السبت، 13 مايو 2023

قصة ملك الصحافة: هل حارب تركي السديري طواحين الهواء؟!

في الفيلم التسجيلي "قصة ملك الصحافة" للمُخرج السعودي حسن سعيد ثمة سؤال يتبادر على ذهن المُشاهد، حتى أنه يظل يدق على عقله طوال مُدة عرض الفيلم: ماذا لو كان تركي السديري يحارب طواحين الهواء؟ وماذا لو كان قد تلاشى مجهوده الضخم سدى وكأنه لم يفنِ عمره بالكامل من أجل الحريات، والعالم الصحفي؟

بالتأكيد لو حدث ذلك لتحولت قصة حياته إلى كذبة ضخمة عاشها، مُصدقا إياها، لم تؤت أكلها في نهاية الأمر.

يكتسب فيلم "قصة ملك الصحافة" أهميته من الشخصية الرئيسية التي يدور من حولها الفيلم- تركي السديري، رئيس تحرير جريدة الرياض سابقا- وهو الرجل الذي نهض بالجريدة نهضة شاملة وكبيرة لم تكن مُنتظرة، فضلا عن إفنائه لحياته بالكامل من أجل الدفاع عن الحريات، سواء على المستوى الشخصي- الضيق- أو المستوى الاجتماعي والثقافي والسياسي- الأوسع.

يتناول المُخرج حسن سعيد حياة تركي المُبكرة، مُنذ وُلد في قرية فقيرة، تكاد تكون بيوتها بالكامل مبنية بالطين- استعان المُخرج في فيلمه بالعديد من الشخصيات للحديث عن تركي، منهم ابنه مازن، وسعد الحميدين، وإبراهيم القدير، ويوسف الكويليت، وعبد الرحمن الراشد- أي أن المُخرج هنا إنما اعتمد الشكل الكلاسيكي لصناعة الفيلم التسجيلي، وهو الشكل المُعتمد على مجموعة من اللقاءات الثابتة أمام الكاميرا من أجل الحديث عن شخصية ما، أو حدث له أهميته.


لكن، رغم اعتماد المُخرج للشكل الكلاسيكي في صناعة فيلمه- تطور الفيلم التسجيلي كثيرا بالتداخل بين الأجناس الفيليمية المُختلفة؛ وبالتالي صرنا نرى أفلاما تسجيلية تتداخل مع الروائي، والتحريك، أي أن الحدود بين الأجناس قد زالت تماما، أو تكاد- إلا أن استعانته بالأرشيف- سواء كان الأرشيف الصحفي، أو العديد من اللقاءات- بالإضافة إلى تقطيعه لهذه اللقاءات في المُونتاج بحيث لا تكون طويلة ومُملة، كل هذا أكسب الفيلم المزيد من الحيوية، وكسب أيضا انتباه المُشاهد الذي ظل مُرتبطا بما يدور أمامه على الشاشة، مُستمتعا به، حتى نزول تيترات النهاية بعد وفاة السديري التي تركت بأثرها على مُشاهد الفيلم.

إذن، فالمُخرج يعي جيدا قدر الشخصية التي يقوم بصناعة فيلمه عن حياتها، وأهميتها في الحياة الثقافية، والاجتماعية في مُجتمع مثل السعودية- حيث الانغلاق الكامل في كل شيء، وتحريم كل شيء، وعدم امتلاك أحد لحريته، وبالتالي كان الحديث عن الحريات في الفترة الزمنية التي عاش فيها بمثابة الكارثة على كل المستويات، لكنه رغم ذلك كان مُناضلا من أجل ما يؤمن به، واستمر فيما يفعله بمُساندة- من حين لآخر- من الملك سلمان، الذي كان أميرا للرياض في ذلك الحين.


صحيح أن السديري قد بدأ حياته الصحفية في مجال التغطية الصحفية الرياضية، مع ما كان يميز كتابته التي يقوم بصياغتها بأسلوب أدبي- نظرا لأنه كان يكتب القصة فيما قبل- إلا أنه اتجه فيما بعد للصحافة السياسية؛ فكتب فيها وتابع الأحداث العالمية، والمحلية مُحللا إياها، الأمر الذي أدى إلى الكثير من المُشكلات التي تعرض لها في حياته، لدرجة إيقافه عن العمل والكتابة لمُدة عام كامل!

إن جدية وأهمية ما يكتبه السديري جعل محمد العجيان- الذي كان مُديرا لتحرير جريدة الرياض، ويقوم بعمل رئيس التحرير- يجتمع بمجلس الإدارة لاختيار رئيس تحرير للجريدة؛ ومن ثم وقع الخيار على تركي السديري ليكون رئيسا للتحرير.

لا بد لنا من التوقف هنا هنيهة لتأمل القرار الذي اتخذه محمد العجيان مع مجلس إدارة الجريدة؛ فالعجيان الذي كان يقوم بمهام رئيس التحرير، كان من الأجدى له أن يجتمع بمجلس الإدارة والتصويت على اسمه من أجل أن يكون هو رئيس التحرير، لا سيما أنه يقوم بهذا العمل مُنذ فترة تحت مُسمى مُدير التحرير، لكننا فوجئنا باختياره لتركي السديري، ورغم رفض السديري للأمر في بداية الأمر، حيث رأى أن العجيان هو الأولى بذلك، إلا أن العجيان أصر على أن يكون السديري رئيسا لتحرير جريدة الرياض؛ لكفاءته وجديته.

لكن، هل كان ظن العجيان، واختياره في محلة بالفعل؟


حينما تولى السديري رئاسة تحرير جريدة الرياض كان عدد صفحاتها ثماني صفحات فقط، لكنه ضاعف عدد الصفحات كثيرا، وجذب الكثير من الإعلانات التي ساهمت في رفع مستوى الجريدة المالي، فضلا- وهذا هو الأهم- عن استقطابه لكفاءات وكتاب من جميع الدول العربية من أجل الكتابة في جريدة الرياض، وهذا التعدد الثقافي أدى إلى أن تكون الجريدة من أهم الجرائد في المملكة، وربما الدول العربية المُحيطة؛ لأنها باتت عبارة عن مُلتقى ثقافي، وفني، وفكري، وسياسي، لجميع التيارات في المنطقة العربية، لكن الأهم كان اهتمام السديري بمصالح الصحفيين الذين يعملون معه في الجريدة؛ ومن ثم ضم إلى مجلس الإدارة مجموعة كبيرة من الصحفيين، حتى وصل نصف عدد أعضاء مجلس الإدارة من الصحفيين- تبعا لما ورد على لسان عبد الرحمن الراشد، رئيس تحرير جريدة الشرق الأوسط!

إذن، فتولي السديري لرئاسة تحرير جريدة الرياض لم يكن مُجرد منصب إداري فقط، بل كان نهضة شاملة في حياة الصحيفة التي تحولت إلى أهم الصحف في المنطقة، لتنافس صحيفة الأهرام في ذلك الوقت- وهو ما جعل صحيفة الرياض تفوز على صحيفة الأهرام في إحدى المُسابقات رغم تساويهما في نقاط المستوى الصحفي، لكن جريدة الرياض فازت بسبب اهتمامها أكثر بالصحافة الإليكترونية التي اهتم بها السديري، ولم يهملها.


لكن، لأن السديري استكتب الكثير من الكفاءات الخارجية من العرب، كادت أن تقوم عليه ثورة من أعضاء مجلس الإدارة، لأنهم لا يستلمون أموالا من أرباح الجريدة؛ وبالتالي رغبوا في إقالة السديري بدعوى أنه ينفق أرباح الجريدة على الكتاب من الخارج!

في الحقيقة أن تركي السديري لم يفعل ذلك، ولم يُضيّع أموال الصحيفة، بقدر رغبته في تطويرها ونهضتها بشكل أشمل وأكبر، لكنه طلب منهم إعطائه الفرصة، وبالفعل وصلت لجميع أعضاء المجلس أرباحهم.

ربما كانت المعركة الكبرى في حياة السديري- المُتطلع إلى الحرية، والمُنافسة الصحفية، والوصول بالصحيفة إلى أعلى المراتب، والآفاق- كانت معركته مع وزارة الإعلام السعودي، حيث كانت الوزارة تبدي الكثير من المُلاحظات والاعتراضات على ما تنشره الصحيفة من صور للفنانين والفنانات، وبعض الأخبار، وغير ذلك مما تراه وزارة الإعلام- في زمن مُغرق في الظلام، والتشدد الديني، وتحريم كل شيء- غير لائق، ولا يجب الحديث فيه أو الإشارة إليه. ولأن الوزارة كثيرا ما تدخلت في الشأن الصحفي؛ فلقد عُرفت بين الصحفيين باسم وزارة النفي، ووكالة الإشادة- نظرا لأن الوزارة كانت كثيرا ما تستخدم مُفردة أشاد.


إن تدخل وزارة الإعلام السعودي واعتراضها على الكثير مما تنشره الصحف، لا سيما جريدة الرياض؛ يؤدي بالضرورة إلى انتفاء المُنافسة الصحفية مع غيرها من الصحف في جميع الدول المُحيطة بها، وبالتالي إقبال القارئ على الصحف العربية الأخرى، والإعراض عن الصحف المحلية التي لا تغطي الخبر كما يجب- بسبب المنع من وزارة الإعلام- وهو ما جعل السديري غير قادر على الصمت؛ لأن أفعال وزارة الإعلام ستؤدي إلى تراجع صحيفته وعدم أهليتها للمُنافسة، أو الصمود أمام غيرها من الصحف، وبالتالي سيكون الأمر بمثابة الفشل له أيضا باعتباره رئيسا للتحرير.

كتب السديري مقاله المُهم "وزارة الإعلام تُحرم على الصحف ما تُحلله لنفسها بما يخدم ترويج الصحف غير السعودية في السوق المحلية"، لكن لسوء حظه أن مقاله قد جاور تقريرا صحفيا يصف وزارة الإعلام "بوزارة النفي"، حيث بدا الأمر وكأنما التقرير جزء من مقال السديري؛ الأمر الذي أدى إلى غضب وزير الإعلام، وإيقاف تركي السديري عن الكتابة، وعزله أيضا من رئاسة تحرير صحيفة "الرياض".


استمر إيقاف السديري ما يُقارب العام الكامل، إلى أن لجأ إلى الملك سلمان- الذي كان أميرا للرياض في ذلك الوقت- وأخبره بالأمر، حيث تدخل الملك سلمان- الذي كان معروفا بأنه صديق الصحافة- في الأمر، وعاد مرة أخرى لرئاسة تحرير صحيفة الرياض.

لم تكن هذه هي الأزمة الأولى ولا الأخيرة في حياة السديري الذي مر بالكثير من المعارك طوال حياته، فلقد تعرضت حياته كثيرا للخطر بسبب ما يقوم بكتابته، لا سيما بعدما كتب عن إيران، وبدت كتابته مُهاجمة لها، كذلك بعد الأحداث الإرهابية التي حدثت في المملكة عام 2003م؛ الأمر الذي دفع السديري لشراء سيارة مُصفحة للتنقل بها، فضلا عن فرض الحماية عليه وعلى بيته من قبل مُؤسسته الصحفية، وبأمر كذلك من الملك سلمان، حينما بدت حياته مُهددة.

لكن الأزمة الأبرز كانت بسبب مقاله الذي كتبه عن لبنان، والذي أدى إلى أزمة دبلوماسية استمرت لفترة إلى أن كتب اعتذاره الرسمي، حيث كتب مقاله "لماذا لا يعود لبنان إلى سوريا"؛ الأمر الذي أدى إلى اعتراض رسمي من لبنان على ما كتبه السديري، وحينما كتب مقالا ثانيا يحاول فيه شرح مقاله الأول وتوضيحه، لم يقبل أحد بالأمر، إلى أن انتهى الأمر باعتذاره الرسمي، لتنفض الأزمة الدبلوماسية بين البلدين.


إن الجهد الضخم الذي قام به تركي السديري من أجل النهوض بصحيفة الرياض- تبعا لحديث هاني الغفيلي، حققت الصحيفة في عهده مبيعات تعدت 100 مليون نسخة! قد يبدو الرقم مُبالغا فيه، لكنه في النهاية دال على التقدم الكبير للجريدة تحت رئاسة تحريره- وتقدير الجميع لما يبذله من جهد صحفي، ونجاح السديري في توفير الكثير من الموارد المالية لها، وغير ذلك، وحريته وشجاعته في التعبير والحديث عما يؤمن به- حتى لو كان المُجتمع بالكامل يراه غير لائق، أو حتى مُخالفا لوزارة الإعلام- ودفاعه عن الحريات العامة والخاصة، وبالتأكيد مُساندة الملك سلمان له كثيرا حينما كان أميرا للرياض. كل هذه الأمور أدت إلى أن اقترب منه الملك عبد الله في إحدى الوفود الصحفية، ووقف أمامه مواجها ليقول له الملك عبد الله: أنت ملك، وأنا ملك. أنت ملك في الصحافة، وأنا ملك آخر.


من هنا اكتسب تركي السديري لقبه الذي يستحقه كثيرا- ملك الصحافة- فلولا جهود السديري من أجل الحريات، والحديث فيما يراه مُناسبا للصحافة، لكانت الصحافة السعودية قاصرة حتى اليوم، ولما سمع عنها أحد، أو أقبل عليها، إنها الحريات والتسامح التي آمن بها السديري، والتي جعلت الكاتب العراقي رشيد الخيون يشيد به أثناء حكايته عن لقائه الأول به في بيته، حيث لمح لوحة مُعلقة على جدار بيت السديري، وهي لوحة لحصان الحسين، ومقتله، فأبدى الخيون دهشته، لكن السديري أكد له على أن اللوحة أعجبته لذلك قام باقتنائها، أي أنه لم ير أنها لوحة تعبر عن اختلاف طائفي مثلما ينظر إليها الآخرون، وهو ما يؤكد على انفتاحه على الآخر، وتشجيعه لكل أنواع الحريات مهما كانت، حتى لو كانت حرية المُعتقد، وهي حق أصيل لكل إنسان.


يتابع المُخرج السعودي حسن سعيد حياة، وأحلام، ونجاحات، ونضالات، وإخفاقات، وأزمات تركي السديري، ومقدرته على تكوين مدرسة صحفية تخرج فيها الكثير من القامات والأسماء المُهمة، إلى أن يُصاب الرجل بالسرطان، وسُرعان ما يُصاب بالألزهايمر، وبالتالي بدأ في فقد تركيزه، وتذكره للأشياء.

ربما كان من أقسى الأمور على الكاتب أن يُصاب بهذا المرض، وأن يفقد تركيزه، فهو يعتمد في حياته بالكامل على العمل العقلي؛ وبالتالي يكون فقدان الذاكراة الكامل، أو الجزئي، من الأمور المُؤلمة، والتي تكاد أن تكون انتهاء حقيقيا لحياة صاحبها.

حاول السديري تقديم استقالته حينما بدأ يفقد تركيزه، لكن مجلس الإدارة رفض في البداية؛ مما جعله يتراجع، لكنه عاد وترك الجريدة حينما تأكد من تأخر حالة المرض لديه، وبالتالي فقده للتذكر بشكل يكاد أن يكون كاملا.


إلا أن الموقف المُؤثر كثيرا في الفيلم حينما يخرج السديري- الفاقد للذاكرة- من منزله مُتجها إلى مبنى جريدة "الرياض"، وحينما يصل إلى المبنى يسأله مُدير مكتبه عن رغبته في فتح المكتب الخاص به له؛ فينظر إليه السديري غير قادر على التركيز، أو التذكر ليسأله: أي مكتب يقصد!

إذن، فلقد فقد الرجل الذاكراة بشكل كامل بعد كل هذه الحياة الحافلة بالمعارك، والصراعات، وبالتالي فلقد نسي بأنه كان رئيسا لتحرير الجريدة، ومن ثم نسي مكتبه الذي تساءل عنه. لكن الأمر المُدهش أنه رغم نسيانه، وفقده الكامل لذاكرته؛ فلقد خرج من بيته، واتجه وحده إلى مبنى الصحيفة التي عاش فيها حياته مُناضلا، وارتقى بها، إلى أن وصل إليها، حتى لكأنما تركي السديري قد نسي العالم بكل ما فيه، لكنه لم يستطع نسيان البيت الصحفي الذي قضى حياته بالكامل فيه، والذي أفنى حياته من أجله ومن أجل رفعته.


إن الفيلم التسجيلي "قصة ملك الصحافة" للمُخرج السعودي حسن سعيد من الأفلام التسجيلية المُهمة التي تُقدم لنا حياة ثرية لصحفي سعودي حاول النضال المُبكر ضد الانغلاق والتدين، والتشدد، ونجح في ذلك، وأظن أن مثل هذا الفيلم كان من المُستحيل للمُخرج تصويره وتقديمه لولا حالة الانفراج التي سمح بها الملك سلمان، وولي العهد، والهادفة إلى انخراط المملكة في التقدم من خلال الفنون والثقافة، وغيرهما. أي أن تركي السديري كان من المُمكن جدا أن يكون من المسكوت عنهم لو كان الوضع في المملكة قد استمر حتى اليوم كما كان، إلا أن الرغبة في التحرر، والاستعانة بالفنون، والسماح بالحريات كانت من أهم خطوات المملكة من أجل تقديم الكثير من التجارب التي تسحتق التأمل.

 

محمود الغيطاني

نشرة "سعفة" مهرجان أفلام السعودية.

العدد التاسع مايو 2023م.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق