ربما كان ما تعاني منه
المنطقة العربية من قهر واستبداد سياسي من طغاتها تجاه مواطنيها باسم الحكم،
وسياسات الإفقار الممنهجة التي يتبعونها لمنع المواطنين من التفكير في حقوقهم
السياسية والسعي خلف أرزاقهم الممسوكة عنهم عمدا، فضلا عن سياسات التجهيل وخفض
مستوى الوعي والتعليم لعدم المطالبة بحقوقهم الأولية في الحياة، وسياسات التعذيب
المنهجية لمن يُعارض النظام وصولا إلى محاولة طمس التاريخ وكتابة تاريخ مزيف
يبتكرونه هم محاولين فيه تجميل وجه السلطة السياسية بما ليس فيها، نقول: إن كل هذه
الأساليب وغيرها ربما تكون دافعا مهما للعديدين من الروائيين لتأمل الوضع البائس
الذي يعيشون فيه؛ ومن ثم الكتابة عن هذا القهر الكثير من الأعمال الإبداعية التي
تعالج مثل هذه الأساليب وغيرها.
يعضد هذا القول الكثير من
الروايات العربية التي كُتبت عن هذه الحالة الكابوسية، سواء من خرجوا من المعتقلات
ليرووا بشكل روائي ما سبق أن عانوه في المعتقل مثل روايات الروائي صنع الله
إبراهيم فيما أُطلق عليه أدب السجون، أو العراقي يوسف الصائغ في روايته
"السرداب رقم 2"، أو السوري مصطفى خليفة في روايته "القوقعة..
يوميات متلصص"، أو ما عبر عنه السعودي عبد الرحمن منيف في أعماله الروائية من
قهر في المملكة، أو ما كتبه حسن محسب في روايته "وراء الشمس"، وصولا إلى
الأردني زياد محافظة في روايته "حيث يسكن الجنرال"، والجزائري بشير مفتي
في روايته "لعبة السعادة"، والجزائري عبد الوهاب بن منصور في روايته
"الحي السفلي، وغيرهم الكثيرون من الروائيين الذين عبروا عن الوضع المزري
للمنطقة العربية من هوان سياسي وذل حقيقي من أجل الحاكم الطاغية.
هذه الحالة من الهوان تُعد
منطقة خصبة لتأملها روائيا؛ لذلك رأينا الكثير من الأعمال التي تحاول معالجتها
والتعبير عنها، ولعل المعالجة الأدبية لها لن تنتهي، بل ستظل كنزا حقيقيا ينهل منه
الكثيرون من الروائيين مستقبلا. هذه الحالة هي ما دفعت الروائي المصري مروان عثمان
لكتابة روايته "حكاية سقطت من الزمن" للتعبير عن حالة الهوان التي
يعانيها المواطن العربي، وإن كان الروائي لم يهتم بتحديد بلد معين في روايته ولا
زمان بعينه، بل عمل على تجهيل الزمان والمكان؛ لأن ما كتبه من الممكن سحبه بسهولة
على أي دولة من الدول العربية التي لا تختلف واحدة منها عن غيرها فيما يحدث.
يتحدث الروائي عن سالم الذي
انتبه من نومه ليجد نفسه مفترشا غابة ما وإن كان لا يتذكر أي شيء من حياته السابقة،
أي أن كل ما يربطه بالماضي قد انبتّ تماما ولم يبق له سوى لحظته الآنية في إحالة
من الروائي إلى محاولة الحاكم دائما طمس التاريخ والماضي بالكامل إذا لم ينجح في
تزويره؛ كي يبدأ التاريخ منه فقط وينتهي إليه: "انتظر سالم قليلا على الأرض
ريثما يستفيق عقله، ثم بعد لحظات جلس مسندا ظهره إلى الشجرة وشرد بذهنه قليلا،
فوجد أنه لا يعرف هذا المكان الموحش، ولا يدري كيف آل به الأمر لهذا المكان
الغريب، فهو لا يذكر بيته وأهله، لا يذكر عمره أو عمله، لا يتذكر شيئا حول أصدقائه
أو أعدائه، ولا كيف أو لماذا جاء إلى هنا، كل ما استطاع تذكره بعد عناء طويل وجهد
جهيد هو أنه أتى من مكان آخر لا يعرف إذا ما كان قريبا أم بعيدا عن هذا المكان ومن
ثم أنهكه التعب من طول رحلته التي لا يتذكر أي من تفاصيلها ثم وجد تلك الغابة؛
فافترش الأرض تحت إحدى أشجارها حتى غط في سبات عميق لم يقطعه سوى ضوء الشمس وحلول
الظهيرة"، ولعل ما يؤكد ما ذهبنا إليه في أن الحاكم يرغب في بداية التاريخ
وانتهائه عنده فقط ما كتبه الروائي: "جُمعت كل تلك النصوص والكتب، والتي
عكفوا على نقلها فقط لمدة أسبوع كامل، ووُضعت كلها في مبنى أُنشئ خصيصا لها، وهو
مبنى تراث اليمامة الموجود في المدينة المحرمة، ثم أُضرمت النار بها، فاشتعلت نار
مهولة. تلك كل الكتب والأوراق، فكان كل من يمر بالمدينة أو يركب إحدى السفن بالبحر
يستطيع أن يرى الحريق المهول، ومن شدة حرارتها كانت تسقط الطيور من فوقها لتُشوى
مع الكتب، والحماية تقف على بُعد كبير من المبنى تُشرف على الحريق الذي استمر قرب
ثلاثة أيام حتى خمد، ودخلت الفرقة المسؤولة عن هذا الأمر لتتفقد نجاحه وترى إذا ما
بقيت بعض الأوراق أو خلفت تلك النار المهولة بعض النصوص الثمينة من منطلق
الشفقة".
ربما لا بد من الإشارة في هذه
الفقرة إلى الخطأ الذي وقع فيه الكاتب حينما استخدم حرف الجر "به" بدلا
من "فيه" في قوله: "ثم أُضرمت النار بها" وهو ما يؤدي إلى
تغيير المعنى الذي يريده الكاتب؛ والصحيح في القول هو: أضرم النار في الشيء وليس
به.
يستمر الروائي في التأكيد على
حالة التجهيل التي يصطنعها المعشوق/ الحاكم ليبدأ كل شيء منه وينتهي عنده بقوله:
"بعد ذلك أُلغي العمل بالتقويم السنوي، وأصبح تقويم الفصول الأربعة هو
التقويم السائد بحجة حاجتهم له في أمور الزراعة والحصاد، فألغوا بذلك الماضي،
وألغوا كل حقب السنوات، بل وكل ما قبل المعشوق، حتى وصل الأمر بأن أحد المستشارين
لو أراد معرفة التاريخ الذي لم يعاصره قبل ولادته فإنه لن يستطيع أن يصل لشيء مهما
كرس بحثه، ومهما بلغ علمه ونفوذه؛ فالتاريخ يبدأ من المعشوق، فهو أول التاريخ وآخره،
وكاتب تاريخه بنفسه دون غيره"، هكذا يؤكد الروائي حالة الزيف العربي الذي
يمارسه كل الطغاة العرب وهي حالة محو التاريخ تماما إما لكتابة تاريخ جديد غير
حقيقي، أو لإخفاء الحقيقة التاريخية تماما وتجهيلها فلا يكون هناك تاريخ قبل
الطاغية سواه.
حينما ينتبه سالم إلى وجود
حطاب في الغابة يطلب منه أن يأخذه إلى أقرب مدينة؛ فيفعل الحطاب مندهشا خائفا منه،
وهناك في المدينة يلتف حوله الناس مندهشين من ملابسه وهيئته الغريبة، كما تزداد
دهشتهم حينما يعرفون أنه قد قضى الليل في الغابة، وهي المكان الذي لا يقربه أي
إنسان؛ نظرا لأنها تضج بالسحر والكثير من المجهول مما يخيفهم.
يتعرف حسن على سالم ويأخذه
معه إلى منزله ومن حسن يعرف سالم أن المدينة قد حرص المعشوق/ الحاكم على تقسيمها
إلى قسمين: المدينة الشعبية التي يعيش فيها عامة الشعب من الفقراء المدقعين الذين
لا يجدون قوت يومهم، والمدينة المحرمة وهي المدينة التي يعيش فيها الحاكم وصفوة
القوم من الأغنياء والتي يُحرم على الفقراء دخولها أو حتى الاختلاط بأهلها وإلا لاقوا
الكثير من العقاب. يقول الروائي واصفا حال المدينة الشعبية وحالهم التي يعيشون
فيها: "عرف سالم قبلا من العمال إبان عمله في الحصاد أن القراءة والكتابة لا
يتقنهما سوى من يتعلم، والتعليم شبه منته في المدينة الشعبية، حيث لم يعد أحد يعلم
نفسه أو أولاده، ولا يوجد من يقوم بتعليم الناس من الأساس، أما من يريد التعليم،
وهذا نادرا، فعليه بالذهاب لدار العلم والكتب في المدينة المحرمة وهي عبارة عن عدد
من المباني والساحات الضخمة تنقسم إلى مدرسة وجامعة ومساكن للطلبة، وأقل فترة
للتعلم هناك لا تقل عن ستة أشهر؛ لذا فلا أحد يستطيع تحمل نفقات التعليم هنا؛ فرب
الأسرة هنا بالكاد يملك قوت يومه، بل وأحيانا لا يملكه من الأساس، ثم إن أغلب
الناس لم تعد لديهم الأفكار القديمة حول الزواج وتكوين الأسرة، فهم لا يتزوجون في
الغالب، بل يمارسون ما يحتاجونه من الزواج فقط أي الجنس، لذا تنتشر بيوت المتعة
لاستغلال تلك الحاجة، والأطفال لا تأتي سوى عن طريق الخطأ أو رغما عن آبائهم؛ لذا
فهم بالكاد يرضعونهم، ثم يلقون بهم في الشوارع للعمل وكسب القوت بنفسهم، فيرسلون
أغلب الذكور إلى الورش والمصانع، وأغلب الإناث إلى بيوت المتعة وهكذا تجري مثل تلك
الأمور"، أي أن الحاكم حريص كل الحرص على تجهيل أهل المدينة الشعبية ليظلوا
تحت سيطرته بالجهل والفقر؛ الأمر الذي جعلهم يحدون من نسلهم لدرجة تكاد أن تجعلهم
ينقرضون؛ نظرا لما يعانونه من الفقر الشديد.
يعرف سالم فيما بعد أن الغابة
ليست كما يزعم العامة مليئة بالسحر والشياطين، بل هي تجاور عدة جبال يسكن فيها
اللصوص المحتمين بها من الحاكم، كما فرض هؤلاء اللصوص سيطرتهم على الغابة
باعتبارها البوابة إلى الجبل حيث يسكنون؛ لذلك يشيعون بين أهل المدينة الشعبية هذه
الأقاويل التي صدقوها نظرا لجهلهم، لكن حسن على علاقة جيدة باللصوص وزعيمهم
"أبو عرام"؛ لذلك حينما يقع سالم بين أيديهم ينقذه حسن بعلاقته بهم؛ ومن
ثم تبدأ الألفة بين سالم وعالم اللصوص الذين يزورهم مع حسن كل أسبوع.
هذه الحالة من التجهيل الكامل
التي حرص عليها الحاكم تُدلل على أهمية الوعي في حياة المجتمعات؛ لأنه من خلال
الوعي فقط يستطيع الإنسان المطالبة بحقوقه ويُصرّ عليها؛ مما ينذر بثورات متتالية؛
لذلك يحرص معظم الطغاة على محاربة الثقافة والوعي وهو ما نراه في حياتنا الواقعية
بالفعل؛ لذلك يقول: "أما الكتب فلأنها جمعت كل الكتب من كلتا المدينتين بأمر
من المعشوق، ومن يود الاحتفاظ بكتاب له، فعلى الدار تسجيل اسمه واسم الكتاب الذي
يحمله والموافقة على الأمر، وإذا لم يقم بذلك تعرض لمحاكمة عاجلة قد تكلفه حياته
والكتاب، فجمعت كل الكتب باستثناء بعض الكتب التي وافقت على اقتناء أصحابها لها،
وأغلبها في قصر المعشوق، ومع مستشاريه وبعض وزرائه".
مروان عثمان |
يبدو هنا المؤلف على وعي
حقيقي بما يفعله الطغاة العرب بشعوبهم على أرض الواقع؛ فمحاربة الثقافة هو الطريق
الأول والأسهل لعدم اعتراض المحكومين على تنكيل الحكام بهم، ثم تأتي بعد ذلك الطرق
الأخرى من قمع وتعذيب وقتل وغير ذلك؛ لذلك يكتب حسن/ كمال الذي سنعرف فيما بعد أنه
كان من أبناء المدينة المحرمة الذي تدرب في الحماية/ الشرطة ثم سرعان ما انقلب
عليهم وتمرد وهرب إلى المدينة الشعبية وعاش فيها متخفيا باسم حسن، كما أنه كان
يناور السلطة كثيرا باسم حركي هو القيوط، نقول أنه يكتب: "أكتب إليك يا من
تقرأ هذه الكلمات، لأضع بعضا من الحقيقة نصب عينيك، فهم كما لا تعلم، لم يتركوا أي
نص قديم من الماضي يمر إلينا، ولا كتب التاريخ والماضي، بل حتى الخرافات
والأساطير، والحكايات الشعبية التي كانت في الأساس بغرض التسلية محوها؛ فما خفوه،
وهو ما علمت بعدها بالخديعة تارة وبالسرقة تارة، أن المعشوق بعد توليه مقاليد
الحكم، أُصدرت الأوامر للحماية بتشكيل فرق منهم مهمتها مراجعة القديم من النصوص
والكتب، وجمعه كله، فجمعوا كل ما يحكي عن الماضي سواء القريب أو السحيق، كل ما
يؤرخ لمملكة معينة قامت أو نظيرة لها سقطت، بل وكل ما يشمل تاريخا مكتوبا في نص أو
تقويما معينا، مجرد رقم يعود لشهر من الشهور أو لعام من الأعوام، لا يدل على شيء
وحده"، أي أن الحاكم كان حريصا على محو كل شيء، فلا يفكر أحدهم فيما بعد أن
يُعيد الماضي فضلا عن أن أهل المدينة الشعبية لا يعرفون القراءة أو الكتابة.
كان حسن/ كمال/ القيوط لديه
مكتبة ضخمة يكتب فيها هذه الكتابات، لكنه يكتبها لنفسه حيث لا يقرأ أحد؛ لذلك
حينما عرف سالم أنه يعرف القراءة والكتابة طلب منه أن يعلمه، وبالفعل ساعده حسن في
التعلم، وحينما تم اختيار سالم للعمل في المدينة المحرمة كان نصيبه أن يعمل
بستانيا في المكتبة العامة، وهو ما أفاده كثيرا بعدما تم اعتقال حسن؛ حيث بدأ سالم
ينسخ ما كان يكتبه حسن من إظهار للحقيقة ويضعه بين صفحات الكتب في المكتبة العامة
كي يقرأها كل من يحصل على كتاب هناك، ويبدأ الناس يعون ما حدث كي تحدث الثورة والتغيير.
لكن يحدث أن يُبلغ أحد الطلاب
ذات يوم عن ورقة من الأوراق التي كتبها سالم ووضعها بين الكتب؛ فيتم اعتقال الطالب
وتفتيش المدينة الشعبية بالكامل لمعرفة من يتقن القراءة والكتابة، كما يتم اعتقال
سالم لمعرفته القراءة والكتابة؛ ومن ثم يكون هو المتهم الأول فيما حدث.
تبدأ الثورة الحقيقية من
اللصوص الذين يسكنون الجبل حينما ينزل إلى المدينة الشعبية فتى صغير في العمر من
أهالي المدينة المحرمة ومعه حراسه، وحينما يرى الصبي الرجل الفقير/ القرداتي يلهو
مع قرده يستولي على القرد ليترك الرجل يبكي وينعي حظه، وحينما يعرف أبو عرام، زعيم
اللصوص، بما حدث حيث كان رجاله حاضرين الواقعة يُصرّ على إعادة القرد للرجل،
وبالفعل ينجح رجال أبو عرام في إعادة القرد مرة أخرى ويستضيفون القرداتي في الجبل
ليحيا معهم.
لكن رعد صديق حسن الذي كان
زميله في الحماية وفضل الحياة مع اللصوص يبدأ في الثورة على "أبو عرام"
زعيم اللصوص؛ لأنه يراه جبانا يخشى سرقة أهل المدينة المحرمة؛ ومن ثم يبدأ التمرد
على "أبو عرام" وينضم العدد الأكبر من اللصوص إلى رعد الذي يبدأ في شن
العديد من الهجمات على المدينة المحرمة وسرقتها بل وتوزيع التبغ المحرم على أهل
المدينة الشعبية على أهلها؛ مما جعل الحماية والمعشوق يشعرون بالجنون، كما أعاد
رعد القرصنة في البحر مرة أخرى، ومن هنا بدأ العديد من الغارات على أهل المدينة
المحرمة التي أدت إلى المزيد من التنكيل بأهل المدينة الشعبية؛ وهو الأمر الذي جعل
رعد راغبا في الانتقام لأهل المدينة الشعبية وينجح بالفعل هو ورجاله في اقتحام
المدينة المحرمة وتخيير من تبقى من أهلها، بعد قتل عدد كبير منهم، إما تسليم
ممتلكاتهم والرحيل على السفن عن طريق البحر أو القتل، وبالفعل يستسلم العدد الأكبر
من أهل المدينة المحرمة ويتم إحراق البيوت بمن فيها ممن رفضوا تسليم ممتلكاتهم، كما
يتم إلقاء القبض على المعشوق وحرقه في سفينة في عرض البحر.
ربما كان العنف الشديد الذي
واجه به رعد ورجاله من اللصوص لأهل المدينة المحرمة والحماية سببه رد فعل طبيعي
للعنف الذي كان يواجه به المعشوق وحمايته لأهل المدينة الشعبية من الفقراء
المساكين، ولعلنا نلحظ هذا العنف الشديد حينما قام عبد العال/ المصارع الشعبي
بإنقاذ إحدى الفتيات من أحد الضباط الذي أراد الاعتداء عليها ولم يجرؤ أحد من أهل
المدينة في الدفاع عنها؛ ففوجئ بزهاء خمسين رجلا من فرق الطوارئ تهجم على بيته في
اليوم التالي، ورغم أنه قاومهم وأسقط منهم الكثيرين إلا أنهم استطاعوا في النهاية
السيطرة عليه. هنا نرى كيف تنتقم منه السلطة أمام الجميع لترويعهم: "وضعوا
صليبا حديديا صلبوه عليه في وسط الحلبة، اتجه إليه ضابط بدا أنه أكبر الضباط
الموجودين ممسكا بسيف حاد كان موضوعا على النار، وكان ينظر إليه في عينيه، والمصارع
الشعبي يرد النظرات بعين جريئة لا تهاب شيئا على الأرض، لوح الضابط بسيفه وشق صدر
المصارع الشعبي العاري، ثم حمل السيف مرة أخرى وقطع به حلمات صدره في وحشية وكأنه
يلهو، وعبد العال يجز على أسنانه في ثبات، بعدها أشار الضابط بيده لأحد الضباط
الآخرين فأحضر كلبا بدت عيناه كعينا الشيطان، ضرب الضابط الأرض بسيفه؛ فركض الكلب
نحو المصارع الشعبي وهو يُصدر نباحا مرعبا، فقفز نحوه واقتطع خصيتيه في وحشية لا تُصدق
بفمه الذي أصبح بعدها مليئا بالدماء، وركض عائدا فألقى بهما في برميل، ثم ركض مرة
أخرى فاقتطع قطعة أخرى من لحمه، وقفل بها إلى البرميل، وتكرر هذا الأمر قرابة ثمان
أو تسع مرات مُصدرا الرعب لكل الواقفين، ابتسم الضابط في سخرية وهو يحمل البرميل
الذي امتلأ عن آخره بلحم المصارع الشعبي ليوضع فوق النار".
هذا العنف غير المحتمل هو ما
جعل عنف رعد ومن معه من اللصوص رد فعل متوقع مع أهل المدينة المحرمة وأهلها،
والحماية، والمعشوق؛ لذلك لم يندهش القارئ من هذا العنف الشديد الذي قام به مجموعة
اللصوص.
يؤكد الروائي من خلال سرده أن
الحاكم الطاغية دائما ما يحيط نفسه بالكثير من الأساطير التي تُقربه من الألوهية؛
حتى أنه يكاد أن يطلب من المحكومين أن يعبدونه بعد أسطرة نفسه: "المعشوق، تلك
الشخصية الغامضة التي تحكم كلا المدينتين، والتي لا يعرف أحد كيف بدأ الأمر،
فالبعض يُلمح إلى توارثه الحكم عن أبيه منذ طفولته، والبعض الآخر يُلمح إلى خوضه
الحروب الإقطاعية وتنصيبه حاكما بعد انتصاراته الكاسحة على خصومه الذين لم يترك
منهم أو من نسلهم أحد يحكي عنهم، لكن هذه كلها محض تكهنات لا يستطيع أحد تأكيدها
لعدم توافر المادة التاريخية لذلك، مما يعني بأن الحقيقة الوحيدة الثابتة أن
المعشوق هو الحاكم منذ الأزل، والتاريخ يبدأ من عنده"، أي أنه ينجح فعليا في
أسطرة العالم من حوله حتى ليكاد هو الأزلي الأول الذي لا يوجد قبله أحد، وفي هذا
يؤكد الراوي: "أما عن لقبه (المعشوق) والذي يبدو غريبا على من يسمع به، فهو
ليس بالمستغرب على من يعرفه، فلا يستطيع أحد مقاربته أو النظر إليه سوى أن يحبه،
حتى أعدائه لا يستطيعون سوى الإعجاب المُفرط به، لقب لم يلقب به نفسه بل لُقب به
من قبل الناس"!!
بالتأكيد علامات التعجب من
عندنا؛ فهذا ما يفعله الحكام العرب بالفعل على أرض الواقع، أي أنهم يُطلقون على
أنفسهم الكثير من الصفات كالمُخلص، والحامي، وغير ذلك من الألقاب ثم يوهمون الجميع
بأن الناس هي من أطلقت عليهم هذه الألقاب؛ نظرا لعشقهم للحاكم، رغم أنه يعرف في
قرارة نفسه ويتيقن من كراهية الجميع له، ورغبتهم في التخلص الحقيقي منه، كما لا
يمكن إنكار وعي الكاتب وقصديته لهذا المعنى الذي ذهبنا إليه، ولعل ذلك يتضح لنا
منذ بداية الرواية التي صدرها في الإهداء بقوله: "إلى كل من ماتوا متمسكين
بالأمل، إلى الجزيرتين المصريتين تيران وصنافير، إلى وطني العربي الأسير".
إذن فالكاتب فعليا يقصد في
روايته ما كتبه عن وعي، ويرغب القول: إن جميع أوطاننا العربية تعاني مما عانت منه
المدينة الشعبية على يد حاكمها وطغاتها من اللصوص الذين يشكلون الطبقة الغنية التي
تعيش في عزلة في المدينة المحرمة.
ربما لاحظنا في رواية الروائي
مروان عثمان أنه يمتلك من المفردات اللغوية والقدرة على تكوين جملة روائية ما
يؤهله لأن يكون روائيا جيدا، لكنه يقع أحيانا في بعض الأخطاء الأسلوبية التي تجعل
الجملة مرتبكة، أو ينقصها الاكتمال كأن يكتب: "كانت الشمس قد انتصفت في
السماء، وحل وقت الظهيرة"، إذا ما تأملنا الجملة السابقة لا بد لنا أن
نتساءل: هل من الممكن قولنا أن الشمس قد انتصفت أم توسطت السماء؟ لأن معنى كلمة
انتصفت أن الشمس قد انقسمت إلى نصفين؛ ومن ثم فالمفردة لا توفي الغرض أو المعنى
الذي يريده الكاتب من أن الشمس قد توسطت السماء.
لكن هل سقط الروائي في مثل
هذه الأخطاء البسيطة التي قد تجعل بعض جمله مرتبكة فقط، الكارثة التي نلاحظها هي
كم الجرائم اللغوية التي لا يمكن اغتفارها على طول العمل الروائي، وربما كان لا بد
من التوقف أمام هذه الملاحظة للتأمل؛ فالمُلاحظ أن جل الجيل الجديد إلا من رحم ربي
لا يفقه شيئا حقيقيا عن اللغة العربية التي يكتب بها، وتلك كارثة؛ لأن اللغة هي
الوسيط الأول والوحيد للكاتب من أجل إيصال ما يدور في رأسه، فإذا كان الكاتب لا
يتقن أو يمتلك هذا الوسيط فكيف له أن يتجرأ ويبدأ في الكتابة، والكارثة الأكبر أن عدم
اتقان اللغة ينسحب على الكثيرين من الكتاب الكبار في العمر والذين لهم أسماء مهمة،
بل إن هذه الفوضى اللغوية تكاد تكون هي الخط العريض والعنوان الأول لجل الكتابات
التي تصدر في مصر؛ مما يُؤكد أن ثمة كارثة لغوية لدى معظم الكتاب المصريين ودور
النشر المصرية التي تنشر لهم؛ فالكاتب غير متقن للغته، كما أن دار النشر لا يعنيها
التدقيق اللغوي للأعمال قبل الدفع بها للمطابع، وهذا يحمل ضمنيا معنى عدم احترام
القارئ؛ ما دامت دور النشر تقدم له بضاعة فاسدة.
نرى هذه الكوارث اللغوية في
عدم معرفة الكاتب مطلقا بأن ثمة ما يُسمى بهمزة المد في اللغة العربية؛ ومن ثم
يستخدم مكانها دائما همزة القطع في مثل مفردة "أخر" بدلا من
"آخر"، و"كأبة" بدلا من "كآبة"، كذلك جهله بالعدد
وأحكامه في اللغة كأن يقول: "العمال التسع" بدلا من "التسعة"،
ومن المعروف لغويا أن الأعداد من ثلاثة إلى عشرة تخالف المعدود في التذكير
والتأنيث، كذلك كتابته "حراسه الثلاث" بدلا من الثلاثة، وأيضا
"ثلاث جنود" بدلا من "ثلاثة".
أظن أن أطفالنا في المرحلة
الابتدائية يعلمونهم أن حروف الجزم لا بد لها أن تحذف حرف العلة من نهايات الأسماء
والأفعال المعتلة التي تليها والتعويض عن الحروف المحذوفة بالحركات، لكن يبدو أن
المؤلف لم يتعلم ذلك؛ لذلك رأيناه يكتب "لم يتخطى" بدلا من "لم
يتخط"، و"لم تشتكي" بدلا من "لم تشتك"، وغير ذلك، كما
أنه لا يعرف أن حرف الجر لا بد أن يجر ما بعده فكتب: "من زملاؤه" بدلا
من "زملائه"، كما كتب: "أسوء" بوضع الهمزة المتطرفة على السطر
بدلا من وضعها على الألف "أسوأ"، والمعروف أن الهمزة المتطرفة توضع على
الألف إذا ما كان ما قبلها مفتوحا مثلها مثل "يبدأ"، كذلك فالكاتب لا
يعرف أن المؤنث لا يمكن أن يُمد في نهاية الكلمة بل توضع علامة الكسرة في نهاية
الكلمة للدلالة على التأنيث مثلما كتب: "فسأعطيكي" بدلا من
فسأعطيكِ".
يستخدم الكاتب أيضا الاسم
الموصول "اللذين" المستخدم للمثنى بدلا من "الذين" المستخدم
للجمع، فضلا عن جهله بهمزات القطع وألف الوصل فيخلط بينهما على طول الرواية كأن
يكتب: "أفعل" للفعل الأمر بدلا من "افعل" الذي يستخدم له ألف
الوصل باعتباره الأمر من الفعل الثلاثي، كما يكتب: "يمنة ويسارا" بدلا
من "يمنة ويسرة"، وكتابته لمفردة "احتقاره" بالكاف في قوله:
"ليس لجودته أو احتكاره"، وقوله: "فوجد بعض من بقايا الخبز"،
والصحيح هو "بعضا" لأنها مفعول به، كما أنه يكتب الفعل "أطفأ"
بشكل خاطئ هكذا "أطفئ"، ويكتب: "شرع يجرع كأسا تلو الآخر"،
والمعروف في اللغة أن الكأس مؤنثة ومن ثم لا بد أن تكون الجملة: "يجرع كأسا
تلو الأخرى"، وغير ذلك الكثير جدا في الرواية التي أفسدتها اللغة رغم أنها
عمل جيد استطاع الكاتب أن ينسجه بشكل مقبول.
رواية "حكاية سقطت من
الزمن" للروائي مروان عثمان تُعد من الأعمال الجيدة في فكرتها وخيالها،
ونسجها، وإن كان الروائي أفسد العمل بجهله الحقيقي للغته التي يكتب بها؛ مما جعلها
رواية مشوهة، وإن كانت تبدو عملا جيدا باعتبارها العمل الأول لكاتبها.
محمود الغيطاني
مجلة عالم الكتاب
عدد يونيو 2019م.