فيلم "الأرض".
إن السُخرية التي يُصر عليها الميهي فيما يقدمه من سينما تصبح هي الأسلوب والشكل والمضمون الكامل لسينماه؛ فكل ما نحيا فيه مُجرد شكل من أشكال العبث، وهذا العبث لا يمكن لنا مواجهته إلا من خلال السُخرية منه والضحك عليه؛ ولأن هذا العبث لا سبيل واقعي يمكننا من إصلاحه؛ فالأمر يبدو أمامنا شديد القتامة، وبالتالي يصبح الإنسان مُجرد حمار في نهاية الأمر، وهو ما رأيناه في نهاية الفيلم حينما نشاهد إنسانا برأس حمار، أي أن المُخرج يريد التأكيد على أننا لا نفكر، وأننا لا نفترق كثيرا عن الحمار في حياتنا اليومية التي أدت بنا إلى كل هذه المسخرة التي نحياها والتي يصورها لنا علنا نفيق مما نحن فيه.
في هذا الفيلم أراد المُخرج نقاش مفهوم العلاقة بين المواطن والسُلطة في العالم الثالث، ثم العلاقة بين هذا العالم الثالث والمُجتمع الدولي، وهو في ذلك يحاول، قدر استطاعته، الدفاع عن الإنسان ضد الديكتاتورية- سواء على المستوى المحلي أو المستوى الدولي- لكنه يقدم هذه الرؤية من خلال أسلوبيته الجديدة التي رأى أنها الأصلح للتعبير عن السينما التي يريدها.
من خلال هذه الأفلام الخمسة التي قدمها الميهي في فترة الثمانينيات- فترة هذه الحقبة محل الدراسة- يتأكد لنا أن الميهي استطاع التعبير عن هذا الاتجاه السينمائي الجديد في السينما المصرية- الواقعية- وإن كان هذا التعبير قد تم من خلال منظوره الفني الذي يخصه وحده، والذي لم يستطع غيره أن يمشي فيه، أو يسير على خطاه؛ فالمُخرج الذي يقدم هذا الشكل الفني الساخر، إنما ينطلق في كل أفلامه من الواقع، ويستغرق في نقاش قضاياه الرازحة على صدورنا، وإن كان يتناولها بشكل سيريالي؛ للتخفيف من وطأتها ومليودراميتها، أي أنه يحول لنا الميلودراما والبكائيات إلى مسخرة ضاحكة؛ فيضحك المُشاهد على ما يراه، ويسخر من نفسه محاولا تأمل ما آلت إليه أوضاعه الاجتماعية والاقتصادية؛ الأمر الذي جعل الجمهور يتفاعل مع ما يقدمه المُخرج من "مسخرة" سينمائية واجتماعية.
من الجزء الثاني من كتاب "صناعة الصخب: ستون عاما من تاريخ السينما المصرية 1959- 2019م"
مجلة نقد 21
عدد ديسمبر 2021م.
[1] يشير كتاب "بانوراما السينما المصرية 1927- 1982م" إلى أن فيلم "الهارب" كان عام 1975م، ويحمل الرقم التسلسلي في مُجمل إنتاج السينما المصرية 1611/ انظر الكتاب ص 118/ صندوق دعم السينما/ القاهرة 1983م، بينما يشير كتاب "دليل السينمائيين في مصر" للناقدين مُنى البنداري ويعقوب وهبي إلى أن تاريخ الفيلم هو 1974م/ انظر الكتاب ص 121/ سلسلة آفاق السينما/ العدد 28/ الطبعة الثانية/ الهيئة العامة لقصور الثقافة، كما يشير موقع السينما دوت كوم Elcinema.com إلى أن تاريخ عرض الفيلم هو 24 يوليو 1975م.
[2] انظر مقال "علشان ربنا يحبك: ضربة قاتلة للطبقة المتوسطة.. ولكن أين السينما؟!" للناقد حسني عبد الرحيم/ مجلة الفن السابع/ المجلة ص 19/ العدد 42/ مايو 2001م
[3] انظر مقال "رأفت الميهي: عقل السينما المجنون" للناقد عصام زكريا/ موقع البوابة الوثائقية/ الإثنين 27 يوليو 2015م.
[4] انظر حوار رأفت الميهي مع نجلاء فتح الله بعنوان "رأفت الميهي: هذا المُجتمع لا يستحق إلا السخرية!"/ مجلة الفن السابع/ المجلة ص 30/ العدد 42/ مايو 2001م.
[5] انظر كتاب "مائة عام من الرقابة على السينما المصرية" للناقد محمود علي/ الكتاب ص 369/ المجلس الأعلى للثقافة/ 2008م.
[6] انظر كتاب "مائة عام من الرقابة على السينما المصرية" للناقد محمود علي/ الكتاب ص 370/ المجلس الأعلى للثقافة/ 2008م.
[7] انظر المرجع السابق ص 384.
[8] انظر كتاب "السينما النظيفة" للناقد محمود الغيطاني/ الكتاب ص 17/ الطبعة الأولى/ سنابل للكتاب/ 2010م.
[9] انظر كتاب "وقائع السينما المصرية 1895- 2002م" للناقد علي أبو شادي/ الكتاب ص 263- 264/ مرجع سبق ذكره.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق