حصلت المُخرجة إيناس الدغيدي على دبلوم المعهد العالي للسينما قسم الإخراج في عام 1975م، كما عملت كمُساعد مُخرج مع العديد من المُخرجين المصريين مثل كمال الشيخ، وصلاح أبو سيف، وهنري بركات، وأشرف فهمي، أي أن المُخرجة كانت من قلب عالم السينما وصناعتها؛ ومن ثم كانت على دراية بأهمية الصناعة وكيفية تقديم الجيد منها أو السطحي.
ربما بسبب هذا الوعي بصناعة السينما قدمت الدغيدي فيلمها الأول "عفوا أيها القانون" 1985م مُتناولة قضية من القضايا المُهمة التي تؤرق قطاعا كبيرا من المُجتمع المصري لا سيما النساء، إلا أن المُجتمع والقانون لا يعير هذه القضية أي اهتمام؛ ومن ثم تكون الدغيدي بصناعتها لهذا الفيلم من المُخرجات المُهمات والجريئات في الاشتباك فيما هو مسكوت عنه اجتماعيا رغم خطورته.
كانت القضية المُؤرقة للمُخرجة في فيلمها هي عدم المساواة أمام القانون في قضايا الزنا؛ فالرجل الذي يضبط زوجته مُتلبسة في قضية زنا ويقوم بقتلها لا يعاقبه القانون، بل يُحكم عليه حُكما لا قيمة له لا يتجاوز الثلاثة أشهر مع إيقاف التنفيذ باعتبار الأمر مُجرد جُنحة، وأنه كان في موقف الدفاع عن شرفه! في حين أن المرأة التي تضبط زوجها مُتلبسا في حالة زنا وتقوم بقتله لا يتهاون القانون معها؛ ومن ثم تتعرض للحكم بالحبس المُشدد- 15 عاما- أو المُؤبد!
لا يمكن إنكار أن هذه النظرة المزدوجة باتجاه نفس الموضوع لا يمكن قبولها عقليا أو منطقيا، كما أن خيانة الرجل هنا لا يمكن اختلافها عن خيانة المرأة؛ لذلك لا بد من التساؤل: كيف يكون قتل الرجل لزوجته في هذه الحالة دفاعا عن الشرف، بينما قتل المرأة للرجل في نفس الحالة هو حالة جنائية تُوجب الحبس المُشدد؟!
من خلال هذه النظرة ذات المعيار المزدوج، ومن خلال قصة كتبها أحد الضباط- نبيل مكاوي- وقرأتها الدغيدي بالمُصادفة، وعلمت أنها قصة حقيقية؛ فكرت في صناعة فيلمها الأول الذي تحاول من خلاله نسف الاعتقادات الاجتماعية التي ترى أن الشرف ملك للرجل فقط بينما المرأة لا يمكن لها الادعاء بأنها تدافع عن شرفها.
أثار فيلم "عفوا أيها القانون" الكثير من
اللغط حينما تم عرضه، ووصل الأمر في تأثيره إلى حدوث تغيير في قانون الأحوال
الشخصية الخاص بقضايا الزنا. يتحدث الفيلم عن مُدرسة الفلسفة بكلية الآداب- هدى-
التي ترتبط بقصة حُب مع "علي" المُدرس بكلية الهندسة، لكنهما حينما
يتزوجان يخبرها علي بعجزه الجنسي، ويحاول إقناعها بأن الجنس ليس كل شيء في الحياة،
لكنها واجهته باحتياجها لتلك المشاعر وعاطفة الأمومة، إلا أن حبها له منعها من
مواجهته بعنف أو طلب الطلاق، لكن المُشكلة أن الزوج يُصاب بحالة هياج وشك في كل
شيء؛ فحينما تقوم الزوجة بزيارة شقيقتها وزوجها يظن علي بأنها قد أخبرتهما بعجزه
وفضحته؛ فيقوم بضربها، لتترك له البيت وتلجأ إلى والده وتشكو له من عصبية الزوج
الزائدة، إلا أن الزوج- علي- يظن أنها قد فضحته أمام أبيه أيضا؛ فيحتد عليها
ويحاول خنقها إلا أن أباه ينقذها من يديه، لكن الزوج يذكر اسم "زينات"
أثناء محاولته لخنقها. تسأل هدى حماها عن زينات؛ فيخبرها أنها زوجته الثانية التي
رآها في أحضان عشيقها؛ فقام بقتلها، وحُكم عليه بالسجن شهر مع إيقاف التنفيذ في
الوقت الذي كان عُمر علي فيه 11 عاما. تحاول هدى علاج الزوج الذي لم يكن لديه أي
سبب عضوي في العجز، وتكتشف أن سبب عجزه مع النساء أنه كان يحب زوجة أبيه- زينات-
ولأنه يرى أن هذا الحُب مُحرم؛ فقد أُصيب بالعجز مع النساء. تنجح هدى بالفعل في
التغلب على المُشكلة النفسية لزوجها، ويصبح زوجا طبيعيا، ويقيم حفلا كبيرا يدعو
إليه كل أصدقائه ومنهم "صلاح العيسوي" مُدير المُطبعة التي تطبع كتبه،
وزوجته "لبنى" صاحبة المطبعة. يقيم علي علاقة جنسية خارج إطار الزواج مع
لبنى، ولكن حينما يعلم أن زوجته حامل بطفلهما، يحاول التوقف عن هذه العلاقة التي
ترغب لبنى في الاستمرار فيها، ويأخذها ذات يوم إلى منزله بينما الزوجة في الخارج،
لكنها تعود وتسمع أصواتا داخل غرفة نومها؛ ولخوفها تتناول أحد المُسدسات التي
يحتفظ بها الزوج، وبمُجرد دخول الغرفة وترى زوجها عاريا في فراشها مع لبنى؛ تقوم
بإطلاق النار بشكل عشوائي وتهرب. في المشفى يلفظ الزوج أنفاسه رغم محاولاته بتبرئة
الزوجة إلا أن أباه يمنعه من ذلك، ويتم علاج لبنى التي يقاضيها زوجها بتهمة الزنا
لكنها تطرده من المنزل والمطبعة؛ فيعود إليها صاغرا، لكن المُفاجأة الأكبر أن
الزوجة قد باتت مُتهمة بالقتل العمد هنا، بل وحُكم عليها بالسجن خمسة عشر عاما!من فيلم زمن الممنوع
أثار الفيلم الكثير من اللغط والشد والجذب، فهناك من يوافقون المُخرجة ويرون بالفعل وجود شكل من أشكال التحيز ضد المرأة لصالح الرجل في القانون، وهو ما يدل على ذكورية المُجتمع، والقانون معا، وهناك من رفض ما قدمته، ولكن سواء رفض المُشاهد ما ذهبت إليه المُخرجة أو قبله، فلقد استطاعت الدغيدي تقديم نفسها كمُخرجة قوية، ولافتة للنظر منذ الفيلم الأول، وهو ما جعل الكثيرين يحتفون بها، ويرون أنها قد بدأت صناعة السينما من أجل تقديم سينما جديدة ومُختلفة وجادة، ترى أن الاشتباك مع مشاكل الواقع هو أهم ما يميز هذه الصناعة.
عام 1988م تقدم المُخرجة فيلمها الثاني "زمن
الممنوع"، ورغم محاولاتها في هذا الفيلم إكسابه سمت الجدية، بزج مشاهد
الثورية في الجامعات المصرية فيه، ومحاولة الحديث عن رجال السياسة الفاسدين، إلا
أنها لم تنجح في إقناع المُشاهد بذلك؛ حيث كان الفيلم من الأفلام التي تميل إلى
السينما التجارية وعدم الاهتمام بفنية الفيلم، بل انصب اهتمامها في الحقيقة على
الحديث عن تجارة المُخدرات، ثم وقوع ابنة تاجر المُخدرات في الإدمان والاغتصاب، ثم
الإصابة بلوثة عقلية، وكأنما المُخرجة التي اهتمت في فيلمها الأول بالواقع
ومشاكله، قد تخلت عن هذه النظرة في فيلمها الثاني، بل وتعمل على مُغازلة الجمهور
بتمرير رسالة له مفادها أخلاقي في المقام الأول، مُلخصها: من حفر حفرة لأخيه وقع
فيها.المُخرجة إيناس الدغيدي
يبدأ الفيلم بفتاة تهيم على وجهها في الصحراء كراعية للغنم وقد أُصيبت بالخبل، ويبدأ الفيلم بسرد قصة هذه الفتاة من خلال مشاهد الفلاش باك؛ فنعرف أنها "أميمة" الطالبة في كلية الطب، والعضوة النشطة في اتحاد الطلاب بالجامعة، والتي تقود المُظاهرات؛ فيتم القبض عليها وعلى غيرها من الطلاب، لكنهم حينما يعلمون في القسم أنها ابنة أحد رجال السُلطة "عاصم دياب" يُفرج عنها فورا، لكنها تتمسك بالإفراج عن زملائها أيضا، خاصة "هشام" الذي لا يوجد لديه أي شكل من أشكال النشاط السياسي. هشام شاب مُلتزم يعيش بمُفرده بعدما سافر والداه في إعارة لإحدى الدول العربية، وتنشأ بينه وبين أميمة قصة حُب ويقوم بخطبتها، لكن في هذه الأثناء يقوم أحد الطلاب المُنافسين لأميمة في انتخابات اتحاد الطلبة بتشويه سُمعتها عن طريق الكشف عن حقيقة والدها تاجر المُخدرات المُستتر خلف مركزه السياسي ونفوذه، كما أن الأب من ورائه امرأة هي "نعناعة" التي تُدير مكانا يلتقي فيه المُدمنون. تحاول أميمة معرفة حقيقة والدها؛ فتلجأ إلى أمها التي ترأس جمعية من الجمعيات النسائية، والدائمة الانشغال، وغير العابئة بابنتها، لكنها لا تصل إلى شيء، فتحاول معرفة الحقيقة بطريقتها؛ تذهب إلى مقر نعناعة وتلتقي هناك بالشباب المُدمن، وتتأكد من صحة كل ما أُثير. تقع أميمة فريسة للإدمان، وتعتاد التردد على نعناعة، لكن أحد المُدمنين يقوم باغتصابها وهي مُخدرة. يكتشف هشام ذلك ويحاول حبسها في منزله؛ لتمتنع عن الإدمان لكنه يكتشف أنها قد باعت كل شيء، وينتهي الفيلم بإصابتها بلوثة عقلية، وهيامها في الصحراء ورعي الأغنام.
هل نجحت الدغيدي من خلال فيلمها الثاني في الاستمرار على نفس المستوى سواء من ناحية الشكل أو المضمون؟
من يشاهد فيلم "زمن الممنوع" لإيناس الدغيدي
يتأكد له أنها لم تستطع الحفاظ على نفس المستوى الذي قدمت من خلاله نفسها كمُخرجة
سينمائية في فيلمها الأول؛ ومن ثم رأينا أن مستواها تراجع كثيرا بعدما عقدنا عليها
الكثير من الآمال في صناعة سينما جادة، لكنها مالت في فيلمها الثاني إلى السينما
التجارية بشكل فج، وهي السينما التي لا تهتم بأي قضية سوى قضايا المخدرات
والاغتصاب والمعارك، والأكشن؛ لجذب المزيد من الجمهور، ولتذهب السينما المسؤولة
إلى الجحيم فيما بعد.
في فيلمها الثالث "التحدي" الذي قدمته الدغيدي في نفس العام- 1988م- تحاول استثمار نجاح وقبول فيلمها الأول الذي مال إلى مُناصرة المرأة التي يظلمها المُجتمع والقانون معا، من خلال قصة تتشابه إلى حد ما مع الفيلم الأول، لكنها لا تُوفق في تقديم فيلم يرقى إلى مستوى فيلمها الأول.
تتناول في هذا الفيلم "هدى" التي تُقاسي من
مُعاملة زوجها "إبراهيم"؛ الأمر الذي يجعلها تترك له منزل الزوجية بصحبة
ابنها الصغير "عادل"، وتُقيم لدى أختها "سعاد" وزوجها
"زينهم"، لكن بعدما أقنعتها أختها بالصلح والعودة إلى الزوج تستجيب لها؛
لتُفاجأ بزوجها في أحضان زوجة جاره في حجرة النوم. تفقد هدى أعصابها وتُصمم على
فضح الجميع أمام الجيران؛ فيحاول إبراهيم إسكاتها ويطبق على رقبتها وكادت أن
تختنق، لتجد أمامها سكينا فطعنته به. يموت الزوج ويتم إلقاء القبض عليها، ولأنها
لا تمتلك أتعاب مُحامٍ؛ تنتدب لها المحكمة المُحامي "أبو المجد" ليدافع
عنها بالمجان، وتظل القضية مُتداولة لأكثر من عامين؛ بسبب تأجيلات أبو المجد بينما
كان الطفل عادل في رعاية جده لأبيه- عبد القوي- وهو رجل ثري ذو نفوذ قوي، وقد دأب
على تلقين الطفل كراهية أمه التي قتلت أباه أمام عينيه، بينما كان المُحامي الشاب
"أحمد" الذي يعمل في مكتب المحامي "أبو المجد" قد فقد منزله
المُنهار، وأودع أمه لدى خاله، وعاش هو في منازل أصدقائه، وكان الخال يطمع في
تزويج أحمد من ابنته "كاميليا" التي يبدو عليها التعلق به، وفي مُقابل
ذلك ستُحل كل مشاكل أحمد؛ نظرا لثراء الخال المقاول الذي سيمنحه شقة للزواج، وشقة
أخرى؛ ليفتحها كمكتب للمُحاماه، لكن أحمد كان يفضل صناعة مُستقبله بنفسه. يتبنى
أحمد قضية هدى للدفاع عنها بالمجان، ويتمكن من تحويل القضية إلى ضرب أفضى إلى
الموت بدلا من القتل العمد؛ وبذلك تحصل على ثلاث سنوات سجن كانت قد قضت مُعظمها في
الحبس. تبدأ أمور أحمد في الازدهار كمُحام، وتلجأ إليه هدى لمُساعدتها في رؤية
ابنها، ويتمكن المُحامي بالفعل من الحصول لها على ساعة أسبوعية لرؤية الطفل، وهي
الساعة التي كان الجد يحاول إعاقتها ومنعها دائما. يحاول المُحامي البحث عن سكن
وعمل لهدى؛ ليتيح لها حضانة الابن؛ فلجأ الجد إلى مُحاربة أحمد؛ ليمنع قاتلة ابنه
من حضانة حفيده. ينجح أحمد في الحصول على شقة من خاله بدعوى فتحها كمكتب لعمله
وتكوين نفسه ليتزوج من ابنة الخال، لكنه يتزوج هدى في هذه الشقة. هنا يتعاون كل من
الجد والخال ضد الزوجين، وكل منهما له مصلحته الخاصة: الجد ليبعد أحمد عن معاونة
هدى، والخال ليجبر أحمد على العودة والزواج من ابنته. يتم طرد أحمد من الشقة،
ويسعى الجد لطرد هدى من الوظائف التي حصلت عليها، فكر أحمد في خطف الطفل؛ حيث لا
يمكن اتهام الأم بخطف ابنها، لكنه يفشل في ذلك ويحتجزه رجال الجد في المزرعة حتى
يجيئ الخال ويخرجه. يحاول الجد التآمر على هدى، ويعدها بالإقامة مع ابنها في
المزرعة إذا ما تخلصت من زوجها بالطلاق؛ هنا تطلب هدى الطلاق من الزوج، لكن الجد
لا يفي بوعده، ويطردها لتعود إلى نقطة الصفر.من فيلم عفوا أيها القانون من فيلم عفوا أيها القانون
إذا ما تأملنا الفيلم الثالث للمُخرجة؛ لتأكد لنا أنها لم تقدم من خلاله الجديد؛ فالفيلم لا يبتعد كثيرا عن نفس القصة، ونفس الأفكار التي قدمتها في فيلمها الأول- أي ظلم المرأة الاجتماعي، وذكورية المُجتمع في التعامل معها- وإن ظل الفيلم الأول هو الأقوى والأكثر إقناعا على مستوى الرؤية والمضمون؛ لذلك لا يمكن القول أن المُخرجة إيناس الدغيدي قد قدمت أفلاما مُهمة بعد فيلمها الأول في فترة الثمانينيات، وإن كانت قد حاولت الاجتهاد في فعل ذلك، لكنها كانت من المُخرجين الذين بدأوا مُجرد بداية موفقة، رغم أنها لم تتقدم خطوة واحدة بعد هذه البداية؛ لتتخطاها إلى ما هو أفضل منها، بل قدمت بعدها أفلاما أقل من حيث المستوى الفني والمضمون؛ فخذلت الكثير من الآمال المُنعقدة عليها في صناعة سينما جادة.
محمود الغيطاني
مجلة "نقد 21".
عدد فبراير 2023م.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق