الثلاثاء، 4 نوفمبر 2025

أطياف على كراسٍ مُتحركة: الكتابة وابتكار الخيال

يميل الروائي الإماراتي عبيد إبراهيم بوملحة في عالمه الروائي- عادة- إلى غير المُعتاد والعجائبي، وهو العالم المُعتمد إلى حد بعيد على الانغماس كلية في الخيال؛ مما يجعل الأحداث والشخصيات مُستغرقين استغراقا كاملا فيما يمكن أن نُطلق عليه الواقعية السحرية، وهي الأسلوبية الفنية التي تم اشتقاقها في الأساس من مرويات "ألف ليلة وليلة"، أي أن الروائي هنا مُنغمس في التراث الحكائي العربي الفارسي، وهو ما يجعله يحذو حذوه، مُعتمدا على آليته في سرده الروائي رغم البون الشاسع ما بين العالمين الذي يمتح منه، والذي يصوغه كروائي في أعماله.

هذه الأسلوبية، أو ما ذهبنا إلى وصفها "بالواقعية السحرية" تتضح لنا بشكل جلي في انتقاله غير المُنظم- والمنهجي- من جغرافية إلى أخرى، ومن زمن لغيره في نفس اللحظة، ومن دون وجود حدود واضحة، أو فواصل ما بين العوالم، فضلا عن مقدرة شخصياته الروائية على الإتيان بمجموعة من الأفعال التي لا تتأتى للبشر مثل الطيران ببساطة وكأنها تقوم بفعل عادي ويومي، ومُعتاد- بالنسبة لها وللقارئ معا- وربما موتها وعودتها للحياة مرة أخرى ببساطة وتلقائية يتقبلها القارئ من دون دهشة أو استنكار، بالإضافة إلى بزوغ الشخصيات وتلاشيها فجأة وكأنها لم تكن. ولعلنا لا ننسى في هذا السياق مسحة السُخرية الطاغية على طول عمله الروائي، وهي السُخرية التي تُكسب العمل مذاقا خاصا يميز الروائي عن غيره من الروائيين.

الكثير من هذه المُميزات وغيرها نلمحها في العالم الروائي لبوملحة، وهو ما يجعله- مع الانتباه إلى أعماله الروائية العديدة ووضعها تحت التشريح والتأمل النقدي- يُضارع الكثيرين من الكتاب العالميين، لا سيما روائيي أمريكا اللاتينية الذين اشتهروا بكتابة الواقعية السحرية الأكثر شبها بالعالم الكرتوني، وإن كان بوملحة في جوهر الأمر يناقش في أعماله الكثير من القضايا الواقعية المُعاصرة، لا سيما عملية الكتابة ذاتها، وما يعانيه الكاتب في هذه العملية الصعبة، فيميل بالسرد الروائي إلى الإيغال في الخيال، والاشتباك معه، والانفصال الكامل عما هو مُعتاد؛ ليبني لنا في نهاية الأمر عوالما عجائبية مُثيرة تجعل قارئه مُرتبطا بالسرد الروائي حتى انتهائه منه بالشكل الذي يراه الروائي.

لاحظنا هذه المُميزات السردية للروائي في العديد من أعماله السابقة مثل "طقوسٌ للموت"، و"أحد ما يطرق الباب" على سبيل المثال- فهو مشغول في هاتين الروايتين بعملية الكتابة ذاتها مما يجعله يخوض عميقا في عالمه الذهني المُتضافر مع ما يحيطه من عالم واقعي- لكنه في روايته الجديدة "أطيافٌ على كراسٍ مُتحركة" يتماهى كروائي مع شخصياته تماما ليزول الفارق الواقعي بينهما، ومن ثم يكاد يكون بوملحة نفسه شخصية من شخصيات الرواية، يتعاطى معهم، ويسلك سلوكهم، ويتحدث بلغتهم، رغم أنه لم يُصرح بأن الراوي في الرواية كان هو، لكن القارئ بالتأكيد سيميل إلى أن الراوي صاحب الاسم المزور في أوراقه الثبوتية "سليم إسماعيل" الراغب في كتابة رواية جديدة ذات عوالم مُختلفة هو نفسه الروائي، وهي الرغبة في الكتابة التي ستدفعه إلى الخوض في مجموعة من الأحداث غير القانونية، والتسلل عبر حدود العديد من الدول، ومُخالطة مجموعة من السكارى ومُدمني المُخدرات، بل وتعاطيها معهم، وتوهم نبوته أو قداسته، ومقدرته على إبراء المرضى من أجل عمل روائي جديد، أي أنه اعتمد التجربة العجائبية وخوضها من أجل عملية الكتابة الروائية، وهو ما يجعل الراوي شديد الصلة والشبه بالروائي الواقعي، عبيد بوملحة.

هل يمكن الادعاء هنا بأن بوملحة يعيش في عالم الأفكار غير قادر على الانفصال عنها، ومن ثم يصوغ عالمه من الأفكار المُجردة فقط مما قد يُجردها من روحها؟

الروائي الإماراتي عبيد بوملحة

إن الذهاب خلف هذا الادعاء لا يستقيم مع الأعمال الروائية التي قدمها الروائي؛ فصحيح أن بوملحة ينطلق من الأفكار المُجردة، لكنه قادر- بإلباسها ثوب الخيال، والاستغراق التام فيه، والمراوحة ما بين الخيال والواقع- على إكساب الأفكار المُجردة الروح الروائية السلسة، يساعده في ذلك مسحة السُخرية التي لا يتخلى عنها في السرد، وانسيابية لغته، وتلاحق جمله السردية التي تُكسب العمل إيقاعا سريعا؛ مما يجعل السرد هنا مُتميزا، مُختلفا عن غيره من الروائيين، وهو ما يُكسبه مكانة خاصة، وأسلوبية يختلف بها عن الآخرين، أي العالم الروائي الخاص الذي يتميز به كل كاتب على غيره.

يفتتح بوملحة عالمه الروائي ببداية وصفية لا يمكن إدراك أهميتها الجوهرية في السرد الروائي إلا مع الوصول إلى الصفحة الأخيرة من روايته، حيث اللحظة التي يتكشف لنا فيها العالم بكليته، مانحا إيانا مفاتيحه، لذا نقرأ: "لم تهرع أحصنة النوم إليَّ في تلك الليلة وأنا مُستلقٍ في مسجد بن ظبوي الذي تفصله سكّة عن منزلنا. كان القمر يحدّق في بشراهة مُفرطة، كما لو أنه يؤكد وجوده عبر النافذة. أرق مُتعب غرس مخالبه في روحي ليلتها. أما اليقظة فقد كانت تأتي على هيئة أطفال مُزعجين يقرعون الباب ويهربون". إن بداية الروائي لعالمه بهذه البداية الوصفية، المُوحية لنا بالكثير من القلق والتوتر والأرق المُسيطرين على الراوي ذات علائق وشيجة بما سيدور في العالم الروائي فيما بعد من أحداث، كما سيظل مسجد بن ظبوي هو المحور المركزي والجوهري الذي ينطلق منه الروائي عدة انطلاقات، وانتقالات، مع قفزاته اللامُتناهية ما بين عالم وآخر، وزمن وغيره من العوالم والأزمنة المُختلفة التي خاض فيها على طول العمل الروائي.

يتأمل الراوي الحياة بشكل غير قليل من الحكمة والتفلسف الخاصين به، مُعتقدا في ذلك أنه يختلف عن بقية البشر: "يبدو أن حياتنا عبارة عن سُبحة تفرُّ حبّاتها من حبسة الخيط دون أن نقوى على إيقافها. ويبدو أن جلّ البشر أيضاً يتمثلون سيزيف، يفتعلون الأخطاء، يحملون الصخور، وبعضهم يبدون لي مثل جعران تُدحرج الروث. أما القليل منهم فهم آلهة، مُصطفون، يسعون لضبط توازن هذا العالم. أنا من هذه الفئة، وغير مُحاسب عمّا أقوم به. هل أنا إله؟ لا أعلم. هل أنا نبيُّ أو وَليّ؟ ربما. صدقوني لا أدري. هل أنا هادم الجدار؟ خارق هذه السفينة وقاتل الطفل؟ أعي أن أحداً لن يصدّقني، وليس هناك من إشارة تنبئني بذلك. أظن أن لوجودي في الحياة سبب ما، قد يكون من أجل بشرية أفضل. من يدري ذلك! هل أكفر إن قلت: إني رسول ما. لا أعتقد. وفي الحقيقة لا أريد ذلك. وحدهم الأشرار والطغاة ينعمون بما يريح البال. ليتني كنت مثلهم".

ربما نُلاحظ هنا، في هذا الاقتباس السابق، أن الراوي تنتابه مجموعة من الهلاوس والهذيانات التي تجعله يؤمن بشكل يكاد أن يكون يقينيا بأنه مُختلف عن بقية البشر، وبأنه يمتلك قداسة ما، ونوعا مُعينا من المُعجزات التي تجعله مُنفصلا عن الآخرين، مُتميزا عليهم، وهو بالتأكيد شكل من أشكال الاستغراق في الذات، والإعجاب بها لدرجة الهذيان. يقوي من هذا الاحتمال الهذياني ميل الراوي العارم إلى حياة العزلة بعيدا عن الآخرين: "في العالم الذي يسعى ليكون حديثاً بشكل مُرعب، تبدو مُخالفة السائد ضرب من الجنون، مثلاً: لا أقوى على أن أنصب خيمة في عمق الصحراء لأعيش فيها، أو أنزوي في كهف في بطن الجبال، تماماً كدرويش أدرك الحقيقة. إن فعلت ذلك سيُقبض عليَّ؛ فالأراضي الخلاء تمتلكها الدول. أو من المُؤكد أني سأموت جوعاً أو عطشاً، أو مُتأثراً بلدغة سامة في ذلك الخلاء الموحش، إنها سُخرية مُرة، لكن هذا لا ينفي ميولي لعيش حياة لا تخضع لأي قانون، بمنأى عن كل ما يطول روحي من البشر، إنها عزلة تزجني إلى صراع لأجل هذه الحياة. الصراع مع الثعابين والعقارب يبدو لي أنه أكثر أهمية من صراعي الأزلي مع البشر"، أي أن الراوي الراغب في العزلة، والمائل لها، مُفضلا إياها على مُخالطة البشر قد باتت تنتابه الكثير من التخيلات بأنه يكاد أن يكون صاحب كرامات ومُعجزات وحظوة مُميزة له، وهي من الآثار المعهودة الناتجة غالبا للعزلة الطويلة عن الآخرين.

إنها العزلة التي يؤكد عليها الراوي غير مرة؛ مما أدى لشعوره بالوحدة العارمة: "نهضت من مكاني، وغادرت المسجد. خجلت من أفكارٍ كانت تنهشني بضراوة في مكان له قدسية عالية مثل هذا. في تلك اللحظات شعرت بحاجة مُلحة لأحد أتحدث إليه، أهرب إليه، ألوذ به، لكني لم أجد إلا نفسي، مع هذا مللتني بسرعة، لم أتحملني. كيف للناس القدرة على تحملي؟!"، وهو ما نلحظه مرة ثالثة، في تأكيد من الكاتب على عزلة شخصيته الروائية التي يرسمها في قوله: "وجدتني في معرض الكتاب، زحام، إرهاق نفسي وروحي في الأماكن المُمتلئة بالبشر، رغبت في الراحة، جلست في الممر، خشيت أن يركلني أحدهم. أحياناً يحدث لي ذلك عند جلوسي في الأماكن العامة. يجب أن أتظاهر بأنني أقرأ، وضعت كتاباً على حجري، الناس يؤمنون بما يرونه. طأطأت رأسي حتى لا يلمح أحد عينيّ المُغلقتين، قد يتمّ تصويري، فتُنشر الصورة على أنها لرجل يقرأ، لا يهم ما يفعلونه طالما أنّني مُنفصل في عالمي".

إذن، فنحن هنا أمام شخصية تميل إلى العزلة العارمة، والابتعاد عن البشر، حتى أنها تجد نفسها مُرتبكة، وحيدة، غير قادرة على التعاطي مع الآخرين إذا ما وجدت نفسها في جمع كبير من البشر مما يصيبها بقدر غير هيّن من التوتر- وهي من سمات جل الكتاب- لكن عزلته المُبالغ فيها هنا قد أدت به إلى العديد من الهذيانات التي صرح بها باعتباره رسولا، أو صاحب مُعجزات، قادر على الإتيان بما يعجز عنه غيره من البشر العاديين من وجهة نظره!

هذه الشخصية الهذيانية بالتأكيد لا يمكن إقناعها إلا بما تعتقد فيه؛ ومن ثم فالتعامل معها يكون من الصعوبة بمكان ما يجعل الآخرين غير قادرين على تلمس أقدامهم من هذه الشخصية المُنكفئة على ذاتها، الدائرة قي فلك أفكارها، غير القادرة على التعاطي مع الواقع بشكل طبيعي.


لكن، هذه الهذيانات اللامُتناهية التي تنتاب الراوي لا تظل منزوية داخله، بل تبدأ في التجسد أمام عينيه بشكل واقعي مما يعني أنه قد انغمس بكليته فيما يعتقده: "كنتُ في المقهى حين سحبني أحدهم من ملابسي. التفتّ إليه، فوجدت طيفاً، يبتعد عني، يبدو لي أنه دليل نحو عالم آخر. حاولت جاهداً النهوض، إلا أنني لم أشعر برجليّ، فأدركت ما الذي حدث رغم غرابته. حسناً يجب أن أكمل ما أعكف على كتابته. ثمة وميض في ساحة المواقف. مشيت نحوه، فرأيت طيفاً يجلس على كرسي مُتحرّك أمسك بيدي، فأغمضت عينيَّ وتبعته كالمُغيّب، لكن سيارة صدمته. يا إلهي! بهذه السرعة؟! بقيت مُتسمّراً في مكاني. كل شيء من حولي تجمد على نحو غير متوقع، وفاض بي حزن جارح على ضياع فرصة الوصول. رفعت عينيَّ، فرأيته، يرتفع عالياً في السماء، يصفّق برجليه، ويطير، بينما راح يعدل أحد الدواليب وقد كان معوَّجاً، انتهى، ثم أكمل رحلته نحو العلو. كلّ ما تفعله الأطياف بي مُنذ مُدة هو أن تسحبني من ملابسي، وتختفي. ما زلت تائهاً لا أفهم ما الذي يحدث، فلم أصل إلى شيء محسوس، هل أتراجع عمّا أقوم به؟ أو أن ما يجري محض تنبيه لشيء ما؟".

ألا نُلاحظ هنا أن الراوي قد سيطرت عليه حالة الاعتقاد بتميزه على البشر من خلال تجسد تلك الأطياف الغريبة له، وهي الأطياف التي سُرعان ما تطير عاليا في السماء؟ لكن، ثمة مُلاحظة أخرى لا يمكن لها أن تفوتنا؛ فلجوء الروائي عبيد بوملحة إلى اللغة التقريرية في سرده الروائي- أي باعتبار واقعية الأحداث التي يرويها- يجعل المُتلقي مُنسجما معه، مُصدقا إياه في أحداثه، غير مُندهش من غرابة ما يدور في العالم الروائي، فهو يسرد له وقائع ما كان، وما حدث معه، وما عايشه، وليس ما يفترض بأنه قد حدث معه.

لكن، رغم هذه الهذيانات التي تسيطر عليه، واعتقاده بتميزه على البشر، بنبوته، أو بمُعجزاته، ورغم عزلته المُبالغ فيها وشعوره بالوحدة، فكل هذا لم يمنعه من الاختلاط بقاع المُجتمع، أو بمجموعة من الأفراد الذين ينبذهم الهرم الاجتماعي لفقرهم، وعوزهم، وخروجهم عن السياق العام، وهو ما نلمحه في: "أما صديقي الذي لا أعرف اسمه، فقد كان أول لقاء لي معه في نفق سوق السمك في دبي، حيث يعيش سكّيرة النفق، إذ إنهم اكتسبوا ذلك اللقب من مُلازمتهم للمكان الذين يسكرون فيه ويتبادلون أحاديثهم. جاء الذي لا أعرف اسمه ليودّع خاله آدم سميث. لهما الملامح نفسها، إنه قصير مثله، وعضلاته مفتولة، إنها الجينات ذاتها. يدخنان السجائر بسرعة ليموتا ببطء. سأل خاله إن كان يريد شيئاً من "بلوشستان" لأنه سيغادر بعد شهرين تقريباً. قال: إنّه لن يستطيع زيارته قبل سفره لانشغالاته، ثم أخبره بأنّه سيزور جدّته هناك؛ فهي مريضة جداً، وتشعر بأنها ستفارق قريباً. لقد أخبرته برغبتها في رؤيته، لكنه لم يتأثّر، بل تجرّع مما كان في يده، يبدو أنّه يريد النسيان. أشار إليّ: خذه معك. ثم أطلق ضحكة عالية تشبه ضحكة الكفار في الأفلام التاريخية: موتوا هناك أما أنا فأريد العيش هنا. تمتمت: الموت هنا. ونظرت ناحية ماركس الركضة، وقد بصق عليّ وهزّ رأسه، ثم أشاح بيده، يبدو أنّه يحثني على الذهاب، أو أنه يسعى إلى التخلص مني، لا أعلم ذلك، لكني سأجرب، ففي التجربة كثير من الإجابات التي نبحث عنها".

ربما نُلاحظ هنا سُخرية الكاتب البالغة في الاقتباس السابق الذي جعل فيه مجموعة المنبوذين من السكارى يحملون أسماء "آدم سميث" الذي كان فيلسوفا أخلاقيا، ومن أهم علماء الاقتصاد الاسكتلندي، ومُؤسس علم الاقتصاد الكلاسيكي، و"ماركس الركضة" وهو الاسم الذي يتقاطع مع الفيلسوف الشيوعي، والاقتصادي كارل ماركس، بل و"صديقي الذي لا أعرف اسمه"، والذي سيشير إليه الروائي على طول الرواية بمثل هذا التوصيف، ورغم أنه قد تشكك في إحدى المرات بأن اسمه الذي لا يعرفه هو "القانون"، لكنه لم يستطع الوصول إلى اسمه الحقيقي، ومن ثم استقر على توصيفه بدلا من تسميته.

إذن، فاختلاط الروائي بمثل هذه النماذج المنبوذة اجتماعيا، ورغبة "صديقه الذي لا يعرف اسمه" في السفر إلى بلوشستان لرؤية جدته قبل رحيلها، وإشارة آدم سميث عليه باصطحاب الراوي معه، كل ذلك كان بمثابة الأدوات التي مهد بها الروائي، مُستخدما إياها للدخول في عالمه الغرائبي، وبداية رحلة التهريب عبر الحدود من الإمارات إلى بلوشستان، مرورا بمدينة العين الإماراتية، ثم عُمان، وإيران، حتى الوصول إلى باكستان، لا سيما أنه قد رأى في هذه الرحلة فرصته السانحة لرؤية عوالم جديدة، وخبرات لم يخبرها من قبل من أجل كتابة روايته الجديدة التي يرغب في كتابتها؛ فوافق على السفر معه، لا سيما أنه يؤمن إيمانا يقينيا بما يقوم بكتابته؛ مما يجعله يتخيل العديد من العوالم غير الموجودة ويعيش فيها: "أعشق الكتب، وأكتب الروايات، وإلى الآن لم أنشر أي مسودة، إني أترقّب، وأنتظر الإشارة. حياة الإنسان عبارة عن إشارات عليه أن يفهمها. صدقوني إني أؤمن بذلك. أنا بقيّة باقية مما يُسمّى نبوة. كفرت بي زوجتي، أو كفرت بها. كلما اقتربت منها أشعر بأن سبابتي تضعف، جزر بلا مد. هل كنت متزوجاً؟ أظن ذلك، لا أعرف، فقد نسيت، ربما. ربما رسالتي للأبعدين. ذلك ما سمعته في أحد الأحلام، أو الرؤى، أو سمعتها من الركضة وهو يرتشف الخمر وينظر للبعيد. ذهبت إلى المسجد، حاولت، أن أنام، أن أكتب، لكني لم أستطع، فخرجت. بقيت الدفاتر في المسجد. أو ظلّ عقلي هناك حيث كنت أكتب في ذهني. حيرة".

استغراق الراوي المُبالغ فيه هنا في عوالمه الخاصة التي يحاول ابتكارها من أجل الكتابة، وإيمانه بمُعجزاته إيمانا يقينيا، يجعله غير قادر على التمييز عما إذا كان متزوجا أم لا، رغم أننا في موضع آخر من الرواية سنعرف بأنه لم يتزوج من قبل، وأن أمه تبحث له جاهدة طوال الوقت عن عروس تليق به، وتعرض عليها العديد من الصور للكثيرات من الفتيات، لكنه في كل مرة لا تعجبه صور الفتيات، ويعرض عن الفكرة، وهو ما يعني أن سبابته التي تضعف كلما اقترب من زوجته- كما ذكر في الاقتباس السابق- ليست حقيقة، لا سيما أن السبابة هنا تُشير إلى عضوه الذكوري الذي كثيرا ما يدخل في حالتي مد وجزر تلقائيتين.

تتأكد لنا هذه العوالم الوهمية التي تتشيأ له أمام عينيه، والتي يعيشها كواقع حينما يتجسم أمام عينيه الروائي الأمريكي إرنست هيمنجواي، مُحادثا إياه: "زارني شخص يسيل الدم من ثقب كبير في رأسه، وطلب مني كتابة الرواية، سألته عن اسمه، فقال هيمنجواي. ابتعد وهو يجلس على كرسيّ مُتحرّك. أكمل حديثه: اكتب يا بني ولا تتوقف. لم أهتم لما قاله إلى ذلك اليوم. كنت في مكتبة دار الفضيلة التي تقع في منطقة هور العنز، أقلّب الروايات، "الشيخ والبحر" لهيمنجواي فسمعت صوتاً: هل تعلم بأن هيمنجواي مات مُنتحراً؟ التفتّ خائفاً، أولاني ظهره، فلم أتمكن من رؤية وجهه. كان يجلس على كرسيّ مُتحرّك. قال: إن هيمنجواي أطلق النار على رأسه من بندقية. طاخ. انتفضت رعباً، سقط الكتاب من يدي، فتلفتّ حولي أبحث عن المُتحدّث، لقد كنت لوحدي"، أي أن حالة الهذيان التي تلبسته لم تتوقف فقط على اعتقاده بنبوته، بل تعدتها إلى الحياة في عوالمه الخاصة التي يقرأ عنها، وغيرها من العوالم التي يُعد للكتابة فيها، وهو ما يجعل الحالة الهذيانية لديه مُتفاقمة لدرجة رؤيته لأشياء سُرعان ما تختفي من أمام عينيه: "تناولت طعامي، وسمعت مواء قطط، ورأيتها على رأس وأكتاف وأوراك وكرسي ماركس الركضة، تشرب من آنية بين يديه، وبقايا طعام على وركيه النحيلين، فركت عينيّ، لم أعد أراه. انتابتني رعشة، تجعلني أحياناً أنفصل عمّا حولي. لا أدري هي كذلك، أم أنها تصيبني لأول مرّة. لقد نسيت. أدرك ما أراه وألمسه وفي لحظة يصبح سراباً، لا أعرف، تختلط الأمور عليّ، لا أدرك تصرّفاتي حينها"، بل تعدى به الأمر إلى التوهم بحكمته التي لا يضاهيه فيها أحد: "سافرت تهريباً، مع الذي لا أعرف اسمه، ستقولون: لم تكن وحيداً، سأقول حينها: العزلة لعبة دماغية في الأساس، هي الانفصال. ألم يكن من الأجدى أن تنفصل وأنت في مكانك. هذا إحراج لي، وخراء. العزلة هي الانفصال، ما الذي قلته؟ سعادة، كدت أخرج عارياً من الحمام وأنا أصرخ: وجدتها. تمالكت نفسي، بعد أن أدركت تأثير العزلة عليّ، لقد نجحت، أصبحت فيلسوفاً. ابتسمت. رعشة، مثل الرعشة التي تصيبني وأنا أتبول فجراً، لم أجد تفسيراً لها، يجب أن ألاحظ ذلك في الصيف لأتأكد من صحة النظرية، ما الإنسان إلا مجموعة من التجارب توصله إلى الفهم. خرجت، قرفصت بالقرب من مغاسل اليد، أغمضت عيني، أتنفس بهدوء، وضعت يدي في جيبي، فقد أصبحت أحد الحكماء. هيئتي توحي بذلك. ابتسمت وأنا أتذكر ماركس الركضة، أنتظره أن يقول: يا سكارى العالم اتحدوا. ليكون النسخة العربية من كارل ماركس، يطلق نظرته نحو البعيد دوماً، يلمس شيئاً لا نراه".

إذن، فالراوي- الذي سيحمل اسم "سليم إسماعيل" بعدما أعطاه "صديقه الذي لا يعرف اسمه" بطاقة شخصية باكستانية مزورة تحمل هذا الاسم من أجل السفر  معه- مُهيأ تماما للعالم العجائبي المُقبل عليه من الناحية النفسية؛ ولعل الروائي عبيد بوملحة قد مهد لهذه الأحداث بشكل كافٍ ومُقنع مما يهيئنا نحن كقراء للخوض معه في هذا العالم.

لكن، ما الذي يجعل روائيا، أو أي فنان يلجأ إلى هذه العزلة القاتلة التي تُشعره بالكثير من الوحدة، وتدفع به إلى مثل هذه الحالة الهذيانية؟


إن عدم الالتفات إلى مُمارس الفن بوجه عام، والانصراف عن تقديره التقدير الذي يستحقه في مُحيطه المُجتمعي يؤدي به إلى مثل هذه الأزمة النفسية- في تقدير الذات- التي تجعله ينصرف عن الانخراط في المُجتمع، مما يفضي به إلى افتراض العديد من الافتراضات ويقوم بتصديقها، بل واليقين بها إلى أن تتجسد أمام عينيه، وهو ما حدث تماما مع راوينا هنا؛ فأمه كثيرا ما تُلح عليه من أجل إيجاد عمل ما، مُؤكدة له بأن الكتابة والقراءة ليسا عملا، ولا قيمة لهما، ومحض هراء، وهي النظرة التي ينظرها جل أفراد المُجتمع تقريبا للكتاب باعتبارهم مجموعة من العاطلين، أو المجانين الذين فضلوا الكسل، وعدم العمل من أجل التصعلك، وهي للأسف نظرة اجتماعية سائدة في مُجتمعاتنا التي لا تُدرك أهمية الفعل الكتابي وقيمته: "سترتاح أمي مني لأشهر ولن أقترض منها المال. ستشك بي وتسألني عن سبب عدم طلب المال، فكّرت، حصلت على وظيفة، دورة عسكرية. سأسافر، كذبت: لن أستطيع الاتصال بها لأنني سأكون في مُعسكر بعيد في الصحراء. لم أكذب لأني سأكون مع الذي لا أعرف اسمه في الصحراء. ضحكت حتى دمعت عيناها، يبدو أنها فرحة، على الرجل أن يعمل. باركتني. اقتربت مني تربت على رأسي: القراءة والكتابة ليست عملاً. لا تعلم بأني أنتظر الإشارة وسأنشر رواياتي ولن أضطر لأخذ الأموال منها بعد ذلك".

ربما كانت هذه العزلة القاسية التي لجأ إليها الراوي هي السبب الرئيس في خلطه ما بين العوالم المُختلفة، فهو لا يستطيع التمييز بين الأماكن، ولا الأزمنة، بين الواقع والخيال، بين ما هو حقيقي وما هو سراب، وهو ما يؤدي إلى الكثير من التداخل بين العوالم في العمل الروائي الذي بين أيدينا، لكنه التداخل المُمنهج الذي يتقصده الكاتب بوملحة من أجل التعبير عن الحالة الهذيانية التي دخل فيها كاتبه/ راويه: "يخرجون من المطعم ويبدأ ماركس الركضة وهو على كرسيه المُتحرك، ويقفز بين البنايات مثل الشمبانزي، يريد أن يصل إلى النفق بسرعة فأصحابهم ينتظرون الطعام، وآدم سميث يضرب صدره مثل الغوريلا ويركض على أربع، ثم يتسلق إحدى البنايات ليلحق بماركس. أركض خلفهم، أحاول اللحاق بهم. أغمضت عينيَّ، ثم فتحتهما، كنت في مكان آخر، وزمن آخر".

لاحظ هنا الانتقال الفجائي من مكان إلى آخر، ومن زمن لغيره حتى لكأنما الأمر يكاد أن يُشبه القطع المُفاجئ في السينما، وهو القطع الذي لا بد أن يأتي لنا بمُفاجأة لم نكن ننتظرها نُطلق عليها سينمائيا Twist أي الانقلاب، أو المُنعطف الدرامي الذي يغيّر من مفهوم الأحداث، كما نُلاحظ ذلك أيضا في: "في مسجد بن ظبوي، وبعد صلاة العصر تجمّع الرجال في الخارج لتجاذب أطراف الحديث ولبّه. شدّني ضحكهم وهم يمنّون بعضهم بجلسة مُمتعة، يشيرون إلى عجوز لم أنظر ناحيته. تشاغلت عنهم، أبحث عن نعالي. تكلّم أحدهم بعد أن ذهب العجوز إلى دورة المياه: سافر إلى تايلاند واختفى لثلاث سنوات، وبعد فترة شاهده أحد معارفه بالصدفة وهو ينام في الشارع مع المتسوّلين، تواصل مع السفارة، وأعادوه. نظروا ناحيتي فخرجت من المسجد، وزحفت خلف الجدار الواطئ لأسمع حديثهم. كاد أن يفضحني ماركس الركضة بصرير إطارات كرسيه المُتحرك، أردت أن أطرده؛ فبصق عليّ ورفع الكتاب مُهدداً، فسكتّ مُجبراً. يصلني شيء من الحديث، يسألونه عن رحلته إلى الهند. كنت أظنّ أنّها إلى تايلاند. تاه في الغابات، انتشله صيّاد وذهب به إلى قريته، ما أن شاهدوه استقبلوه أفضل استقبال في فيتنام، كنت أظن تايلاند أو الهند، نبوءة الكاهن: بعد كسوف الشمس سيدخل القرية إله بصحبة صياد".

إن القلق، وعدم اليقين اللذين يتعمدهما الروائي في هذا الاقتباس السابق، وهو القلق الناشيء عن عدم الاستقرار على مكان، أو معنى، أو زمان مُعيّن هو في جوهره دلالة على تداخل العوالم، وتماهيها، ليس في ذهن الراوي فقط، بل يجعلها مُتداخلة أيضا أمام القارئ مما يؤدي إلى التباس السرد الروائي والحاجة الماسة إلى المزيد من التركيز فيما يقرأه؛ فهذا الشكل من أشكال الكتابة المُتماهية في حاجة إلى قارئ مُدرب، شديد التركيز، قادر على العودة مرة أخرى إلى بداية الفقرة لإدراك ما يرغبه الروائي من كتابته، وإمساك الخيط الروائي، وما يشير إليه من هذا التداخل.

لذا فهو كثيرا ما يخلط بين سبابته- المتراوحة طوال الوقت ما بين مد وجزر مما يخيف الآخرين- وبين عضوه الذكري؛ فلا يعرف هل هي سبابته بالفعل التي تنتصب أم عضوه الذكري: "زرت إحدى المُستشفيات، وفي الاستقبال أخبرتهم بمُشكلتي، قلت لهم: إن إصبعي لا يقف. نظرت إليّ الموظفة بتعاطف واضح، وحوّلتني إلى طبيب الأمراض التناسلية. يبدو بأنهم يتبنون العلاج الانعكاسي. شرحت للطبيب مُشكلتي ورفعت له السبابة، هزّ رأسه مُتفهماً، وطلب مني الوقوف، وطلب أن أشيح برأسي، وأن أرفع دشداشتي، وأمرني بالشهيق. فتح عينيه، وطلب مني أن أسعل، أن أكحّ بكلّ قوة، ليكون العلاج جيداً، بينما كنت ألمح مريئي على الجدار، كان الطبيب يشير إليّ أن أسكت، لم أفعل، لن أفعل. انتصب إصبع السبابة، ولمس السقف، إنه العلاج باللمس. لم أكن أؤمن بذلك، مع هذا فرحت، ورفعت إصبعي في وجهه، عاد الطبيب إلى الخلف، واقتربت منه لأريه نتيجة علاجه. شاركني إصبعي فرحتي. لم أره يكبر من قبل بمثل هذا الحجم. كح. يصرخ الطبيب، بينما كنت أسمع أصوات أناس يتساءلون أمام باب مكتبه. سقط على الأرض، الطبيب وليس إصبعي، وراح أحدهم يطرق الباب. انزل دشداشتك. أدركت بأن الفحص انتهى، والعلاج كذلك. عاد مخلب الشيطان. هرع إلى الباب، وفتحه، فرأيته يسقط، ويزحف، ويبتعد. في تلك الأثناء ركضت مُمرضة أمام الباب وفي يدها خرقة مليئة بالدماء".

إن التأكيد على أن الروائي هنا يقصد عضوه الذكوري، وليس سبابته هو ما قرأناه حينما خرج من المشفى، ونصيحة أحدهم له بالسفر إلى بلدان جنوب شرق آسيا؛ فهناك سيعبدونه، لا سيما أننا نعرف أن بعض بلدان شرق آسيا يعبدون الأعضاء التناسلية الذكورية، ويقدسونها، بل ويقيمون لها العديد من المهرجانات والكرنفالات: "ما إن خرجت من باب المُستشفى حتى قال لي أحدهم بأني لو ذهبت إلى إحدى دول جنوب شرق آسيا فإنّ إصبعي سيكون إلهاً، وربما يعبدونه. شعرت بالسعادة، وما أن هممت بعبور الشارع حتى أمسكني رجل على كرسي مُتحرك مصنوع من الذهب، وطلب مني أن أعبر به إلى الناحية الأخرى. هززت رأسي وخطوت، كنت سعيداً وأفكر بمُعجزتي. لمع الكرسي المُتحرك الذهبي وهو يطير إلى السماء، كان محظوظاً جداً".

يبدو لنا العالم الروائي الذي يخوضه الكاتب عبيد بوملحة مُنكفئا تماما على عملية الكتابة، فهي لبه الأساس وجوهره، لذا اختار أن يكون راوي روايته روائيا يبحث عن المزيد من العوالم الجديدة، وغيرها من التجارب كي يصوغها في أشكال روائية مُختلفة. هذا الانكفاء على عملية الكتابة في حد ذاته يجعل بطل الرواية مُنشغلا بها طوال الوقت، مُتحدثا عنها، مُتأملا فيها، وهو ما يقوده إلى ربط أي حدث واقعي من حوله، ورده إلى ما سبق أن قرأه من قبل، أو إلى ما يرغب في كتابته، ولنتأمل: "أشعر بألمٍ في القولون، فأحتاج للذهاب إلى الحمام. تذكرت رواية "رقصة شرقية" لخالد البري، وكيف كان يشعر البطل بالخجل عندما علق خراءه في المرحاض ولم يُشفط، ليصف العملية في صفحتين، وكيف تغلّب على ذلك عندما تذكّر عبور خط بارليف، وتجاوز الجيش المصري له باستخدام الماء لتفتيت الرمال. وصلت الرواية للقائمة الطويلة في جائزة البوكر. من يومها أدركت بأن عليّ أن أطعّم رواياتي بالخراء لتنال استحسان لجان التحكيم، أو حتى أصدّره على الغلاف، كأن يكون عنوان الرواية "السماء تمطر خراء"، عنوان أكثر جمالاً من عناوين الروايات التي تحكي عن الياسمين، أو أنواع الأزهار المُختلفة، ستكون الرواية حينها أقرب إلى "بيك آب" باكستاني مُزيّن بالأزهار البلاستيكية فاقعة الألوان، ليس تنمّراً ولكنّها مسألة أذواق"، أي أن مُجرد شعور الراوي برغبته في دخول الحمام قد رده مُباشرة إلى الربط بين ما قرأه في رواية خالد البري حتى لكأنه يعيش في عالم روائي بدوره يأخذه من رواية إلى أخرى، ومن ثم بدأ في استعادتها بشكل فيه قدر غير هيّن من السُخرية من العملية الكتابية، وليس من الرواية في حد ذاتها، وهو ما سنُلحظه مرة أخرى في: "أؤمن أنّ الأدب الرائع ينبع من عمق القذارة. أردت الذهاب إلى الحمام والجلوس على المرحاض لأستلهم من "فتاح" شخصية لإحدى رواياتي، يجب أن أسايره، أصادقه، أعرف قصة حياته، قصة حياة كرشه، أنا مُتأكد أنه لم يولد كطفل طبيعي، وإنما كان كرشاً ومن ثم نبت له رأس ويدين ورجلين، أريد أن أعرف السبب الذي يجعله يعيش وحيداً في هذا المكان. جلست على المرحاض، حمامه كان نظيفاً ومُرتباً، مددت سبابتي وفتحت الباب، اختلست النظر إلى الخارج، كان مشغولاً، فبدأت أحرك إصبعي في الحمام، أرمي ملابسه المُعلقة على المشجب إلى الأرض، أريد أن أكون في جوف القذارة لتكون روايتي القادمة رائعة، تذكّرت الشاعر الأمريكي وكاتب الأغاني رود ماكوين، ترشح مرّتين لجوائز الأوسكار وجائزة بوليتزر. هززت رأسي مُنتشياً، كان شعره الذي يخرج من الحمام يتناول مواضيع مثل الحب والروحانيات".

إذن، فبوملحة هنا تنتابه السُخرية من كل شيء، من الكتابة، والكتاب، والروايات، والأشخاص، والعوالم المُحيطة به، ومن نفسه، وهذه السُخرية هي ما تُكسب العمل جاذبيته من أجل الاستمرار فيه حتى النهاية.


ربما كانت هذه السُخرية المُسيطرة على الروائي هي ما تجعله يتأمل في شكلانية المظاهر التي يحرص الكثيرون من أفراد المُجتمع على التحلي بها أمام بعضهم البعض رغم زيفها، وعدم جوهريتها- لعلنا لا ننسى أيضا أن أي روائي يميل إلى الكثير من التأمل فيما حوله، وبما أن راوي الرواية هو روائي أيضا؛ فلقد مال إلى تأمل ما يدور من حوله- وهو ما نلمحه أثناء تأمله للمضيفات في الطائرة: "تتلبسني رغبة مُختلفة نحو المُضيفات. كل مسافر يريد التعرف على واحدة منهنّ لتؤنس أيامه في مكان الوصول، لذلك ترى أكواع الرجال كلهم على الممر، ليلمسوا، تبتعد الأكواع عندما يطوف مُضيف، قد يكون هناك دور كبير للروج الأحمر الذي يلونّ به شفاههن فتصبح كالفاكهة المُحرمة. لسنوات منّيت نفسي بمُضيفة كلما سافرت، لا أذكر إن سافرت فعلاً، أم هي أحلام. لا يهم. كلّه سفر. كما كنت أمنّي نفسي بالمُمثلات على شاشة التليفزيون، العربيات منهن والأجنبيات، الأحياء منهن والأموات، ولكن فترت تلك الرغبة، مع المُضيفات، عندما أدركت بأن ابتسامتهن جامدة خائنة، تخون كل مُسافر مع آخر"، فالتأمل للمُضيفات هنا، وابتساماتهن الشكلانية المُزيفة تحمل في جوهرها شكلا من أشكال السُخرية مما يراه من حوله، وليس مُجرد الرغبة في انتقاد وضع ما.

ألا نُلاحظ هنا استمرار الراوي في استغراقه غير الواعي بالأحداث، أي بحقيقة حدوثها من عدمه؛ فهو في الاقتباس السابق لا يعرف على وجه اليقين إذا ما كان قد سافر على متن الطائرة أم لا، رغم أننا سنعرف بأنه قد سافر إلى اليمن حينما انضم إلى إحدى وكالات الإغاثة الإنسانية، كما سافر مرة أخرى- في رحلة عودته- إلى مطار الخرطوم، مما يُدلل على أنه شخصية تعيش في الخيال، غير قادرة على التخلص منه والتعاطي مع العالم الواقعي المُحيط، وهو ما يجعله يظن بأنه يمتلك وحمة مُقدسة على ظهره، هي ما تمنحه البركة والقداسة والإتيان بالمُعجزات- تماما كما رأى في حلمه الذي صحا منه وصدقه بشكل يقيني- ليخبر أمه بما يعتقده، ومن ثم تحاول إفاقته مما يسبح فيه من خيال: "صحوت من النوم أرتجف، وجدت نفسي مُستلقياً تحت النخل أمام بيت الحداد. عدت إلى المنزل، أخبر أمي عن الخادمة، عن الشيخ، عن الوحمة، ضحكت بأعلى صوتها: لن تترك خيالاتك، لا توجد في ظهرك وحمة، أنت ابني. كذّبتها. أردفت بأنه لا توجد عندنا عاملة في المنزل. أكّدت لها ما أراه، أدارت ظهري، خلعت قميصي، ذهبت إلى المرآة، طلبت أن أدير ظهري وأرى الوحمة إن كانت موجودة، أخبرتها بأن الطيف مسحها، كرامتي مخفية لا تُرى إلا بالفؤاد، لتمسح بكرامتي الأرض، غادرت، تصرخ: يجب أن أترك تلك الخيالات، تبكي وهي تنظر إليَّ. أتساءل: إن كانت الكثير من الأحداث التي وقعت في حياتي مُجرد خيالات. بالطبع لا. بالطبع نعم. لا أدري".

إنه هنا في حالة من عدم اليقين في أي شيء، فالعالم الخيالي والواقعي بالنسبة إليه سواء، يتداخلان، يتماهيان، يصبحا عالما واحدا لا يمكن الفصل بينهما مما يربكه في الكثير من الأحيان، لكنه يعود لتصديق الخيال، مُغلبا إياه على الواقع.

يجتهد عبيد بوملحة في روايته اجتهادا واضحا من أجل ابتكار الخيال، وتوليد الحكايات من بعضها البعض بشكل هذياني، غير مُنتظم من الناحية الشكلانية، وإن كان في جوهره يبدو لنا ابتكارا مُمنهجا دقيقا، اعتمده لبناء روايته، والإيغال في ابتكار شكل يخصه يتناسب مع موضوع روايته، وهو ما نُلاحظه على سبيل المثال في: "استند الذي لا أعرف اسمه على الجدار، سألته عمّا حدث. خاء. خاء. كان ينخر مثل خنزير. ألم يكتفِ من النوم؟ أغمضت عيني. الحقير يحلم بأنه يقترب من أنثى. حركت يدي فاختفت، وقفت قبالته في أرض سوداء بلا نهاية. نما جناحان عظيمان من ظهره وطار. ركبت مُحركاً نفاثاً على ظهري ولحقت به، أمسكت بجناحيه، يريد أن يصرخ، يفتح فمه. ما الذي حدث في الغرفة؟ لم يتكلم، نتفت الريش من جناحيه، سقط. هاء. فتح عينيه ينظر إليّ خائفاً، دخل الدلّال وخلفه عدد من الأشخاص يحملون الأكل، الخبز ومُعلبات جاهزة، أخذنا نصيبنا. كل ينظر ناحيتي بوجل. لا شهية لدي للأكل، لقد سافرت بعيداً".

لاحظ هنا مدى إدراكه كروائي لمفهوم الواقعية السحرية، ومقدرته على صياغتها بشكل مُقنع للقارئ يمنعه من الاستنكار، أو الشعور بالدهشة مما يقرأه، فالذي لا يعرف اسمه نبت له جناحان للهروب منه والطيران في السماء، بينما الراوي يركب مُحركا نفاثا على ظهره للحاق به، ولم يستطع إعادة الذي لا يعرف اسمه إلى الأرض مرة أخرى إلا بعدما نتف له ريشه ليسقط أرضا. إنه ما عنيناه حينما ذهبنا إلى أن بوملحة يمتلك أسلوبيته، وعالمه الروائي الخاص، ومقدرته على ابتكار الخيال القادر على جذب انتباه القارئ، والاستمرار معه حتى النهاية في هذياناته الروائية الرشيقة والشيقة.

يحاول بوملحة على طول السرد الروائي اللجوء إلى ابتكار المزيد من الحكايات التي تتوالد من بعضها البعض، وهو ما يؤدي إلى إثراء السرد الروائي، وإكسابه ثقلا يعمل على خدمة الهدف الأساس من كتابة الرواية، والوصول بها إلى نهايتها، ففي هذه الحكايات المتوالدة بسلاسة وطبيعية ما يجعله يهرب من عالم إلى آخر ببساطة مُتناهية لتتداخل العوالم مُشكلة للبناء الروائي الذي يدور في ذهنه.


من هذه الحكايات اللطيفة- التي ترتبط ارتباطا وثيقا بالعالم الروائي وكائناته الخيالية في تأكيد من الروائي على ما ابتكره من قبل- حكاية انتقامه من زوجة أبيه التي كانت صديقة لأمه، والتي زوجتها أمه لأبيه بنفسها، ففي اليوم الأول الذي دخلت فيه الزوجة الجديدة إلى البيت ركلته بينما كان نائما أرضا، ولقد عمدت إلى هذا الفعل لعدم رغبته في الوقوف لها واستقبالها، وهو ما جعله يتعاون مع الأطياف التي تتبدى له من أجل الانتقام منها، والوصول بها إلى مرحلة الجنون: "زفّت أمي صديقتها إلى والدي. كنت يومها مُستلقياً في الصالة أقرأ قرب الباب، والطيف الذي يجلس على الكرسي المُتحرّك بجواري، يشبه الركضة. لم أتحرّك من مكاني وكأنّ الأمر لا يعنيني، رغم الفضول الذي انتابني لأرى وجه زوجة أبي. تشير أمي بيدها لأبتعد، لكني تجاهلتها. دعوه لا تزعجوه. قالت عروس والدي والذي امتثل لأمرها. تجاوزني وخطى فوقي. ركلتني عروسُه، وداست على قدمي بقوة، لم يلحظ أحد ذلك، إذ كان فستانها منفوخاً. أسررتها في نفسي. أمدّ الطيف الذي يجلس على الكرسيّ المُتحرّك رجله، فسقطت العروس على وجهها. لم يكفني انتقامه، فاختبأتُ في دولابها. حين دخلت الغرفة، رأيتها من فتحة باب الدولاب، تتلفّت حولها، وتخرج خائفة. فيما بعد رحت أجمع القطط من الفريج وأضعها في غرفتها، وفي الحمام، أو في الدولاب، وتحت السرير. أطرق نافذتهما في الليل، أطرق الباب، أراها تخرج وتمشي في الصالة، أرميها بكوب، تصرخ، تصاب بالهيستيريا، تخرج إليها والدتي وأبي يهدؤون من روعها. تُصرّ بأنني من أفعل بها ذلك، يصرخون: هذا مُستحيل. يذهبون إلى غرفتي؛ فيجدونني نائماً أشخر. تصرخ، وتقع على الأرض".

إن توليد الحكايات الذي يلجأ إليه بوملحة لم يكن لمُجرد رغبته في المزيد منها، رغم أنه لو فعل ذلك لما اختل البناء الروائي بين يديه، ولما انتابه أي نقص، لكنه لجأ إلى حكاية زوجة أبيه للمزيد من التأكيد على ما تفعله معه الأطياف التي تتبدى له، والتي تساعده في كل شيء، والتي تؤكد له بأنه صاحب كرامات، ومُعجزات مما يجعله مُختلفا عن بقية البشر- فضلا عن أن الراوي هو في حقيقته روائي يعيش في عوالمه الخيالية التي يحيكها لنفسه ببراعة ويعيش فيها.

حينما يتم سجن الراوي/ سليم إسماعيل في إيران بتُهمة عبور الحدود بشكل غير قانوني؛ يلجأ إلى كتابة الروايات في ذهنه لحين خروجه مُنتهجا في ذلك نهج الروائي الروسي فيودور دوستويفسكي حينما كان في منفاه في سيبيريا، وهو في هذا الفعل يحاول التماهي مع دوستويفسكي باعتباره روائيا زميلا، لذا يقول: "لم أعلم حينها إن كنت مثل دوستويفسكي أو مثل الأديبة الأمريكية بيرل لينور كوران، والتي لم تكمل دراستها، فبعد جلسة لتحضير الأرواح بدأت في كتابة الروايات والقصص القصيرة والمسرحيات. أول رواياتها لاقت إشادة جيدة من النقاد ووُصفت بأنها إنجاز أدبي. كتبت ما يقارب الأربعين مليون كلمة في فترة قصيرة من حياتها. تكتب أشياء مُذهلة ورائعة بسرعة قياسية، تعرف الكثير عن عصور سابقة لم تعش فيها، نظامهم الغذائي، حياتهم، العادات، تفاصيل الأماكن، أحاديثهم، تقول بأنها تتلقى دعما من روح عاشت في السابق تُسمى بيشنس وورث؛ ساعدتها لتصبح كاتبة مشهورة. أنا أكتب رواياتي عن طريق الإشارات التي أتلقاها من الأطياف. يجب أن تُدرس حالتي، كما حدث مع بيرل كوران التي دُرست وحُللت من علماء النفس والخوارق. أُخضعت للعديد من التحاليل وجلسات التنويم المغناطيسي، لكن لم يتم التوصل إلى أي شيء، تضاربت الأقوال عنها ما بين مُشكّك ومُصدق وأشخاص التزموا الحياد واعترفوا بعدم قدرتهم على تحليل الأمر. تخيلت، طاخ. شيخ يضربني ليخرج الجني. طاخ"، أي أن الشخصية الروائية هنا موقنة يقينا تاما من موهبتها، وعدم تميز أي من الروائيين السابقين من المشهورين عنه، فهو مثلهم، وإذا ما كانت هذه الروائية اعتمدت على الأرواح في كتابتها سابقا، فهو الآن يعتمد على الأطياف التي تتبدى له، وتفعل أي شيء من أجله. وهي الأطياف التي طلبت منه البدء في كتابة الروايات، وأكدت عليه بأنه موهوب؛ لذا فلا بد له من انتهاج هذا الطريق: "لا أعرف السبب الذي جعلني شغوفاً بأن أكتب الرواية، وأن أكون روائياً. أتذكّر حلم وطيفٌ فيه يخبرني بذلك، أظنّ ذلك، طلب منّي أن أكتب الروايات. أعتقد ذلك. فعلت ذلك. ولكنّه لم يأمرني بنشر أي واحدة، أنتظره، لم يفعل. كلمّا حاولت سؤاله عن موعد نشري لرواياتي يبتعد".

ربما لهذا السبب، واقتناعه الكامل بموهبته الروائية، يحاول الراوي- داخل الرواية- استغلال كل ما يدور في حياته، وكل ما يقوم به من أجل الاستفادة بخبرات حياتية، وحكايات جديدة من أجل صوغها في عوالم روائية طازجة؛ فالحياة بالنسبة إليه هي رواية هائلة لا تنتهي، يمتح منها من أجل رواياته الخاصة: "دخلت أمي الغرفة، بعد أن صرخت وكتمت صرختي. قالت بأنّ أحدهم قد اتّصل بهاتف المنزل ليخبرها بأنه قد تم توظيفي في مُؤسسة تعنى بالعمل الخيري والإغاثي. لم أرغب بقتل فرحتها وأقول لها بأني أعلم ذلك. تظاهرتُ بالسعادة، وخرجت مسروراً لرؤيتي الفرح على وجهها. سأذهب إلى المُؤسسة، لأستفيد من تجربتي الإغاثية في كتابة الروايات. سأعيش في عالم آخر، سألتقي البسطاء، أعرف مآسيهم، أرجو أن يكون عالمي شبيهاً بمُقدمة تشارلز ديكنز في روايته "قصة مدينتين": كان أحسن الأزمان، وكان أسوأ الأزمان. كان عصر الحكمة، وكان عصر الحماقة. كان عهد الإيمان، وكان عهد الجحود. كان زمن النور، وكان زمن الظلمة. كان ربيع الأمل، وكان شتاء القنوط. انفرجت شفتاي عن ابتسامة عريضة، إذ يعجبني الجانب الشرير في الروائيين، أعمل من أجل نفسي فقط، وأدبي. لن أقول: إنها سوداوية، ولا واقعية تثبت الحيرة والقلق الإبداعي، ولا أي كلمة من تلك الكلمات التي نقولها ونكتبها في محاولة للالتفاف حول الواقع لنصوره بأشكال أخرى. ما الإنسان إلا أشكالا مُختلفة. انتفضت، انتابتني رغبة في التقيؤ، فركضت إلى الحمام، وأغلقت الباب ورائي بقوّة"- لاحظ هنا أن الراوي قد قبل مُصاحبة صديقه الذي لا يعرف اسمه في رحلته غير القانونية عبر الحدود إلى بلوشستان من أجل الاطلاع على عوالم جديدة، واكتساب خبرات تكون صالحة للكتابة، وهو ما فعله أيضا حينما تقدم للتطوع في مُؤسسة العمل الخيري والإغاثي التي كان الهدف منها اكتساب المزيد من الحكايات والخبرات من أجل الكتابة.


إذن، فعبيد بوملحة هنا يكاد أن يكون مُنكبا انكبابا كاملا على وصف الصعوبات التي يلاقيها الكتاب أثناء عملية الكتابة، وطريقة تفكيرهم، وأوهامهم، وضلالاتهم، وهذياناتهم، والبحث عن عوالم جديدة، واستغلال كل ما يدور من حولهم من أجل هذه العملية الكتابية، وهو من أجل ذلك يقوم بتوليد الحكايات من بعضها البعض بشكل فيه الكثير من العجائبية الخاضعة لمنطق الواقعية السحرية.

يبتكر عبيد بوملحة مجموعة غير هينة من القصص والمُغامرات المُختلفة التي مر بها راوية حينما وافق على السفر مع صديقه الذي لا يعرف اسمه إلى بلوشستان، وهي الرحلة التي صاحبهما فيها ماركس الركضة، وفتاح "الصيني السمين" صاحب الكرش الضخم- أو بوكرشة كما وصفه في الرواية- ونفيد، وأختر- الشخصان الباكستانيان- وعبر معهما الحدود من مدينة العين الإماراتية إلى عُمان، ومنها عن طريق البحر إلى إيران، واستمر في العديد من الحكايات التي تخللت رحلته الطويلة في جبال وغابات إيران إلى أن وصلوا إلى بلوشستان على الحدود المُشتركة لإيران وباكستان، وخلال هذه الرحلة الطويلة لاقى الكثير من التجارب المُختلفة، منها تجربة السجن، والهروب من الحدود، وتفتت رأس أحدهم أمامه مما جعله يتذوق محتوياتها، حتى يصل إلى موت كل منهم في حادث مُعيّن- ليتخلص من الشخصيات في نهاية الأمر.

لكن، هذه الحكاية الطويلة التي ابتكرها الروائي، وجعل فيها راويه يعبر تلك الحدود بين العديد من الدول، وما حدث فيها من أحداث عديدة مُختلفة وشديدة الغرائبية، منها إيمانهم بأنه بالفعل ولي، صاحب مُعجزات، حتى أنهم كانوا يتبركون ببصاقه سواء في مأكلهم أو مشربهم، ويؤمنون بأنه قادر على إبراء المريض، وإطعامهم من جوع، بل شعوره بالشبع حينما لا يجد الطعام مما كان يجعلهم كثيرا ما يرددون بأن الله قد أطعمه وسقاه، وغير ذلك الكثير من الأمور التي حدثت أثناء الرحلة.

نقول: هذه الحكاية الطويلة التي نجح بوملحة في صياغتها بإتقان كامل، وإحكام جلي، مما جعلنا نُعايشها معه، مُتماهين مع شخصياته الروائية، غير راغبين في انتهائها، تستدعي العديد من الأسئلة التي لا بد منها: هل حدثت هذه الأحداث للراوي بالفعل؟ وإذا ما كانت قد حدثت، فمتى حدثت الأحداث الأخرى التي دارت بينه وبين أمه وضرتها؟ ومتى سافر إلى اليمن مع وكالة الإغاثة التي تطوع فيها، ومتى ذهب إلى مطار الخرطوم في رحلة عودته؟

إن تداخل كل هذه العوالم، وتماهيها مع بعضها البعض، وعدم وجود أي فواصل زمنية أو مكانية بينها- حيث كان الروائي ينتقل بينها ببساطة سلسة وكأنها تُشكل عالما واحدا مُتصلا- يجعلنا نتوقف أمام ما صاغه عبيد بوملحة للتأمل والتساؤل؛ لا سيما أن الكتابة بمثل هذا التشابك المُتماهي في حاجة ماسة إلى الكثير من التركيز اليقظ وإلا انفلت الخيط الروائي من بين يديه، مما قد يؤدي إلى انهيار البناء الروائي بالكامل، بمعنى أنها شكل من أشكال الكتابة الصعبة- سواء على الروائي نفسه، أو على القارئ؛ حيث تحتاج هذه الرواية إلى قارئ مُدرب، قادر على اليقظة بدوره لما يقرأه من عوالم عجائبية، فضلا عن روائي مُتمكن من سرده، قادر على الانتباه إلى إحكام وتناسق البناء الروائي، وإلا انهار من بين يديه من دون أن يدري.

لكن، إذا ما وصلنا إلى خاتمة الرواية التي اختارها بوملحة سيتكشف لنا الكثير مما لم نستطع إدراكه، ومن ثم ستنكشف أمامنا الإجابات على جميع الأسئلة التي دارت في أذهاننا؛ مما يُدلل على براعة الروائي في التخلص من عالمه الروائي بشكل منطقي، ومقبول بالنسبة للقارئ، ولنتأمل: "نهضت من على كرسيي. لم يكن مُتحرّكاً. ثمة شريط من الأقراص أمامي، تماماً كالّتي أعطاني إياها قائد القارب، وابتلعت واحدة. فتحت عيني، كنت على سرير في مُستشفى، البق ينهش جسدي، والدي يبكي بجواري، لكني لم أر أمي. سائق التاكسي يرقد على أحد الأسرة وأخطبوط يلتصق برأسه، المُمرضة تحاول إزالته، الفاتح بلا كرش، ماركس الركضة يمشي أمامي، أختر ونفيد يبكيان على نجمة بحر غرست فيها المحاليل. رأيت الذي لا أعرف اسمه في سرير يقابلني. ثمة دخان يخرج من قناع الأوكسجين الذي على وجهه، بينما آدم سميث بجواره على كرسي مُتحرك، ويرتدي قناع أوكسجين آخر وينتحب، يقول بأن ابن أخته يعاني من سكتة دماغية، لوحة مُعلقة أمامي على الجدار، شعرت بالخوف. ألم كبير في ظهري، بالتحديد في العصعص، أغمضت عينيَّ، ثم فتحتهما، فوجدتني في مكان آخر، تحديداً في مسجد بن ظبوي الذي تفصله سكّة عن منزلنا. يراقبني القمر، كما لو أنه مُخبر مفضوح، بينما النوم أحصنة لا تأتي، فتفسح المجال لطيور اليقظة التي صارت على هيئة أطفال يقرعون الباب ويهربون، مُبددين بذلك رغبتي بقليل من النوم هرباً مما فعلت".

إن إغلاق بوملحة روايته بمثل هذا الاقتباس السابق يفتح أمامنا- كقراء- الأفق أمام العديد من الأحداث التي كانت غامضة علينا، وتداخلت في أذهاننا نتيجة لتداخل العالم الروائي، كما لا يفوتنا أن هذه الخاتمة تكاد أن تتطابق تماما مع المُقدمة الوصفية التي بدأ بها روايته، ومن هنا كان ذهابنا في البداية إلى أن أهمية البداية الوصفية التي استهل بها روايته سنُدرك أهميتها وجوهرها في العالم الروائي حينما نصل إلى نهايته، فالروائي بعد كل هذه المُغامرات والعوالم الغامضة والعجائبية يعود بنا مرة أخرى إلى البداية التي بدأ منها، لنعرف أن كل ما عشناه معه كان مُجرد هلاوس نتيجة لتناول الراوي للعقاقير المُخدرة.

هنا لا بد لنا من العودة عدة خطوات للخلف لتأمل العديد من الأحداث التي مرت من أمامنا من دون إدراك ماهيتها التي يصبو إليها بوملحة؛ فأثناء رحلته عبر الحدود، وحينما كان يعبر الحدود الساحلية لإيران، منحه قائد الزورق- الذي كان عراقيا- حبوبا ادعى بأنها ستساعده في التغلب على دوار البحر: "أخرج من جيبه حبة وأعطاني إياها لأبتلعها، أخبرني بأنها ستساعدني على دوار البحر، ثم استلقيت. ثمة قافلة ضخمة من الجمال، أتهادى على أحدها، أسمع صراخاً: دير كجين، أم القوافل الإيرانية. تخرج أجنحة ضخمة من ظهر الجمل الذي أمتطيه، نور في الأرض، مبنى ضخم على شكل مُربع مبني من أحجار بنية اللون، بوابته ضخمة، القباب تملؤه، إيوان في وسطه تطل عليه الغرف، أربعة أبراج دائرية في الزوايا وبرجين نصف بيضاويين على جانبي البوابة الرئيسية التي تقع في مُنتصف الجدار الجنوبي. هبط الجمل في الإيوان، لفّ رقبته ناحيتي: وصلنا. فتحت عيني خائفاً: وصلنا. نظر إليّ قائد القارب. رفع جهازاً له شاشة بالقرب منه يعاينه، فتح عينيه على وسعهما: وصلنا. أ، أ، أ، تقريباً. يفترض أن أكتبها ت، ت، ت، تقريباً"، ولعلنا نُلاحظ هنا أن هذا السرد العجائبي الذي كتبه بوملحة بعدما تناول راويه الحبوب يتناسب تماما مع هلاوس المُخدرات، وهي الهلاوس التي رأيناها فيما قبل على طول السرد الروائي، مما جعل الشخصيات تطير، وتموت ثم تعود للحياة مرة أخرى. وهو ما لمحناه مرة أخرى في: "ابتلعت حبّة. هجم عليّ الذي لا أعرف اسمه ودخان السجائر يخرج من فمه، انتزع شريط الحبوب من يدي، صفعني، ثم رماه بعيداً. ركض الدليل إلى الشريط، وقد اختفى بين الأشجار، ثم عاد يحمل كيساً كبيراً في يده. لقد كان سعيداً. أشعل النار، وغلى الشاي. ابتلع قرصين من الدواء، فاتسعت حدقتا عينيه. خفت أن تنتقل إليه الكرامات، فقد يكون لتلك الحبوب دور في ظهورها عليّ. سأفقد الهالة التي اكتسبتها عند مُرافقيّ، انتظرت أن يطير بين أغصان الأشجار، أو يحفر الأرض، ويفاجئنا بأن يخرج من جيبي. انتظرت كل ما فعله. أمسك بكأس الشاي بين يديه وحدق في الفراغ. انتظرت أن يتفوّه بحكمة، لكنه لم يفعل"، وهو ما يوضح لنا الأثر الحقيقي لتناول المُخدرات التي كانت توهم الراوي بأنه صاحب كرامات ومُعجزات، أي أن ظنونه بكونه نبيا، أو إلها، أو صاحب مُعجزات لم تكن سوى هلاوس المُخدرات وأثرها عليه.

إن اعتياد الراوي على تناول الحبوب المهلوسة كان قد بدأ أثره يظهر عليه حينما انتقل إلى مُعسكر بعثة الإغاثة الدولية في اليمن، وهو ما جعله يشعر طوال الوقت بالتعب، والرغبة في القئ: "فجأة وجدت وجهي في مرحاض أرضي. مرة تلو أخرى حتى أصبح قيئي أصفر اللون. لعاب شفاف كان يسيل على شفتيّ. أمسكت رأسي واستلقيت، ثم نهضت لأغسل وجهي وأتمضمض. فتحت الباب لأتفاجأ بمجموعة من الأشخاص ينتظرون خارج الحمام. سألني رئيس البعثة عما أعاني. يبدو أن أحدهم أخبره بأنني أتقيأ يومياً. لو كنت مكانهم كنت ابتعدت خوفاً من إصابتي بمرض مُعدٍ. سألني إن كنت أودّ العودة إلى عدن ومنها أستقل طائرة تعيدني إلى الإمارات. رفضت وقلت: إنه أمر يحدث لي كثيراً. لا حاجة حتى لأن يعاينني طبيب البعثة".

إذن، فمعرفتنا لاعتياده على تناول الحبوب الملهوسة قد فسر لنا العديد من الأحداث التي كانت غامضة علينا، وهو ما جعل رؤسائه في البعثة راغبين في إعادته إلى الإمارات بسبب ما يحدث له: "اقترح مرافقونا اليمنيين أن أعود لعدم قدرتي على التحمّل وإصابتي بالمرض، لقد حسبوا أنني سأغيب عن الوعي، إذ ما إن خرجت حتى أغلقت عينيّ، أخبرتهم بأنني مُعتاد على هذا الأمر، بعد أن أتقيأ يعود جسمي خفيفاً وأستعيد عافيتي سريعاً. أخبرت رئيس البعثة بأنني بخير، وضرب كتفي، وبأعلى صوته قال: لنكمل عملنا"، لكن إيمان رئيس البعثة بمقدرته على الاستمرار معهم لم يستمر بسبب تفاقم حالته الهذيانية، وتكرار القيء كثيرا، ومن ثم أعاده مرة أخرى إلى الإمارات عن طريق مطار الخرطوم: "آخر ما سمعته بأنهم قد عرفوا مكان المُعسكر. ثمة يد تربّت على ظهري، فصحوت، لقد كان مسؤول الإغاثة. فرحت لرؤيته، وانتظرت أن يضرب كتفي ويقول: لنكمل عملنا. أشار إلى سيارة متوقّفة: حقيبتك فيها. لم يقل غير تلك الجملة. ركضت إلى حيث أشار، لن أتخلّف عن أداء واجبي، إنها مهمة تنتظرني في مكان ما. جلست في الأمام، ولم يتفوه مُرافقي بأيّ كلمة، ينظر إلى الشارع، ولا يلتفت ناحيتي. أترقب التفاتته أتحدّث معه، لكنه لم يردّ. كم أحبّ السفر"، أي أنه رغم صدور الأمر بإعادته مرة أخرى إلى الإمارات إلا أنه ظن- نتيجة لهلاوسه- بأنه في مهمة جديدة لا بد له أن يؤديها.


هذه الهلاوس تتبدى لنا في غير موقف، وهي المواقف التي كان عبيد بوملحة كثيرا ما يبتكرها، وإن لم يصرح لنا بالسبب فيها، ليترك لنا مُتعة اكتشاف المعرفة مع ختام روايته، ولنتأمل: "أمسك بيد أختر، وأنا أشعر بأننا سنودعه هنا، بعد أن نغادر المطعم. عبر الذي لا أعرف اسمه الشارع، وأكمل أختر طريقه، أما أنا فقد تعثرت؛ فقد صدمت أختر سيارة، ورأيته يحلّق عالياً في السماء، بلا جناحين. إنه وليٌّ صالح، يرتفع مثل المسيح. وددت لو نلت بركاته قبل أن يرتقي مكاناً عليا. أصبح نقطة سوداء صغيرة جداً، في البعيد. صرخ الذي لا أعرف اسمه، فعاد. وقبل أن يرتطم بالأرض شعرت بدوار يضرب رأسي، وأصوات مُختلطة تطرق جمجمتي. أغمضت عينيَّ، وانفصلت كروائي غرق في فكرته. لقد كانت غيبوبة صحوت منها دون أن أعرف كم دامت. أما أختر، فقد أصيب بكدمة كبيرة على جبهته، وجروح وسحجات على وجهه ويده. كانوا يبتسمون لي، أختر والذي لا أعرف اسمه ونسخة أخرى من الذي لا أعرف اسمه، أو أحد آخر. يبدو بأنه أكبر منه قليلاً. ما الذي حدث؟ لقد أثرت الحبوب عليّ، فأسندوني على الجدار، يرشون الماء على وجهي. راح أختر يمسح وجهي ويلعق يده ومن ثم يمسحها على جسده وتحت إبطيه، يحث الذي لا أعرف اسمه على أن يفعل مثله لأنه اكتشف شيئاً مُذهلاً. مسح الماء المُتساقط من جسدي على إبطيه، يجعل رائحة عرقه النتنة تختفي. فعل زاد مثله، وضع يده في بنطاله يدعكها بين وركيه. نظر إليه أختر بإعجاب، وفعل مثله. دفعتهم، ونهضت، أخبرهم بأنّني جائع جداً".

ربما نُلاحظ هنا أن الجميع يبدون لنا وكأنما قد تملكتهم الهلاوس؛ فهو يعتقدون في كراماته، حتى أنهم يتبركون بعرقه. لكن هل حدث ذلك بالفعل؟

إنه الارتباك الذي يوقع فيه بوملحة قارئه، حتى أنه تكاد أن تذهب بنا الظنون بأن الرواية بأكملها، وجميع أحداثها لم تحدث بالفعل، وإنما كانت مُجرد مجموعة من الهلوسات التي رآها الراوي الجالس في مسجد بن ظبوي، أي أنه لم يغادر مكانه طوال السرد الروائي، بينما غادرت مُخيلته إلى هذه العوالم العجائبية نتيجة لتناوله للمُخدرات، وهو ما يفسر لنا تداخل العوالم وعدم وجود أي فواصل بينها: "وضعت يدي في جيبي، ففوجئت بشريط الحبوب على حاله لم يُمس. اعتقدت بأنّ الذي لا أعرف اسمه قد رماه في رحلة العودة وليس قبلها، لا يهم. مددت يدي إلى الذي لا أعرف اسمه، غضب مني، إذ حسب أنني أخبئه ولم أتخلص منه. حاولت أن أخبره بأنني مُستغرب من ذلك، فقال: هذا هو وقتها. وابتلع حبة. لماذا إذن تخلص منه بعد ذلك؟ لا أفهم ما حدث! لقد تشابكت الأزمان في ذهني، واختلطت. خشيت أن يرمي الشريط أو يختفي، فابتلعت كل ما فيه، احتجت أن أفعل ذلك لأخفف من وطأة الحزن على أختر، رغم أني لم أحزن بمقدار هذا الحزن عندما دفنا نفيد، ربما لأنني عاشرت الأخير فترة زمنية أطول".

تأتي رواية "أطياف على كراسٍ مُتحركة" للروائي الإماراتي عبيد إبراهيم بوملحة كضرورة فنية، لا غنى عنها من أجل اكتمال عالمه الفني، ومشروعه الروائي الذي يعمل عليه مُنذ سنوات، وهو المشروع الذي يثبت لنا- رواية تلو الأخرى- على أن بوملحة مُنكب بكليته على ما يقوم به، مهموم بالعالم الفني الذي يخوض فيه، وهو العالم الذي يكتسب فرادته، واختلافه البيّن عن الآخرين بأسلوبية الروائي، واهتمامه البيّن بالخيال، ومحاولة القفز به إلى أماكن جديدة لم يخضها من قبل، فضلا عن حرصه على التجويد فيما يكتبه، وهو ما يتضح لنا من اكتمال السرد، واستعداده الدائم من أجل خوض عوالم فنية لا يُقبل على خوضها غيره من الروائيين؛ لصعوبتها، ولحاجتها إلى الاستغراق الكامل في الكتابة، والانفصال التام عما يحيط به من عالم واقعي قد يعوقه عن الاستمرار فيما يقوم به. هذه الاستعداداية الدائمة هي ما تمنح السرد طزاجته، ودهشته، وهما صفتان تعدان من أهم آليات الكتابة اللتين تعملان على جذب انتباه القارئ، والاستمرار في القراءة لحين انتهاء العالم الفني الذي بين يديه.

إن الانكفاء بالنقد والتحليل على المشروع الروائي للكاتب الإماراتي عبيد بوملحة من الضرورة بمكان، لا سيما أنه مُستمر على هذا المشروع لسنوات طويلة، عاملا على الخوض فيه بجدية نادرة لا نجدها لدى العديدين من الكتاب، حريصا على التجويد فيه، وإكسابه فرادة يختلف بها عن غيره من الروائيين.

 

 

 محمود الغيطاني

مجلة "نقد 21".

عدد نوفمبر 2025م.