الأحد، 28 مايو 2023

وقُيدت ضد مجهول: سيريالية الفن في مواجهة الواقع

في عام 1974م بعد الانهيار الاقتصادي الذي حدث في مصر عقب الحرب مع إسرائيل 1973م؛ حاول الرئيس السادات- الذي كان السبب في العديد من الأزمات الاجتماعية والاقتصادية، والسياسية- إعادة بناء الاقتصاد المصري؛ ومن ثم صدر القانون رقم 43 لسنة 1974م المعروف باسم قانون استثمار رأس المال العربي والأجنبي والمناطق الحُرة. وبدأت وفود من الأجانب تأتي إلى مصر لتستعلم وتدرس وتُخطط، وتُقدم العروض.

في هذا التوقيت هبط إلى مطار القاهرة وفد مكون من جنسيات مُختلفة من كندا، ومن هونج كونج، ومن اليهود، ولقد جاء هذا الوفد لأغراض غير الاستعلام والدراسة؛ فلقد كان مطلبهم إقامة شاليهات وفيلات على هضبة الأهرام، وعمل بحيرة صناعية كبيرة ذات قاع من المطاط بجوار الأهرام، واستغلال الساحل الشمالي في إقامة قرى وفنادق سياحية. وكانت الدكتورة نعمات أحمد فؤاد هي أول من كتب في هذا الموضوع وكشفت خباياه، وتتلخص في أن الفريق المُستثمر القادم يبغي اتخاذ هضبة الهرم مركزا للتنقيب عن الآثار في الرمال، وتهريبها إلى الخارج، وكشفت عن تأثير بحيرة المطاط على آثار الجيزة عندما يمتلئ جوها ببخار ماء البحيرة، فضلا عن الآثار المُدمرة لتسرب مياه الصرف من المُنشآت السياحية في المنطقة.

عُرفت هذه القضية حينها باسم قضية هضبة الهرم، وهي القضية التي أثيرت عالميا للتحكيم فيها دوليا في باريس بعدما تم رفض إتمامها بعد توقيع العقود من خلال وزارة السياحة المصرية، وشركة إيجوث المصرية، ولعلنا نلاحظ أن هذا الأمر- لو كان قد تم- لم يكن سيقتصر على الاستثمار السياحي فقط، بل كان سيؤدي بالضرورة إلى تدمير هضبة الهرم وما تحويه من آثار، فضلا عن دخول الإسرائيليين، الذين انتهينا لتونا من الحرب معهم، كمُستثمرين في مصر، بالإضافة إلى سرقة الآثار المصرية وتسربها تحت ستار الاستثمار في الهضبة.

صحيح أن هذه القضية قد انتهت، فعليا، في 1974م- أي في نفس العام- إلا أن تأملها فنيا يتيح لنا الانطلاق بالخيال إلى آفاق رحبة لنتصور ما كان من المُمكن له أن يحدث لو تم الأمر، وهو ما لم ينسه المُخرج مدحت السباعي رغم مرور العديد من السنوات، ورغم تراجع مصر عن العقود التي وقعتها؛ فكتب سيناريو فيلمه الروائي الأول "وقُيدت ضد مجهول" 1981م لينحو باتجاه السيريالية والسُخرية مُتخيلا الأمر بشكل يخص الفن وحده، بعدما تعالى على الواقع المرير ليتناوله بشكل أعلى منه كثيرا؛ يوضح لنا التبعات التي كانت مُنتظرة.

إذن، فلقد بدأ المُخرج مدحت السباعي حياته السينمائية مُشتبكا مع الواقع، محاولا تأمله، وتقديمه لنا بشكله العبثي من خلال فيلمه الذي قد يجعلنا نضحك، لكنه الضحك على الذات المُمتزج بالحزن والحسرة على ما آل إليه الحال في عهد السادات في السبعينيات، وما ترتب عليه في فترة الثمانينيات من القرن الماضي، أي أن المُخرج قد آل على نفسه الابتعاد عن السينما الإلهائية المُفرغة من المضمون منذ تجربته الأولى واختار تقديم السينما الجادة المُشتبكة، وإن مال إلى السخرية والسيريالية، أو ما يمكن أن نُطلق عليه "سينما المسخرة" التي تميز بها فيما بعد المُخرج رأفت الميهي، وإن كان الميهي أكثر سخرية منه وسيريالية؛ حيث ذهب بهما إلى مداهما الأقصى والمُطلق!


هذا الفيلم يجعلنا نقول: إن السباعي حينما فكر في تقديم تجربته الأولى لم يفكر في أن يكون تابعا لتيار الواقعية الجديدة، الذي بدأه المُخرج محمد خان، ولم يصنع السينما التي يقدمونها، ورغم أنه لم يكن امتدادا لهم، إلا أنه وضع نصب عينيه تقديم سينما تخصه تحمل من الجدية والسخرية ما يجعلانه يشتبك مع قضايا وطنه، وإن كان بشكل يخصه وحده.

يبدأ السباعي فيلمه في إحدى القرى البعيدة، التي لم يحددها، فنرى الفلاح صابر- قام بدوره المُمثل محمود ياسين- الجالس في حالة عشق مع حبيبته هنية- قامت بدورها المُمثلة صفية العمري- بين المزروعات محاولا وداعها قبل سفره إلى القاهرة حيث سيعمل هناك كعسكري في وزارة الداخلية، ويثبت للجميع أنه ليس مُجرد رجل فاشل كما يقولون عنه؛ لذلك يقول لها بثقة: ساعتها هرجع لأهل البلد، وأوريهم مين هو صابر عبد الرحيم اللي طول عمرهم بيقولوا عليه خايب ومنحوس، هوريهم هيبقى إيه مركزه في الحكومة.

إذن، فهو يحمل داخله من الآمال والأحلام من أجل تحقيق ذاته ما يجعله راغبا في العمل كعسكري في الداخلية، كما كان السبب الأول في هذه الرغبة اكتساب المال الشحيح في القرية والعودة مرة أخرى إلى قريته كي يتزوج من حبيبته هنية.

لعل السباعي كان من الإتقان ما يجعلنا نصدق بأن صابر مُجرد شخص شديد السذاجة، لم يغادر قريته مرة واحدة في حياته، كما أنه لا يدري أي شيء عن العالم خارج هذه القرية، وهو ما رأيناه بشكل عملي في مشهده حينما وصل إلى محطة سكك حديد مصر لأول مرة، وتردده، وتراجعه للخلف وقد امتلأ بالخوف حينما حاول أن يخطو بقدمه خارجها؛ فبمُجرد ما رأى القاهرة وازدحامها، وواتساعها خاف منها مُتراجعا مرة أخرى بظهره، إلى أن استعاد رباطة جأشه وخرج ليذوب بين الجميع.

يصل صابر إلى مركز التدريب، ويتم تكليفه بحراسة إحدى المناطق السكنية ليلا، لكن تقع العديد من السرقات في المنطقة المُكلف بحراستها؛ الأمر الذي يعرضه للفت النظر والتحقيق معه، بل ونقله إلى حراسة منطقة أخرى، ولأن صابر معروف عنه بأنه منحوس- كما كان يقول عنه أهل قريته- تتم سرقة خمس سيارات في المنطقة الجديدة التي انتقل إليها؛ الأمر الذي يعرضه للاستغناء عنه من عمله، لكن إحدى إدارات الداخلية تجتمع برئاسة نظيم بك- قام بدوره المُمثل مُحسن سرحان- للتحقيق في أمر هذا العسكري الذي كلما تم تكليفه بحراسة منطقة من المناطق تتم سرقتها؛ حيث بدأوا في التشكك بأنه مُتآمر مع من يقومون بالسرقة!


يؤكد الضابط رشدي- قام بدوره المُمثل عزت العلايلي- لنظيم بك أنه كان قد تشكك بدوره في صابر لكنه حينما وضعه تحت المُراقبة أثناء نوبة حراسته اتضح أن الأمور كلها تسير على ما يرام وفجأة تظهر السرقات بشكل لا تفسير له. يلومه نظيم على هذا الكلام، ويطلب منه التدقيق في مُراقبته ونقله لحراسة منطقة الأهرامات، لكن المُفاجأة هذه المرة تتضح لنا في سرقة الهرم الأكبر/ خوفو أثناء نوبة حراسته؛ الأمر الذي يهز الرأي العام العالمي بأكمله، وتتداوله وكالات الأنباء العالمية، بل ويتم تشديد الحراسة على جميع الآثار في العالم تخوفا من سرقتها بدروها!

إن محاولة المُخرج تقديم الأمر بشكل فيه من السخرية والسيريالية تتضح لنا في سرقة الهرم؛ فهو من الضخامة التي لا يمكن لها أن تسمح بسرقته؛ فالحجر الواحد فيه يزن المئات من الأطنان. وهو ما نراه حينما يقول المذيع في التليفزيون: وقعت منذ لحظات أغرب حادثة عرفها التاريخ، فقد اختفى، وفي ظروف غامضة، هرم خوفو الأكبر!

هذه السيريالية المُغرقة في السخرية سنلاحظها أيضا حينما يتم تحويل صابر للتحقيق- باعتباره المُتهم الأول في سرقة الهرم- حينما يقول للضابط رشدي: أنا طول نوبة الحراسة وأنا عمال ألف حوالين الأهرامات دايرن داير زي طور الساقية، مبعدوش عن عنيا لحظة واحدة، لما جم بقى يستلموا مني الصبحية الحراسة؛ لقيتهم ناقصين هرم! اتلفت يمين، اتلفت شمال إني ألاقيه، مفيش، زي ما يكون فص ملح وداب. ليرد عليه رشدي مُنفعلا غاضبا: هرم خوفو يا صابر، يضيع زي فص الملح؟!

ألا نُلاحظ هنا قدر السُخرية والسيريالية التي تميز أحداث الفيلم، وهو ما حرص عليه منذ البداية المُخرج مدحت السباعي؟ فالحوار بين كل من صابر ورشدي نفسه لا يحتمل الاقتراب من الواقع بأي حال من الأحوال؛ فكيف تتم سرقة الهرم الأكبر، وكيف يتلفت إلى اليمين أو اليسار من أجل البحث عنه وكأنه مُجرد كرة مُختفية عن أنظاره بينما جميعنا يعرف ضخامة الهرم؟!

إذن، فقد ارتفع السباعي كثيرا بالحدث وفكرته فوق الواقع؛ كي يتأمله بهدوء، وكأنه يضحك عليه، لكنه الضحك المرير الذي يجعله يتخيل سرقة الهرم الأكبر وكأنه مُجرد شيء من المُمكن لنا أن نضعه في إحدى الحقائب والهروب به!


إن تأمل السباعي للواقع المرير الذي عاشت فيه مصر في هذه الحقبة الزمنية يجعله يوغل أكثر في سُخريته من كل شيء، فيبدو لنا الأمر بمثابة السُخرية من المُجتمع، والمُعتقدات الدينية، والأيديولوجيات، والأفكار، والثقافة أيضا، أي أنه يسخر من كل شيء يحيط به، وكأنه يعمل على تفكيكه.

هذه السخرية نراها في راكب الأتوبيس المُتدين الذي يدلو برأيه في قضية سرقة الهرم لغيره من الركاب حينما يقول أحدهم: أما غريبة أوي حكاية الهرم دا. فترد إحدى الراكبات: اشمعنى يعني الهرم اللي انتوا زعلانين عليه أوي؟ ما هو كل حاجة بقت بتختفي اليومين دول، السُكر، والسمنة، والصابون، دا حتى الرز راخر مبقيناش لاقينه. فيقول أحد الرجال المُلتحين: تصدقوا بالله يا إخوانا، أنا فرحان أوي إن الهرم اختفى، وكفاية الفسق والفجور اللي كان بيحصل حواليه كل ليلة، الشاب من دول بياخد له واحدة من إياهم ويقعدوا هناك بالساعات، ولا الكباريهات اللي كانت مالية شارع الهرم على الصفين، يا شيخ بركة إنه غار، بلا مسخرة وقلة أدب!

في الحوار السابق يتأكد لنا أن المُخرج مُنغمس حتى النخاع- رغم سيرياليته وسُخريته- في الواقع المُحيط به ومشاكله التي يعاني منها الجميع؛ فالمرأة التي علقت على اختفاء المواد التموينية تؤكد على القضايا التي يعاني منها المواطن في هذه الفترة الزمنية، وارتفاع الأسعار، والتجارة في السوق السوداء، وهو ما قد يؤدي إلى انشغال المواطن عن قضية خطيرة مثل اختفاء الهرم؛ نظرا لأن المواطن مُنشغل في المواد التموينية غير المتوفرة كي يحقق لنفسه القدر الأبسط من الحياة في المأكل. كما لا يفوتنا نظرة الرجل المُتدين للأمر من وجهة نظره الضيقة التي جعلته لا يرى في الهرم/ الأثر سوى رمزا للفساد والفجور! أي أن المُخرج يسخر هنا من المُعتقدات الدينية من خلال منظورها الضيق.

هذه السخرية تتسع لتشمل الأيديولوجيات أيضا حينما نرى أحد الشيوعيين يخطب في زملائه قائلا: أيها الرفاق الأعزاء، اسمحوا لي أن أسأل: لماذا كل هذا الضجيج حول موضوع اختفاء الهرم الأكبر؟ ثم ما هو هذا الهرم الأكبر؟ اسمحوا لي أن أجيب: لقد بناه أجدادنا تحت ضربات سياط الفرعون خوفو الذي ساقهم من كل أنحاء الوادي، وسخرهم بالقهر والقيد والجبروت؛ لكي يشيدوا له مقبرة تحمل اسمه! أيها الرفاق: إننا لا بد أن نسعد لاختفاء الهرم؛ لأنه كان الرمز الأكبر لسيطرة البرجوازية واستغلالها لقوى الشعب الفرعوني العامل!

المُخرج: مدحت السباعي

أي أن كل قطاع من قطاعات المُجتمع يرى القضية من خلال وجهة نظره الضيقة، مُنصرفين في ذلك عن الحدث الأخطر الذي يمثل في النهاية الرمز الحقيقي لمصر، وكيانها، حيث يهدف المُخرج من الحديث عن سرقة الهرم إلى ضياع الجوهر الحقيقي والوجودي للدولة من خلال هذه السرقة.

نرى ذلك أيضا في قول أحد العلماء/ عويس- قام بدوره المُمثل محمود القلعاوي- حينما يستضيفه التليفزيون فيقول: اللي بنوا الأهرامات من سكان كوكب آخر، مُتقدمين عنا آلاف السنين، جم ونزلوا في الأرض، عاشوا فيها من 7000 سنة، وبعدين رجعوا! رجعوا بعد ما سابوا لنا أثر ضخم ينم ويؤكد على التقدم العلمي والمعماري اللي وصلوا له، وأنا واثق إن سكان الكوكب دوكهم هما اللي نزلوا وسرقوا الهرم! لأن الصورة التي تمت بيها السرقة دي أكبر من إمكانيات أي حد من سكان الأرض! ودا إنذار منهم لسكان كوكب الأرض؛ لذا أنا بحذرهم وبقول لهم: إن كوكب الأرض مُهدد بالاحتلال والغزو من سُكان الكواكب الأخرى!

ويقول الدكتور مخلوف الروحاني: الطريقة الوحيدة اللي هنقدر نعرف بيها الهرم راح فين إننا نحضر روح الملك خوفو! روح الملك خوفو هي اللي هتدلنا على مكان الهرم! أومال إيه؛ مش هو اللي مدفون فيه؟!

ويقول أحد أصحاب الملاهي الليلية حينما تستضيفه المذيعة: مُعظم الملاهي اللي موجودة في البلد موجودة في شارع الهرم، ومن يوم ما حصلت الكارثة والمُصيبة السودة اللي حصلت دي؛ واتقفل شارع الهرم أصبحنا حاليا كل الملاهي الليلية في حالة توقف، احنا بنخسر يوميا حوالي 300 ألف جنيه، كان بيدفعها السياح الأجانب والإخوة العرب في ملاهي شارع الهرم، متنسيش إن فيه حاجة مُهمة جدا، إن الملاهي الليلية دي كانت مصدر رزق لناس كتير ومنهم الراقصات، احنا عندنا 3000 رقاصة، ربنا يديهم الصحة، في حالة بطالة حاليا. يترتب على هذا موقف غريب جدا، إنهم بيضطروا ينزلوا عشان يرقصوا في الحفلات الخاصة اللي بتتعمل في الشقق والفلل. وهو ما نلاحظه أيضا في قول أحد المُنتجين السينمائيين للمذيعة حينما تسأله عما إذا كان موضوع سرقة الهرم يصلح كمادة لفيلم سينمائي؛ فيرد عليها: سرقة هرم؟! سرقة هرم إيه، وبتاع إيه؟! الموضوع دا مينفعش في الحلاوة، يعني فين الأدوار النسائية؟ مفيش أدوار نسائية، فين الرقصات والأغاني الشعبية؟ مفيش، مش كدا؟ طيب، فين المواقف الدرامية والألاعيب الميلودرامية؟ مفيش، يبقى مينفعش!


هل من المُمكن أن تصل السخرية من كل قطاعات المُجتمع لما هو أبعد من ذلك؟ إن المُخرج، هنا، حريص على الإيغال فيها ليحاول الوصول إلى حدها الأقصى، وهو في هذا الإيغال إنما يُدلل على مُجتمع شديد التفسخ، والتغيب في كل قطاعاته من دون استثناء أي قطاع فيها، وهذا الأمر لا بد له أن يدل على نظرة واعية ومُحللة لما يدور من حولنا، ومحاولة التأمل من خلال أحداث فيلمه- ليس تأمل الأمر من خلال المُخرج فقط، بل هو يدفع المُشاهد للتأمل الواعي لما يدور من حوله؛ عله يستطيع إصلاح أي شيء من الأمر قبل الانهيار الشامل، والتغيب عن كل شيء.

لم يكتف المُخرج مدحت السباعي، من خلال سُخريته الموغلة، بانتقاد المُجتمع فقط؛ فهذا المُجتمع ليس نتاج نفسه، بل هو نتاج مجموعة من السياسات السُلطوية، والاقتصادية، والسياسية التي أدت به إلى مثل هذه الحالة المُغرقة في التغيب- وهي السياسات التي مارسها نظام السادات، وعبد الناصر من قبله؛ فأفسدا كل شيء- لذلك يعرج المُخرج، هنا، على انتقاد السُلطة السياسية وبيان فسادها الموغل الذي كان السبب الرئيس في فساد المُجتمع بدوره، وهو الأمر الذي يذكرنا بقول القانوني الدكتور محمد عصفور: عندما يصيب الفساد القمة؛ فانه ينحدر كالسيل جارفا أمامه كل الإرادات والقيم.

هذا الفساد السُلطوي يتجلى لنا في قول المسؤول في وزارة الداخلية/ نظيم حينما يتحدث إلى الضابط رشدي بعد إخباره بأنهم قد شددوا الحراسة على كل المطارات والموانئ لمنع خروج الهرم من مصر؛ فيقول نظيم: أنا ميهمنيش الهرم يخرج ولا يتحرق! أنا كل اللي يهمني إن القضية تُستوفى قانونيا، فيه سرقة يبقى لازم يكون فيه سارق، فيه جريمة يبقى لازم يكون فيه مُجرم. المُهم نوصل للمُجرم، ولحد كدا يبقى دورنا انتهى، بعد كدا تبقى المسألة في إيد المحاكم والقضاء، ودول ملناش دعوة بيهم خالص. المُهم لازم نوصل للمُتهمين ونثبت التهمة عليهم!

أي أنه ينتقد نظام الشرطة والسُلطة في مصر- وهو ما نراه في مُعظم الدول العربية من فساد، وليس في مصر وحدها، حيث يحاول كل قطاع من قطاعات الدولة إلقاء اللوم على الآخرين وتخليص أنفسهم من الاتهام أو المسؤولية بالتقصير مُتناسين في ذلك القضية الجوهرية والأهم- لذلك يبدأ رشدي التحقيق مع الكثيرين ممن لا ذنب لهم في أي شيء؛ فيحاول تارة اتهام اليسار والشيوعيين بأنهم هم من تآمروا من أجل سرقة الهرم مع جهات خارجية؛ لأنهم يرغبون في تدمير البلد، ومن ثم ألقى بهم في السجن أولا، ثم في مُستشفى الأمراض العقلية، وتارة أخرى يحقق مع الموظف الفقير المسؤول عن منطقة الهرم، ويتهمه بسرقته لأنه المسؤول عنه، وبالتالي يحاول ظُلم الكثيرين لمُجرد إخلاء مسؤولية الداخلية عن الأمر، بل يصل الفساد حتى مداه الأقصى حينما يتصل رئيس الجمهورية بنظيم؛ الأمر الذي يجعل نظيم يقول لرشدي: أنت عارف أد إيه أنا بثق فيك، سعادة الباشا لما كلمني من شوية بالتليفون فهمني إن مسألة الهرم الجهات العليا هي اللي هتتصرف فيها، واحنا مش مطلوب مننا غير عمل التحقيقات وبس. عشان كدا أنا عاوزك تنزل مكتبك دلوقتي، وقدامك النهاردا وبكرا وتجيب لي ملف كامل للتحقيقات اللي أنت عملتها، وبمُجرد ما نقدم المُتهمين للنيابة؛ يبقى خلصنا نفسنا ونشيل إيدنا من الموضوع، ونسيبهم لما يتصرفوا، نشوف هيرجعوا الهرم ازاي!


إنه الفساد الضارب في كل شيء، وهو الفساد الذي يتأمله المُخرج ويقدمه لنا بشكل يحمل الكثير من السُخرية والسيريالية والعبثية، بل والكوميدية أيضا؛ علنا نفيق مما وصل إليه المُجتمع المصري في هذه الفترة الزمنية التي نخر فيها الفساد جذور هذا المُجتمع بادئا من السُلطة السياسية ليصل إلى قاع المُجتمع!

حينما يعلم نظيم أن لجنة من اليونسكو ترغب في مُقابلة صابر مع الصحافة العالمية من أجل معرفة الحقيقة في قضية سرقة الهرم باعتباره المسؤول الأول، بما أن السرقة قد تمت في نوبة حراسته، وبما أن الداخلية لا تستطيع منعهم من مُقابلة العسكري صابر، حتى لا يُقال أن الداخلية المصرية تخفي المعلومات عن الصحافة العالمية، وتتواطأ مع السارق؛ يفكر في إخفاء صابر عنهم بوضعه في مُستشفى المجانين، مُتهما إياه بالجنون؛ وبالتالي لا يمكن لأحد أن يقابله أو يأخذ أقواله بشكل جدي بسبب جنونه.

هنا يوغل المُخرج في قسوته الناقدة للمُجتمع المصري الذي بات لا يمكن التعايش مع ما يحدث داخله بسهولة؛ فنرى في المشفى العديد من النماذج الاجتماعية والمُثقفة الذين يدعي البعض منهم الجنون للهروب من العالم الخارجي وعدم قدرته على التفاعل معه، مثل الموسيقار، والطبيب الذي كان طبيبا في المُستشفى، لكنه فضل ادعاء الجنون ليكون مع النزلاء، وغيرهم من النماذج الكثيرة الأخرى، أي أن المُخرج، هنا، يقدم لنا مُجتمعا آخر موازيا، ورغم أن هذا امُجتمع الموازي هو الأفضل والأكثر اكتمالا من المُجتمع الخارجي المُشبع بالفساد، إلا أنه يكاد أن يقول لنا: إن الفساد السائد في كل مكان، والمتفشي في كل شيء؛ جعل من هم غير قادرين على تعاطي هذا الفساد يبتعدون عن العالم بادعاء الجنون للانفصال عن العالم الخارجي المُنهار تماما.

في المشفى يتعرف صابر على نزلائها، ويفهم منهم الكثير من الأمور، بل يعرف مدى وقدر المُؤامرة حول سرقة كل شيء في مصر- تاريخها، وآثارها، وثقافتها- فيصاب بالكثير من الرعب، وحينما تعلم هنية/ حبيبته بأمر اتهامه ودخوله المشفى من الجرائد تسافر إلى القاهرة بحثا عنه، وتصدق حديث الضابط رشدي الذي يقنعها بأن صابر لا بد له من الاعتراف على من ساعدهم في سرقة الهرم باعتباره متعاونا معهم، وبالفعل تحاول إقناعه بالاعتراف؛ فيندهش منها لأنها تتحدث مثلهم وتصدق بأنه قد تعاون في هذه السرقة اللاعقلانية؛ فيخبرها بأن هذا الهرم بناء ضخما لا يمكن لشخص سرقته مُطلقا.

يظهر الهرم الأكبر فجأة في إحدى قرى المكسيك، بعدما يتم إغلاق القضية وتقييدها ضد مجهول، وتبدأ المفاوضات بين الحكومة المصرية والمكسيكية من أجل استعادة الهرم مرة أخرى. ويخرج صابر من المشفى ليعود إلى قريته مرة أخرى بعدما عرف الكثير من الحقائق والفساد الذي لم يستوعبه إدراكه، لكن المُفاجأة الجديدة التي لم يكن ينتظرها أحد مُطلقا هي وقوع سرقة جديدة لنكتشف أن هذه السرقة الجديدة هي سرقة نهر النيل، وهي القضية التي يتم تقييدها أيضا ضد مجهول في إشارة من المُخرج إلى أن كل شيء في مصر في هذه الفترة كان مُعرضا للسرقة والنهب، لا سيما أنه بعد اتفاقية كامب ديفيد مع إسرائيل تُركت الحرية لإسرائيل في استغلال مياه النيل، وفي هذا الأمر كان ثمة سرقة للنيل نفسه!

إذن، فالمُخرج هنا لا ينتقد فقط، ولا يحاول الجنوح باتجاه السيريالية على امتدادها الأقصى فقط لمُجرد أنها تستهويه، بل يحذر تحذيرا حقيقيا من سرقة الكيان المصري بأكلمله نتيجة السياسات الخاطئة على كل المستويات، وهي السياسيات التي تمارسها السُلطة السياسية في مصر في هذه الحقبة من تاريخها!

في فيلم المُخرج مدحت السباعي الروائي الأول نلحظ الجنوح المُتعمد باتجاه السُخرية، أو ما يمكن أن نُطلق عليه سينما المسخرة، ولعل المُخرج قد لجأ إلى مثل هذا الاتجاه الفني عامدا؛ حتى لا يكون مُباشرا في النقد السياسي، فضلا عن الارتفاع بفيلمه إلى شكل فني أفضل، فيه من الكوميديا السوداء ما يجعلنا ننتبه إلى خطورة ما يحدث من حولنا، لكن لا يعني جودة الفيلم من الناحية الفنية، واكتماله إلى حد بعيد أنه لم يخل من الأخطاء التي لم نفهم كيف لم ينتبه إليها المُخرج لا سيما المشهد الذي نرى فيه الضابط رشدي يتجه مع معاونيه بعد سرقة الهرم إلى الهضبة ليقول لأحدهم: رفعتوا البصمات؟ فيرد عليه أحدهم: أيوة يا فندم، كله تمام!


إن هذا المشهد الشديد السذاجة جعلنا نتوقف أمامه مُتسائلين: ما هي البصمات التي يمكن رفعها في هضبة الهرم الرملية، وعن أي شيء سوف يتم رفع البصمات، أي أين الشيء الذي من المُمكن لهم أن يرفعوا عنه البصمات؟!

يبدو أن المُخرج لم ينتبه إلى هذه الجملة الفادحة التي كتبها في سيناريو فيلمه مُعتمدا في ذلك على الكليشيهات المُعتادة دائما في الأفلام فيما يخص الشرطة التي لا بد لها أن تسأل مثل هذا السؤال الساذج.

لكن، رغم هذه الهفوة البسيطة والساذجة، لا يمكن إنكار أن المُخرج قد نجح بالفعل في تقديم نفسه من خلال تجربته الأولى كمُخرج له تجاه يخصه، محاولا تقديم سينما جادة تشتبك مع الواقع وتناقشه؛ لتجعلنا نتأمله محاولين تقديم بعض الحلول، أو إنقاذ ما يمكن إنقاذه من حال المُجتمع المصري في هذه الفترة الزمنية السوداء.

 

 

محمود الغيطاني

 مجلة مصر المحروسة

عدد مايو 2023م.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق