إن قراءة المجموعة القصصية المُشار إليها تجعل السؤال يتردد على أذهاننا
غير مرة- طوال عملية القراءة، حتى الانتهاء منها- لا سيما أن الكاتب هنا يحاول
الاعتماد على أساليب وتقنيات في الكتابة لا يمكن لها أن تُساعده على السرد بشكله
الفني اللهم إلا إذا ما كانت هناك مسافة- حادة وواضحة- بينه وبين العالم القصصي
الذي يحيكه، مما يعني أن الكاتب هنا يمارس عملية القص من الخارج، أي يتأمل العالم
القصصي الذي يعمل على بنائه من خلال مسافة كافية، ومن ثم يبدأ في النسج بتؤدة
وأناة من دون التورط في هذا العالم بالسقوط داخله، أو الانحباس داخل أحداثه، أو
التأثر به وبشخصياته، أو حتى التعاطف معهم، وهو ما يعني- أيضا- أن العملية
الإبداعية هنا قد باتت عملية عقلية، جافة، باردة، أكثر من كونها عملية شعورية
تتمتع بالحميمية، والتورط الشعوري الذي قد يُفقد النص القصصي منطقيته في بعض
الأحيان- رغم أهمية هذا التورط في العملية الإبداعية.
إذن، فالعملية الإبداعية لدى القاص محمد جعفر هنا هي أقرب إلى العمليات
الحسابية العقلانية التي تستدعي الكثير من التيقظ وإعمال العقل- بالنسبة للكاتب-
وهو ما يتيح له مساحة أكبر من التجريب، واستخدام تقنيات فنية من شأنها إدهاش
القارئ، ومقدرة الكاتب على امتلاك زمام عالمه القصصي، وتوجيهه- التلاعب بالعالم
القصصي قدر المُستطاع- فهو ينسج العالم من الخارج- الإله المُتحكم في العالم- أي
من خلال مسافة، وهو ما يتيح له رؤية كلية شاملة لهذا العالم ما كان له أن يمتلكها
لو كان متورطا داخل عالمه القصصي، محاولا بنائه من خلال التورط الشعوري.
لكن، هل يعني ترك تلك المسافة ما بين المُبدع والنص الإبداعي؛ تجريد القصة
من هذا الرابط الشعوري- الذي لا غنى عنه- وهو الرابط الشبيه بالحبل السُري ما بين
كل من الكاتب والعالم الذي يصوغه؟ فالعالم القصصي في جوهره يقوم، ويكتسب وجوده،
وحياته، ومقدرته على التنفس بحيوية من خلال هذا الرابط.
لا يمكن التغاضي عن حقيقة أن العالم الإبداعي لأي مُبدع إنما يعتمد في
المقام الأول على تورط الكاتب في عالمه الذي يصوغه، وهو التورط الذي يجعل الكاتب
مُتعاطفا إلى حد ما مع شخصياته، وأحداث عالمه الفني، وسلوكياتهم، حتى أنه قد
يتعاطف مع إحدى الشخصيات أكثر من غيرها مما يجعله مُنحازا لها، موافقا على أن تقوم
ببعض الأفعال غير المنطقية لمُجرد الميل إليها، لكن هذا التورط داخل العالم
الإبداعي من شأنه أيضا العجز عن رؤية العالم الفني بشكله الكلي- الرؤية الخارجية-
فالكاتب مُنغمس بكليته- نتيجة لتورطه الشعوري- داخل العالم، مُندمج مع شخصياته،
يكاد أن يكون واحدا منهم، يتفاعل معهم بحميمية- ربما تنبني تصرفاته على تصرفاتهم-
وهو ما قد يجعله مُنساقا مع حركة الشخصيات القصصية ومنطقها الداخلي- أي فرض
الشخصيات القصصية لسطوتها عليه- مما يجعله عاجزا عن فرض تقنيات وآليات سردية جديدة
عليها لأنه في واقع الأمر يرى العالم الإبداعي- في هذه الحالة- من داخله، وليس من
الخارج.
إن رؤية العالم الإبداعي من الخارج- ترك مسافة ما بين المُبدع والعالم
الإبداعي- من شأنه إعطاء الفرصة للمُبدع للتلاعب بالعالم، والتجويد فيه، وتجريب
العديد من الأساليب السردية المُختلفة التي ما كان له أن يلجأ إليها لو كان السرد
من الداخل، لكنها في نفس الوقت تشبه إلى حد كبير السرد على الحافة- أي أنها قد
تؤدي إلى انهيار هذا العالم- لأن هذه المسافة التي يعمد إليها الكاتب قد تؤدي
بالعالم بأكمله إلى الجفاف، والبرود- الصقيع الشعوري- الذي يجرد العالم القصصي أو
الروائي من طبيعته، وإنسانيته، ومشاعره، ويحيله إلى شيء مصنوع لا روح فيه، ولا
حياة، ومن ثم يفقد المُتلقي مقدرته على التعاطي مع هذا العالم، أو التعاطف مع
شخصياته، فيسقط الكاتب في هوة التجريب الذي لا معنى له، ولا طائل من اللجوء إليه.
هنا- وعند الوصول إلى هذه النقطة- لا بد من طرح السؤال: كيف تعامل القاص
الجزائري محمد جعفر مع هذا الأمر، وهل نجح في تقديم قص إبداعي يمتلك من الروح
الإبداعية والشعورية ما يجعل القارئ قادرا على التعاطي معه، والتأثر به، أم كان
لجوئه إلى ترك هذه المسافة- القص من الخارج- سببا في تجريد العالم القصصي من روحه،
ومن ثم سقوطه في الجفاف والبرودة، وفقدان التأثير بسبب الانسياق إلى العديد من
الألاعيب الفنية الخاضعة إلى حد كبير للعقل والتجريب، والمُغامرة؟
نلمح هذه المحاولة الخاضعة إلى حد بعيد للعقل والإدراك والتجريب في قصة
"صوت" التي افتتح بها القاص مجموعته القصصية، حيث مال الكاتب إلى ما
نُطلق عليه في المسرح إسقاط/ كسر الحائط الرابع، وهو التعبير المسرحي الذي كثيرا
ما لجأ إليه الكاتب المسرحي الألماني Bertolt Brecht برتولت بريخت، والذي يعني كسر الإيهام بعدم وجود المُتلقي/
الجمهور بالتوجه المُباشر إليه، وربما الحديث معه- نافيا من خلال هذا الفعل حالة
التواطؤ الفني الناشئة والمُتفق عليها ما بين كل من المُبدع والمُتلقي.
نُلاحظ هنا أن الكاتب يعمل على كسر هذا التواطؤ مع مُفردته القصصية الأولى؛
فنقرأ: "من حوار مع الكاتب. س: هل تعتقد أن الأساليب التعبيرية السردية
الدارجة اليوم هي وليدة الابتكار والتجديد؟ ثم إلى أي مدى تراها تُسهم في نقل
هواجس وانشغالات الكاتب؟".
إن جملة "من حوار مع الكاتب" التي بدأ بها القاص قصته تُحيل
القارئ بشكل مُباشر إلى إيهام تجريد القصة بالكامل من إمكانياتها الإبداعية إلى
مُجرد إخبار بأمر ما؛ ومن ثم يكون السرد التالي على ذلك بكليته جزءا من جنس سردي
آخر، ومُخالفا لما نحن بصدده، فلقد خرج للوهلة الأولى من الإبداع القصصي إلى
الإخبار الصحفي.
لكن، مع الاستمرار في قراءة القصة يتبيّن لنا أن القاص إنما يهدف من وراء
هذا الشكل من الإيهام إلى التهكم، أو السُخرية من الكثيرين من المُبدعين الذين
يتناسون أن مهمتهم الرئيسية هي الإبداع، وليس التنظير؛ فكثير من المُبدعين يخرجون
علينا ليل نهار بالكثير من الآراء والرؤى النقدية، والتنظيرية مُتناسين في ذلك
هدفهم الرئيس من العملية الإبداعية، وهو تجويد ما يقومون بكتابته، ومحاولة الوصول
به إلى الاكتمال بإدخال المزيد من الآليات والأساليب الفنية إلى سردهم، وإتقان
العملية السردية، لكنهم بدلا من الانكباب على كتابتهم الإبداعية بشكل عملي- ليس في
حاجة إلى التنظير- يتناسون هذه المهمة بالكثير من الأحاديث، واللغط، والثرثرة التي
لا معنى لها؛ ومن ثم تغلب آرائهم النقدية التنظيرية على أسلوبيتهم الإبداعية،
ويتحولون- رغما عنهم- إلى مُجرد مُثرثرين أكثر من كونهم مُبدعين- فهم في المرحلة
الوسطى ما بين الإبداع والنقد التنظيري، غير قادرين على الانحياز لأي منهما لرغبتهم
العارمة في الثرثرة والتنظير أكثر من العمل الجاد على كتابتهم وتجويدها.
القاص هنا يحاول التعبير عن آفة العصر والوقت الآني الذي نحياه، وهي
الاستعراضية. إنها الاستعراضية التي تؤكد على أن صاحبها فارغ إلى حد بعيد، مُهتز،
غير واثق من نفسه، أو من ثقافته، أو من مقدرته على الإبداع من دون شرح أو تعليل
لما يقوم بفعله، في حين أنه لو ركز على ما يقوم به من عملية إبداعية بدلا من هذا
التنظير؛ لنجح إلى حد بعيد فيما يقوم به، ولاكتسب المكانة التي يسعى إليها بالقليل
من الكلام، والكثير من الاجتهاد في الكتابة، ومن دون تفسير.
إن محاولة الظهور الاستعراضية التي يقوم بها المُبدع هي ما يشغل القاص في
هذه القصة، بمعنى أنه تأمل فيما حوله، ولاحظ تفشي هذه الظاهرة بين الكثيرين من
المُبدعين، وهو ما دفعه إلى محاولة التعبير عنها بشكل إبداعي، وبالتالي لجأ إلى
هذا الشكل الفني الذي استدعى كسر ما يُسمى في المسرح بالحائط الرابع، فضلا عن
تراجعه خطوات بعيدا عن النص الإبداعي الذي يعمل عليه- أي ترك مسافة بينه وبين
النص- وهو ما أدى في النهاية إلى تشكل النص القصصي بمثل هذا الشكل الذي يبدو لنا
للوهلة الأولى مُجرد رأي نقدي، ولنتأمل: "ج: الرهان الأساسي في العملية
الإبداعية- ومُنذ البدايات- كان في كيفية القول. وإذا كان البحث عن إمكانات جديدة
وغير مسبوقة بغرض الإمساك بتعقيد الوجود والظرف الإنساني لا يزال ضرورة لا مناص
منها، فإن الإغراق في الذاتية سمة الأدب في العصر الحديث. ولعل أبرز تجليات
الذاتية اليوم أو سَقْطها تلك الشعرية البغيضة التي تقوم على تجييش المشاعر
واستفزازها عبر مجازات مفضوحة هي أقرب إلى هذر العاجز، شعرية أشبه بجلسة تعذيب
مُتقنة. الاعتراف فيها يكون من غير معنى، ويشير إلى تخلي الأدب عن دوره ومسؤوليته.
ولأنه لا يمكن التأكيد على فاعلية الأدب إلا عبر التأكيد على جوهره، فإن الكشط
والحفر في اللحظة، ومحاولة الإمساك بها والتركيز على الجوهر بعيدا عن اللغو والوصف
وما لا فائدة منه في استعراض غير مسؤول للعضلات اللغوية والأدبية، هو الغاية متى
كان المُبدع واعيا بها حين الكتابة عنها. إذ يصير الوقوف وجها لوجه أمام بذاءة
العالم الغرض الكلي من الكتابة الأدبية".
ألا نُلاحظ هنا أن جعفر- فضلا عن
محاولة التعبير الفني عن هذه الظاهرة الاستعراضية بشكل قصصي- يحاول تمرير رأي نقدي
جاد من خلال قصته؟ أي أنه لجأ هنا إلى استخدام الحيلة الفنية- كسر الإيهام- التي
قد تجعل المُتلقي غير مُنتبه للرأي النقدي الجاد المُضمن في قصته؟ هذا من جهة، ومن
جهة أخرى فهو من خلال ما ساقه على لسان الكاتب في قصته إنما يؤكد على ما ذهبنا
إليه نقديا مُنذ قليل- خطورة التورط الشعوري في النص الإبداعي- وهو ما نُلاحظه في
"ولعل أبرز تجليات الذاتية اليوم أو سَقْطها تلك الشعرية البغيضة التي تقوم
على تجييش المشاعر واستفزازها عبر مجازات مفضوحة هي أقرب إلى هذر العاجز، شعرية
أشبه بجلسة تعذيب مُتقنة. الاعتراف فيها يكون من غير معنى، ويشير إلى تخلي الأدب
عن دوره ومسؤوليته".
إن لجوء القاص إلى التصريح بمثل هذا الرأي النقدي على لسان كاتبه في قصته
يُفسر لنا السبب في ركونه إلى وجود مسافة آمنة بينه وبين نصه، أي عدم التورط
الشعوري مع النص الذي يقوم بكتابته، وهو ما يسمح له ببناء عالم قصصي مُتزن، أقرب
للاكتمال من خلال استخدام تقنيات وأساليب فنية تساعده على ذلك، وهو ما رأيناه أيضا
في العديد من قصص مجموعته القصصية، كما يؤكد من خلال هذا الرأي النقدي- المُضمن-
إلى ضرورة اكتفاء المُبدع بدوره كخالق للعمل الفني- أي القيام بدوره الفني- وعدم
تخطيه إلى محاولة الثرثرة، أو التنظير، أو الشرح، أو التعليل لما يقوم به.
في قصة "الشك" يستعين الكاتب بتقنيات أسلوبية وفنية تؤكد لنا على
أن العملية الإبداعية لديه تميل إلى التجريبية العقلانية- باعتبارها تجربة معملية،
أو ذهنية- أكثر من ميلها إلى التجربة الشعورية- المُميز الأساس للإبداع- وهو ما
ذهبنا إلى تعريفه سابقا "بالقص من الخارج"، مع محاولة الحفاظ على الحد
الأعلى من الإبداع ومقومات السرد القصصي حتى لا يفقد السرد جاذبيته وروحه
الإبداعية؛ فيحاول التعبير عن شكوك إحدى الزوجات التي تجد في ثياب زوجها منديلا
ورقيا مكتوبا عليه رقم هاتف مجهول، ومن ثم تأخذها الشكوك، والاحتمالات، والهواجس،
والتفكير في صاحبة هذا الرقم، وإمكانية أن يكون زوجها على علاقة بامرأة غيرها،
وتبدأ الزوجة في وضع الاحتمالات والخطط التي لا بد أن تقوم بها من أجل معرفة
الحقيقة- التي من شأنها أن تُدمر حياتها في نهاية الأمر- لكنها بعد الكثير من
التفكير، ووضع الخطط والاحتمالات تُفضل تجاهل الأمر حتى لا تنهار حياتها؛ فوجود
زوجها في حياتها أهم من هواجسها، والوصول إلى الحقيقة التي تحاول البحث عنها من
خلال السيناريوهات التي فكرت فيها ووضعتها من أجل تنفيذها.
محاولة القاص هنا في بناء هذا العالم بشكل يكون فيه مُنفصلا شعوريا عن
شخصياته أدى به للجوء إلى استخدام الضمير الثالث- هو- وهو الضمير الذي يخلق مسافة
في القص بشكل تلقائي، ويجعل القاص غير متورط مع شخصياته الإبداعية، لكنه في نفس
الوقت يجعل المُبدع "راوٍ عليم"، أي إله يعلم كل شيء بشكل مُسبق، ومن ثم
تنحصر مهمته الإبداعية في الإخبار، ولنتأمل: "جرت العادة أن تُفتش الزوجة في
الثياب التي ستدفع بها إلى آلة الغسيل خشية أن تكون بها أشياء مهمة يمكنها أن
تتعرض إلى التلف والضياع. وبينما هي تفعل هذه المرة وقعت على منديل ورقي محشور في
الجيب الخلفي لسروال جينز يلبسه زوجها. كان المنديل مطويا بعناية فائقة، وحين
فتحته انتبهت أنه يتضمن رقم هاتف محمول كُتب على عجل بغير خط زوجها. حينها حملته
ووضعته على الطاولة قُرب السرير وعادت تُكمل أشغالها، لكن لم يمض وقت طويل حتى
عبرها خاطر مُريب أسر إليها بأن المنديل يتضمن سرا ما. وأخبرتها هواجسها أن الرقم
لا بد أن يكون لسيدة. فهل كانت تملك ما يعزز هذا الخيار؟".
إن لجوء الكاتب هنا إلى الضمير الثالث هو ما جعل القص يأخذ شكل الإخبار
العليم والمُحيط بكل شيء، أكثر من شكل الإخبار الناقص أو الجزئي- أي الاعتماد على
الكشف رويدا ليكون على قدم المساواة مع شخصياته القصصية في اكتشاف ما هو غامض
عليه- لذا نُلاحظ مُنذ البداية أنه يقوم بإخبارنا بواقعة يعرف تفاصيلها ونهايتها
التي ستنتهي إليها.
كما لا يفوتنا أن السؤال الذي انتهى به الاقتباس السابق ما كان يمكن للقاص
اللجوء إليه في حالة استخدام ضمير المُتكلم- التورط داخل العالم، أو التماهي مع
شخصية الزوجة- لذا فالضمير الثالث هنا كان أكثر الضمائر مُناسبة، لا سيما حينما
يستمر القاص في سرده ويبدأ في إخبارنا بالاحتمالات التي بدأت الزوجة في التفكير
فيها: "بدت عليها الخيبة حين لم تقع على غير رائحة المنديل المُعطر. أيضا لم
تكن مُستعدة لأن تستسلم. قد يكفي المنديل الورقي والرقم الذي عليه كحجة دامغة.
ولتتجاوز وساوسها رأت التالي: 1- أن تتجاهل الرقم وتهمله كشيء لا يعنيها مع
الإبقاء على وساوسها وعدم قدرتها على التخلص مما يزعجها. 2- أن تطلب الرقم لتقف
على صاحبه، مع احتمالين اثنين: الاحتمال الأول: أن يكون المُتصل به أنثى. الاحتمال
الثاني: أن يكون المُتصل به ذكرا. هذا مع غض النظر عما يدور في ذهنها إذا ما تحقق
الاحتمال الأول، لكون هذا الاحتمال يتوفر على فرضيتين اثنتين عكس ما كانت تراه هي:
الفرضية الأولى: أن يكون الرقم لأنثى، وتكون هذه الأنثى عشيقة زوجها، وهي الفرضية
التي لم تكن ترى غيرها وهي واقعة تحت الضغط. الفرضية الثانية: أن يكون الرقم
لأنثى، وتكون هذه الأنثى أي شيء آخر غير عشيقة زوجها (من الأقارب، زميلة عمل، سيدة
مُرتبط بها لأجل قضاء مصلحة ما) وهي الفرضية التي ظلت محجوبة عنها لاندفاعها
وهيمنة وساوسها عليها. وحتى لا نستبق الأحداث نعود إلى الزوجة والتي قررت الاتصال
لتقف على صاحب الرقم ومن يكون. حين همّت أن تفعل وجدت نفسها أمام طريقتين لفعل
ذلك: الطريقة الأولى: أن تطلب الرقم باستعمال هاتفها مُباشرة مع إمكانية أن يتعرف
عليها الطرف الآخر بدوره. الطريقة الثانية: أن تطلب الرقم باستعمال خاصية الرقم
المجهول".
مع تأمل الأسلوب السردي في الاقتباس السابق يتأكد لنا أن القاص ما كان يمكن
له اللجوء إلى هذا الشكل السردي- الإخباري، والقائم على الاحتمالات الذهنية
البحتة- لو لم يترك مسافة كافية بينه وبين النص الذي يقوم بكتابته، فهذه المسافة-
فضلا عن منحه المزيد من الحرية في وضع الاحتمالات- منحته المقدرة على بناء العالم
القصصي بشكل سردي وأسلوبي جديد يمنحه خصوصيته كقاص نتيجة تخلصه من التورط الشعوري
في عالمه القصصي، أي القص من الخارج الذي يجعله يتأمل العالم أمامه وكأنه لا يخصه،
وبالتالي يستطيع الحُكم عليه، أو السُخرية منه، أو وضعه تحت المجهر لاختباره؛
فالعالم هنا مُجرد شيء قابل لكل ما يرد على ذهن الكاتب نتيجة النظر إليه من
الخارج.
إنها الأسلوبية التي يعيها الكاتب جيدا، ويحاول إخبارنا بها بشكل جلي، وهو
ما لاحظناه في جملته: "وحتى لا نستبق الأحداث نعود إلى الزوجة والتي قررت
الاتصال لتقف على صاحب الرقم ومن يكون"، أي أن القاص هنا يؤكد لنا بأنه مُجرد
شاهد على ما حدث، ومهمته في هذا الأمر لا تتخطى أكثر من إخبارنا بما كان، حتى
لكأنه لا علاقة فعلية له بخلق العالم، أو محاولة نسجه، وتسييره كيفما شاء- اللعب
الفني الذي يمنح القاص المزيد من البهجة أثناء مُمارسته لعملية الخلق الفني بتحويل
السرد القصصي إلى عملية عقلية أو حسابية بحتة قائمة على الاحتمالات، وهو ما يمنحه
خصوصيته الإبداعية.
يستمر القاص هنا في لعبته العقلية بمُتابعة الزوجة التي حاولت الاتصال
بالرقم المجهول، لكنها حينما لم تتلق ردا؛ ازدادت شكوكها وهواجسها، ومن ثم بدأ
الكاتب في وضع المزيد من الاحتمالات القائمة على هواجس الزوجة: "مُحبطة وجدت
نفسها تحتكم لخطة جديدة. وراحت تستعرض أمامها مجموعة خيارات قلبتها على مهل: 1- أن
تترك المنديل على الطاولة لتتابع تصرف الزوج حياله. 2- أن تأخذ المنديل وتخفيه في
مكان لا يصل إليه الزوج، ثم ترقب ردود أفعاله، وهل سيسأل عنه. 3- أن تُفاجئ الزوج
أول ما يدخل بسؤالها عن الرقم ولمن يعود. تحاول من خلال ذلك مُحاصرته والتضييق
عليه. 4- بدل كل ذلك، يمكنها أن تسأل زوجها، وفي صيغة مُباشرة، لمن يعود الرقم.
وإذا لمست ما يريب طالبته أن يتصل بصاحبه في حضورها. هكذا فقط يمكنها أن تقف على
الحقيقة كاملة".
هذه الأسلوبية التي يعتمد عليها القاص محمد جعفر- لعبة الاحتمالات وتأمل
العالم القصصي من مسافة- لم يكن من المُمكن له اللجوء إليها لو لم يتخذ من آلية
القص من الخارج أداة له من أجل مُساعدته للوصول إليها، وهي الآلية التي تجعل
أسلوبية القص هنا مقبولة لدى المُتلقي، قادرا على التعاطي معها، ومع جدتها،
وطرافتها.
يستمر جعفر في مُتابعة هواجس الزوجة، وتذكرها لذكرياتها مع زوجها، وكيفية
تعرفها عليه، ووقوعها في عشقه، وكيف استمرت حياتهما معا، إلى أن يصل لقرارها
الأخير بالتخلي عن رغبتها في هذه المعرفة، والبحث وراء صاحب هذا الرقم- فالاكتشاف
والمعرفة من شأنهما أن يدمرا حياتها، وهو الاحتمال الأكبر- لذا يكتب: "إنها
وبأي حال لا تريد أن يختفي زوجها من حياتها إلى الأبد، لا ترغب في أن تجد نفسها
ذات يوم على السرير وحيدة دونه، لا تريد أن يحصل هذا. كما أنها موقنة أنها لا
تحتاج إلى شخصه، لكنها تحتاج إلى حضوره. هذا الحضور الذي يعني لها الكثير في بيئة
لن ترحمها إذا ما غاب تحت أي ذريعة أو ظرف. وحين سارت إلى الباب تفتحه كانت
مُتلهفة إلى لقاء أبنائها وتقبيلهم. كذلك شعرت بالشوق إلى زوجها. شوق يُعزز
احتمالا واحدا لا غير، ويلغي جميع الاحتمالات الأخرى".
إذن، فمن خلال هذه القصة يحاول القاص تأمل حالة عدم الثقة بين الزوجين- لا
سيما الشك الدائم غالبا من قبل الأنثى، وحالة الهواجس التي كثيرا ما تنتابها وتؤدي
بها إلى رسم الكثير من السيناريوهات المُدمرة- وهو الشك الذي من شأنه تدمير
العلاقات بين أي شخصين؛ لذا يعمل الكاتب على نسج تأملاته في عالم قصصي يغلفه
بالكثير من العقلانية، وآلية سردية تخصه.
ربما لا يفوتنا هنا أن هذه القصة تذكرنا إلى حد بعيد بالفيلم الروائي
القصير Mystery سر 2011م للمُخرج الروسي Andrey
Zvyagintsev أندري زفياجينتسيف، وهو الفيلم الذي رأينا
فيه الزوجة تُكلف مُحققا خاصا لمُراقبة زوجها في مُقابل مبلغ كبير من المال لشكها
فيه، ولكن، حينما يقوم الرجل بعمله، ويُقدم لها مظروفا فيه كل المعلومات التي
تحتاجها لمعرفة ما يخفى عنها؛ تشعر الزوجة بالخوف والتردد في فتح المظروف؛ لذا
تسأل المُحقق عما يحتويه مظروفه، وهل هناك ما يمكن أن يُمثل مُفاجأة لها، ليرد
عليها ببلاغة مُوجزة بقوله: هناك دائما شيء ما، الرجل غامض، وقد يكون للغموض
أسراره الخاصة، جميعنا نخفي شيئا عن بعضنا البعض، إذا ما كنت تحبين شخصا بالفعل؛
فدعيه يخفي ما يخفيه. وهو ما يجعل الزوجة بالفعل تقوم بحرق المظروف، وعدم الاطلاع
عليه، مُضحية برغبتها في معرفة ما هو خافٍ عنها لصالح علاقتها بزوجها، والمشاعر
التي تربط بينهما.
في قصة "الأعمى مُبصرا" يحاول القاص الإيغال في المُغامرة
القصصية باللجوء إلى المزيد من التقنيات غير المُعتادة في السرد والبناء القصصي
المُعتمدين على النظر من الخارج وكأنه يمارس لعبته المُفضلة، من خلال تناول قصة
بسيطة وساذجة- لفرط مرورها علينا وتكرارها- تتحدث عن شخصين كانا مُرتبطين عاطفيا
فيما سبق أيام دراستهما، ولكن بعدما انتهيا من الدراسة كان عليه أن يؤدي الخدمة
العسكرية الإلزامية أولا كي يستطيع الحصول على عمل يُساعده على المعيشة والزواج
منها. نعرف أنها قد وعدته بانتظاره لحين تأديته للخدمة العسكرية التي لا مناص
منها، لكنه بعد الانتهاء من الخدمة لم يستطع إيجاد عمل بسهولة، كما يُفاجأ بأنها
قد اختفت، وعجز عن تقصي أخبارها، أو معرفة أي شيء عنها، وهو ما جعله يظل مُخلصا
لها، ولم يحاول التعرف على أي فتاة أخرى، بل عاش مُتذكرا لها في الكثير من الأحيان
رغم اختفائها، إلى أن يلتقي بها مُصادفة في حفل ما، لكنه يُفاجأ بأنها في صحبة رجل
آخر- يبدو أنه زوجها- ورغم أنها تراه في الحفل معها إلا أنها تتجاهله، محاولة
الاهتمام البيّن والمُبالغ فيه بالرجل الذي يصطحبها- وكأنها محاولة منها للاحتماء
به من ماضيها مع حبيبها السابق- وهو ما جعله يستعيد حياته السابقة معها،
ومشاعرهما، ويصل في النهاية إلى أن قصة الحب التي كانت بينهما قد انتهت مُنذ سنوات
طويلة من جانبها، وكان لا بد لها أن تنتهي من جانبه أيضا؛ فلقد مارست حياتها،
وارتبطت بغيره في حين ظل هو- كساذج- مُحافظا على مشاعره، مُخلصا لها رغم غيابها
إلى أن اكتشف ما كان يجهله.
لكن، كيف صاغ القاص هنا من هذه الحكاية المُبتذلة- لفرط تكرارها في الحياة-
مُغامرة فنية من شأنها أن تجذب أنظارنا، وتجعل منها قصة فنية جيدة؟
يبدو لنا القاص هنا- في تلاعبه العمدي بالتقنيات السردية- وكأنما يتسلى
بدفع الوقت نتيجة لفرط شعوره بالملل، وهو ما يجعله يلجأ إلى ابتكار هذه الأسلوبية
كحيلة منه لمرور الوقت المُكتسب لثقله وكثافته نتيجة لتوقفه. بمعنى آخر: ثمة شعور
ينتابنا حينما نقرأ هذه القصة بأن القاص قد بدأ في كتابتها لمُجرد شعوره بالملل
الشديد المُسيطر عليه، وبالتالي كانت كتابته لهذه القصة تحمل وجهين: وجه فني
بكتابة عمل فني يبدو مُبتكرا في آليته السردية- المُغامرة الفنية، واللعب بتقنيات
السرد- ووجه براجماتي يرغب في التخلص من هذا الملل، والسكون الزماني الذي يشعر به-
أي إزجاء وقت فراغه.
هذا الإحساس الذي يتنابنا مع قراءتنا لهذه القصة يبزغ داخلنا للوهلة الأولى
نتيجة للآلية التي استخدمها القاص هنا، وهو ما نلحظه في: "كانت زميلة دراسة
حصل أن جمع بينه وبينها الحب. لاحقا افترقا، وظل طوال مُدة الفراق يحاول تقصي
أخبارها، لكن مُنيت جميع محاولاته بالفشل. ولم يعد يرد بخلده أنه سيعود ويلتقي بها
يوما. الآن، وبعد سنوات عديدة ها هو يقف أمامها من جديد (ثلاث سنوات بالضبط،
فصاحبنا دقيق في حساباته، ولا يمكنه أن يُخطئ استنادا إلى مُراجعات عديدة لا يمكن
الخوض فيها في الحين، وإن كان القارئ سينتهي إليها لا محالة متى واصل القراءة).
ألفى نفسه وسط حفلة تخرج لبى الدعوة إليها مُرغما ومُحرجا. وما فتئ يسأل نفسه طول
الوقت (وحتى بداية قصتنا طبعا) عن السبب الذي أوجده هنا. فلطالما اعتقد أنه لا
ينتمي إلى مثل هذه العوالم، كما لا يمكنه أن ينسجم معها بأي حال من الأحوال (إذا
لم تقتنع عزيزي القارئ بجو الحفلة؛ لك أن تقترح ما شئت: عرس، ختان، ليلة رأس
السنة، عيد ميلاد، دعوة على المسرح أو السينما، ندوة. ما يهمنا في الأصل هو الجمع
بين البطلين في بيئة واحدة حتى يحدث الاصطدام وتبدأ قصتنا، والتي هي إلى الآن لم
تبدأ بعد. اعتراف صغير لك طبعا: لو عرفت كيف أتخلص من كل هذه الديباجة لأبدأ قصتي
لفعلت، لكن كيف يمكن ذلك وأنا محكوم بعناصر القصة، تلك العناصر التي متى تجاهلتها
كنت عرضة لنيران النقد والنقاد)".القاص الجزائري محمد جعفر
إذن، فالقاص مُدرك تماما لما يقوم به، يمارس عملية البناء الفني بذهنية
نشطة واعية، حريص على الدخول بنفسه ككاتب إلى العالم القصصي، وهو هنا لا يحاول
التخفي من القارئ بقدر مواجهته، ومحاولة إدهاشه، والحديث المُباشر معه، وإبداء
المُلاحظات- كسر الإيهام أو إسقاط الحائط الرابع مرة أخرى، ولكن بشكل أكثر مُباشرة
ووضوحا- كما أنه لا يفوته أن يشرح لقارئه الأسباب التي تدفعه إلى الركون إلى آلية
فنية ما، أو الابتعاد عن آلية أخرى! أي أنه لا يخفي على قارئه بأنه يقوم بعملية
إبداعية، ويكتب له قصة ما، بل ويشركه معه في الكتابة، مُفضيا إليه بما يدور في
ذهنه من أفكار، ساخرا من العملية النقدية، والنقاد الذين كثيرا ما يؤاخذون الكتاب
على ما يقومون به، وهو ما يجعل هؤلاء الكتاب مُضطرين إلى اتباع بعض الخطوات
الإبداعية التي قد يكونوا غير مُقتنعين بها؛ لمُجرد إرضاء النقاد في نهاية الأمر.
إذن، فالقاص هنا يمارس شكلا من أشكال المُغامرة الفنية- ربما تحت وطأة
الشعور بثقل الوقت- لكنه رغم نجاحه في هذا الشكل الفني المُقنع، واستخدامه لآلية
كسر الإيقاع الفني بالتدخل المُباشر منه ككاتب، إلا أنه يبدو لنا غير قادر على
الثقة في قدراته الفنية- الوقوع في التردد والاهتزاز الذي أشار إليه في قصته
الأولى، وهو التردد الذي ينتاب العديد من المُبدعين مما يدفعهم إلى اللجوء
للثرثرة، والتبرير، والتعليل، والتنظير النقدي، وشرح ما يقومون به، بدلا من المضي
قدما فيما يقومون بفعله، وتقديمه- وهو ما نُلاحظه في الصفحة الأولى من هذه القصة،
حيث نقرأ في الهامش: "كسر الإيقاع هنا، وفي هذا النص تحديدا، مقصود حتى لا
يحصل الاندماج. إنه شكل من التغريب، كذلك الموجود على المسرح"!
إن الكاتب هنا يهدم ما يقوم به من فعل فني ناجح- من دون أن يدري- بثرثرته
التي لا طائل من ورائها، ومُلاحظته التي أبداها في الهامش، أي أنه يحاول أن يقوم
بدور خالق العمل/ المُبدع، والناقد معا؛ وهو ما يؤدي إلى إضعاف العمل الفني وهدمه
كلية- فالقاص نفسه غير مُؤمن بما يفعله؛ فكيف يطلب من قارئه الإيمان به كسارد؟
وقوع القاص في مُنزلق الشرح والتبرير والثرثرة، ومحاولة التنظير النقدي لما
يقوم به يحمل في جانب آخر من جوانبه التعالي على القارئ، أي أنه يظن الجهل في
قارئه، وعدم مقدرته على استيعاب الآلية الفنية التي يمارسها في هذه القصة مما دفعه
للشرح والتبرير في الهامش؛ وهو ما يفقدها قيمتها الفنية لدى القارئ الواعي، نظرا
لتعالي القاص عليه، واعتقاده بأنه أكثر ثقافة، وفهما منه.
إذن، فلقد سقط الكاتب هنا في مُنزلقين: الثرثرة والتنظير، وهما ما انتقدهما
بشكل غير مُباشر في قصته الأولى التي افتتح بها مجموعته. والتعالي على القارئ
وافتراض الجهل فيه؛ مما أضاع جزءا غير هيّن من المجهود الفني الذي قام به في صياغة
وبناء هذه القصة التي تبدو لنا جيدة من الناحية الفنية، فالكاتب يُدرك بشكل واعٍ
تماما ما يقوم به من ألاعيب ومُغامرات فنية، لكنه يظن أنه أكثر ثقافة ووعيا من
قارئه.
يحرص القاص على الإيغال عميقا في مُغامرته الفنية بالاهتمام بالتفاصيل
السردية، والمزيد من المُلاحظات والتعليقات الموجهة للقارئ، مما يضفي على هذه
المُغامرة الفنية عمقا فنيا يتلاءم مع المجهود الذهني والفني الذي قام بهما،
ومُؤكدا في الوقت ذاته على أن ميله المُعد سلفا لترك مسافة بينه وبين نصوص هذه
المجموعة قد أفاده من الناحية التقنية والفنية أيما إفادة- من حيث ابتكار آلياته
السردية، وتأمل العالم القصصي بشكل أقرب إلى التجريب والاستغراق فيه- نلحظ ذلك على
سبيل المثال في: "كان لا يزال مشغولا بالنظر إليها. وكانت لا تزال مُهتمة
بالسيد الواقف إلى جانبها. كما كان هناك صديق له حضر في صحبته أخذ يرصد الجميع دون
أن ينتبه إليه أحد. قطع عليه هذا الأخير تواتر ذكرياته. وسأله في خبث محاولا
استدراجه للحديث: هل كنت تعرفها؟ هل كانت حبيبتك؟ إنها حبيبتي. أبدافع الغيرة قال
ما قال؟ أم بدافع الشهوة بعدما استثاره الحاضر وهو يحكم ماضيه ويشده بزند غيره؟ قد
يكون هذا ما نراه، لكن الواقع يقول شيئا آخر. فصاحبنا لا يبدو مُهتما لعدم التصديق
الذي عكسته ملامح صديقه، كما لم يشعر بأنه مُضطر لتبرير ما قاله، ولم يسع لإقناعه
بشيء. وعلى العكس من ذلك بدا مُتجانسا، مُتآلفا، مُتصالحا مع وجوده. مُقتنعا تماما
بما أورده كجواب. ولا مُباليا مد يده إلى طاولة أمامه. أخذ من صحن عليها شيئا من
المُقبلات ما لبث أن دفع به إلى فمه دفعة واحدة. وراح يمضغه على أقل من مهل. وكان
بذلك قد منح لنفسه فرصة أن يكون جوابه قاطعا مُوجزا مُختصرا، كما جعل من صمته عقب
جملته مُقنعا (عزيزي القارئ إذا بدا لك أنك أبدعت وأنت تطرح بديلا عن جو الحفلة،
فأنت هنا مُضطر أن تواصل إبداعك وتقنعنا بتعلّة تجوّز لنا بها رغبته في
الصمت)". أي أن القاص هنا لا يحاول إشراك القارئ معه في العملية السردية فقط،
ومحاولة إعادة صياغة العالم الفني، بل هو يطرح على القارئ إمكانية ترك مكانه-
كسارد فني- له كي يقوم المُتلقي بالعملية السردية بأكملها- تبادل الأمكنة- وهو ما
يؤكد لنا على فنية الأسلوبية التي لجأ إليها القاص في صياغة قصص المجموعة.
يستمر القاص في مُتابعة بطله ليختتم القصة بكتابته: "فارا بنظره منها
إلى ما حوله، ومحاولا الانشغال عنها بجو الحفلة (الحفلة التي لم يشعر للحظة أنه
ينتمي إليها) تلفت انتباهه إحداهن وهي تبتسم له. تروقه فيبتسم لها بدوره، مُعبرا
عن ودٍ خالص. ثم وهو يفكر في الخطوة التالية كان لسان حاله يقول: (أو كنت أنا من
يقول، أشبه في ذلك الجدات وهن يختمن حكاياتهن بخلاصة أو حكمة. مع اعتراف بسيط أن
هذا لم يكن واردا أو مطروحا وأنا أبدأ هذه القصة) كل عقيدة هي صادقة ما لم يخذلها
الزمن، أو تخنها التجربة، أو يلوي زمامها المحك. وعلى المرء أن يتحلى بالقدرة على الإيمان
بعقائد جديدة بدل تلك التي كان يؤمن بها ولم تقده قط إلى بر الأمان".
ألا نُلاحظ في هذه الفقرة الأخيرة التي اختتم بها القاص قصته أنه قد هدمها
تماما من الناحية الفنية بدلا من محاولة إغلاقها بشكل فني؟
إن الكاتب هنا يبدو وكأنه يحاول التفلسف، أو إظهار الحكمة العميقة، أو أنه-
في واقع الأمر- لا يمتلك المقدرة، أو لا يعرف الكيفية التي يستطيع من خلالها إغلاق
قصته، كل هذه الأمور قد دفعته إلى اللجوء لجملته الأخيرة التي تشبه الحكمة
المُستخلصة من الحياة/ الحكاية في جوهرها، وهو ما أضعف بنية القص الفني إلى حد
بعيد. ورغم أن الكاتب قد أفضى لنا بأنه مُنتبه تماما، ومُدرك للجوئه إلى الإغلاق
بهذه الحكمة الساذجة، إلا أن إدراكه لما قام به ليس مسوغا له للفعل في حد ذاته،
ولا يمنحه شرعية القيام بذلك؛ لأنه أدى إلى التفريط في كل المجهود الفني الذي قام
به مُنذ بداية القصة؛ فلقد كان من المُمكن للقاص أن يتوقف عند مُبادلته للابتسام
مع "إحداهن" التي ابتسمت له، ولا يحاول التزيد، وبذلك يكون قد أغلق قصته
بشكل فني، ولكن يبدو أنه قد انساق من خلف شهوة السرد التي أدت به إلى السقوط
المُباشر بإخراج القص من مجاله الفني إلى مجال الجدات وحكمهن- وهو ما لا علاقة له
بالفن.
في قصة "التباس" يحاول الكاتب- جاهدا- ابتكار المزيد من تقنيات
السرد القصصي الجديدة التي من شأنها إدهاش القارئ، ولكن يبدو أن المسافة التي
يأخذها الكاتب من السرد القصصي قد اتسعت كثيرا هذه المرة؛ مما أخضعها للصنعة
والتكلف، والابتعاد بالقص كثيرا من محاولة التجديد الفني، واللجوء إلى تقنيات
سردية وفنية جديدة كمُغامرة فنية إلى محاولة النحت الذي لا طائل من ورائه في
التجديد مما أفسد القصة- رغم جودة عالمها- فبدت لنا وكأنها مُجرد حشو لا معنى له،
وتكرار مُثير للكثير من الملل.
يتناول الكاتب في هذه القصة جريمة قتل لشرطي على يد شخص مجهول في أحد
الأحياء السكنية، وهو ما يجعل رجال الشرطة يطوقون المنطقة بالكامل، ومن ثم يحاولون
الهجوم على إحدى البنايات التي يشكون في أن القاتل يحاول الاحتماء بها. يهجم رجال
الشرطة على رب أسرة، ويعتقلونه بشكل مهين أمام أسرته وأطفاله: "هكذا وضعوا
يدهم على المُتهم. قيدوه بعدما تلقى ضربة مُوجعة على رأسه بمُؤخرة كلاشينكوف أفقده
توازنه. وأعلن قائد العملية في نبرة انتصار وهو يفرد صدره: ها قد وقعت أيها
الإرهابي القذر. فتشوا المكان في حذر شديد أملا في العثور على قطعة سلاح مُحتملة،
أو منشور سري يكفل لهم تجريم المقبوض عليه. وحين لم يجدوا في حوزته ما يريب أصابهم
التشوش. أهانوه وانهالوا عليه بالضرب أمام أبنائه وزوجته. واقتادوه أمامهم مُنحني
الجذع يلبس بعضه كجورب نُزع على عجل ولا يساوي نكلة".
ربما لا بد لنا من التوقف أمام هذا الاقتباس السابق من أجل تأمل أسلوبيته
قبل الاستمرار في مُتابعة تلك القصة. فبغض النظر عن الخطأ الأسلوبي واللغوي الذي
وقع فيه الكاتب بكتابته "هكذا وضعوا يدهم على المُتهم"، حيث لا يمكن
استخدام المُفردة "يدهم" للجمع هنا، بل لا بد من استخدام مُفردة
"أيديهم" لأن رجال الشرطة لا يمكن أن يكون لهم يد واحدة يضعونها على
المُتهم- حتى لو ذهب الكاتب لتبرير الأمر بأنه يقصد أن رجال الشرطة هنا في مقام
الرجل الواحد؛ لأن هذا التبرير، على فرضية اللجوء إليه، لا يسوغ الخطأ من الناحية
الأسلوبية.
نقول: رغم هذا الخطأ الأسلوبي الذي لم ينتبه إليه القاص، فثمة جمالية
أسلوبية أخرى في نهاية الاقتباس، وهي الجمالية التي تتبدى لنا في صياغته لجملته
"واقتادوه أمامهم مُنحني الجذع يلبس بعضه كجورب نُزع على عجل ولا يساوي
نكلة"، فصياغة الجملة هنا وتشبيه الرجل بالجورب الذي نُزع على عجل مما جعله
منحني الجذع وكأنه يلبس بعضه بعضا فيه من البراعة التشبيهية والجمالية الأسلوبية
ما يجعلنا نتخيل مشهد الرجل بعدما قبض عليه رجال الشرطة، ولعله لا يفوتنا استخدامه
في نهاية الجملة لمُفردة "نكلة" في قوله "لا يساوي نكلة" وهي
في جوهرها مُفردة تخص الثقافة المصرية مما يُدلل على سطوة هذه الثقافة على
الآخرين؛ فالنكلة هي عملة مصرية قديمة كانت تُقدر قيمتها باثنين مليم، وكانت تُصنع
من الفضة، ويعود سبب تسميتها إلى عملة "النيكل" البريطاني والمصنوعة من
مادة النيكل كروم، ومن التعبيرات الشائعة في المُجتمع المصري قولهم: "هذا
الشيء، أو هذا الشخص لا يساوي نكلة" للتدليل على عدم قيمته، أو تدنيه، أي أن
الجملة كانت تُستخدم في واقع الأمر للتحقير من الشيء أو الشخص- فالنكلة لا تساوي
شيئا أمام الجنيه الذي يُعادل 1000 مليم، في حين أن النكلة تساوي مليمين فقط.
أثناء التحقيق مع الرجل يحاولون معرفة أين أخفى سلاحه، وما هي الجهات التي
يتعاون معها، لكنه يؤكد لهم بإصرار على أنه لم يرتكب أي جريمة ولا علاقة له بالأمر
مما يجعلهم يلجأون إلى تعذيبه وإهانته من أجل إرغامه على الاعتراف بارتكابه للجرم:
"عزلوه، وخلال مُدة حجزه لم يسمحوا لأحد من معارفه بزيارته. كذلك سلطوا عليه
كل ألوان التعذيب. حاولوا أيضا انتزاع اعترافات منه تحت الضغط والإكراه. ومن شدة
الألم بكى كامرأة. وإذا قُدر له أن يبقى على قيد الحياة فلأن أجله لم يحن بعد، لأن
ما تعرض له كان ليقضي على ثور ضخم. لاحقا، وبدل أن يخلوا سبيله لعدم توفر الأدلة
أخضعوه لمُحاكمة صورية، وحكموا عليه بالأشغال الشاقة المُؤبدة. إذ يجب أن يكون
هناك مُتهم يُحملونه وزر القضية كلها".
هنا تبدو لنا القصة مُكتملة وجيدة إلى حد بعيد، لا سيما في تعبيريتها عن
الأنظمة الشمولية، ولجوئها إلى تلفيق التُهم للمواطنين الذين لا ذنب لهم، بل
ومحاولة تعذيبهم للاعتراف بما لم يقوموا به لمُجرد عجز هذه الأنظمة البوليسية لضبط
النظام، أو الوصول إلى مُرتكبي الجرائم؛ مما يدفعهم في النهاية إلى تلفيق التُهم
لأي كان كي يبدون أمام رؤسائهم قادرين على القيام بمهامهم المنوط بهم القيام بها.
لكن- ولأن الكاتب هنا قد انتابته شهوة الرغبة في ابتكار آلياته السردية،
ولابتعاد المسافة كثيرا هذه المرة بينه وبين القصة- نُفاجأ بأنه يستمر في السرد
بآلية غريبة لم يقدم فيها أي شيء جديد بقدر ما أوقع السرد القصصي بالكامل في
التكرار، ودفع به باتجاه الملل الذي لا طائل من ورائه، ولا فنية فيه. فلقد لجأ
القاص هنا إلى بناء قصته على شكل لوحات، بكتابة عناوين: اللوحة الأولى، اللوحة
الثانية، اللوحة الثالثة. أي أن الشكل القصصي هنا قد تم تقسيمه إلى ثلاث لوحات،
مما قد يوحي لنا بأن كل لوحة من هذه اللوحات هي استمرارية للقص في اتجاه جديد، أو
اتجاه مُكمل لما سبق أن قرأناه في اللوحة السابقة عليها، لكننا فوجئنا بأن كل لوحة
من هذه اللوحات هي نفس القصة السابقة عليها تماما بنفس المُفردات، ونفس الجُمل،
ونفس الأحداث، ونفس عدد الكلمات، ولم تختلف كل لوحة عما سبقتها سوى في طراز
السيارة البيجو التي دخلت الحي مع رجال الشرطة من أجل القبض على الرجل البريء:
"في الغد، وقبل طلوع الفجر تقدمت سيارة بيجو طراز 503، وشاحنة عسكرية، وحوالي
عشرين شرطيا من النُخبة داخل حي الدرب العتيق". وإذا ما كانت السيارة البيجو
في اللوحة الأولى من طراز 503، فلقد تم تبديلها في اللوحة الثانية إلى طراز 504،
وفي اللوحة الثالثة إلى 505 مع الحفاظ على كل ما سرده في اللوحة الأولى. أي أن كل
لوحة من هذه اللوحات هي صورة طبق الأصل من اللوحة الأولى؛ مما يدفعنا إلى التساؤل:
ما الداعي لمثل هذا التكرار المُمل بمثل هذا الشكل، وأين هي التقنية الفنية التي
رآها القاص فيما قام به، وكيف ظن أن هذا التكرار قد يفيد قصته، في حين أنه أضر بفنية
القصة- في جوهر الأمر- إلى حد بعيد رغم جودة الحدث؟
في قصة "المرأة التي سقطت من غيمة" نُلاحظ اهتمام القاص البيّن
بفكرة القطيع المُجتمعي، وهو القطيع الذي من المُمكن له أن يقود المُجتمع بالكامل
إلى الانهيار في حالة الانسياق إليه ولأفكاره النمطية- فقطيع الغوغاء غالبا ما
يمتلك قوة مُجتمعية بحشود ضخمة مما يؤدي إلى التأثير على الجميع.
يحاول القاص استغلال مسافته من السرد التي يخلقها على طول المجموعة- بينه
وبين قصصه الفنية- بتقسيم الشكل البنائي للقصة هنا إلى مجموعة من المقاطع، ليضع
عنوانا فنيا لكل مقطع من هذه المقاطع؛ حتى لكأنه يضم مجموعة من الأقاصيص داخل قصة
قصيرة واحدة مما يُدلل على اهتمامه البيّن بشكلانية البناء الفني للقصة؛ لذا نقرأ
بعد العنوان العام والشامل مُباشرة عنوانا آخر جانبيا: "ابتكار الألم"،
ومع الاستمرار في قراءة القصة تتتالى العناوين الجانبية المُختلفة: "كيف ترسم
قوسا، كيف ترعاه"، و"عطفا على القطيع"، و"ما أوحت به
الغيمة".
يبدو لنا الأمر هنا- للوهلة الأولى- كأنما الكاتب قد كتب أربع أقاصيص قصيرة
جدا، تدور جميعها في عالم فني واحد، وتحمل نفس الشخصيات القصصية- مُتتاليات قصصية-
ثم جمع هذه الأقاصيص الأربع مع بعضها البعض تحت عنوان جامع من أجل تشكيل قصة قصيرة
من هذه المُتتاليات، وهو شكل فني جيد يؤكد لنا على محاولة اجتهاد القاص قدر
الإمكان من أجل ابتكار ما هو جديد فنيا، ومُمارسة لعبته الفنية المُمتعة.
لكن، رغم هذه الشكلانية الفنية- ومع تأملها العميق- يتبيّن لنا أننا إذا ما
حاولنا التخلص منها بإزالة هذه العناونين الجانبية؛ ستظل القصة- تحت العنوان
الجامع فقط- مُمتلكة لفنيتها، لم ينقصها أي شيء، مما يعني أن لجوء الكاتب إلى هذه
العناوين الأربعة، وتقسيمه للقصة بمثل هذا البناء الشكلاني كان مُجرد مُمارسة للمزيد
من التجويد، والترصيع، والتجميل، واللعب، وهو ما يمكن أن يفيد السرد من الناحية
الجمالية، لكن حذفه لن يؤثر على العمل جماليا، ولا شكلانيا، ولا أسلوبيا.
يتناول القاص في هذه القصة حكاية امرأة تزوجت ممن شعرت تجاهه بالحب، لكن
أخاها كان قد حذرها من زواجها منه لأنه راغب في تزويجها من أحد أصدقائه، إلا أن
الفتاة رفضت سطوة أخيها عليها، وتسيير حياتها كيفما شاء، وكأنها حياته هو، ومن ثم
تزوجت ممن أحبته، لكن الشقيق أكد لها بأنه سيقوم بقتل الزوج، وهو ما قام به
بالفعل؛ مما أوقعها في حالة نفسية شديدة الصعوبة، لم تستطع تخطيها؛ وبالتالي لجأت
إلى الانتحار، لكنها تم إنقاذها فباتت مُجرد جثة حية على قيد الحياة: "إذن،
لم تقض خلال محاولتها الانتحار، بقيت حية تجر خلفها كل أيام النحس التي عاشتها،
تستعيدها ذاكرتها ولا تريد أن تُفلتها، وكانت كلما وقفت أمام نفسها عاودتها تلك
اللحظات مُشبعة بمرارة أكبر وأفظع. ظلت الذكريات تجلدها، ورغم الآلام التي كانت
تُسببها لها فإنها لم تكن لتؤدي إلى حتفها".
إذن، فالشخصية الرئيسية في القصة هنا تعاني الكثير من الألم المادي
والمعنوي بسبب مقتل زوجها على يد أخيها، وهو ما يُبرر لجوء القاص إلى العنوان
الجانبي الأول "ابتكار الألم"؛ فهي حينما لجأت إلى الانتحار كان الأمر
بمثابة التفنن في المزيد من الألم- بقتل نفسها- بعدما عانت الكثير منه بمُجرد
معرفتها بمقتل زوجها لأنها تزوجته، ولم تتزوج صديق أخيها الذي اختاره لها:
"أجزم أخوها أنه لن يتركها تهنأ بمن اختارته زوجا، وظل يصرخ في وجهها مثل
ضفدع مُنتفخ الأوداج أنه مُستعد لارتكاب جريمة حتى يمنعها عما اعتزمته. أضرت به
لما رفضت صديقا له اختاره لها، وأخرجه ذلك عن طوره. كرهته يومها كما عافت صديقه
حتى دون أن تراه. لا بد أنهما من طينة واحدة. وأصرت على من أحبت، ولم تكن تدري أن
أخاها سينفذ وعيده، وأن حبيبها سيُقتل وتسقط هي في الهاوية من بعده".
مع الانتهاء من الاقتباس السابق يتبيّن لنا أن الفتاة هنا تعيش في مُجتمع
ذكوري- شأنه في ذلك شأن مُعظم المُجتمعات العربية المُحيطة بنا- يرى أن المرأة لا
حقوق لها على الإطلاق حتى في جسدها ومُستقبلها، ومصيرها؛ ومن ثم فعليها الرضوخ لما
يقرره الرجال- الأب، الأخ، الزوج- وإلا سيتم تدمير حياتها على أيدي هؤلاء الرجال.
إلا أن فنية القصة وعمقها لم يتبديا لنا بعد- فحتى الآن نحن أمام حكاية
عادية وربما مُبتذلة لفرط تداولها في حياتنا الاجتماعية، وهو ما ينتبه إليه القاص
جيدا ويُدركه- لذا فهو يصب اهتمامه البيّن على المُجتمع من حولها، وهو المُجتمع
المُتمثل في النساء اللاتي يزرنها بعد إنقاذها من الموت بعد محاولة انتحارها:
"يتجاوزن مأساتها ويقفزن فوق جرحها، حتى إذا عدن تعجبن لإقدامها على
الانتحار، يغفلن عن دوافعها ويتغافلن عما فعله زبانية الظلام في حقها وحق زوجها،
أكثر من ذلك يتمادين، يقاضينها فقط لأنها أحبت ودافعت عن حبها جهارا، غير مقبول
هذا في عرفهن. يتشفين هذه المرة، تملأهن ضغينة لا يعلم أحد من أين رضعنها، أصابتهن
بدورهن اللوثة بعدما عم الوباء واستفحل، ولو كان الأمر بيدهن لشحذن السكاكين
بدورهن".
بغض النظر عن وقوع الكاتب مرة أخرى في نفس الخطأ الأسلوبي الذي سبق أن
نبهنا إليه فيما قبل، وهو استخدام المُفرد للتدليل على الجمع في "لو كان
الأمر بيدهن"، بدلا من "بأيديهن"، فهو يحاول هنا من خلال هذا
المقطع السابق التعبير عن ذكورية المُجتمع بالكامل، فالثقافة الذكورية- في جوهرها-
ليست مُقتصرة على الرجال، بل هي ثقافة مُجتمعية شاملة، يمارسها الرجال والنساء
معا، لا فرق في ذلك بين رجل وأنثى- وربما كانت النساء في هذه المُجتمعات هن من
يُنشئن الرجال على هذه الثقافة، مما يعني أن السبب الرئيس، والأول، والجوهري في
المُجتمعات الذكورية هن النساء اللاتي يربين أبناءهن على ضرورة السلوك الذكوري،
ومن ثم تعاني غيرهن من النساء معهن من هذه الذكورية المُتسلطة!
إن محاولة القاص التعبير عن ذكورية المُجتمع- النابع من المرأة في الأساس- تكاد
تكون من أفضل المقاطع القصصية في هذه القصة، لا سيما أنه لا يركز فقط على ذكورية
المُجتمع، بل يحاول التعبير- بشكل فني تلقائي، لا عمدية فيه- عن ثقافة القطيع التي
تسود مُجتمعاتنا في: "تهمس إحداهن وهي تهز عجيزتها الضخمة، تحاول أن تثبت على
وضع مُناسب: لقد ارتكبت خطيئة. توافقها باقي النسوة، بينما تستعجب أخرى: ما
يُحيرني، من أين حازت كل تلك القدرة؟ تلتفت إليها ثالثة بعدما ساءها ما سمعت: لا
يغرنك الأمر، إنه الجبن يا عزيزتي وعدم الثقة بالله. سريعا تعود صاحبتها فتوافقها
وهي تُمعن في هز رأسها. تزعق عجوز فقدت كل أسنانها: ما فعله أخوها يشرفه، دافع عن
عرضه بعدما لم يستطع ترويضها. وتعجب شابة لأمرهن، ولعلها تحلم بالحب أيضا: لكننا
لم نسمع عنها ما يُعيب، كما أنها لم تفعل ما يشين، فقط أحبت وتزوجت بمن أحبت!
تستحي أم الشابة لجسارة ابنتها وجرأتها وسط الحاضرات؛ تهتف تسترضي الجوقة: ماذا
تعرفين أنت؟ إنها مُجرد فتاة عابثة، ولقد رأوها تستحم مع الأولاد في (القلتا). يا
أمي، كان ذلك لما كان عمرها ست سنوات، أنا نفسي سمعت هذه القصة منك أكثر من مرة.
وتعود الأم فتقرص الشابة في فخذها، تدعوها بذلك إلى الصمت، وتردف بصوت تريده أن
يسود: لكن من غيرها يُخالط الذكور؟ يكفي أنها تعمل مُمرضة في مُستشفى جيفارا.
حينها تُلجم الشابة، وتكتفي بهز كتفيها استهانة، وبينها وبين نفسها تُردد: أي قطيع
هذا؟!".
إذن، فالمُجتمع بالكامل يتمتع بثقافة ذكورية بحتة، لا سيما النساء، وهي ثقافة لا يمكن الاختلاف معها، أو الخروج عليها؛ فقوانين القطيع سائدة، ومن يخالفها سيكون مُتهما، مدينا، مُجرما في حق الجميع- تماما كما يرون الفتاة التي فقدت زوجها- ورغم أنها كانت متزوجة إلا أن النساء هنا يرينها قد أجرمت في حق الجميع بزواجها ممن أحبت؛ فلقد خالفت القطيع وثقافته الذكورية التي لا بد من الانسياق من خلفها! لاحظ هنا أن هؤلاء النسوة اللاتي يحاولن إدانتها إنما يقمن بذلك أمامها، وفي بيتها، أي أنهن يذهبن إليها من أجل عيادتها، وإلقاء اللوم عليها في نفس الوقت، والتشفي منها، وكأنهن راغبات في إشعارها بالمزيد من الألم السادي من أجل القضاء عليها؛ فلقد كان من الأفضل لها أن تموت في محاولة الانتحار، لأن بقاءها على قيد الحياة يكشفهن أمام ذواتهن، ويُشعرهن بالنقص الشديد والدونية، فهن غير قادرات على التمرد، ورفض ثقافة القطيع الذكورية التي نشأن عليها؛ وبالتالي يكون فعل الفتاة هنا مُوغلا في القسوة بالنسبة لهن، يشعرهن بالألم والدونية.
لكن، بما أن القاص هنا مُنتبه تماما لما يقوم به في عالمه القصصي؛ فهو يرى
أن هذه الثقافة البغيضة لا يمكن لها الاستمرار، بل ستتغير على أيدي أجيال أخرى
قادمة، وهو ما أشار إليه في إغلاقه لقصته بشكل فني، بعيدا تماما عن المُباشرة:
"غير قادرة على تمالك نفسها خطت باتجاه ابنتها تأخذها في أحضانها: الحمد لله
أنك عدت إلى الحياة أخيرا. غالبت الابنة حزنها، وحاولت الابتسام ما قدرت: يا أمي،
لسوف ينتهي كل هذا، ويبدأ زمن هؤلاء! قالت ذلك، بينما هي تضع يدها على بطنها. كانت
وكأنها تُشير إلى شيء ما، وربما إلى مضغة راحت تتشكل هناك في أعماقها".
تبدو لنا المجموعة القصصية "ابتكار الألم" للقاص الجزائري محمد
جعفر من المجموعات المُتميزة إلى حد كبير في محاولة ابتكار آليات سردها القصصي،
وهي الآليات التي ما كان للقاص المقدرة على ابتكارها لو لم يترك مسافة بينه وبين
العالم القصصي الذي يتحدث فيه، وهو ما أطلقنا عليه "القص من الخارج"،
بمعنى عدم التورط داخل العالم الإبداعي الذي يعمل على صياغته وبنائه.
لكن، يبدو أن القاص هنا يعاني من فرط في عدم الثقة- والاهتزاز- بموهبته
الفنية، أو بما يقوم به؛ ومن ثم حاول الاتكاء كثيرا على الآخرين من أجل تقوية
موقفه الذي يراه ضعيفا- رغم عدم ضعفه- وهو ما يتبيّن لنا في لجوئه إلى القاص
الأردني محمود الريماوي الذي قدم له المجموعة القصصية.
ربما يكون ما ذهبنا إليه هنا يستدعي سؤالا ضروريا لا بد منه: هل اللجوء إلى
تقديم العمل الفني من قبل الآخرين يُعد بمثابة عدم الثقة من صاحب العمل؟!
بالتأكيد لا، لكن الاهتزاز وعدم الثقة هنا يبدوان واضحين بجلاء حينما
نُلاحظ إصرار الكاتب على تصدير المجموعة بجملة موقعة باسم القاص محمود الريماوي
قبل بداية المجموعة: "ابتكار الألم، قصص تُضيء على المتاهة البشرية".
هذا من جهة، ومن جهة أخرى فالتقديم- أو المقال المُتعجل- الذي كتبه الريماوي
للمجموعة القصصية قد تم تصديره في المجموعة قبل بدايتها، وليس في نهايتها، وهو ما
يثير الكثير من الدهشة، والمزيد من التساؤل: لِمَ أصر القاص هنا على تصدير المقال
المكتوب عن المجموعة قبل قراءة المُتلقي للمجموعة؟!
نحن هنا لسنا ضد تضمين دراسة نقدية بين غلافيّ أي كتاب إبداعي، لكن هذه
الدراسة المكتوبة عن هذه القصص من الطبيعي أن تكون في نهاية المجموعة- بما أنها
مكتوبة عن القصص التي لم يقرأها القارئ بعد- ومن ثم فالعقل، والمنطق يؤكدان على أن
قراءة القصص، والإحاطة بها، وبفنياتها، وبعالمها لها الأولوية، ثم يلي بعد ذلك
قراءة ما كُتب عنها- القانون التراتبي الطبيعي- لكن، بما أن القاص هنا يبدو راغبا
في الاستعانة، والاستقواء، والاتكاء على من يقوّي موقفه الفني- الذي يراه هو نفسه
ضعيفا وتعيسا- فلقد رأى أن يُصدر مجموعته بالدراسة المكتوبة عنها، حتى لكأنه قد
وضع العربة أمام الحصان في منطق مقلوب ومغلوط لفرط سيطرة عدم الثقة- فيما يفعله-
عليه. ورغم أن ما كتبه الريماوي لم يكن دراسة نقدية بقدر ما جامل فيه الكاتب، إلا
أن جعفر رأى أنها ستكون في صالح المجموعة، ولا بد أن تأتي قبل قصصه من أجل تقوية
موقفه الفني، أو لفرض وصاية ما على قارئه قبل بداية القراءة، مُعتمدا في ذلك على
اسم الريماوي الذي كتب كلاما عاما، قد يبتعد إلى حد كبير عن جوهر المجموعة التي
قرأناها.
من هذه العمومية على سبيل المثال ذهاب الريماوي إلى تفسير عنوان المجموعة
تفسيرا لا علاقة له بجوهر ما قرأناه، حتى لكأنه كان يتحدث عن مجموعة أخرى غير تلك
التي بين أيدينا- وهو ما قد يُدلل على المُجاملة للكاتب، وعدم الاهتمام بما يخطه؛
فهو يؤدي واجبا اجتماعيا باسم الكتابة والتقديم- ولنقرأ قول الريماوي: "يا له
من عنوان شيق: "ابتكار الألم"، هذا الذي اتخذه القاص الجزائري محمد جعفر
عنوانا لكتابه القصصي. فالألم هنا، وهو شعور أو انفعال يمتاز الكائن البشري بوعيه
له، لا يقع فقط على ضحية، وليس مُجرد قدر تعيس أو مُفاجأة صادمة، ولكنه- ويا
للغرابة!- موضع بحث عنه، واستدراج له، وإلى درجة يتم معها اجتراحه، أو
"ابتكاره" على حد تعبير المُؤلف، ومن دون الوقوع في غواية المازوخية
"تعذيب الذات". بين قصص الكتاب ليست هناك قصة بهذا العنوان الذي اختاره
المُؤلف لكتابه، بيد أن التعبير يرد عنوانا لمقطع أول من قصة "المرأة التي
سقطت من غيمة"، وذلك في إيماءة إلى أن المُؤلف اختار الإحالة إلى نسيج الكتاب
ككل، وإلى مواضع الكثافة التعبيرية والدرامية فيه، مُستغنيا عن جعل أحد عناوين
القصص عنوانا جامعا للكتاب".
مع تأملنا لما كتبه القاص الأردني محمود الريماوي من زخرف القول وتهويمه
الذي لا معنى له؛ يتأكد لنا أن الرجل كان يحاول جاهدا القيام بمهمتين أصعب من
بعضهما البعض: الأولى هي محاولة مُجاملة الكاتب بكتابة أي شيء من شأنه إرضاء القاص
الذي لجأ إليه- وهو أمر مطروق كثيرا في الأوساط الثقافية بين الكُتاب حينما يرغبون
في مُجاملة بعضهم البعض- المهمة الثانية هي إيهام القارئ الساذج البسيط- غير
المُنتبه لجوهر ما يقرأه- بعمق ما كتبه الريماوي، وأهميته، وأن القاص كان يمتلك من
العبقرية الفنية ما جعله يستغني عن اختيار عنوان إحدى القصص ليكون عنوانا
لمجموعته، ومن ثم فلقد اختار- لطول تأمله فيما كتبه- عنوانا عاما يُدلل على
المجموعة بأكملها وكأنما قصص المجموعة في مُجملها، أو في أغلبها تُشير إلى الألم-
كما أشار الريماوي مُخالفا في ذلك الحقيقة- رغم أن القاريء الواعي والمُدقق حينما
سينتهي من قراءة المجموعة سينتبه إلى زيف هذا التفسير، وتضليله، مما يعني ان
الريماوي هنا لم يفعل أكثر من تدبيج كلام يبدو لنا من الناحية الشكلانية عميقا
ومُهما عن عنوان المجموعة، في حين أننا إذا ما حاولنا تفكيك هذه الديباجة الزخرفية
سيتضح لنا أنها فارغة، لا معنى لها، بل هي محاولة للتضليل التي لم يكن هناك أي
داعٍ لها؛ فالمجموعة تمتلك جمالياتها التي تنفي هذه المحاولة، وتقضي عليها.
محمود الغيطاني
مجلة "كتاب" الإماراتية
عدد سبتمبر 2025م.