رغم ميلي إلى عدم طرح أسئلة من هذا القبيل- الأسئلة الراغبة في الإجابة عن
الرسالة الفنية- ليقيني بأن الفن في جوهره هو مُجرد فن، يمارسه صاحبه، ويعمل على
التجويد فيه بمُتعة فائقة من دون الرغبة في إيصال أي شيء للمُستقبِل، إلا أن
السؤال لاح في ذهني لفترة بعد انتهاء أحداث الفيلم رغم عدم عقلانيته عند سؤاله مع
مُخرج مثل بول فيرهوفن؛ فمن يتابع السينما التي يقدمها المُخرج الهولندي يُدرك
جيدا أنه يقدم سينما تتميز بالكثير من العدمية، بالامبالاة مما يحدث من حوله، بعدم
الاهتمام بالحدث البشري والإنساني بالكامل، وهو مع مُمارسته لهذا اللااكتراث بكل
شيء لا يميل إلى الحُكم على أي شيء بشكل أخلاقي، بل هو يتأمل ساخرا إلى حد بعيد مما
يدور من حوله، محاولا جاهدا- طوال الوقت- التجويد فيما يصنعه من أفلام سينمائية
تقترب إلى حد كبير من مفهوم الأناقة الفنية، أي أنه يحرص على التقدم بأفلامه من
ناحية الشكل، والأسلوبية، والمضمون، أكثر من انشغاله بسؤال: ما الذي أرغب في قوله،
أو إيصاله!
إنه فيرهوفن الذي قدم لنا عدميته بشكل مُوغل في السادية من خلال فيلمه Basic Instinct غريزة أساسية 1992م، وهو الفيلم الذي سنرى أن ثمة تقاطعات- على مستوى المفهوم- بينه وبين فيلمنا Elle، بل ثمة تشابهات سيكولوجية بين بطلتي الفيلمين Sharon Stone شارون ستون- كاثرين تراميل في الفيلم السابق- وIsabelle Huppert إيزابيل هوبرت- ميشيل لوبلان في الفيلم الحالي.
يبدأ فيرهوفن فيلمه المأخوذ- كما أشار في التيترات- عن رواية Oh أوه للروائي الفرنسي الأرمني Philippe Djian فيليب دجيان الصادرة عام
2012م، وهي الرواية التي تمت ترجمتها من الفرنسية إلى الإنجليزية ليقوم بكتابتها
السيناريست الأمريكي David Birke ديفيد بيرك؛ لرغبة فيرهوفن في إنتاجه وتقديمه في أمريكا، ولكن،
نتيجة لأن الفيلم يُعد غير أخلاقي بالنسبة للكثيرين- المفهوم البرجوزاي للأخلاق-
فلقد فشل المُخرج في إقناع أي مُمثلة أمريكية من المُمثلات اللاتي عرض عليهن
السيناريو للقيام بدور ميشيل، حيث عرضه على كل من المُمثلة الاسترالية الأصل
الأمريكية الجنسية Nicole Kidman نيكول كيدمان، والمُمثلة الجنوب إفريقية الأصل الأمريكية الجنسية Charlize Theron تشارليز ثيرون، والمُمثلة
الأمريكية Julianne Moore جوليان مور، ورفضت كل منهن القيام بدور الشخصية الرئيسية في
الفيلم؛ الأمر الذي جعل المُخرج يقوم بترجمة السيناريو للغة الفرنسية لتقدمه
المُمثلة الفرنسية Isabelle Huppert إيزابيل هوبرت في أقوى وأهم أداء تمثيلي لها، حتى أننا ما كان لنا
أن نتصور غيرها من المُمثلات في مثل هذا الدور، وبقوة هذا الأداء التمثيلي الذي
قدمته.
إن عدمية فيرهوفن في تعامله مع العالم؛ يقترب به من المفهوم اللاأخلاقي بالنسبة للآخرين، رغم أنه لا يحكم على أي شيء في العالم، ولا فيما يقدمه من أفلام بهذا المفهوم الأخلاقي كما سبق لنا أن أشرنا؛ لذا لم يكن من الغريب، أو المُدهش أن يفتتح فيرهوفن فيلمه بمشهد اغتصاب ميشيل على أرضية غرفة معيشتها من قبل مجهول مُلثم بالسواد الكامل.
أن يتم افتتاح فيلم سينمائي بمشهد اغتصاب سيجعل المُشاهد المُتمرس،
والمُتابع لصناعة السينما يدرك للوهلة الأولى أن هذا الفعل لن يقدم عليه سوى
فيرهوفن الذي سبق له أن افتتح فيلمه Basic Instinct غريزة أساسية 1992م- حتى مع
مشاهد التيترات- بمشهد جنسي طويل لشارون ستون المُعتلية لجسد ضحيتها الجنسية قبل
أن تقوم بقتله بقسوة مُتناهية بمُجرد وصولها للأورجازم.
إذن، ففيرهوفن يُدرك جيدا ما يرغب في تقديمه، ويمتلك أدوات عالمه الفني
بشكل مُتقن، وهو ما جعله يبدأ فيلمه بشاشة سوداء بينما يتناهى إلى سمعنا صوت
تأوهات لامرأة- وإن كنا لا نستطيع تحديد هل هذه التأوهات مُلتذة نتيجة للفعل
الجنسي، أم أنها تأوهات مقاومة، وألم ما- لكن ما سندركه من الصوت بأن ثمة فعل جنسي
يتم مُمارسته، يدخل مع صوت التأوهات صوت انكسار شيء ما، وسُرعان ما يقطع المُخرج
على وجه قط يتابع ما يدور أمامه بلا مُبالاة، ثم ينصرف غير مُهتم، لينتقل المُخرج
إلى كادر تبدو فيه الكاميرا مُتلصصة، مُراقبة إلى حد بعيد لمُتابعة ما يدور؛ فنرى
رجلا مُلثما، مُرتديا ملابس سوداء تماما ينهض من فوق جسد ميشيل المُنهك ليمسح آثار
الدماء عن قضيبه، ثم ينصرف تاركا إياها مُلقاة على أرضية غرفة المعيشة كالخرقة
المُهترئة!
رغم الصدمة التي قد يشعر بها المُشاهد للوهلة الأولى، إلا أن هذا المشهد الافتتاحي لفيلم فيرهوفن من أفضل المشاهد التي يمكن أن يبدأ بها المُخرج فيلمه؛ فهو يدخل في صلب عالمه مُباشرة من دون أي مُقدمات أو تمهيدات، يقتحمه، يلطمنا على وجوهنا، يؤكد لنا بأن هذا هو العالم وما يدور فيه، وعلينا أن نتقبله كما هو، وتأمل ما يحدث فيه، صحيح أن هذا المشهد كان من المُمكن للمُخرج تأجيله- إذا ما رغب في ذلك- لما بعد المشاهد التأسيسية لفيلمه، لكنه رأى أن تقديم مشهد الاغتصاب كمشهد افتتاحي وتأسيسي لعالمه الفيلمي هو الأكثر حيوية، وتحريكا للحدث الفيلمي الذي هو بصدده، والحقيقة أنه كان مُصيبا إلى حد بعيد؛ لأنه بناء على مشهد الاغتصاب استطاع فيرهوفن تقديم العديد من المشاهد التأسيسية التالية التي عرفنا من خلالها سيكولوجية شخصية ميشيل من خلال ردود أفعالها بعد فعل الاغتصاب مُباشرة.
إن رد فعل ميشيل، وتصرفها المُباشر بعد مشهد اغتصابها يثير في المُشاهد العديد من التساؤلات، والأكثر من الدهشة؛ حيث نراها تتعامل مع الأمر بلامبالاة باعتباره لا يخصها، أو كأنما قد أدت عملا ما، وسُرعان ما انتقلت لغيره، ومُمارسة حياتها بشكل طبيعي، أو لترتيب الفوضى الناجمة عنه، فتبدأ في تنظيف أرضية غرفة المعيشة من بقايا الأواني التي تم تكسيرها، بينما نُلاحظ الدماء السائلة على فخذها، ثم تتجه إلى حمامها لتخلع ملابسها وتتخلص منها في سلة القمامة، لترقد في مغطسها هادئة تماما، وقد بدت على وجهها آثار الكدمات، بينما الدماء السائلة من فرجها تغطي وجه الماء مُختلطة برغاوي الصابون، وسُرعان ما تطلب العشاء هاتفيا، وكأنما لم يحدث أي شيء! أي أنها تتصرف مع الأمر وكأنه لا يعنيها، أو أنه من مُفردات حياتها اليومية العادية- ساعد في هذا الإحساس العميق ملامح وجهها الباردة العادية التي لا تعبر عن أي شيء، فلا دهشة، ولا ألم، ولا صدمة، ولا بكاء، بل مُجرد وجه بارد تماما، خالٍ من أي لون من ألوان المشاعر!
نعرف جيدا أن المرأة التي تتعرض لصدمة الاغتصاب تعاني على المستوى النفسي
والجسدي الكثير من المُعاناة، بل تدخل في دائرة ضيقة من الآلام النفسية التي قد
تدفعها إلى الكثير من العدوانية تجاه الرجال، وربما العدوانية تجاه الفعل الجنسي
ذاته بكراهيته، أو محاولة تجنبه فيما بعد، أي أنها تكون في حاجة ماسة إلى إعادة
ترتيب حياتها المُنهارة بعد الاغتصاب، والأكثر من التأهيل النفسي كي تتعامل مع
الحياة بشكل عادي كما كان الأمر من قبل، لكننا هنا سنرى أن ميشيل ستتعامل مع فعل
اغتصابها وكأنه لا يخصها، أو كأنما لم يحدث أي شيء مُثير للاهتمام يحتاج إلى
التوقف لبرهة من أجل تأمله، فهي مالكة لشركة ألعاب فيديو تُقدم العديد من الألعاب
المُبتذلة، وتقود فريقا كبيرا من مُصممي هذه الألعاب، وأغلبهم جميعا من الذكور
الشباب، بينما تُشارك صديقة عمرها آنا في شركتها- قامت بدورها المُمثلة الفرنسية Anne Consigny آن كونسيني- لذا نراها في
اليوم التالي تتجه إلى شركتها بطبيعية تامة، وكأنما لم يحدث معها أي شيء، بل وتحضر
اجتماعا مع موظفيها لعرض تقدم تصميم إحدى الألعاب الجديدة التي نرى فيها وحشا له
العديد من الأذرع يقوم باغتصاب امرأة، لكن ميشيل تعترض على ما تراه بقولها:
التشنجات خلال النشوة الجنسية مُترددة جدا، وكأنهم خائفون من مُمارسة الجنس. فيرد
المُصمم: لقد رفعت منها خمس مرات. لتقول: ارفع منها أكثر!
إن تأمل هذا المشهد لا بد له أن يصيبنا بالأكثر من الدهشة؛ فمن البديهي لامرأة تم اغتصابها مُنذ ساعات قليلة- الليلة الماضية- أنها حينما سترى مشهدا جنسيا، أو مشهد اغتصاب أمامها أن تستعيد ذاكراتها الحادث الذي وقع لها، شاعرة بالكثير من الألم، والنفور من الجنس بكامله، لكن ميشيل هنا- بكل برود وهدوء تام- تطلب من مُصمم اللعبة أن يرفع من مستوى التوتر الجنسي في مشهد الاغتصاب الذي يدور أمامها! ورغم اعتراض أحد الموظفين عليها بقوله: المُشكلة الحقيقية هي أن خلفيتك في النشر والأدب غير مُناسبة تماما لتقدير كفاءة اللعب. وهو القول الذي كان من شأنه أن تكون أكثر عدوانية تجاهه باعتباره رجلا- مُمثلا لجنس المُغتصب- فضلا عن التقليل من شأن خبرتها في عملها، وكرئيسة له، إلا أنها ترد بهدوء بارد وكأنما الأمر لا يعنيها، وبثقة ساخرة: ربما افترض بي أنا وآنا تأسيس شركة من نوع آخر، ربما اللعبة كانت مُجرد ضربة حظ، الشكر موجه لأفكارك العبقرية، ربما نحن مُجرد عاهرتين صادفهن الحظ، لكن الحقيقة هي أن الزعيمة هنا هي أنا!
ألا نُلاحظ أن ميشيل تكاد أن تسيطر على عالمها بشكل كامل، وهي سيطرة لا
مبالية بأي شيء؟ إنها تُدير عالما ذكوريا ضخما، ورغم أن هذا العالم الذكوري كان من
الطبيعي أن تنفر منه، وتتعامل معه بعدوانية نتيجة لفعل الاغتصاب، أو بخوف قلق، إلا
أننا نراها تتعامل بثقة، وهدوء تامين، وكأنها قد نسيت تماما ما حدث معها، وهو
الهدوء الذي سنراه في فعلها- فضلا عن ملامح وجهها الباردة- حينما تتوجه إلى
المُختبر من أجل إجراء تحليل لمرض نقص المناعة المُكتسب، وغيره من الأمراض المنقولة
جنسيا، فهي تفعل الأمر بعادية مُفرطة، وكأنه مُفردة من مُفردات حياتها اليومية، أو
كأنه جزء من عملها الذي لا بد لها أن تؤديه!
إن سيطرة ميشيل على حياتها، وعلى كل من يحيطون بها، وتعاملها مع كل شيء بلامبالاة مُفرطة- تظهر بشكل لافت على ملامح وجهها الهادئة دائما، وغير المُعبرة عن أي شيء- يتجلى بشكل أكبر حينما تذهب للعشاء مع صديقتها آنا، وزوج صديقتها، روبرت- قام بدوره المُمثل الألماني Christian Berkel كريستيان بيركل- وطليقها، كاتب الروايات، ريتشارد- قام بدوره المُمثل الفرنسي Charles Berling تشارلز بيرلينج- حيث تخبرهم بهدوء- وكأنما الأمر حدث عارض كانت قد نسيت أن تخبرهم به من قبل- بأنها قد تم اغتصابها، بل وتقوم بطمأنتهم بأن الأمر لا يستدعي التفكير فيه حينما تُلاحظ انزعاجهم! وحينما تطلب منها آنا إبلاغ الشرطة: عليك الإبلاغ عن هذا فورا. ترد ميشيل ببرود: لماذا؟ انتهى الأمر، ليس بحاجة للحديث عنه بعد الآن، الأمر لا يستحق النقاش!
إنها السيطرة الكاملة على المشاعر، وردود الأفعال، وهو ما رأيناه بعد مشهد
اغتصابها حينما طلبت العشاء لتناوله، ولما وصل ابنها فنسنت- قام بدوره المُمثل البلجيكي
Jonas Bloquet
جوناس بلوكيه- لتناول العشاء معها، ورأى الكدمات على وجهها؛ سألها عن سببها، فردت
عليه بهدوء ولا مُبالاة بأنها قد سقطت من فوق دراجتها، بل وتُغيّر موضوع الحديث
بشكل عادي لتسأله عن جوزي- قامت بدورها المُمثلة الفرنسية Alice Isaaz أليس إسحق- الفتاة التي
يرافقها، والتي يعمل على إعداد مسكن لهما لتلد طفلهما فيه، فتبدي ميشيل له الكثير
من اعتراضها على مُرافقته لها، وبأنها مُجرد فتاة مجنونة، لكنها تخبره بأنها
مُستعدة لمُساعدته بدفع ثلاثة أشهر فقط من إيجار شقته التي يقوم بتجهيزها. بل ونرى
ذلك أيضا حينما يُهاتفها أحدهم- سنعرف فيما بعد أنه روبرت زوج صديقتها آنا- طالبا
منها لقائها جنسيا في اليوم التالي للاغتصاب؛ فترد عليه بعادية بأنها لا تستطيع
لأنها تعاني من دورتها الشهرية! أي أن ميشيل في جوهر الأمر امرأة تعرف كيف تُسيّر
حياتها كيفما شاءت هي، مهما كان فيها من صدمات لا يمكن لغيرها احتمالها، فنراها
تتجاهل كل شيء من أجل الاستمرار في تقدمها في حياتها، وكأن شيئا لم يحدث لها، حتى
أنها لا تخبر أمها عن حادث اغتصابها!
هل ميشيل هنا مُجرد امرأة مُختلة نفسيا لتجاهلها ما حدث؟
إن تأمل ما يدور في حياة ميشيل، والأشخاص الذين يحيطون بها قد يُفسر لنا
شخصيتها، وسيكولوجيتها التي تتميز بها، حتى أنه يتبيّن لنا في نهاية الأمر بأنها
مُجرد امرأة قوية مُسيطرة- تحمل في طيات سيطرتها بعض الشر والانتقام الذي لا يمكن
الحُكم عليه أخلاقيا- تستطيع تشكيل العالم المُحيط بها كيفما ترغب هي، حتى لكأنها
تُحرك جميع الشخصيات المُحيطة بها بمجموعة من الخيوط الخفية، باعتبارها في مسرح
للعرائس هي السائدة فيه، بينما الجميع خاضع لها، مُنتمٍ إليها- لا سيما الذكور!
فهي شريكة لصديقة عمرها آنا في شركة ألعاب الفيديو التي تمتلكانها، لكنها السائدة فيها، وصاحبة القرار، بينما صديقتها مُنساقة لها بحب، وهي الراغبة في تسيير حياة ابنها البالغ الراشد فينسنت كيفما ترى هي- بغض النظر عن صواب نظرتها أم لا- وبالتالي ترفض علاقته مع جوزي، وترى أنها تستغله فقط من أجل المال، وحينما يخبرها فينسنت بأنه لا يمتلك المال، ترد عليه بأنها تمتلكه- أي أن جوزي تستهدف أموال ميشيل- وهي تحاول تشجيع طليقها ريتشارد المُتعثر في حياته، بل ومحاولة تسيير حياته أيضا كيفما ترى هي؛ لذلك تعترض على علاقته بفتاة شابة مُتخرجة حديثا حينما يخبرها بالأمر، وبأنه قد تعرف عليها في إحدى الندوات عن سيمون دي بوفوار، فتقول له: الحمقاوات ذوات الصدور الكبيرة لم يشكلن مصدر قلق لي أبدا، لكن امرأة تقرأ كتاب "الجنس الآخر" ستقوم بمضغك، وبصقك خارجا. وهي تعترض على سلوك أمها المُتصابية التي تدفع الأموال للشباب من أجل مُضاجعتهم ومُرافقتها، وتقوم بالعديد من عمليات التجميل وحشو وجهها بالبوتكس؛ لذلك تحاول إخبار أحد الرجال الذين تصاحبهم أمها بأنها مُصابة بالإيدز، بل وتثور عليها بسبب سلوكها، مُعاملة إياها بعدوانية، لائمة إياها لبعثرتها لمالها على الرجال، وهي المُحرك الأساس والمُسيطر على روبرت- زوج صديقتها الأقرب لها آنا- من خلال علاقتها الجنسية السرية معه، فنراه حينما يدخل مكتبها في شركتها مُغلقا الباب بالمفتاح، راغبا في مُمارسة الجنس معها داخل مكتبها؛ تخبره بأنها قد مرت بتجربة صادمة- وهي تجربة الاغتصاب التي كانت قد أخبرته بها أثناء العشاء في الليلة الماضية حينما كان مع زوجته وطليقها- لكنه يرد عليها بأنها بدت مقاومة، وغير مُهتمة، ومن ثم يدلي بنطاله، وسرواله الداخلي؛ فتتأمله ببرود لفترة، ثم تمتد يدها لسلة المهملات لتضعها أسفله، وتبدأ في تدليك قضيبه مُساعدة إياه في الاستمناء ببرود وتلقائية كأنما الأمر لا يعنيها، بل هو مُجرد مُفردة عادية من مُفردات الحياة يجب عليها أن تؤديها- مع ما يحمله الفعل من سُخرية وسيطرة كاملة منها- وهي المُسيطرة تماما على جيش من الموظفين الذكور في شركتها، الذين تسيّرهم كيفما ترى مهما كان اعتراضهم على أي قرار لها، وهي أيضا المُمتلكة لحريتها الجنسية بشكل كامل؛ ومن ثم تمارس الجنس مع زوج صديقتها، بل، وسنراها في مشهد تالٍ تُمارس العادة السرية بينما تتلصص على جارها، بل وتحاول إغوائه!
ربما نُلاحظ هنا أن بول فيرهوفن يحاول وضعنا أمام مجموعة كبيرة من الرجال
الحمقى في مواجهة امرأة مُتماسكة تماما، مُسيطرة على كل شيء، تعرف ما ترغبه من
حياتها التي تُسيّرها كيفما شاءت، غير مُبالية بحماقات الرجال المُحيطين بها، حتى
لكأن العالم زاخر بالرجال الحمقى فقط الذين هم في حاجة إلى امرأة بسيكولوجية ميشيل
كي تستطيع التعامل مع حماقاتهم، والسيطرة عليهم!
لكن، هل معنى احتشاد الفيلم بشخصياته الذكورية الحمقاء- غير المُكتملة على
المستوى النفسي، والمُهتزة إلى حد بعيد، والطفولية في ردود أفعالهم ومُمارستهم
للحياة- أن فيرهوفن هنا إنما يرغب في تقديم فيلم نسوي يعمل على إدانة المُجتمع
الذكوري؟
لا يمكن الجزم برغبة فيرهوفن في ذلك، وربما هو لم يرد على باله هذا المعنى
مُطلقا، فتعامله الطبيعي مع العالم من حوله بعدمية كاملة؛ يجعله يقدم الجميع كما
هم من دون تجميل، أو إدانة، أو نظرة أخلاقية، فهو يُدرك أن الرجال يتصرفون- غالبا-
بطيش وطفولية تقربهم من الحماقة؛ لذا يقدمهم كما هم في الواقع من دون أي إدانة،
وهو يقدم ميشيل- كتمثيل للمرأة- باعتبارها امرأة عملية تحاول التغلب على مصاعب
المُجتمع من حولها بتجاهل حماقاته، والاستمرار في حياتها كيفما ترى، وبناء عالمها
محاولة إنقاذه من الانهيار بسبب ما يدور من حولها، بل ونراها تخون صديقتها
المُقربة مع زوجها بهدوء وطبيعية، بينما فيرهوفن لا يدينها على هذا الفعل كذلك،
ورغم أنها تلوم أمها دائما على علاقاتها الجنسية المُتعددة مع الشباب الأصغر منها
بدفع الأموال لهم، إلا أنها تُمارس نفس الفعل- الحرية الجنسية، مع الفارق- من دون
أن تلوم نفسها، أو يدينها الفيلم وصانعه.
إنها الحياة كما هي بكل تناقضاتها التي قد لا ينتبه إليها الإنسان في خضم زحمة أحداثها، أي أن فيرهوفن هنا- من خلال فيلمه- يحاول الغوص في ظلام النفس البشرية بكل تناقضاتها، ولاعقلانيتها، وتشابكاتها ليقدمها كما هي من دون اتخاذ أي موقف أخلاقي- لا بالسلب، ولا بالإيجاب- بل هو يتأمل ويشاهد فقط، حتى لكأنه يتخذ مقعد المُشاهد المُشارك لنا في دار العرض، نافيا أي علاقة عمدية له في صناعة الفيلم، فهو يشاركنا في مُشاهدته فقط!
إن حماقات الرجال التي يغص بها العالم الفيلمي لفيرهوفن- وهي الحماقات التي
تتعامل معها ميشيل بطبيعية وعادية قادرة على استيعابها، وتمريرها ببساطة- تتضح لنا
في العديد من المواقف، والعديد من شخصيات الفيلم؛ وهي حماقات تتبدى لنا من خلالها
مقدرة ميشيل على السيطرة- السيطرة على مشاعرها، وعدم انسياقها باتجاه الغضب أو
الاستياء، والسيطرة الكاملة على مجموعة من الحمقى الذين يحيطونها- فحينما ينتشر في
الشركة التي تمتلكها فيديو للعبة التي يقوم فيها الوحش باغتصاب المرأة، بينما تم
تركيب وجه ميشيل على جسد المرأة المُغتصبة في اللعبة، لا تبدي ميشيل أي انزعاج أو
خوف، وتبدأ في الشك في كل من يحيطونها من الرجال- رغم ظنها أن المُغتصب هو من قام
بذلك- لذا تلجأ إلى أحد الموظفين الشباب، طالبة منه أن يعلمها إطلاق النار
بالمُسدسات، وتعقد معه صفقة كي يتجسس على جميع من في الشركة ليعرف من الذي قام
بتركيب وجهها على جسد المرأة المُغتصبة في لعبة الفيديو في مُقابل عشرة آلاف يورو،
لكنها تكتشف أن نفس الموظف الذي كلفته بالمهمة هو من قام بتركيب وجهها في اللعبة
حينما تفتح جهاز الكمبيوتر الخاص به- الإيحاء بتفكيره الجنسي فيها، ودليل على
حماقته- وحينما يخبرها بأنه صنع ذلك، لكنه لم يكن يرغب في تسريبه، وتوزيعه على
باقي الموظفين، وأن زميل له هو من قام بذلك؛ ومن ثم إذا ما كانت عاقدة العزم على
طرده فعليها أن تطرد الموظف الآخر الذي قام بتسريب ذلك؛ نراها تتأمله بهدوء، بينما
وجهها لا يعبر عن أي شيء قائلة: أخرج قضيبك. وحينما يرد عليها مُندهشا: المعذرة؟
تقول بثبات: أرني قضيبك، وربما لن أطردك. فيفعل الشاب لتتأمله فترة، ثم تقول: إنه
جميل، تبدو مختونا!
إن رد فعل ميشيل على ما فعله الموظف الشاب من حماقة بشأنها، إنما يدل على
تماسكها النفسي أولا، ثم سيطرتها الكاملة على الموقف، بل وسيطرتها على الشاب نفسه-
فهو خاضع لها بحماقته، وعمله لديها في شركتها، وهي مُدركة لتفكيره الجنسي فيها
وإلا ما قام بتركيب وجهها في الموقف الجنسي، وبما أنها امرأة مُمتلكة لحريتها
الجنسية فلقد رغبت بناء على إدراكها لتفكيره الجنسي فيها أن ترى عضوه، فضلا عما
يحمل طلبها من إهانة شريرة له- إنها هنا مُحركة للعالم من حولها بما يتراءى لها.
هي أيضا قادرة على تدارك حماقة روبرت/ زوج صديقتها حينما يقتحم مكتبها في الشركة راغبا في مُمارسته للجنس معها رغم علمه بأنها قد تعرضت لحادث اغتصاب- مع ما تحمله هذه الرغبة من أنانية وطفولية وعدم اهتمام بما مرت به- ومن ثم تقوم بتدليك قضيبه مُساعدة إياه بالاستمناء في سلة المُهملات. سيطرتها هنا تأتي من عدم رفضها لطلبه، لكنها وافقته بشكل مُهين له- استمنائه بيدها في سلة المُهملات- فهي تسيطر عليه برغبته الطفولية والمُندفعة فيها، كما أنها تمتلك زمام الأمور بقوة، وهو ما يتبدى لنا في حفل عيد الميلاد الذي يحضره روبرت مع آنا، فيدخل روبرت خلفها في المطبخ ليقول لها: لا يمكنك تجنبي طوال الليلة. لترد بثقة وهدوء: أتراهن على هذا؟ أي أنها المُسيطرة والمُحركة للأحداث وفقا لرغبتها ورؤيتها وإرادتها، وهي المالكة لزمام الأمور، المُقدمة على الفعل حينما يحاول روبرت تعريتها ومُمارسة الجنس معها في بيت صديقتها آنا حينما تبيت عندها؛ فتقول له بثقة: بشكل غريب، غباؤك هو أول ما جذبني إليك، لا يمكنني فعل هذا بعد الآن، علينا التوقف، أنت كنت رائعا ومثاليا، سنبقى أصدقاء، لكن، هذا الوضع السخيف بأكمله لا يُطاق، صحيح؟ ألا تعتقد هذا؟
إنه يتميز بالغباء- كما قالت- والحماقة؛ لأنه راغب في مُضاجعتها في صباح
اليوم الذي ماتت فيه أمها، وفي بيت زوجته وصديقتها آنا، وهو شديد الحماقة
والأنانية حينما يلح عليها في مُقابلتها من أجل مُمارسة الجنس رغم أنها تخبره بأن
ساقها قد أُصيبت نتيجة حادث سيارة، وبأنها لا تستطيع السير من دون استخدام عكاز،
إلا أنه يصر على اللقاء؛ وبالتالي تذهب إليه لنراها معه في الفراش وكأنها مُجرد
جثة هامدة لا روح فيها- تمارس الجنس معه بلا أي رغبة أو اهتمام- بينما هو مُستمتع
بمُمارسة الجنس مع جثتها، ليقول لها بعد انتهائه من الفعل الجنسي: لقد كنت رائعة،
من أين أتتك فكرة لعب دور الميتة؟- هي لم تلعب دور الميتة، لكنه لا يرغب في فهم
مشاعرها لحماقته- لترد عليه: على أي حال لقد حصلت على ما تريد، أترى؟ أنا وفية
لوعودي. فيقول: لقد كان إحساسا مُميزا. فتقول: إذن، لا يزال بإمكاننا أن نكون
أصدقاء؟ تعلم ما أعنيه بأصدقاء، لا مزيد من مُمارسة الجنس- التعامل معه بأناة
كطفل.
إن ميشيل تتعامل مع حماقات روبرت بروية وصبر، وأناة، محولة إياها لصالحها
وإنهاء العلاقة بينهما بهدوء، وربما نُلاحظ هنا أنانيته الذكورية المُفرطة في
التعامل معها طلبا للجنس فقط من دون مُراعاة لأي ظرف تمر به في حياتها، وهو الأمر
الذي تتعامل معه بعادية محولة إياه لمصلحتها، أي أنها تمتلك خيوط العالم من حولها،
لتسيّره كيفما شاءت.
المزيد من الحماقات الذكورية من حولها نراها في علاقة ابنها فنسنت بجوزي التي تتعامل معه بشكل مُهين أمام الجميع، وأمام أمه- ميشيل- ورغم ذلك فهو خاضع لها، وحينما تلد جوزي يُلاحظ الجميع بأن لون الطفل أغمق من بشرة الأب والأم، مما يجعل ميشيل واثقة من أن الطفل هو ابن عمر، الأسود اللون وصديق ابنها، وليس حفيدها؛ وبالتالي تقول لابنها أنه لا بد من إجراء فحص DNA للتأكد من نسب الطفل، بل وتخبره في موقف آخر بأن الطفل ليس طفله، لكنه رغم ذلك يرفض كلام أمه، مُتمسكا بالطفل وبجوزي المُهينة له دائما. وهو يمتلك المزيد من الحماقة حينما يذهب إلى بيت أمه ومعه الطفل، مُخبرا إياها بأن جوزي قد طردته، وحينما تسأله عن السبب، يخبرها بأنه قد استقال من عمله لأن سيارته قد تعطلت، وبما أن المسافة للعمل تستغرق ساعة ذهابا، وأخرى إيابا؛ فلقد رأى أن الاستقالة أفضل، مما جعلها ترد عليه: لا أصدق أنني أدافع عنها، لكن، لديها الحق لتغضب منك، لديك مسؤوليات وشقة، ثم تستقيل من وظيفتك؟! فيقول: أنت تتحدثين مثلها تماما، سيارتي تعطلت، هذا ليس خطأي! هو أحمق بسبب ما فعله، وأحمق أيضا لأنه اختطف الطفل حينما طردته جوزي، حتى لكأنما ميشيل مُحاطة بعالم من الذكور الحمقى الذين يسلكون دائما سلوك الأطفال، وعليها تحملهم، وتوجيههم بهدوء وأناة.
المزيد من حماقة الرجال تتبدى لنا في علاقة طليقها بالفتاة الشابة التي
حذرته ميشيل منها، وهي الفتاة التي سيتركها ريتشارد فيما بعد حينما يسألها ذات مرة
وهما في فراشهما عن أفضل الروايات التي قرأتها له، فتخبره باسم رواية لكاتب آخر!
لكن، ما السبب الرئيس الذي جعل حياة ميشيل بمثل هذا الجفاف، وانتفاء
المشاعر، ومحاولة السيطرة عليها من الانهيار؟
إن تأمل سلوك ميشيل في حياتها، وتعاملاتها مع الآخرين، مع عدم وجود أي شكل
من أشكال المشاعر الطبيعية لديها- حتى تجاه أقرب صديقاتها التي تخونها مع زوجها-
لا بد له من دفعنا لطرح مثل هذا التساؤل، لنعرف أن ميشيل هي ابنة لرجل مُتدين
كاثوليكي/ جورج ليبلانك، حينما رفض جيرانه ذات مرة رسمه لعلامة الصليب على جبهات
أبنائهم، شعر بالغضب الشديد، وثار؛ حتى أنه قام بمجزرة غاضبة قتل فيها ما يقرب من
27 ضحية في الحي الذي يسكنونه، فضلا عن بعض الكلاب والقطط، ثم اتجه إلى المنزل
ليجد ابنته الصغيرة ميشيل هناك بينما كانت الأم في عملها، فقام بإحراق الستائر،
والموكيت، وكل ما في البيت بمُساعدة ابنته؛ فحُكم عليه بالسجن المُؤبد، فضلا عن
تناول الإعلام للحدث مُصدرين صورة الطفلة/ ميشيل/ ابنته في ثيابها الداخلية
المُتسخة بالغبار باعتبارها مُختلة عقليا، وساعدت أباها فيما قام به لا سيما إحراق
البيت.
إذن، فميشيل تنتقم من كل ما يحيطها في حياتها بشكل لاشعوري، غير عمدي، هي تنتقم من العار الذي تلبسها حتى اليوم- حيث يعيد الإعلام القصة المُرعبة لوالدها وصورتها التي يتهمونها فيها بأنها مُختلة نفسيا وعقليا- فترى من خلال التلفاز القصة المُرعبة مرة أخرى بينما المُذيع يعلق: ما الذي قاد جورج ليبلانك، مُتدين كاثوليكي، زوج وأب مُحب، لارتكاب عمل وحشي لا معنى له؟! وأي دور لُعب بالضبط من قبل ابنته ميشيل، طفلة بعمر العاشرة في ذلك الحين؟! أي أن المُجتمع بالكامل يدينها على جريمة أبيها التي تمت مُنذ سنوات طويلة، ولعل هذا هو السبب الرئيس في عدم رغبتها في إبلاغ الشرطة بجريمة اغتصابها؛ فهي لا ترغب في التعرض للشرطة والإعلام مرة أخرى.
إن ميشيل هنا مُحاطة بالمزيد من الرجال الحمقى- الأب الذي ارتكب مجزرة بسبب
رفض الجيران رسمه للصليب على جبهات أبنائهم- لذلك فهي تحمل الكثير من الكراهية
والعدوانية الدائمة تجاه أبيها الذي ما زال مُستمرا في السجن، ورغم أن أمها تطلب
منها الذهاب لرؤية أبيها في جلسة الاستماع التي ستنعقد له من أجل إطلاق السراح
المشروط الذي تقدم به إلا أنها ترفض ذلك بشكل قاطع قائلة لها: لن أراه مُجددا أبدا
في هذا العالم، أو أي عالم آخر. ثم تستدرك بقولها: على أي حال لا يوجد عالم آخر.
ألا نُلاحظ أن إنكار ميشيل لوجود عالم آخر لا يأتي من اعتقاد أيديولوجي
بقدر إتيانه من مشاعرها العدوانية تجاه أبيها المُتدين؟ إن تدينه الذي دفعه إلى
فعلته الحمقاء بالقتل، هو ما يجعلها غير مُؤمنة لا بالعالم الآخر، ولا بأي مُعتقد
ديني، أي أنه رد الفعل المُباشر والعدواني تجاه أبيها الذي تشعر تجاهه بالكثير من
الكراهية؛ ومن ثم تأخذ الطريق المُضاد له في حياتها.
نحن هنا أمام امرأة مُمتلئة بالرغبة في الانتقام من كل شيء، ومن كل شخص،
وهي تمارس هذا الفعل الانتقامي بهدوء، وتؤدة، وبرود أعصاب، وعدم الشعور بالذنب،
وبلا أي شكل من أشكال المشاعر- ولعل هذا ما يفسر ملامح وجهها الجميلة الثلجية
دائما، وعينيها الجميلتين اللتين لا نستطيع أن نلمح فيهما أي رد فعل، أو مشاعر،
فهي مُجرد وجه جميل لامرأة ثلجية وكأنها جثة- هذه الرغبة الانتقامية من الجميع قد
تفسر لنا قيامها بعلاقة جنسية مع روبرت زوج أعز صديقاتها آنا- فهي تنتقم من
استقرار علاقة آنا بروبرت بشكل لا شعوري، من دون الشعور بالذنب- وهي تنتقم من
ريتشارد/ طليقها برغبتها في تدمير علاقته مع الشابة الجديدة التي ارتبط بها حينما
تسعى للتعرف عليها، والذهاب إليها في مركز اليوجا الذي تُديره، بل ودعوتها إلى
الحفل الذي ستقيمه في ليلة عيد الميلاد، ووضع عصيان خشبية في طعامها، وهو- الرغبة
الانتقامية- ما سينتبه إليه ريتشارد حينما يقول لها: إذن، فجأة ستقيمين حفلا على
عيد الميلاد المجيد. لترد: ظننت أنها ستكون فكرة جيدة لنتعرف على بعضنا البعض، هي
لطيفة بالمُناسبة. ليقول: فخ آخر من فخاخك. فترد: لدي أمور أفضل للقيام بها عن
إعداد مُؤامرة شيطانية لعشاء العيد. أهناك أي شيء لا تأكله؟ أي حساسية؟ قطتي
يتساقط وبرها بشكل جنوني. فيقول ريتشارد: لم أحدث ضجة حيال رفيقك عازف الكمان.
لكنها تقول: ذلك كان مُختلفا، لقد كان متزوجا مع 3 أطفال، لقد كان بعيدا عن
الشبهات، أما هي فشابة وعازبة، وفي العمر الأمثل للولادة، لقد كسرت كل القواعد.
فيقول: أولا سمعت بأننا توصلنا لاتفاق، إنه ليس خطأي إذ....، لكنها تقاطعه: إنه
خطأك، كان يُفترض بنا أن نكون مُرتبطين للآن، إنه خطأك. فيقول: أنت هجرتني. لترد:
أنت ضربتني. ليقول: إن كان ثمة شيء وحيد نادم عليه في حياتي فهو هذا.
إن الحوار السابق بين كل من ميشيل وريتشارد يوضح لنا العديد من الأشياء؛ فهي تسعى لتدمير علاقة صديقتها المُقربة آنا لأنها علاقة مُستقرة، وهي سعت إلى علاقة سابقة مع رجل آخر متزوج وأب لثلاثة أطفال، أي أنها تُدمر حيوات الآخرين، وهي تسعى لتدمير العلاقة التي دخل فيها ريتشارد/ طليقها لمُجرد أن فتاته شابة وعازبة، وفي العمر الأمثل للولادة، وهي امرأة مُسيطرة مُمتلكة لإرادتها، لا ترغب في الانكسار، أو أن تكون في موضع الضعف أو الإهانة؛ لذا هجرت زوجها/ ريتشارد لأنه قد قام بضربها رغم علاقتها المُستمرة به، أي أن جريمة أبيها التي قام بها فيما قبل قد عملت على تشويه سيكولوجيتها تماما؛ مما يفسر لنا أفعالها التي نلمح فيها قدرا غير هين من اللاأخلاقية تجاه الجميع، وتجاه العديد من المواقف، كما يُفسر لنا ذلك صلابتها تجاه كل ما يدور من حولها، فهذه الصلابة هي الوجة الآخر للضعف الذي تشعر به في قرارة نفسها، ولا ترغب له أن يطفو على السطح أمام أعين الآخرين.
هذه اللاأخلاقية التي تتعامل معها ميشيل بشكل طبيعي لا شعور بالذنب فيها هو
ما نلمحه حينما تخبرها آنا بأنها تشك بأن روبرت يخونها مع إحداهن؛ حيث نرى رد فعل
ميشيل الثلجي تماما، وملامح وجهها التي لا تعبر عن أي شيء حينما تستمع إلى آنا:
روبرت يُضاجع إحداهن. فتسألها: هل أنت مُتأكدة؟ لترد آنا: لقد تعرفت على عطر غسول
الجسم الغبي الذي يستخدمنه في الفنادق، ويحاولن أن يكن راقيات، لا نملك هذا الغسول
في البيت. فتسألها ميشيل: هل هذا هو دليلك الوحيد؟ لتقول آنا: لقد شممت رائحة
ملابسة الداخلية، انتظرت اليوم بكامله حتى ينزع سرواله الداخلي، عندما فعل أخيرا
قفزت عليه وشممته، شعرت بالخجل للغاية. لكن ميشيل ترد عليها بهدوء، ولامبالاة:
الخجل ليس بإحساس قوي كفاية لإيقافنا من القيام بأي شيء، صدقيني!
لعل ما يهمنا من الحوار السابق بين كل من آنا وميشيل جملة ميشيل الأخيرة في
ردها على آنا؛ فهي قد تشعر في قرارة نفسها بالفعل بالخجل من علاقتها بروبرت زوج
صديقتها آنا، لكنه "ليس بإحساس قوي كفاية لإيقافها من القيام بأي شيء"
كما سبق لها أن أفضت لصديقتها المخدوعة فيها هي وزوجها.
هي لاأخلاقية بشكل سادي أيضا مع أمها؛ فحينما تخبر أمها الجميع في حفل عيد
الميلاد بأن الرجل الشاب المُرافق لها قد خطبها، وأنهما سيتزوجان، تنطلق من فم
ميشيل ضحكة صاخبة ساخرة من أمها أمام الجميع، بل وتلومها بقسوة- ميشيل تكاد أن
تكون أكثر حرية جنسية من أمها رغم اعتراضها على أفعال أمها الجنسية!
اللاأخلاقية المُميزة لميشيل تأخذ مداها الأقصى معها حينما تتعرف على
جاريها الجديدين في الحي الذي تقطنه، باتريك- قام بدوره المُمثل الفرنسي Laurent Lafitte لوران لافيت- وزوجته المسيحية
المُتدينة ريبيكا- قامت بدورها المُمثلة البلجيكية الأصل الفرنسية الجنسية Virginie Efira فيرجيني إيفيرا- فنراها
تدعوهما معا لحفل عيد الميلاد الذي تقيمه، بينما تأتي جلستها إلى جوار باتريك على
مائدة الطعام، وتبدأ في تحسس ساقه بقدمها العارية إلى أن تستقر بين فخذيه مُداعبة
إياه- تخريب علاقة زواج أخرى مُستقرة- بل ونراها في مشهد آخر تراقب باتريك من خلال
نافذة منزلها مُستخدمة المُنظار المُعظم بينما كفها بين فخذيها مُمارسة لعادتها
السرية، تعبيرا عن رغبتها الجنسية العاتية فيه، وقد ارتفع صوت أنفاسها اللاهثة
المُستمتعة مُتضخمة لتعلو على صوت المُوسيقى التصويرية المُصاحبة للمشهد، أي أن
فيرهوفن راغب من خلال مشهده في تضخيم أثر رغبتها الجنسية؛ وبالتالي ارتفع صوت
لهاثها على المُوسيقى!
إذن، ففيرهوفن هنا إنما يتعامل مع العالم كمُراقب، وبعدمية كاملة، يقدمه
كما هو من دون أدنى شعور بالخجل، أو الرغبة في الإدانة، وكأنما يرغب أن يفضي لنا
بقوله: هذا هو جوهر الحدث الإنساني في حقيقته، مُجرد حزمة هائلة من الحماقات،
والشرور، والقسوة، والأنانية، والرغبات الانتقامية!
لكن، ماذا عن شخصية المُغتصب الذي رأيناه في بداية فيلمه؟
ربما رأينا أن نفصل شخصية المُغتصب عن الأحداث السابقة- رغم أن المُخرج لم
يسع إلى ذلك، بل كانت موجودة ومُتداخلة في الأحداث طوال الوقت- لأهمية الحديث عن
سيكولوجية ميشيل أولا قبل التطرق إليه. فالمُغتصب المجهول لم يكتف باغتصاب ميشيل
في المشهد الافتتاحي الذي بدأ به المُخرج فيلمه، بل ظل مُطاردا لها طوال الوقت،
يرسل لها العديد من الرسائل النصية على هاتفها، ويتغزل في الملابس التي تريديها-
أي أنه قريب منها تماما، ويعرف كل شيء عن حياتها- الأمر الذي من شأنه أن يصيبها
بالكثير من الرعب، لكننا نرى ميشيل مُتماسكة تماما على المستوى النفسي، وكل ما
تفعله أنها تتعلم إطلاق النار، وتشتري بخاخ الفلفل للدفاع عن نفسها، وفأسا حادة،
كما تعمل على تغيير مفاتيح جميع أبواب منزلها!
هذا التماسك المُدهش في شخصيتها نُلاحظه، حينما تصلها رسالة على هاتفها،
يخبرها فيها المُغتصب بأنه قد وجد جسدها مشدودا قياسا لمرأة في عمرها- الخمسينيات-
وبدلا من أن يصيبها هذا الأمر بالرعب، تسأل طليقها: هل ترى أن جسدي مشدودا قياسا
إلى عمري؟! هي لم ترَ في الرسالة المزيد من التهديد، بقدر ما رأت فيها المزيد من
الإطراء على أنوثتها!
تارة تدخل إلى المنزل فترى جهاز اللاب توب الخاص بها مفتوحا بينما مكتوبا
على شاشته رسالة من قبل المُغتصب يخبرها فيها بأنه لم يستطع الصبر، ومُساعدة نفسه،
فنرى ملاءة الفراش غارقة بماء استمنائه، أي أنه غير قادر على السيطرة في رغبته
الجنسية فيها؛ مما دفعه للاستمناء على فراشها، لكننا نراها بكل هدوء تغير الملاءة
وكأنما شيئا لم يحدث! وتارة أخرى تشك في إحدى السيارات التي رأتها في الحي الذي
تقطن فيه؛ فتخرج لتكسر زجاج النافذة، وترش الفلفل في عيني الرجل الذي يجلس إلى
مقودها؛ فتكتشف أنه طليقها ريتشارد الشاعر بالقلق عليها بعدما عرف بأمر اغتصابها،
وأراد حمايتها بمُراقبة منزلها.
إذن، فميشيل لا يعنيها كل ما يدور من حولها، تتعامل معه بعادية، ولامبالاة تامة؛ لذا فهي حريصة على ألا تبدو في أي موقف ضعف، وبما أنها لديها مشاعر ورغبات جنسية تجاه جارها الجديد/ باتريك؛ فهي تخبره ذات ليلة بأنها قد صارت جدة. لتقول لنفسها في مونولوج داخلي: الرب وحده يعلم لم قلت له ذلك.
الحقيقة أنه ليس الرب وحده من يعلم سبب قولها لباتريك، بل هي أيضا تعلم سبب
إخبارها إياه؛ فرغباتها الجنسية في باتريك تشعرها بالضعف أمامه، لذا فقولها كان
بمثابة الدفع النفسي لنفسها في الاتجاه المُضاد، باعتبارها قد تقدمت في العمر.
نعرف أن باتريك/ جارها الجديد يعمل كوسيط مصرفي، يشعر بالخجل من عمله- باعتباره
مسيحيا مُتدينا- وهو ما لمحناه في قوله: أنا وسيط مصرفي، وأعترف بذنبي.
نُلاحظ أن باتريك يحاول الاهتمام بميشيل باعتباره جارا صالحا يهتم بامرأة
وحيدة، وهو الأمر الذي تدفعه إليه زوجته المسيحية المُتدينة ريبيكا، حتى أننا
سنراه يتجه إلى منزل ميشيل ذات ليلة عاصفة من أجل مُساعدتها في إغلاق النوافذ التي
قد تنكسر بسبب العاصفة الشديدة، وبما أن ميشيل لديها رغبة جنسية عارمة فيه؛ فهي
تغويه حيث نراهما مُلتصقين أثناء إغلاق إحدى النوافذ بينما يضعف باتريك مُمسكا لنهديها،
لتنزلق كفه أسفل ملابسها وتستقر بين فخذيها، وقد استسلمت ميشيل تماما لرغبتها،
لكنه يتماسك فجأة ليتركها مُنصرفا.
ذات ليلة تصل فيها ميشيل إلى منزلها يُهاجمها المُغتصب مرة أخرى راغبا في
تكرار فعله، لكن يدها تصل إلى المقص الذي ينزلق من فوق المنضدة المجاورة لتتناوله
محاولة الدفاع به عن نفسها، فيخترق كف المُغتصب الذي كان في طريقه لصفع وجهها. إن
صدمة اختراق المقص لكف المُغتصب، والألم الناجم عن الاختراق يجعله يتوقف هنيهة عما
يفعله؛ الأمر الذي يعطي ميشيل الفرصة للتغلب عليه، ونزع اللثام عن وجهه لتُفاجئ
بأن المُغتصب المُطارد لها هو باتريك/ جارها/ الرجل الراغبة فيه جنسيا/ الجار
المُتدين المتزوج!
تصرخ ميشيل فيه طاردة إياه، لكننا نراها في اليوم التالي خارجة صباحا من
منزلها بينما ترى باتريك وقد ربط يده المُصابة يستقل سيارته مُتجها لعمله؛ فتتأمله
صامتة من دون أي رد فعل، وكأنها لم تكتشف بالأمس بأنه هو المُغتصب لها!
إن رد فعل ميشيل الحيادي تماما تجاه باتريك يثير المزيد من الأسئلة والدهشة في أذهاننا؛ فهي تتعامل مع الأمر بحيادية وعادية، وكأنها لم تكتشف شيئا، بل تظل تتعامل مع باتريك بعادية مُفرطة، وهو ما رأيناه حينما وقع لها حادث سير أدى إلى إصابة ساقها التي علقت داخل سيارتها ولم تستطع الخروج منها؛ فقامت بمُهاتفة صديقتها آنا التي كان هاتفها مُغلقا، فأسرعت لمُهاتفة طليقها ريتشارد، لكن هاتفه كان مُغلقا بدوره؛ وبالتالي هاتفت باتريك/ الجار المُغتصب الذي أسرع لنجدتها، وإخراجها من سيارتها، بل وإيصالها لبيتها، والعمل على تطميد جراح ساقها المُصابة!
إن مشهد تضميد ساق ميشيل المُصابة من قبل باتريك/ المُغتصب من الأهمية
بمكان ما يجعلنا نتوقف أمامه لتأمله؛ حيث نراه راكعا أمام ساقها المُصابة التي
يعمل على تنظيف جراحها، ومحاولة تطهيرها بينما ميشيل تتأمله بصمت من دون وجود أي
مشاعر، أو ردود أفعال على وجهها أو عينيها، لتسأله بهدوء: إذن، كيف كان الأمر؟
فيلتزم باتريك بالصمت التام بينما يكمل مهمته في تضميد ساقها، لكنها تُصرّ على
السؤال: هل كان جيدا؟ كيف كان؟ أجبني، هل استمتعت؟ لم فعلت ذلك؟ فيتأملها باتريك
للحظة، ثم يرد بهدوء: كان ذلك ضروريا!
بالتأكيد إن إجابة باتريك فيها الأكثر من الدهشة التي لا بد لها أن تنفجر
في أذهاننا، فضلا عن التباس معنى ما قاله، فما هو الضروري، ولم كان ما فعله
ضروريا؟ لكننا لا نتلقى إجابة على تساؤلنا؛ حيث ينصرف باتريك بمُجرد ما أخبرها
بضرورية ما فعله!
تتقابل ميشيل مرة أخرى مع باتريك في السوبر ماركت حينما اصطحبت ابنها لشراء بعض حاجياتها، وهناك يخبرهما باتريك بأن زوجته ريبيكا قد تركت البيت لمُدة أسبوع في رحلة دينية ستصاحب فيها البابا، وتركت له أطنانا من الطعام، وبالتالي يعرض عليهما أن يستضيفهما؛ فتقبل ميشيل دعوته. وفي بيته يتناولون العشاء بينما يتجرع ابنها فنسينت الكثير من النبيذ؛ الأمر الذي يجعله يسقط في النوم لتظل ميشيل مع باتريك وحدهما. تخبر ميشيل باتريك بأن أرضية الغرفة دافئة جدا، ليفضي لها بأنه يعمل على تدفئة أرضية المنزل من خلال تسخينها باللهب، وهذا يتم في البدروم أسفل المنزل، ومن ثم يعرض عليها أن ترى الأمر بنفسها؛ فتوافق، وتهبط معه إلى البدروم، لكنه يبدأ في صفعها، وخبط رأسها بالجدار، ثم إلقائها أرضا، راغبا في اغتصابها مرة أخرى- لكن هذه المرة بشخصيته الحقيقية التي تعرفها من دون أن يكون مُتخفيا- ورغم إصابتها في ساقها التي لم تبرأ منها بعد، لكن ميشيل تقول له: افعلها- أي أنها موافقة على مُمارسة الفعل الجنسي معه، ولا ترفضه- لكنه يتوقف فجأة عن صفعها ولكم وجهها- حائرا مُضطربا- بعدما تفضي له بموافقتها، وطلبها منه أن يمارس الجنس معها ليقول: لا تسير الأمور هكذا، ليس بالنسبة لي، يجب أن يكون الأمر كما حدث من قبل!
بالتأكيد علامة التعجب السابقة منا، وهو التعجب الذي لا بد له أن يصيبنا
حينما نستمع إلى قول باتريك؛ فرغم أن ميشيل قد علمت وأيقنت بأنه المُغتصب الذي قلب
حياتها مُنذ البداية، ورغم تعاملها معه بعادية وكأنه لم يفعل بها أي شيء، ورغم
أنها توافق على مُمارسة الجنس معه بعد كل ما حدث، بل وتطلب منه ذلك، إلا أنه يرفض
المُمارسة الجنسية العادية، مُؤكدا لها أن الأمر لا يجب أن يكون عاديا، بل بطريقة
الاغتصاب، والصفع، والإرغام، أي أنه يعاني من اختلال نفسي عميق يجعله لا يشعر
بالمُتعة الجنسية إلا من خلال الاغتصاب، والإرغام، وضرب المُشارك له في الفعل الجنسي،
وبالتالي لا بد أن يكون المُشارك الجنسي له ضحية، بينما هو الجاني، ضعيف، بينما هو
القوي، مُغتصَب، بينما هو المُغتصِب، مازوخي، بينما هو السادي. يجب أن يكون هو
السائد في الأعلى بينما المُشارك في الأدنى.
إن إيغال فيرهوفن في تشابك النفس الإنسانية، وقتامتها، ولاعقلانيتها يتضح من خلال رد باتريك على ميشيل؛ فهو يكشف النقاب فجأة عن هذا الرجل الوسيم، الرقيق في التعامل مع النساء، الواثق من نفسه؛ لنكتشف بأنه يحمل وجها آخر موغل في الاهتزاز وعدم الثقة في نفسه؛ الأمر الذي يجعله ربما فاشلا في مُمارسة الجنس إلا من خلال فعل الاغتصاب، فهو المُثير الوحيد له من أجل انتصابه، واستمتاعه بمُمارسة الفعل الجنسي!
إذن، فثمة أحمق أكبر من جميع الحمقى المُحيطين بميشيل يتمثل في باتريك،
أحمق يعاني من اهتزازه النفسي، وعدم الثقة في نفسه، وهي الثقة التي لا يكتسبها إلا
إذا ما اتخذ دور المُغتصِب السادي المُعتدي على المرأة التي يمارس معها الجنس-
ربما هذا الدور يشعره بالقوة والسيطرة الكاملة، والذكورة، والفحولة، وينفي عن ذهنه
فكرة اهتزازه النفسي وعدم ثقته في نفسه- لذلك فهو يكمل اعتدائه على ميشيل جسديا
بالمزيد من اللكم والصفع والإرغام مُمارسا معها الجنس بالكامل.
تدخل ميشيل في علاقة مُستمرة، وغريبة مع باتريك، موافقة على أسلوبه في
مُمارسة الجنس/ الاغتصاب؛ مما يدفعنا إلى التساؤل: هل ميشيل مريضة بدورها
بالمازوخية، والرغبة في الخضوع؟ وهل هذه الشخصية القوية المُسيطرة التي رأيناها
مُنذ بداية الأحداث من المُمكن لنا تقبل أنها توافق على الخضوع والإهانة بمثل هذه
البساطة لمُجرد الرغبة الجنسية في باتريك؟
الحقيقة أن ميشيل ليست بهذا الخنوع في جوهرها، بل هي المُسيطرة على الوضع
حتى مع هذه العلاقة الخاضعة في ظاهرها، ورغم وموافقتها على أن تكون العلاقة
الجنسية بينهما بمثل هذا الشكل العنيف والاغتصابي؛ فباتريك أمامها شديد الضعف، لا
يمكن له مُمارسة العلاقة الجنسية من دون هذا العنف المُفرط الذي يشعره بالثقة في
رجولته، وبالتالي إذا ما حرمته ميشيل من مُتعة مُمارسة العنف معها، ولعب دور
الضحية المُغتصَبة؛ فسيفشل في الفعل الجنسي!
إذن، فميشيل ما زالت هي المُسيطرة بشكل كامل، تمتلك من القوة ما يجعلها
تحرك جميع الخيوط والأشخاص كيفما رغبت هي، ورغم أن العلاقة في ظاهرها تبدو فيها
ميشيل هي الطرف الأضعف، إلا أن العكس هو الصحيح تماما، وهو ما يجعل خضوعها يحمل في
باطنه الكثير من الشر للسيطرة الكاملة على باتريك جنسيا؛ فهي تمنحه ما يرغبه ويشبع
ثقته في نفسه، لكنها قادرة على سحب هذه الثقة في أي لحظة ترغب فيها في ذلك، مما
يجعله ذليلا أمامها!السيناريست الأمريكي ديفيد بيرك
إن الشر الذي تمارسه ميشيل- بشكل لا أخلاقي مع الجميع- ما زال مُستمرا
ومُتضخما؛ فهي تبدو ظاهريا مُجرد امرأة هادئة، ناجحة، مُتماسكة، جميلة، وإن كانت
تُسبب الأذى لكل من يحيطون بها- لاحظ أيضا أن ثمة أذى مارسته على جارتها ريبيكا/
زوجة باتريك بعلاقتها الجنسية معه.
هذا الشر هو ما رأيناه بشكل أعمق في رغبتها الانتقامية من أبيها الذي كان
السبب الرئيس من وراء سيكولوجيتها التي تشكلت بسبب جرائمه القديمة، واتهامها من
قبل الإعلام بالاختلال النفسي. فهي رغم رفضها لرؤية أبيها أو مُقابلته مُنذ سُجن،
إلا أنها بعد موت أمها تُقرر زيارته في السجن، وحينما تصل تقول لمُساعد مُدير
السجن: أنا هنا لأبصق على وجه أبي، لا يمكنني أن أضمن لك بأن هذا مُجرد تعبير
مزاجي، أتيت لأني أعطيت الوغد الكثير من القوة عليّ، حياتي بأكملها، أهرب منه،
أخاف منه، يا لها من حياة ضائعة!
إذن، فالمُحرك الأساس لميشيل في حياتها، واضطرابها النفسي والسلوكي الذي
نلحظه عليها، بلامُبالاتها الكاملة من كل ما يدور من حولها، ومحاولة تماسكها
الدائم أمام كل ما يدور، والتمسك بعدم انهيار حياتها أمام كل الحماقات كان أبوها
هو السبب الرئيس فيها، وهو ما يشعرها بغصة، والكثير من الاستياء والكره تجاهه؛ لذا
رغبت في التعبير عن نفسها، وعن مشاعرها تجاهه بالذهاب إليه من أجل البصق في وجهه،
وإهانته، والمزيد من تعذيبه، لكن مُساعد مُدير السجن يخبرها بأن أباها قد شنق نفسه
في الصباح بعدما أخبروه بأنها قد طلبت الإذن بزيارته؛ فتطلب رؤية جثته، وأمام
الجثة تخاطبها بقولها: كانت لدي لائحة من الأمور لأقولها، تسع نقاط تعادلها تسع
رصاصات. ثم تقترب من جثته لتهمس في أذنه: قتلتك بمجييء إلى هنا!
المُمثلة الفرنسية آن كونسيني |
إنها شخصية شديدة التعقيد على المستوى النفسي، قادرة على إيذاء الجميع
بهدوء، ومن دون الشعور بأي ذنب وكأنها تُمارس فعلا حياتيا عاديا من المُمكن لها أن
تفعله كل يوم- وهو ما يبدو على ملامح وجهها وعينيها الهادئتين دائما، وكأنها لا
تفعل أي شيء.
تحاول ميشيل إصلاح الفوضى التي أحدثتها في حياة كل من يحيطون بها- يبدو
الأمر وكأنها تريد الإصلاح وإن كان في جوهره المزيد من السيطرة وإحكام الخيوط حول
الجميع باعتبارهم ملكها وهي من تُسيّر حياتهم- ورغم أنها كانت ترفض دائما إشراك
ابنها فنسينت في عملها، أو شركتها رغم حاجته الماسة للمال، وعمله الوضيع في
ماكدونالدز، إلا أنها توافق على ذلك، وتطلب منه تنظيم حفل شركتها بمُناسبة
الانتهاء من لعبة إليكترونية جديدة، وفي الحفل توافق على اقتراح إحدى الألعاب
الإليكترونية التي كان قد اقترحها عليها طليقها ريتشارد سابقا، وألح عليها كثيرا
من أجل تنفيذها لحاجته للمال بدوره، لكنها كانت ترفض، أو تتجاهل الأمر- المزيد من
السيطرة على ريتشارد بعدما أنهى علاقته بالفتاة التي كان يواعدها- كما تنتحي أحد
الأركان بآنا- صديقة عمرها- لتخبرها بأنها هي المرأة التي يخونها معها زوجها
روبرت، وأن علاقتهما قد استمرت ما يقرب من ستة أو ثمانية شهور، ثم تعطي مفاتيح
المنزل لابنها فينسنت طالبة منه أن يلحقها بعد انتهاء الحفل مُخبرة إياه بأن
باتريك سوف يوصلها.المُخرج الهولندي بول فيرهوفن
إن ميشيل ما زالت تحرك الجميع كيفما تهوى، فهي تُحكم السيطرة على ابنها
وطليقها، بينما يبدو الأمر أنها تساعدهما، وتُثير الفوضى الكاملة في حياة آنا
وروبرت- تدمير حياة روبرت تماما، ومحاولة التخلص من الذنب تجاه آنا باعترافها لها،
رغم أنها لا تشعر بالذنب تجاه جارتها ريبيكا!
أثناء توجه ميشيل إلى منزلها مع باتريك تقول: هذا غريب، ما بيننا، إنه أمر
مُعتل، مُمرض، لقد كنت في حالة إنكار غريبة، لكني أرى بوضوح الآن. ليسألها: ماذا
ترين؟! لترد: أنت لا تتوقع الإفلات بما فعلته بي؟ سأقوم بما كان يُفترض بي القيام
به من المرة الأولى. فيسألها: ماذا تعنين؟ تقول: الأمر لا يتعلق بي فحسب، زوجتك
أيضا، وربما أخريات، من يعلم- أي أنها تظن بأنه يفعل نفس الفعل لمُمارسة الجنس مع
زوجته- فيسألها مرة ثالثة: ماذا تعنين؟ فتسأله: كم امرأة أخرى فعلت بها ما فعلته
بي؟ سأذهب للشرطة، سأخبرهم بكل شيء.
هل هي صحوة ضمير مُفاجئة من قبل ميشيل، ورغبة في التطهر من أفعالها،
وإحساسها بالذنب تجاه جارتها ريبيكا؟
حينما تصل ميشيل إلى منزلها، تصعده تاركة باتريك بعدما أفضت له بما ترغب في
فعله، لكنها تُفاجئ به يقتحم عليها المنزل مُلثما بالسواد- تماما كما رأيناه في
افتتاحية الفيلم- راغبا في اغتصابها، لكنها تظل مقاومة له إلى أن يدخل ابنها فنسنت
فيتناول قطعة من خشب الشجر ضخمة ليخبطه بها على رأسه ساحقا إياها. تُسرع ميشيل
للاحتماء بفنسنت بينما يحاول باتريك النهوض بصعوبة خالعا قناعه، ليسألها لائما بألم
ودهشة صارخين: لماذا؟ وسُرعان ما يسقط أرضا ميتا.
ربما كان أهم ما في هذا المشهد هو سؤال باتريك لميشيل: لماذا؟ بينما
الكاميرا تركز على وجه ميشيل التي تنظر إليه بثقة، وبعينين خاليتين تماما من
المشاعر، وقد لاح على وجهها شبح ابتسامة تحاول عدم إظهارها، وهي الابتسامة التي لا
يراها سوى باتريك قبل سقوطه ميتا!المُمثل الألماني كريستيان بيركل
إذن، فميشيل لم يصحُ ضميرها فجأة كما سبق لنا أن ظننا، وهي لا تشعر بالذنب
تجاه جارتها ريبيكا، بل أعدت الأمر في خطة مُحكمة تماما للتخلص من حياة باتريك على
يد ابنها فنسنت الذي ظن بأنه يدافع عن أمه من أحد المُغتصبين المُقتحمين، أي أنها
أطلقت للشر الكامن داخلها العنان لترسم المشهد كما رغبت هي، وكما تخيلته؛ وبالتالي
قالت لباتريك ما قالته له في الطريق إلى البيت لأنها تعرف أن هذا سيثيره، وسيشعره
بالقليل من الخوف، وهو ما سيحركه للذهاب إليها ومحاولة اغتصابها مرة أخرى،
وتهدئتها، ومن جهة أخرى، هي أعدت الأمر بإعطاء المفاتيح لابنها طالبة منه اللحاق
بها، وبالتالي حينما سيدخل المنزل ويجد باتريك محاولا اغتصاب أمه سيحاول الدفاع
عنها!
إن الشر الكامن داخل شخصية ميشيل، ورغبتها في امتلاك جميع الخيوط في يديها؛
يجعلها تتغاضى عن كراهيتها لجوزي- صديقة ابنها- وتتقبلها كزوجة له، بل وتتغاضى عن
أن الطفل ليس حفيدها- بل هو من علاقة أخرى لا يدري ابنها عنها شيئا، أو هو يعلم،
لكنه يتغاضى عن الأمر- بل نراها تتجه إلى ريبيكا التي تجمع أثاث بيتها مُنتقلة من
الحي بعد موت باتريك لتقول لها بجسارة غريبة، وبلا شعور بأي ذنب: أردت إعلامك بأني
آسفة على ما مررت به. لكن ريبيكا ترد عليها: لحُسن الحظ أمتلك إيمانا، ما هي
الحياة إن لم نمر بالأوقات الصعبة؟ باتريك كان شخصا طيبا، لكن روحه كانت مُعذبة،
أنا مسرورة بأنك أعطيتيه ما أراده لفترة وجيزة على الأقل!
ربما جملة ريبيكا الأخيرة تستحق الكثير من علامات التعجب والدهشة؛ فميشيل
لم تكن مُخادعة لريبيكا حينما دخلت في علاقة مع زوجها باتريك، لأنه في حقيقة الأمر
تبدو لنا ريبيكا هنا هي المُخادعة الأكبر لميشيل؛ فهي تعلم بكل ما كان يحدث، ويدور
بين كل من ميشيل وباتريك، وهي تعلم بحاجات زوجها الجنسية، وسيكولوجيته المُختلة،
واهتزازه النفسي، وبالتالي تكون العديد من المشاهد التي رأينا في ريبيكا تحاول دفع
زوجها للاهتمام بجارتهما الوحيدة ومُساعدتها، والعمل على حمايتها من قبيل الخديعة
لميشيل، وإيهامها بأن جارتها المُتدينة الطيبة تهتم بها، وتطلب من زوجها أن يكون
سندا لها، أي أنها كانت تعلم بأن زوجها كان يقوم باغتصاب ميشيل، لأن فعل الاغتصاب
هو السبيل الوحيد لمُتعته، وبالتالي ساعدته في الوصول إلى هذا الهدف؛ الأمر الذي
يترك بداخلنا سؤالا جديدا: هل كان باتريك يمارس فعل الاغتصاب مع زوجته ريبيكا- بما
أنه لا يستطيع الفعل إلا من خلال هذا الأسلوب؟ وهل قام بهذا الفعل مع العديد من
النساء الأخريات وبمُساعدة زوجته؟ وهل مُساعدة زوجته له في ذلك كان بسبب رفضها في
الخضوع لهذا الأسلوب العنيف في مُمارسة الجنس، وبالتالي كانت لديها الرغبة في
إشباع حاجاته بما أنها لا تتقبلها؟
بالتأكيد لن نحصل على إجابات لمثل هذه الأسئلة؛ فبول فيرهوفن لا يعنيه أن
يجيبنا على أي شيء، وهو لا يرغب في الحقيقة أن يجيب على ذلك، إنه فقط يقدم لنا
عالما ضخما زاخرا بالخديعة من قبل الجميع باتجاه الجميع، ورغم أن الفيلم قد يبدو
ظاهريا- من بعض جوانبه- نسويا، إلا أنه في جوهره، أو كما رأينا يُقدم عالما ضخما
من الرجال الحمقى الذين يتصرفون تصرفات طفولية، وربما غير الواثقين من أنفسهم، والمُختلين
نفسيا باهتزازهم، لكنه يقدم النساء في المُقابل يقطرن بالشر الخالص، والكثير من
الخديعة، والسيطرة الكاملة على زمام الأمور والعالم كما يرغبنه؛ فميشيل شريرة في
كل أفعالها مع الجميع، لكننا نُفاجأ بأن ريبيكا المسيحية المُتدينة التي تبدو
عليها البراءة، أكثر شرا منها، كما لا يفوتنا جوزي التي تمارس علاقة جنسية مع عمر-
الأسود- صديق حبيبها فنسنت، وتنسب الطفل- ثمرة العلاقة مع عمر- لفنسنت، وهو فعل
شرير ولا أخلاقي أيضا، أي أن فيرهوفن في نهاية الأمر غير راغب في أخذ أي جانب
لينتصر له على حساب الآخر، بل هو يقدم لنا فجيعة الحدث الإنساني والبشري كما هو،
بلا مبالاة، ومن دون أي حُكم أخلاقي، وبعدمية مُطلقة، وسُرعان ما يتركنا في خضم
هذا العالم، وكأنه يقول لنا: هذا هو أنتم!المُمثل الفرنسي تشارلز بيرلينج
في مشهد النهاية نرى ميشيل تزور شاهد قبر أمها، بينما آنا التي لم تلتق بها
مُنذ اعترفت لها ميشيل بعلاقتها مع زوجها تظهر فجأة لتسألها: هل أحدثنا تقدما في
مشروع ريتشارد؟ لترد عليها ميشيل بثقة وتماسك: دعيه يتحمل حماقاته قليلا- سبق أن
أشرنا إلى أنها تتعامل مع عالم من الرجال الحمقى، وأنها حينما قبلت بمشروع طليقها
ريتشارد فهي قد فعلت ذلك، من أجل المزيد من السيطرة عليه، ولإثبات بأنها تمتلك كل
الخيوط في يدها- وسُرعان ما تسألها ميشيل: كيف حال روبيرت؟ لترد آنا: لقد طردته.
لترد ميشيل مُستنكرة: كلا. لكن آنا تقول: مُنذ ذلك الحين وهو مُدمن على الكحول-
سيطرة ميشيل الكاملة على العالم من حولها حتى أنها سعت عامدة إلى تدمير حياة
روبيرت، وهو ما حدث بإدمانه على الكحول، والانفصال عن آنا- تسأل آنا ميشيل: ما
الذي رأيتيه فيه؟ لترد ميشيل بطبيعية: ما رأيته فيه كان مُجرد شيء بسيط، فرصة،
أردت أن أمارس الجنس- روبيرت هنا مُجرد أداة جنسية بالنسبة لميشيل، وهو ما يؤكد
بأنها تتعامل مع جميع الأشخاص من حولها، لا سيما الذكور، باعتبارهم مُجرد أشياء
للاستخدام فقط، وبمُجرد ما تشعر بانتهاء صلاحيتهم لها، أو بالملل منهم سُرعان ما
تتخلص منهم مُدمرة إياهم- ترد آنا: هذا ليس عذرا، لقد كان حقيرا. لترد ميشيل: أسوأ
من هذا حتى- تشييء الرجال في عالم النساء!
تقول آنا: فنسنت أصبح راشدا، وأصبحنا أنا وأنت وحيدتين الآن، وأنا أشعر
بالوحدة في ذلك البيت الكبير، سأقوم ببيعه، وأفكر بالانتقال معك لفترة.
يغلق فيرهوفن بذكاء على هذا المشهد بينما تسير الصديقتان مع بعضهما البعض
في إيحاء منه بأنهما قد تخلصتا من جميع الرجال المُحيطين بهما، باعتبارهم مُجرد
أشياء، وأنهما سيبدآن حياتهما معا في إيحاء قوي على علاقة جنسية مثلية ستبدأ
بينهما، أي أنهما راغبتان في عالم يخلو من الرجال، ربما لتمارسا شرهما معا. هذا
الإيحاء بالعلاقة الجنسية التي ستنشأ بين كل من آنا وميشيل يقويها المشهد السابق
الذي سبق لنا أن رأيناه حينما ماتت أم ميشيل، وأخذتها آنا معها إلى بيتها لتبيت
عندها، في هذا المشهد نشاهد آنا تتعرى من ملابسها تماما أمام ميشيل، وترتدي قميص
نومها لتدخل الفراش مع ميشيل، وتحاول تلمس جسد ميشيل في إيحاءات جنسية، لتُذكرها
بمحاولتهما ذات مرة في شبابهما مُمارسة الجنس معا لكنهما لم يتما الأمر، ثم تُقبل
كل منهما الأخرى في شفتيها قبل استغراقهما في النوم، أي أن ثمة رغبات جنسية مثلية
قديمة بين الصديقتين، ورغم أنهما لم تنجحا في تحقيقها سابقا، إلا أن نهاية فيرهوفن
تؤكد لنا بأنهما سيسعيان لتحقيقها بانتقال آنا للعيش مع ميشيل، وربما لرغبتهما في
الحياة داخل عالم خالٍ من الذكور، وحماقاتهم!المُمثل الفرنسي لوران لافيت
إن الفيلم الفرنسي "هي" للمُخرج الهولندي بول فيرهوفن هو فيلم
شديد العدمية في تأمله للنفس البشرية، والأفعال الإنسانية، بل وللحدث الإنساني
بأكمله كوجود، وهو يقدم هذا الحدث الإنساني من دون أي أفكار مُسبقة، أو أي أحكام
أخلاقية، فهو لا يأخذ أي جانب على حساب الجانب الآخر، بل يقدم العالم كما هو
ليتركنا في نهاية الأمر غارقين في عدميته التي قدمها بشكل شديد الأناقة، والفنية،
غير قادرين على محو أثر الأداء التمثيلي الذي قامت به المُمثلة الفرنسية إيزابيل
هوبرت في دور لا يمكن للمُشاهد أن ينساه بسهولة، حيث ستظل ملامحها الجميلة الحادة
الهادئة التي لا تعبر عن أي شيء، اللهم إلا عن الثلجية الباردة، وعينيها الخاليتين
من أي تعبير اللهم إلا الثقة، محفورين داخلنا لفترة طويلة غير قادرين على تخيل أي
مُمثلة أخرى في دور ميشيل.
مجلة "نقد 21"
عدد يوليو 2024م