الثلاثاء، 27 يونيو 2023

قاع المدينة: العجز الطبقي وانتفاء العدالة

عام 1974م قدم المُخرج حسام الدين مُصطفى فيلمه "قاع المدينة" عن قصة للقاص يوسف إدريس حملت اسم مجموعته القصصية، وهو من الأفلام التي لا يمكن إنكار أهميتها واشتباكها مع قضايا المُجتمع المصري، بل تتناول قضية سيكولوجية مُهمة تؤدي إلى العديد من المُشكلات الاجتماعية في ذات الوقت، لكن الفيلم في هذه الفترة المُهمة من تاريخ السينما المصرية لم يلتفت أو يهتم بالقضية الوطنية الأهم وهي قضية الصراع العربي/ المصري مع الكيان الصهيوني، وهي القضية التي كانت غالبة في هذه الفترة، وموضوع البحث الذي نتناوله- ليس معنى قولنا هذا أن السينما لا بد لها أن تتجه كلها إلى تناول هذا الأمر؛ فلقد سبق أن بينا في البحث السابق أن غالبية الأفلام في حقبة السبعينيات قد اتجهت إلى التسطيح والإلهاء والتغييب، ولم ينجُ منها سوى القليل من الأفلام التي تناولت قضية الصراع، وغيرها من الأفلام الأخرى التي حاولت تناول قضايا مُهمة، ومنها فيلم حسام الدين مُصطفى.

يتناول الفيلم قصة قاضٍ نشأ في طبقة اجتماعية فقيرة مُكافحة، وتحدى الجميع إلى أن بات قاضيا له مكانة اجتماعية مُهمة يهابها ويحترمها ويقدرها الجميع- حتى الطبقات الأعلى التي كان ينظر إليها باعتبارها طبقات من المُستحيل الوصول إليها أو الاختلاط بها- لكن رغم ما وصل إليه القاضي من مكانة ظلت بذور الانسحاق النفسي داخله مُسيطرة عليه أمام الطبقات الأخرى التي يخالطها، وسيطر عليه شعوره بأنه أقل مكانة من أبناء هذه الطبقات؛ الأمر الذي أدى إلى العديد من المُشكلات الاجتماعية التي يشعر بها لا سيما عجزه الشديد، وهو العجز الذي تجلى عليه في صورة العجز الجنسي أمام بنات الطبقات الأعلى منه، واللاتي يشعر أمامهن بالانسحاق والدونية والتقزم.


يبدأ المُخرج فيلمه على القاضي عبد الله- قام بدوره المُمثل محمود ياسين- في قاعة المحكمة، ثم لا يلبث أن ينتقل في المشهد التالي مُباشرة ليقطع على عبد الله في سهرة أعدتها مدام شندي- قامت بدورها المُمثلة ميمي شكيب- في بيتها، وهي من سيدات المُجتمع الثري؛ فنرى الكثيرين من أبناء هذه الطبقة الغنية التي لا يعنيها سوى لعب القمار، وتناول الكحوليات، والرقص على أحدث الأنغام الراقصة فقط، ثم مُمارسة الجنس مع أي شخص يتم اختياره في نهاية الليلة.

نُلاحظ وجود القاضي عبد الله داخل هذا الوسط حريصا على التزام الجدية والوقار بينهم بينما يتعاملون معه بشيء غير قليل من التقدير والمهابة. يحاول عبد الله ألا يشاركهم في الكثير من مُمارساتهم، وهو ما نلحظه في قول أحد الضيوف الذي يلعب القمار: نفسي يا أخي تخرج عن وقار مهنتك وتيجي تلعب معانا؛ ليرد عليه أحد اللاعبين: متتعبوش نفسكم، واحدة بس هي اللي تقدر تخرجه. لترد ثالثة ضاحكة: نانا.

بمُجرد جلوس عبد الله وانتحائه أحد الأركان مع كأس الويسكي، تقترب منه إحدى الضيفات لتقول: تسمح لي بالرقصة دي؟ لكنه لا يعرها اهتماما؛ لترد ضيفة أخرى ضاحكة: مفيش داعي للإحراج، واحدة بس هي اللي بترقصه، نانا.


من خلال هذا المشهد، وهذين التعليقين سنلاحظ أن عبد الله غير قادر على الاندماج الطبيعي مع أبناء هذه الطبقة الاجتماعية التي يشعر داخلها بالكثير من الغُربة، وبأنه ليس منها، لكن ثمة فتاة ما يعرفها الجميع هي الوحيدة القادرة على تحريكه وتغيير عاداته الاجتماعية أو السلوكية بينهم.

حينما يدق جرس شقة مدام شندي تدخل نانا- قامت بدورها المُمثلة نيللي- فنراها تتقدم بخطوات ثابتة، مُتزنة، واثقة من نفسها، فيها الكثير من التعالي والشموخ لتتوقف أمام عبد الله صامتة مُتأملة إياه، وكأنها تأمره بشيء ما من خلال نظراتها المُسلطة عليه؛ فيسرع بدوره بالنهوض واقفا في تصرف لا يمكن تفسيره سوى بتفسير سيكولوجية الخاضع؛ لتمد له خدها مُنتظرة تقبيله لها وكأنه في حقيقة الأمر يقبل يدها وليس خدها.

إن سيكولوجية عبد الله هنا أمام نانا هي سيكولوجية الخاضع، أو الخادم، وهو ما سيتأكد لنا في المشهد التالي حينما تذهب معه إلى بيته بعد الحفل فنراه يسألها بخنوع: تشربي إيه؟ لترد عليه بتعالي وبرود مُتجاهل: أي حاجة. تقول جملتها هذه حتى من دون النظر إليه، أو الاهتمام به.


تتلاعب به نانا في هذه الليلة لكنها تسلم نفسها له موافقة على مُضاجعته، إلا أن عبد الله الخانع لها، المُسيطر عليه تماما يفشل في إتمام الجنس معها، ويفشل في إرضائها، أي أن خنوعه وانسحاقه أمامها باعتبارها ابنة طبقة أعلى منه كثيرا- وهو ما يشعر به في قرارة نفسه، مما يجعله في مكانة الخادم لها- يجعله عاجزا أمامها في مُمارسة الجنس أو اعتلائها، وهو ما يجعله يفشل معها، ومع غيرها من بنات طبقتها دائما!

في اليوم التالي يتوجه صديقه شرف- قام بدوره المُمثل جورج سيدهم- إلى بيته، ويدور حديثهما عن نانا؛ فيقول عبد الله: بس لو كنت أعرف ليه بحبها، دي حالة جنون، حتى أخلاقها مشكوك فيها، حتى عيلتها انقرضت، من حيث الوضع الاجتماعي أنا دلوقتي أحسن منها ألف مرة، إيه يعني جدها كان سلطان باشا، ولا ترتان باشا؟ ليه أنا متعلق بيها للدرجة دي؟ ليه؟! ليرد عليه شرف: تطلع طبقي. لكن عبد الله يرد: بلاش كلام فارغ، بس لو كنت أقدر أنسحب. يقول شرف: اسمع، نقلب الوضع، بدل ما تبص لفوق تبص لتحت. يتساءل عبد الله: يعني إيه؟ فيقول شرف: يعني تاخد كورس تمرين مع الناس اللي تحت. لكن عبد الله يقول: مش فاهم. فيقول شرف: أصل نانا دي شيء رهيب، رهيب جدا؛ فأنا من رأيي إنك تاخد كورس عكسي. يسأله عبد الله: إيه حكاية كورس دي؟! ليرد شرف: يعني تدرب نفسك على الحب مع ناس أقل منك، أقل منك كتير، كتير جدا.


ربما تأتي أهمية هذا الحوار بين الصديقين من أنه كان حوارا كاشفا شديد الوضوح؛ فقول عبد الله نفسه: "حتى عيلتها انقرضت، من حيث الوضع الاجتماعي أنا دلوقتي أحسن منها ألف مرة، إيه يعني جدها كان سلطان باشا، ولا ترتان باشا؟" لهو خير دليل على إحساسه العميق بأنه أقل منها طبقيا، وأنه غير مُناسب لها، وأنه يراها في السماء بينما هو في عُمق سحيق تحت الأرض، كما أن قول صديقه شرف حينما قال: تطلع طبقي. كان أكثر وضوحا ومُباشرة ومُكاشفة ليُدلل على أن رغبة عبد الله في الانسلاخ من ماضيه وطبقته الفقيرة يجعله يحاول الاختلاط بأبناء هذه الطبقات، لكنه، للأسف، في قرارة نفسه يظل يمتلكه شعور الضآلة والتقزم أمام أبناء هذه الطبقات؛ الأمر الذي يصيبه في نهاية الأمر بأزمة نفسية، وعجز جنسي أمام بنات هذه الطبقات.

هذا الانسحاق الشديد والإحساس الدائم بالوضاعة أمام الطبقات الأعلى منه يعبر عنه المُخرج بصريا بشكل فيه الكثير من الذكاء، وهو التعبير الذي ركز عليه المُخرج غير مرة في فيلمه حينما تقترب الكاميرا من يده المُتعرقة. إن تعرق يده الدائم أمام نانا هو شكل من أشكال الانسحاق الطبقي الدال على عدم تصديقه أنه أمام هذه الطبقة مُعاشرا لها، كذلك تعرق يده أمام مدام شندي في مشاهد أخرى، بينما لا نرى هذا التعرق مثلا أمام شهرت في مشاهد أخرى مُتقدمة؛ لأن شهرت مُجرد خادمة لا يشعر أمامها بالدونية، بل يراها هي الأقل منه. كذلك فإن جلوسه على الأرض بجانب الأريكة التي تنام عليها نانا في بيته، واستكانته تحت قدميها لا يدلان سوى على المزيد من هذا الانسحاق المُسيطر عليه حتى النخاع.

يستمع عبد الله إلى نصيحة شرف؛ لمحاولة التخلص من تعلقه الشديد بنانا، ولرغبته في اختبار نفسه جنسيا مع فتاة أقل في الترتيب الاجتماعي، وبالفعل يطلب من ساعي المحكمة فرغلي- قام بدوره المُمثل توفيق الدقن- أن يأتي له بخادمة لتهتم ببيته في الفترة من الثالثة مساء حتى الثامنة؛ فيسرع فرغلي بالاتجاه إلى ابنة حارته شُهرت- قامت بدورها المُمثلة نادية لطفي- المتزوجة من رجل مُدمن للأفيون ولا يفارق الفراش منذ عدة شهور، والتي لا تجد قوت يومها وقوت أولادها- بنتان وولد- بعدما لازم الزوج فراشه. يحاول فرغلي إقناعها بالعمل كخادمة في بيت عبد الله، لكن لأنها لم تعمل في هذه المهنة من قبل ترفض في البداية إلى أن توافق على مضض بعد إقناعها بأنها في حاجة إلى هذا العمل، كما يخبرها بأنه نفسه يعمل خادما لعبد الله؛ فتوافق.


حينما تذهب شُهرت برفقة فرغلي إلى بيت عبد الله نُفاجأ بأن فقرها المُدقع يجعلها لا تعرف ما هو البوتوجاز حتى أنها لا تستطيع إشعاله؛ فيعلمها عبد الله كيفية إشعاله. يتعامل عبد الله مع شُهرت في البداية برفق، لكنه في اليوم التالي حينما يراها ترفع ملابسها حتى وسطها من أجل مسح أرضية شقته، ويلمح ساقيها الجميلتين عاريتين، يطلب منها أن ترتب له غرفة نومه كي ينام، وأثناء قيامها بترتيبها يهجم عليها مُغتصبا إياها بينما تحاول جاهدة مقاومته لكنه ينجح في النهاية في السيطرة عليها والنيل الجنسي منها.

إن مقدرة عبد الله هنا في اغتصابها والسيطرة عليها باعتبارها الحلقة الأضعف في الترتيب الاجتماعي الطبقي يجعله قادرا على استعادة مقدرته الجنسية مرة أخرى، وينجح في إتمام العلاقة الجنسية معها؛ مما يُدلل على أن عجزه الجنسي في حقيقة أمره هو مُجرد عجز اجتماعي أمام الطبقات الأعلى منه التي تُشعره بالكثير من الدونية والتقزم أمامها!

تظل شُهرت تبكي فترة ليست بالقليلة بعد اغتصاب عبد الله لها، حتى أنها تقول له بأنها لم يسبق لها مُطلقا أن مارست هذا الفعل مع رجل غير زوجها، لكنه لا يصدقها ويظن أنها تدعي ذلك- لاحظ نظرته الطبقية لها، وأنها ما دامت ابنة طبقة أقل، أو فقيرة؛ فهي بالضرورة لا بد لها أن تبيع جسدها لمن يدفع، وهذه النظرة التي ينظرها لها لا بد لها أن تفسر لنا بدورها نظرة الطبقات الأعلى منه له، لا سيما نظرة نانا إليه- ويعطيها جنيها، بل ويطلب منها أن تأخذ معها كل يوم أثناء انصرافها الطعام الباقي لتطعم به أطفالها، وكأنه بذلك يعطيها مُقابل اغتصابها الجنسي.


تنصرف شُهرت ولا تعود في الأيام التالية؛ مما يجعله يسأل فرغلي عنها. يتجه فرغلي إليها ليلومها قائلا: أنا عارف أنت مش عايزة تشتغلي ليه، أنت مناخيرك فوق، طالعة فيها، آه، ازاي الست شُهرت هانم بنت الحاج بعجر شيخ النجارين تخدم في البيوت، يا شُهرت الدنيا صعبة، وأنت غلبانة وجوزك بطلان، وولادك يا شُهرت، ولادك مش لاقيين اللضا.

إن حديث فرغلي لشُهرت يجعلها تتأمل أولادها الجياع؛ ومن ثم ترضخ للأمر وتعود إلى بيت عبد الله مرة أخرى من أجل خدمته مُتجاوزة عما سبق أن حدث منه.

يذهب عبد الله مرة أخرى إلى بيت مدام شندي، وهناك تأخذه نانا معها إلى بيتها في نهاية السهرة، لنراه جالسا تحت قدميها ككلب مُطيع ذليل لها، وهناك تسأله نانا عما يريده منها؛ فيخبرها بأنه يحبها لتقول: بس أنت مش بتحبني زي ما أنت فاهم. ليقول: نانا، أنت مش فاهمة حاجة، أنت كل حاجة في حياتي، كل خططي انقلبت من ساعة ما شوفتك، أنا مُستعد أسيب الدنيا كلها عشانك. لكنها تسأله: أنت عارف إيه معنى الحب الحقيقي؟ العبادة، الخضوع الكامل، الفناء في الشخص اللي أنت بتحبه، لكن أنت في صميمك بتحب نفسك أكتر ما بتحبني. فيقول: أنت عارفة كويس إن حياتي من غيرك ملهاش أي معنى. لتسأله: يعني مُستعد تغفر لي أي حاجة؟ فيقول: كل شيء، نبدأ صفحة جديدة. فتسأله: يعني لو خنتك. ليرد مُندهشا: إيه؟! لتقول: مثلا. فيسألها: خنتيني؟ بعد ما نتجوز؟! فتقول: مش قلت لك؟ فيسألها: ازاي أكون بحبك حب حقيقي وأقبل إنك تخونيني؟! لترد: يبقى مبتعرفش الحب.

إن هذا المشهد يُدلل لنا من خلال حوارهما أن نانا بالفعل لا تحبه، بل تتلاعب به، فضلا عن أنها بالفعل تنظر إليه في حقيقة الأمر بدونية وبأنه أقل منها اجتماعيا؛ لذلك فهي لا ترغب فيه سوى باعتباره عبدا لها، ولعل هذا كان واضحا من قولها: أنت عارف إيه معنى الحب الحقيقي؟ العبادة، الخضوع الكامل، الفناء في الشخص اللي أنت بتحبه. أي أنها راغبة في عبد خاضع لها ينفذ لها رغباتها فقط، ولا يكون له أمامها أي إرادة أو رأي يخصه.


يتجه عبد الله مرة أخرى إلى بيت مدام شندي نهارا ليجدها وحدها. ويجلسان لتبادل الحديث وتناول القليل من الكحول، لكننا نلاحظ أن يديه تبدآن مرة أخرى في التعرق أمامها- كدليل على إحساسه بالنقص الطبقي- كما يحاول مراودتها عن نفسها إلى أن تستسلم له وتصعد معه إلى غرفتها لمُضاجعته، لكنه يفشل معها جنسيا ولا يستطيع فعل أي شيء معها؛ مما يؤكد عجزه الطبقي الكامل أمام جميع بنات هذه الطبقة اللاتي يشعر أمامهن بالعجز والانسحاق.

يكرر عبد الله اغتصاب شُهرت مرة أخرى، إلا أننا نراها هذه المرة أقل مقاومة له، أي أنها قد بدأت تخضع للأمر باعتباره شيئا عاديا بما أنه يؤمن لها حياتها هي وأطفالها. لكنه حينما يراها شاردة حزينة يقول لها: شُهرت، ملكيش حق تزعلي؛ أنت مش عارفة عملتي فيا إيه، أنت بتشفيني من مرضي، بتخليني أشعر بالسعادة، أحس بحياتي، دا يزعل؟ لترد: أنا حقيقي ست محتاجة، لكن أنا مش كدا. ليقول: إخص عليكي يا شُهرت، ليه بتفكري بالشكل دا؟ أنت بتعملي فيا أعظم عمل مُمكن تعمله ست. لترد: كتر خيرك يا بيه.

بالفعل تبدأ شُهرت كل ليلة في أخذ الطعام المُتبقي لأطفالها، ويعطيها عبد الله ستة جنيهات كأجر شهري لها بدلا من أربعة جنيهات فقط، وهو ما يجعلها تأتي لأطفالها بملابس جديدة، لكن زوجها منعم- قام بدوره المُمثل فايق بهجت- يسرق منها المال عنوة من أجل شراء الأفيون الذي لا يستطيع التخلص منه.

تستمر العلاقة الجنسية بين كل من شُهرت وعبد الله الذي يكون معها مُكتمل الرجولة تماما، وقادرا على المُمارسة الجنسية بطبيعية، لكنه حينما يحاول مع أي سيدة من سيدات الطبقة الأعلى يعود إلى فشلة الجنسي مرة أخرى؛ مما يؤكد على الانسحاق الكامل أمام هذه الطبقة. وحينما يذهب مرة أخرى إلى نانا في بيتها يجدها في حالة سُكر تامة بينما تجلس تحت قدمي أحد الرجال في بيتها مُشاركا إياها السُكر.

إن هذا المشهد الذي نرى فيه نانا جالسة مُستكينة تحت قدمي الرجل الذي معها في بيتها إذا ما قارناه مع المشاهد السابقة التي كنا نرى فيها عبد الله هو الجالس تحت قدميها يفسر لنا أنها تنظر إليه باحتقار طبقي؛ مما يجعلها تختار جلوسه الدائم تحت قدميها، في حين أنها مع الرجال من أبناء طبقتها لا ينتقص منها أن تكون هي الجالسة تحت قدمي الرجل الذي يتساوى معها طبقيا.


تحاول شُهرت أن تُجمل من نفسها والاهتمام بشكلها وملابسها من أجل أن تبدو أكثر جمالا وأنوثة في عيني عبد الله الذي باتت العلاقة الجنسية بينهما أكثر طبيعية؛ فنراها ترتدي جونلة وتضع الماكياج، وهو ما ثار عليه عبد الله في البداية مُبديا لها اعتراضه على أن تفعل ذلك، لكنها تؤكد له أنها هكذا أجمل؛ حتى أن الرجال جميعا يعاكسونها في الشارع، كما أنها تشبه مُمثلات التليفزيون. وذات ليلة يعطيها عبد الله أجرة الشهر مُؤكدا لها أنه لن يستطيع الاستمرار في إعطائها سة جنيهات كالسابق؛ لأن ظروفه لا تسمح له، وأنها سيعطيها أربعة فقط، وبما أنها قد أخذت منه جنيها هذا الشهر، فهي لا يتبقى لها سوى ثلاثة جنيهات فقط، ليمد يده إليها بهم.

تشعر شُهرت بالكثير من الصدمة والحزن، حتى أن دموعها تسيل على خدها، وتترك الطعام الذي تأخذه معها لأولادها كل ليلة وتهبط الدرج مُنصرفة، لكنه حينما يلاحظ تركها للطعام يناديها للصعود مرة أخرى، ويسألها عن السبب في ترك الطعام، ويظن أنها غير راغبة في العودة إليه مرة أخرى ليتهمها بأنها لا يعنيها أي شيء في حياتها سوى المال فقط، وأنها من المُمكن لها أن تتركه من أجل جنيه أو جنيهين زائدين. لكنها تنفي ذلك، وتؤكد أنها قد نسيته لتفكيرها في الكثير من المسؤوليات التي تلتزم بها، ولأن نقصان الراتب سيؤدي للكثير من العوائق في حياتها.


تستمر شُهرت بالفعل بالعمل عند عبد الله، كما أن علاقتهما الجنسية لا تتغير، بل تطلب منه ذات مرة بعد انتهاء العلاقة مُباشرة أن يعيد لها راتبها كما كان، أو يزيده جنيها ليصبح خمسة جنيهات، لكنه يثور عليها رافضا، وتخبره بأنها في حاجة إلى أن تشتري ملابس لها ولأولادها، إلا أنه يُصرّ على الرفض.

تلاحظ شُهرت في هذه اللحظة ساعة يده بجوار الفراش فتأخذها لتتصرف فيها، لكنه ينتبه في اليوم التالي لاختفائها، وحينما يبحث عنها ولا يجدها يتيقن بأن شُهرت هي التي سرقتها. يستدعي عبد الله صديقه شرف مُخبرا إياه بالأمر، ورغم أنه يؤكد لشرف بأن الساعة ليست بالشيء الثمين، وأنها لا يمكن لها أن تأتي بأكثر من ثلاثة جنيهات في حالة بيعها، إلا أنه يُصرّ على إثبات سرقة شُهرت لها؛ لأنه يرى أنها تتحدى وضعه الاجتماعي بسرقتها لساعته التي لا قيمة لها.


يتفق عبد الله مع شرف على أن يتنكر شرف في زي رجل شرطة ويتجها إلى بيت شُهرت من أجل إرهابها والاعتراف بالسرقة، ويصطحبا معهما فرغلي ليدلهما على بيتها. حينما يصعدون إلى سطح إحدى البنايات المُتهالكة في حارة شديدة الفقر نرى شُهرت تُحمم طفلها الصغير في طشت، بينما يتأمل شرف المكان من حوله، فيلاحظ الفقر المُدقع الذي تعيش فيه، وهو الفقر الذي لا يليق بالحيوانات كي تعيش وسطه.

يسألها عبد الله عن ساعته، لكنها تنكر أنها قد سرقتها؛ فيبدأ في تفتيش المكان، ويلاحظ أحد الصناديق المُغلقة التي ينام بجوارها زوجها المريض الذي لا حول له ولا قوة؛ فيطلب منها أن تفتح الصندوق وإلا أخذها الشرطي معه؛ فتشعر بالخوف وتطلب منه ألا يقوم بفضحها، وترضخ لطلبه. يقوم عبد الله بتفتيش الصندوق ليجد ساعته، ويُصرّ على فضحها أمام جيرانها، بينما ينصرف شرف حزينا حينما يرى شكل حياتها والفقر الشديد الذي يحيط بها.

يبدأ شرف في خلع ملابس الشرطي مُتألما حينما يصل إلى السيارة، ولما يلحقه عبد الله يقول له مُبتهجا: لقيت الساعة يا شرف، لكن شرف ينظر إليه باحتقار ساخرا ليقول مبروك، انتصار عظيم. ثم ينصرف تاركا إياه.


يحاول عبد الله العودة مرة أخرى إلى نانا، لكنها تلفظه تماما هذه المرة من حياتها بشكل مُباشر؛ الأمر الذي يجعله يبدأ في البحث عن امرأة أخرى كبديل لشُهرت، لكنه هذه المرة يتجول بسيارته ليلا من أجل اصطياد فتيات الليل ومُمارسة الجنس معهن. يلاحظ عبد الله إحدى الفتيات الواقفات في الطريق ليتوقف لها، وتتجه الفتاة بالفعل إلى سيارته، لكنها بمُجرد فتحها باب السيارة من أجل الصعود نُفاجأ بأنها شُهرت التي انتهجت هذا الطريق بعد فضيحتها، ولم تجد غيره لإطعام أطفالها، وبعدما وضع عبد الله، نفسه، قدميها على بداية هذا الطريق بما كان يفعله معها.

حينما ترى شُهرت وجه عبد الله تتراجع لتغلق باب السيارة باصقة ما تمضغه في وجهه؛ ليسرع مُنصرفا باكيا على الموقف. لا يمكن هنا إنكار أن المفهوم الحقيقي للشرف يتمثل في هذا المشهد؛ فهو الذي صنع منها عاهرة باستغلاله حاجتها المادية الماسة والضرورية من أجل إطعام أطفالها، كما أنه قد زين لها الأمر وجعله طبيعيا وعاديا في عينيها بعدما كان أمرا مُستحيلا، في حين أن جوهر هذا المشهد وحقيقته يُدللان على عُهر عبد الله نفسه وليس عُهر شُهرت التي زُج بها زجا إلى هذا الطريق بما فعله بها.

في المشهد التالي يقطع المُخرج على عبد الله/ القاضي في المحكمة وحينما يبدأ الجلسة يلاحظ أن الفتاة الواقفة خلف القفص الحديدي مُجرد عاهرة لا بد له من مُحاكمتها، هنا يحرص المُخرج على القطع المُونتاجي بين هذه العاهرة وبين شُهرت في نفس الموقف؛ مما يجعله عاجزا عن استمرار الجلسة، ويصبح في مواجهة جريمته التي ارتكبها في حق شُهرت الفقيرة؛ لذلك يسحب إحدى الأوراق ليكتب: السيد وزير العدل: لم أستطع أن أكون عادلا في قضية تخصني شخصيا، فكيف أكون عادلا في قضايا الناس؟ أرجو قبول استقالتي. ثم يهتف: رُفعت الجلسة لينتهي الفيلم.

إن النهاية التي انتهى بها الفيلم قد تبدو لنا على سبيل التطهر من النهايات المُناسبة، لكنها كانت شديدة المُبالغة، من قبل المُخرج، فلقد كان من الأجدى به أن يغلق فيلمه على مشهد لقاء شُهرت مع عبد الله حينما حاول اصطيادها في الشارع، لينتهي هذا المشهد بشُهرت تبصق عليه وينصرف هو باكيا، لكن المُخرج هنا رغب في المزيد من التأثير على الجمهور، وانساق خلف المُبالغات ليقدم لنا هذه النهاية التي انتهى بها الفيلم.

إن فيلم "قاع المدينة" للمُخرج حسام الدين مُصطفى من الأفلام المُهمة التي تعمل على علاج الفوارق الطبقية في المُجتمع وأثر هذه الفوارق العميقة على سيكولوجية أبناء الطبقات الأقل، وكيف يؤدي بهم شعورهم بالانسحاق إلى تدمير غيرهم من أبناء الطبقات الأكثر ضعفا، كما أنه قدم لنا قاضيا شديد الظُلم والأنانية في حياته الشخصية؛ ومن ثم لا يمكن له أن يكون عادلا في الحُكم على حيوات الآخرين.

إذن، فنحن أمام فيلم يؤكد على عدم إمكانية تذويب الفوارق بين الطبقات، واستحالة الصعود الاجتماعي المُفاجئ على المستوى النفسي ما دام الفرد يشعر في قرارة نفسه بالانسحاق أمام الطبقات الأخرى الأعلى منه.

 

محمود الغيطاني

مجلة مصر المحروسة

عدد يونيو 2023م.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق