الاثنين، 15 سبتمبر 2025

نجمة أغسطس: أسلبة الرواية والحكي من الهامش

ربما يبدو لنا الروائي صُنع الله إبراهيم من أكثر الروائيين تمردا وإعراضا عن الشكل الكلاسيكي لكتابة الرواية، أو حتى الشكل الأكثر نضجا وحداثة وتطورا منها، بل وتعدى به الأمر إلى رفض الشكل المُستَقر عليه الآن بين الكتاب والنقاد ومُنظري الكتابات الأدبية، مما جعله يبتعد عنه، محاولا ابتكار شكله الفني الذي يخصه، ويمكن نسبته إليه وحده، ليستقر في النهاية على أسلوبية روائية لا ينافسه فيها غيره، وإن نجح في اجتذاب الكثيرين من المُريدين له إلى هذه الأسلوبية التي لم يضارعه فيها أحد، ومن ثم رأينا عددا من الكتاب الذين يحاولون انتهاج أسلوبيته الفنية الروائية التي نجح في ابتكارها، واستقرت كشكل من أشكال الرواية، وفرضها على الذوق الأدبي العام- سواء بالنسبة للقارئ أو الناقد- مما يعني أن اجتهاد صُنع الله إبراهيم، وإصراره على الكتابة بالطريقة التي يرى أنها تلائمه، وقادرة على التعبير عن عالمه- ضاربا بعرض الحائط رفض النقاد والقراء أو اعتراضهم عليه في البداية- قد أدى إلى نشأة مدرسة أسلوبية في فن الرواية، يمكن نسبتها لصُنع الله إبراهيم وحده، وهي الأسلوبية التي بدأت تكتسب، رويدا، العديد من المُعجبين بها، الراغبين في الكتابة على نهجها؛ مما أدى إلى ذيوعها بشكل لا بأس به، مما يعني أن إبراهيم هنا كان من الرواد القادرين على ابتكار أساليب، وأشكال روائية جديدة، بل وفرضها على ذائقة المُتلقي الذي تقبلها فيما بعد على مضض إلى أن استساغها، وازداد إعجابه بها بعدما كان يحاول لفظها ورفضها في البداية لغرابتها عليه، وعدم اعتياده عليها.

هل يمكن لنا الادعاء هنا بأن هذا الشكل الفني، أو الأسلوبية الروائية الجديدة التي فرضها صُنع الله- كأمر واقع لا مناص منه- قد تم تقبلها والانصياع لها نتيجة الاعتياد؟ لا سيما أننا نُدرك جيدا بأن ثمة أشكالا وتيارات فنية تكون بلا أي قيمة أو معنى، وهو ما يجعل المُتلقي يُعرض عنها في بداية الأمر، لكنه سُرعان ما يعتادها نتيجة الإلحاح عليه في عرضها، وكثرة مُصادفتها؛ ومن ثم تكتسب- فيما بعد- طبيعيتها، ثم جمالياتها وفنياتها، بل ويتم التنظير لها باعتبارها أفضل ما هو موجود، أو كأنها كشف فني جديد.

بالتأكيد يكون الذهاب إلى مثل هذا الافتراض من قبيل التعسف، وإنكار الواقع المُحيط الذي لا يمكن لنا التملص منه؛ فالرواية بشكلها الفني، وأسلوبيتها اللتين استقر عليهما صُنع الله إبراهيم نجحتا في فرض نفسيهما على المُتلقي أيا كان، مما أفسح المجال لصُنع الله عينه ليجد لنفسه مكانا بارزا، ومُريحا، ومُميزا في تاريخ الروايتين المصرية والعربية، وهو ما جعل لصُنع الله- فيما بعد- تلاميذه من الروائيين، وغيرهم ممن يحاولون انتهاج نفس الشكل والأسلوبية الفنية اللتين ابتكرهما، وأصر على تقديم جميع أعماله الروائية من خلالهما- فهذا هو الشكل المُقتنع به، والقادر وحده على التعبير عما يجول في ذهنه من عوالم يختلف فيها عما يقدمه الآخرون.

لكن، هل صُنع الله إبراهيم هنا بمثابة المُجدد الذي من المُمكن له ادعاء الفرادة، أو الريادة، أو غير ذلك من التميز؟

لم يحاول صُنع الله فعل ذلك، وربما لم يفكر فيه على الإطلاق، فكل ما هنالك أنه رأى أن الأشكال الفنية الإنشائية المُستغرقة في جماليات اللغة وتعاليها، والتي يستقر عليها الجميع من حوله لا تتناسب مع التعبير عن العالم الفني الذي يفكر فيه؛ ومن ثم فلقد ابتكر لنفسه أسلوبيته التي يراها مُناسبة، أي أنه لم يكن يسعى باتجاه الريادة، أو الفرادة، أو الادعاء الفارغ بأنه صاحب مدرسة فنية جديدة، بل كان من الأجدى له الكتابة من خلال الأسلوبيات والأشكال التي يستقر عليها الآخرون؛ نظرا لأن الأسلوبية التي انتهجها قد لاقت الكثير من الرفض، والإعراض، والشراسة، واعتبار صُنع الله غير مُناسب لعالم الكتابة، فضلا عن اتهامه بالفجاجة، والتعدي على الذوق العام، والآداب، والقيم التي استقر عليها المُجتمع، بل وتشويه شكل الفن وجذبه باتجاه الانحطاط، والابتعاد به عن الجماليات، وغير ذلك من الاتهامات التي وُوجه بها الروائي، لا سيما من الروائي الراحل يحيى حقي الذي شن حملة قاسية على رواية صُنع الله الأولى "تلك الرائحة"، والتي أكد على شعوره بالتقزز الشديد منها، ومن المشاهد التي قام الكاتب بوصفها داخل روايته بجرأة، وصلافة دونما اعتبار لذائقة المُتلقي المُرهفة التي لا بد للكاتب أن يعمل على إثرائها- مشهد الاستمناء وشكل المني المُلتصق بالأرض بعد مرور وقت عليه.

صحيح أن حملة يحيى حقي على صُنع الله لم تكن بالحملة الهيّنة التي من المُمكن له تجاهلها، أو مواجهتها باللامُبالاة- لا سيما أن صُنع الله كان ما زال في بداية حياته الفنية، فضلا عن صغر عمره، بينما يحيى حقي في هذه الفترة الزمنية كان عملاقا أدبيا ونقديا لا يمكن مواجهته، أو التغاضي عما يكتبه- إلا أن دخول القاص يوسف إدريس في هذا السجال الأدبي، وإبداء إعجابه وحماسه لما كتبه صُنع الله إبراهيم باعتباره شكلا جديدا من الكتابة يعبر عن هذا الجيل؛ خفف بعض الشيء من أثر حملة حقي عليه، وهجومه الشديد- رغم أن هجوم الأول، وتأييد الثاني لم يُغيّرا شيئا من اقتناع صُنع الله بما يقوم به؛ ومن ثم أصر على مُمارسة الكتابة الروائية بالشكل الذي يراه هو، وليس بالشكل الذي يفرضه عليه الآخرون.

هذه الأسلوبية الجديدة التي مال إليها صُنع الله اتخذت من اللغة التقريرية، أو الإخبارية البسيطة نهجا في الكتابة، فضلا عن عنايته بوصف مُشاهداته من أشياء، وأماكن، وأشخاص بدقة تفصيلية تكاد أن تقترب من الرتابة التي قد تُشعر المُتلقي بالكثير من الملل أحيانا، لكنه كان شكلا من أشكال التوصيف التي يمكن أن نُطلق عليها "الوصف من الخارج"، أو "الوقوف على الهامش"، وهو ما يعني أن صُنع الله هنا، كراوٍ، لم يتعد دوره أكثر من مُجرد المُشاهدة والإخبار من دون التورط في العالم الذي يتحدث عنه، فهو راوٍ شديد الحيادية، غير مُبال ظاهريا، ولا يعنيه العالم الذي يتحدث فيه؛ لذا فهو يُفضل طوال الوقت أن يكون على هامش هذا العالم، وليس في قلبه- حتى لو كان حديثه الروائي يتناول بعض التجارب الشخصية التي حدثت له، أو لأحد المُقربين منه، لكنه يتناولها وكأنها حدثت لشخص آخر، لا علاقة تربطه به من قريب أو بعيد!

إذن، فلقد اعتمد صُنع الله إبراهيم أسلوبا روائيا يقترب من الجفاف- شكلانيا- يتشابه مع لغة التقارير الإخبارية، وهو ما ساعده- فيما بعد- على الإيغال في مثل هذه الأسلوبية التي ابتكرها، ومن ثم باتت أعماله الروائية تميل إلى التوثيق، والتماهي بين ما هو روائي، وما هو تسجيلي؛ فصُنع الله هنا راوٍ غير مُنتم، ولا رغبة لديه في الانتماء إلى العالم الذي يتناوله بقدر ما يقوم بنقله إلينا بأسلوبيته التي يجيدها، ويعمل على تجويدها.

هذه الأسلوبية الشديدة الحيادية تتبدى لنا بشكل جلي في روايته "نجمة أغسطس"، وهي الرواية التي استمرت مع الكاتب سبع سنوات كاملة إلى أن انتهى منها بشكلها الفني الذي يرتضيه، وببنائها الهندسي- شكلانيا- كما خطط لها مُنذ البداية للتناسب تناسبا شكلانيا مع جسم مبنى السد العالي الذي كان هو موضوع الرواية بالكامل، ورحلته إلى أسوان، ثم معبد أبي سنبل فيما بعد لرؤية المُعجزة المصرية التي تتشكل- كما كان يظن- بالتعاون مع السوفييت في ذلك الوقت. وهو ما دفعه إلى كتابة الرواية على ثلاثة أقسام تُمثل الشكل البنائي لها، والذي كان نفس الشكل الذي بُني عليه السد العالي الذي أُنشئ على قسمين ضخمين بينهما النواة- لُب السد- التي تُعد أهم أجزاءه.

 الحكي من الهامش، أو الحيادية المُبالغ فيها في السرد الروائي والنأي عن التورط الشعوري، أو فعل المُراقبة من دون الرغبة في التدخل تُجابهنا مُنذ السطر الأول في الرواية حينما نقرأ: "وضعت حقيبتي فوق الرف، ووقفت أتأمل الديوان الخالي وخلفي في الممر الضيق كان الركاب يهرعون إلى أماكنهم، وفي الخارج كان الناس يتزاحمون أمام نوافذ القطار. تقدمت من النافذة فألفيت مصراعها الزجاجي مُحكم الإغلاق، ورأيت من خلاله زحام المودعين أمام نافذة الديوان التالي. كانت شفاههم تتحرك بسرعة وقد مالت رؤوسهم إلى الأمام وانتفخت رقابهم، ولا بد أنهم كانوا يصيحون حتى يسمعهم المُسافرون من أقارب وأصدقاء. لكن الزجاج كان سميكا لا ينفذ منه الصوت؛ فقد كان القطار واحدا من تلك القطارات الحديثة المُكيفة الهواء، وهي لذلك مُحكمة الإغلاق".

مع تأمل هذا المقطع الذي افتتح به صُنع الله روايته سنُلاحظ أن أسلوبية السرد فيه تقريرية إخبارية، بالغة المشهدية، بعيدة تماما عن المشاعر، أو التورط فيها، أو محاولة التماهي مع العالم المُحيط- فهو حريص طوال الوقت على أن تكون ثمة مسافة بينه كراوٍ، وبين العالم الذي يصفه لنا كموضوع للحكي- يتضح لنا ذلك- على سبيل المثال- في جملة: "كانت شفاههم تتحرك بسرعة وقد مالت رؤوسهم إلى الأمام وانتفخت رقابهم" وهو أسلوب إخباري تقريري يتناسب مع المُشاهدة من مسافة، أي أنه هنا يتفرج، لكن إذا ما استمررنا في القراءة للوصول إلى الجملة التالية مُباشرة سنقرأ: "ولا بد أنهم كانوا يصيحون حتى يسمعهم المُسافرون من أقارب وأصدقاء"، وهي جملة تفيد الشك، والترجيح مُبتعدة تماما عن اليقين المُعبر عن الشعور أو التورط فيه، مما يضفي على لغته لمحة من البرودة، وترك مسافة بينه وبينه الآخرين، فضلا عن المسافة الناشئة في هذه الحالة عن موضوعه الروائي، أي أن الروائي هنا لا يحاول استبطان مشاعر الشخصيات، وليست لديه الرغبة في ذلك، بل يترك راويه يراقب فقط.

إذن، فهنا لا جُمل إنشائية مما يمكن لنا قراءته في غيرها من الروايات، ولا مُفردات شعورية مما تفضي بصاحبها إلى الاشتباك فيما يحكي عنه، بل حيادية تامة، ومُجرد إخبار عما ترصده عيناه- الشبيهتان هنا في هذه الحالة بالكاميرا الراصدة التي لا تتمتع بأي شكل من أشكال الشعور، بل هي تُسجل فقط- إنها اللغة التي تُساعده كراوٍ على المُراقبة، وربما التلصص على الآخرين من دون الاشتباك، أو الاعتراض، أو حتى إطلاق الأحكام على ما يدور من حوله، ولنتأمل: "لمحت مبنى جمعية تعاونية بواجهته الخضراء التقليدية المُؤلفة من عدة أبواب، فولجته، ودفعت عند المدخل ثمن أربع قطع من الصابون، وأخذت إيصالا قدمته إلى أحد الباعة؛ فأحضر كيسا رص فيه الصابون، ورأيته يسقط قطعة منه على الأرض في الفراغ الفاصل بينه وبين طاولة البيع. ظننتها زائدة، وعندما وصلت إلى الفندق اكتشفت أني عدت بثلاث قطع فقط. أخذت حماما، ثم تمددت على الفراش بملابسي الداخلية وأشعلت سيجارة. كان جو الحجرة خانقا رغم أني فتحت النافذة، ورحت في النوم، ثم استيقظت على صوت محمود يناديني؛ فتحت عينيّ لأجد شابا طويلا أسمر ذا شارب كث يقف في وسط الحجرة".

إن التوقف أمام الاقتباس السابق لتأمله يؤكد لنا على ما ذهبنا إليه، ورغبة صُنع الله إبراهيم في انتهاج راويه اللغة التقريرية التي تعتمد على الإخبار فقط، يساعده في ذلك جمله القصيرة المُتلاحقة القادرة عل خلق الإيقاع المُتسارع مما يُكسب العمل المزيد من الحيوية للقضاء على الرتابة التي قد تنشأ من تقريريته، وإخباره بالتفاصيل التي كان من المُمكن له الاستغناء عنها إذا ما اتبع شكلا آخر من الكتابة، أو أسلوبا روائيا مُخالفا لما نقرأه، فضلا عن أن هذه الأسلوبية- التي ارتآها مُناسبة لعالمه- تمنحه الفرصة للمزيد من التأمل، وفعل التلصص على ما يدور من حوله، ولنتأمل هنا فعل المُراقبة، أو التلصص، أو الفرجة من مسافة في: "فأحضر كيسا رص فيه الصابون، ورأيته يسقط قطعة منه على الأرض في الفراغ الفاصل بينه وبين طاولة البيع. ظننتها زائدة"، إن الراوي هنا يُراقب فقط، حتى حينما أسقط البائع إحدى قطع الصابون لم نر الراوي يحاول التدخل أو التساؤل، بل افترض بأنها قطعة زائدة؛ لذا حينما اكتشف بأمر سرقة البائع له لم يحاول التدخل، أو استعادتها بالعودة إليه، أو التفكير في شكواه لرئيسه، بل يكتب: "وعندما وصلت إلى الفندق اكتشفت أني عدت بثلاث قطع فقط"، لكنه سُرعان ما ينصرف عن الأمر وكأنه لا يخصه، ولا علاقة له به، وهو ما يتجلى لنا من التفاته إلى أمر آخر بعدما أنهى الجملة التي اكتشف فيها أمر السرقة؛ فيكتب: "أخذت حماما"، أي أن اكتشافه لسرقة البائع له لم يعنه، ولم يستدع التوقف أمامه، ولم يحاول هنا كراوٍ أن يصف لنا شعوره تجاه هذه السرقة- سواء بالسلب أم بالإيجاب- بل تخطاه وكأنه لا يعنيه ليأخذ حمامه.

هل شعر الراوي هنا بالغضب، بالغيظ، بالسُخرية، بالبلاهة، بأي شعور من المُمكن له أن يعبر عنه؟ لا نعرف، ولن نعرف شكل شعوره تجاه أي ما يخص هذا العالم؛ فهو حريص على الاحتماء بمنطقة الظل الهامشية الآمنة التي تجعله بمعزل عن كل ما يدور أمامه، ومن حوله. كما لا يفوتنا هنا اهتمامه العارم بالتفاصيل التي قد تخلق شكلا من الرتابة في: "أخذت حماما، ثم تمددت على الفراش بملابسي الداخلية وأشعلت سيجارة". هل كانت ثمة ضرورة لإخبارنا بأمر إشعاله لسيجارته؟ وهل أضافت شيئا إلى السرد الروائي حينما أخبرنا بها، وهل سيعود عدم إخبارنا بأمر السيجارة بالسلب على السرد الروائي؟

تبدو لنا كل هذه التساؤلات من قبيل التفلسف النقدي- إذا ما جاز لنا التعبير- تجاه عمل روائي قرر صاحبه انتهاج شكل خاص به، وأسلوبية تناسبه؛ ومن ثم تضحى كل هذه الأسئلة مُجرد لغو لا داعِ له، مما يجعل الاستمرار في مُتابعة ما يخبرنا به الراوي هو الأنسب مع هذا الشكل الروائي الذي يصف من الخارج بشكل شكلاني محض.

انتهاج الشكل الوصفي الشكلاني يجعل الروائي يوغل عميقا في هذه الأسلوبية، رغم برودتها وآليتها على المستوى الظاهري، وإن كنا لا نستطيع إنكار جوهريتها وتناسبها البيّن مع البناء الروائي الذي حاول الكاتب شرحه في مُقدمة الرواية مرة، ومرة أخرى بعد الانتهاء منها، إنه الوصف الذي يتعدى الكائنات إلى كل ما يحيطه من جمادات، حتى لكأنما قد تلبست الروائي شهوة الوصف اللامحدودة مما جعل كل الأشياء صالحة للحديث عنها: "تلاشت هذه العمارات فجأة كما ظهرت، وامتدت الصحراء أمامنا إلى ما لا نهاية. وتتابعت هياكل الصلب العالية لأبراج الكهرباء على مسافات مُتقاربة. أشرفنا بعد ربع ساعة على أفنية مسورة تضم صفوفا من الشاحنات الجديدة. كان لونها الأخضر يلمع بقوة في الشمس، ودرنا برابية صغيرة عليها لافتة تُعلن عن موقع للرمال الخشنة. كانت الرمال مكومة خلف اللافتة في تلال عالية. برزت تلال من الصخور على جانبي الطريق. كانت مُتباعدة في البداية، وما لبثت أن تقاربت، وازدادت ارتفاعا، وأصبحنا نسير فيما يشبه الممر، وبدا أننا نجتاز منطقة صلبة صمدت لأعمال الحفر والتفجير. أبطأت سيارتنا عندما انتهى الممر؛ فقد اعترضتنا شاحنة فارغة كانت تمضي ببطء، وانتقلت سيارتنا إلى يسار الطريق لتتجاوزها. وعندما مررنا بجوارها رأيت جانبها مُحطما، ومُقدمتها منزوعة الغطاء".

ألا نُلاحظ هنا أن إيغال الكاتب في لغته الوصفية التقريرية قد مالت بالرواية بالكامل إلى ما يشبه الفيلم الوثائقي في السينما؟ إنه الوصف والمُراقبة من بُعد، اتخاذ مسافة من دون محاولة التدخل أو التعليق؛ فالتعليق هنا سيكون بمثابة العامل المُفسد للبناء الروائي الذي اختاره مما قد يؤدي إلى انهياره بالكامل، وفشله في السيطرة عليه.

إذن، فصُنع الله هنا يكاد أن يقدم لنا فيلما وثائقيا عن زيارته لموقع بناء السد العالي، ومن جهة أخرى يبدو لنا الأمر وكأنه يكتب لنا تقريرا مُفصلا عن رحلته إلى موقع بناء السد فيما يشبه المهمة الرسمية، وهو التقرير الذي سيتم رفعه إلى رؤسائه، ومن ثم لا بد أن يكون غاصا بالتفاصيل الدقيقة لما قام به، وما شاهده، يتضح لنا ذلك بجلاء أكبر في المقطع التالي الذي يصف فيه الفوضى حينما يصل إلى أسوان: "سرت إلى ميدان المحطة؛ فلم أجد أتوبيسا واحدا، وقال لي الناظر في تجهم أنه لا توجد سيارات الآن إلى الموقع. سألته عن سيارات الشركة؛ فقال: إنه مسؤول فقط عن التابعة للهيئة، أما الشركة فسياراتها تقف عند الجمعية. عبرت الميدان إلى شارع السوق، وسرت حتى الجمعية؛ وجدت أمامها عددا من السيارات الكبيرة الخالية من السائقين، وعثرت على أحدهم في مقهى قريب؛ فقال لي: إنهم لا يتحركون قبل ثلاث ساعات، واقترح عليّ أن أذهب إلى كشك الشركة في الناحية الأخرى من الميدان. عدت أدراجي وأنا أمسح العرق عن وجهي. عبرت ميدان المحطة مرة أخرى. سرت مسافة بحذاء النيل حتى بلغت كشك الشركة المطلي باللون الأصفر. كان به موظف شاب يقرأ في أحد كتب الجامعة، وقال لي: إنه لا توجد أي سيارات ذاهبة إلى الموقع الآن، ونصحني بالعودة إلى موقف الميدان. درت عائدا بتثاقل والعرق يسيل من مرفقي، وألفيت الميدان خاليا من السيارات تماما. ومرت بي عربة حنطور اضطجعت فتاتان أوروبيتان في مقعدها الخلفي. كان وجهاهما شديدي الاحمرار، أو هكذا خيّل لي؛ فقد كان كل شيء أمامي مُصطبغا بهذا اللون".

مع قراءة الاقتباس السابق يتأكد لنا أن الأسلوب الروائي الذي اختاره الكاتب هو أسلوب شديد التقريرية، يميل بشكل مُبالغ فيه إلى التوثيق مما يجعله مُنفصلا تماما عن كل ما يدور أمامه، أو من حوله؛ فالقارئ لمثل هذا المقطع- وغيره من المقاطع- لا بد أن يدور في ذهنه العديد من التساؤلات، منها: ما هو شعوره مع هذه المتاهة التي دخلها من أجل الوصول إلى موقع الحفر، لا سيما مع درجة الحرارة اللاهبة التي تكاد أن تُذيب الجميع؟ هل شعر بالغضب، بالملل، بالإرهاق، بالتداعي الجسدي؟ وما هي المشاعر التي كانت تنتابه، وسيطرت عليه فيما يحكيه؟ لكن صُنع الله هنا حريص على التسجيل فقط من دون التطرق إلى مشاعره الخاصة كراوٍ، أي تحييد نفسه، والاطمئنان إلى زاوية الهامش التي اختارها لنفسه لئلا يجد نفسه متورطا فيما يدور من حوله.

بنى صُنع الله إبراهيم روايته بالاعتماد على فكرة رغبة أحد الأشخاص- الذي خرج لتوّه من المُعتقل السياسي في عهد جمال عبد الناصر- في الذهاب إلى أسوان، ومنها إلى موقع بناء السد العالي ورؤية تحويل مجرى النيل؛ ليشاهد بعينيه المُعجزة المصرية التي يتم الإعداد لها بعدما قرر عبد الناصر الاعتماد على أنفسنا في مواجهة فيضان النيل، والاستفادة منه في توليد الكهرباء لقرى ومُحافظات مصر بمُساعدة الخبراء السوفييت، وهو ما سيستدعي نقل العديد من المعابد الفرعونية لحمايتها من الغرق، مما دفع الراوي إلى السفر إلى أبي سنبل بعدما رأى ما يرغبه في موقع السد ليشاهد معبد رمسيس الثاني بدوره أثناء فكه، وفصله عن الجبل؛ تمهيدا لنقله إلى مكان آخر، عاقدا العزم على عدم العودة إلى القاهرة إلا حينما ينفد منه المال الذي يمتلكه، وهو ما يجعل الروائي هنا يتابع راويه بشكل حثيث، شديد التفصيلية إلى أن تحين اللحظة التي يقرر فيها العودة مرة أخرى إلى العاصمة.

لكن، خلال هذه الرحلة الطويلة والشاقة- التي قررها الكاتب لراويه- لم يفته أن هذه الأسلوبية- الجافة شكلانيا- من شأنها أن تُصيب قارئه- غير المُدرب على هذا الشكل من الكتابة الفنية- بشيء من الرتابة والملل؛ مما قد يجعله ينصرف عن استكمال الرواية، أو يشرد بعيدا عن مُتابعة الأحداث التي يرويها؛ ومن ثم لجأ صُنع الله هنا إلى شكل روائي يميل إلى المزيد من الوثائقية، أشبه بالقطع المُونتاجي الذي نعرفه في مجال السينما، وهو القطع الذي جعل الرواية عبارة عن ثلاثة عوالم متوازية، أو ثلاث روايات: تُمثل الرواية الرئيسية فيها مُتابعة الراوي في رحلته، ومُشاهداته، وتأملاته، ولقائه بالعديد من الأشخاص- منهم من يعرفهم من قبل، ومنهم من سيتعرف عليهم أثناء رحلته لأول مرة- بينما تتمثل الرواية الثانية في استرجاعات الراوي للعديد من المواقف التي سبق أن مرت به في المُعتقل السياسي، ووصف عمليات التعذيب والإهانة التي تعرض لها هو وزملاؤه لمُجرد أنهم صدقوا ما أُطلق عليه الثورة المصرية، وأبدوا رأيهم في نظام الحُكم الجديد، أو حاولوا الدلو بدلوهم في الحلم الجديد، لتكون الرواية الثالثة بمثابة القطع في العديد من المواقف الروائية على التاريخ بما يتناسب مع الموقف الذي يقوم بالقطع فيه- وهو هنا لم يقتصر على التاريخ المصري القديم فقط، بل عمل على التبديل بينه وبين تاريخ مصر الحديث، فضلا عن التاريخ المسيحي، وما تعرض له الفنان الإيطالي مايكل أنجلو من اضطهاد، وسوء فهم.

يوسف إدريس

إذن، فنحن هنا أمام ثلاثة خطوط درامية متوازية- تماما كما في البناء السينمائي- ولعل صُنع الله كان يقصد تماما الشكل السينمائي في هذه الرواية، لا سيما أنه درس السينما في موسكو، فضلا عن اشتراكه في التمثيل أيضا في مشروع تخرج زميله المُخرج السوري محمد ملص الذي شاركه السكن هناك.

هذا التماهي ما بين موضوع الرواية الرئيسي/ الرحلة وما بين العوالم الأخرى، لا سيما التاريخ المصري القديم، أو تاريخ مايكل أنجلو الذي يقرأ كتابا عنه- قرر اصطحابه معه في رحلته- يتبيّن لنا في الكثير من القطع الذي يلجأ إليه، منه: "مشى بين الصخور- يقصد مايكل أنجلو- يطرقها بمطرقته بحثا عن الشقوق والعيوب والفقاعات. كانت القطع الصلبة تعطي صوتا كرنين الأجراس، أما المعيبة فكان رجعها باردا، وكانت هناك صخرة تعرضت للجو فترة طويلة؛ فتكوّن لها جلد سميك، وبالمطرقة والأزميل أزال الغلاف ليصل إلى المادة النقية من تحته".

إذا ما تأملنا الاقتباس السابق لا بد أن يرد إلى أذهاننا تساؤل: هل كان صُنع الله يلجأ إلى مثل هذه الاقتباسات بشكل مجاني، أي لمُجرد كسر حدة الرتابة التي قد تسود سرده الروائي؟

إن تأمل العمل الروائي ككل يؤكد لنا على أنه لم يلجأ إلى أي جزء فيه بشكل مجاني، بل كان شديد الدقة والوعي بما يقوم به؛ لذا فثمة ارتباط وثيق ما بين هذا الاقتباس- على سبيل المثال- والحدث الرئيس الذي يُمثل جسد الرواية ولُبها/ الرحلة وبناء السد من أجل تحويل مجرى النيل، فالعمال والمُهندسين المصريين والسوفييت يعانون مُعاناة بالغة في تخير وانتقاء الصخور التي قد تعينهم فيما يقومون به من عمل شاق- فلكل نوع من الصخور فائدة مُعينة تعينهم على إتمام مهمتهم- وإذا ما توصلنا إلى هذا الفهم؛ يكون القطع هنا على مايكل أنجلو مُتناسبا تماما، ومُتماهيا مع العالم الروائي الذي يتابعه الكاتب من خلال راويه، أي أن ثمة ارتباطا وثيقا بالشكل هنا ما بين العالمين، وهو ما يعود إليه مرة أخرى في: "ضربة الأزميل العشواء في الصخر تُحطم بلوراته، والبلورة الميتة تُدمر النحت، وتعلم كيف ينحت قطعا ضخمة دون أن يسحق البلورات؛ فالصخر هو السيد، وليس الرجل. القوة والمتانة في المادة الصماء، لا في الذراعين والأدوات، وإذا ما ضرب بعنف وجهل؛ فقدت المادة الغنية الدافئة توهجها وماتت، وأمام التعنيف والهرولة تلتف الصخرة بنقاب حجري صلب. من المُمكن تحطيمها بالعنف، ولكن يستحيل إرغامها على أن تعطي. فهي تستسلم للحنان وتزداد تحت تأثيره إشعاعا ولمعانا".

ربما نلحظ هنا أن الدقة التي يتحدث عنها مايكل أنجلو في التعامل مع الصخر- المادة الأولية والرئيسية للنحت الذي يقوم به- لها علاقة وثيقة لا يمكن التغافل عنها بموضوع الرواية الرئيس- البحث عن الصخور المُناسبة من أجل بناء جسم السد- مما يعني أن الكاتب هنا يعي ما يقوم به، بل يتمتع بدقة مُتناهية في بناء عمله الروائي بشكل يبدو لنا هندسيا، لا مجال للمُصادفات فيه.

هذه التقاطعات ما بين بناء جسد السد، وبين ما حدث مع مايكل أنجلو يعطي الفرصة للراوي- المُتماهي مع صُنع الله نفسه- للتأمل والتفكير، ومن ثم طرح العديد من التساؤلات المُخالفة لما تم الاستقرار عليه في العقل الجمعي، أو حتى في الأساطير الدينية، أي أن لجوئه إلى إنشاء عوالم متوازية كان بمثابة الفسحة العقلية للتفكير، وهو ما نلحظه في: "قال له أساتذة القصر: إن موضوعه الأول يجب أن يكون إغريقيا من أساطير اليونان، لكنه كان يعرف عن يقين أن موضوعه الأول لا يمكن أن يأتي من أثينا، أو مصر، أو روما، أو حتى بلدته فلورنسا، وإنما من داخله هو. شيئا ما يعرفه، ويشعر به ويفهمه، واختار "المادونا والطفل". في كل اللوحات التي رآها من قبل، كانت العذراء تُبدي الدهشة التامة عندما أبلغها جبريل بنبأ الحمل، فهل يُعقل أنها لم تكن تعرف، وأنها لم تكن تملك حرية الخيار لترفض؟ وقرر أن ينحتها وهي تُرضع طفلها، مُدركة المصير الذي ينتظرهما".

إن تساؤل مايكل أنجلو هنا عن مدى معرفة العذارء بمصير طفلها من عدمه، ومدى ما تمتلكه من حرية للقبول أو الرفض بحملها فيه، يحمل في جوهره تساؤلات صُنع الله نفسه التي يطرحها مُتماهيا مع مايكل أنجلو فيها، وهو ما يُكسب العمل الروائي المزيد من الثراء، والقيمة الفكرية. أي أن الكاتب هنا غير مُكتفٍ بالتوثيق بقدر ما يعطي لنفسه الفرصة في التأمل، والتساؤل وإعادة بناء التاريخ الذي تم الاستقرار عليه في العقل الجمعي، حتى لكأنه يقوم بثورة فكرية وأيديولوجية من خلال عمله الروائي المُتداخل بشكل فني دقيق؛ لذا حينما يصل إلى معبد أبي سنبل الذي أمر رمسيس الثاني بنحته في الصخر، سُرعان ما يقطع على التاريخ المصري القديم- وهو التاريخ الذي اقتبس منه الكاتب الكثير من الاقتباسات من عدة مصادر تاريخية أشار إليها بعد انتهائه من روايته- فنقرأ: "فلم يكد الأمر يستقر للملك في الداخل حتى سار جنوبا، فأعاد الأمن إلى ربوعه، وكان عهد خلفه معروفا بالهدوء والسلام؛ إذ عني بتشييد المباني والمعابد، إلا أنه من الثابت الآن أنه أرسل أيضا إحدى الحملات إلى النوبة، ولو أن هذا لا يغيّر من حقيقة اهتمامه بالبناء، وجلب المحاصيل منها. ودعت ظروف المُحافظة على السلام من جاء بعده إلى إرسال حملة بحرية إلى النوبة، عادت بسبعة آلاف أسير، ومئة ألف رأس من الماشية، وعملت مصر وقتها على استرضاء القبائل النوبية، والتعامل معها تجاريا واقتصاديا إلى جانب روابط المُصاهرة، فضلا عن استخدام القوات النوبية في الجيش المصري، واضطرت الظروف ملوك الأسرة التالية إلى إعادة غزو النوبة، وفتح مناجم الذهب، وأمر الملك بتسجيل حملته على جدران المعابد؛ فنقش الفنانون موكبه سائرا فوق جثث النوبيين، وقد علق زعماءهم في مُقدمته"، أي أن الكاتب هنا بقطعه المُونتاجي على التاريخ المصري القديم يرغب في إخبارنا بما حدث من أفعال تجاه النوبيين الذين تم التنكيل والغدر بهم، وإخراجهم من بيوتهم والاستيلاء على خيراتهم، ربما للمُقارنة لما حدث معهم في عهد عبد الناصر من تهجير، وتدمير لقراهم التي أغرقتها مياه النيل حينما تم اللجوء إلى تحويل مجرى النيل، ونقلهم إلى قرى جديدة بعيدة عن النيل المُرتبطين به مُنذ الأزل.

هذا القطع التاريخي على تاريخ مصر- القديم منه والحديث- لا يسوقه الروائي هنا بمجانية، بل كان حريصا- بشكل دقيق- على الانتقال إليه في اللحظة المُناسبة التي تتواشج وتتلاءم تماما للتماهى مع جسد الرواية الأساس الذي يُمثل رحلة الراوي في الجنوب، وهو ما يتبدى لنا بشكل أوضح في: "اقتربنا من مجموعة أخرى من أشجار النخيل، وتكررت حملة البلح، سوى أن ذهني لم ينزل الماء هذه المرة، وبقي إلى جواري على حافة الصندل. استأنف الصندل مسيرته، ومررنا "بتوشكة" التي دارت فيها المعركة الفاصلة بين ثوار السودان، والجيش الإنجليزي عام 1889م"، حتى هنا فالسرد الروائي الذي قرأناه في المقطع السابق هو من صلب جسد الرواية التي تُمثل رحلة الراوي إلى الجنوب باتجاه أبي سنبل على ظهر الصندل، لكنه ما أن يصل إلى نهاية هذا المقطع، وذكر المعركة بين الثوار السودانيين والإنجليز، إلا ويقطع على التاريخ بكتابته: "وصدر الأمر إلى النوبيين أن يخلوا قراهم، واقتلعت أشجار نخيلهم من جذورها، فثوار السودان عرضوا افتداء عرابي وهم يقتربون ليحرروا مصر كلها، ومن القاهرة وصل الجيش بقيادة جنرال إنجليزي يرتدي الطربوش، ويحمل لقب الباشا، ودارت الموقعة على الشاطئ الغربي؛ فحاقت الهزيمة بالثوار، وفقدوا قائدهم. فشلت المحاولة البكر، وسقط النهر كله في العبودية".

مما سبق يتضح لنا أن صُنع الله إبراهيم هنا يحاول بناء روايته بشكل فسيفسائي، فيه من التواشج، والتماسك، والتماهي ما يجعله بنيانا مُتكاملا.

لكن، إذا ما كنا قد انتبهنا- على المستوى التحليلي والنقدي- إلى التماهيات والقطعات التي لجأ إليها صُنع الله ناهلا من التاريخ، فهذا لا يعني تغاضينا، أو محاولة تناسينا القطعات الأخري- الخط الروائي الثالث- الذي كان يلجأ إليه الكاتب للقطع والتماهي مع جسد الروائي الأساس/ الرحلة، وهي القطعات التي كان ينهل فيها من تجربته هو نفسه- في الحقيقة- أو من تجربة الراوي- داخل الرواية- في المُعتقل، حيث كانت هذه المُقتطفات تتناسب بدورها مع المواقف الروائية التي يتوقف فيها السرد من أجل هذه الاستعادات الدالة، فنقرأ- على سبيل المثال: "كانت محطة الجيزة قد أُخليت لنا تماما، وهبط عليها سكون شامل لا يقطعه غير صليل السلسلة الوحيدة التي تقيدنا جميعا، وفحيح القاطرة التي تنتظرنا. وفي مدخل البناء الذي تُضيئه مصابيح باهتة كانت بضع رؤوس تتطلع بفضول ولا تجسر على الاقتراب، وعندمت حانت اللحظة، أخذوا يدفعوننا بعنف، والقيود تحز في أيدينا، وصعدنا العربة المُظلمة بلا مصابيح أو مقاعد، وظللنا وقوفا طوال الليل، إذا أراد أحدنا أن يجلس؛ جر الآخرين معه ووقعوا على وجوههم، وإذا أراد أن يتبول؛ سحبهم معه إلى الركن حيث يحفون به عن يمين وعن يسار، والقطار يترك القاهرة، وينطلق إلى الصعيد في خط مُستقيم، ومصر تمتد من أدناها إلى أقصاها من فتحات صغيرة، تعترضها القضبان كما في عربات الكلاب، والشريط الأخضر يضيق باستمرار، وتزحف عليه الرمال، وفي الفجر يرتفع قرص الشمس الأحمر كبيرا فوق خضرة نائمة، والمنظر يتكرر دائما، المباني الطينية والأنوار الخافتة، ثم المحطة بمبانٍ مُتقاربة حولها، ومقهى يحتسي فيه الناس الشاي بهدوء ودعة، يتابعون في غير مُبالاة القطار المُظلم الذي لا يتوقف، ثم السجن في كل مدينة، كتلة صفراء من الظلام بعيون مُتقاربة صغيرة، يقوم في نفس الاتجاه دائما، وتدخله الشمس من نفس المكان في كل مدينة، وتقع على جدران الزنازين في نفس الموعد، دون أن تفلح في تبديد البرد الجاثم".

إن الراوي حينما تذكر هذا المشهد لترحيله هو وزملائه إلى السجن، كانت المُناسبة له أنه قد وصل في سرده الرئيس في جسد الرواية الأساس إلى حديثه عن الراحة التي بدأ يشعر بها حينما ذهب إلى نادي التجديف، وطلب زجاجة من البيرة الباردة: "انطلقت إلى نادي التجديف، كان به بعض الشبان الذين تمددوا في خمول على مقاعد الشرفة. اخترت مقعدا في مواجهة الشاطئ المُقابل، واضطجعت فوقه مُسندا قدميّ إلى قضبان السياج. أحضر لي الصبي زجاجة بيرة، وملأت كوبا ارتشفته وأنا أتأمل الفجوة المُظلمة في الجبل، والدرجات الضيقة المُؤدية إليها وسط الرمال"، أي أن شعوره بالراحة والسكينة في هذا المشهد، كان مُستدعيا لذكرياته المُناقضة تماما لهذه الدعة والسكون والراحة التي يمارسها في هذه اللحظة.

لكنه سُرعان ما يعود إلى التذكر مرة أخرى في: "أمرونا أن نقتعد القرفصاء، ونحني رؤوسنا حتى لا يرانا أحد في الطرقات، وفي بهيم الليل انطلق موكب اللوريات إلى قلب القاهرة القديم، وهواء يناير القارس يضرب آذاننا، وبدأ الطريق يصعد إلى أعلى، وفي الظلام ظهرت مباني القلعة شامخة، تُشرف علينا كما تُشرف على المدينة كلها، وقال أحد ذوي التجربة: إن في القلعة مُعتقلا أنشأه الإنجليز، ولم يُستخدم من أيامها، ودخلنا واحدا بعد الآخر من فتحة صغيرة في بوابة خشبية ضخمة، ولأن المكان من مُخلفات الاستعمار كانت فيه أسرة مُريحة، وأنبأ الهواء بأننا على ارتفاع كبير، وقال حسين: إنهم أخذوه من حفل زواجه، فقال آخر: إنه كان سيتزوج الأسبوع القادم، ورقدنا في صفين مُتقابلين نتطلع إلى الجدران العالية والكوات المسورة في أعلاها، ولعلها كانت القاعة التي شهدت مذبحة المماليك، عندما أتوا بالملابس الرسمية لشرب القهوة، وعندما استعدوا للخروج ليسيروا في موكب السُلطان، أُغلقت الأبواب، وذُبحوا جميعا عن بكرة أبيهم، وفوق ممشى يشرف على ميدان المذبحة جلس محمد علي يدخن النارجيلة، وقبلها كان يتبادل الزيارات العائلية مع زعيمهم، شاهين بك".

هل لاحظنا التناقض الصارخ في جملة: "وقال أحد ذوي التجربة: إن في القلعة مُعتقلا أنشأه الإنجليز، ولم يُستخدم من أيامها"؟

فالمُعتقل الذي أنشأه الإنجليز المُحتلين لاعتقال الوطنيين من المصريين لم يستخدموه، بينما استخدمه جمال عبد الناصر ونظامه السياسي- وهم أبناء هذا البلد- من أجل اعتقال الوطنيين من أبناء نفس هذا البلد! ولنتأمل قطعه مرة ثالثة لوصف صرامة السجن، وقهره، ومحاولة منعهم من أي شيء: "الحارس الملول في سترته الصفراء، يقرع القضبان الحديدية بمفتاحه، وننطلق في طابور ينوء بحمل جرادل البول لتفريغها، ثم نعود بجرادل المياه لملئها، والتفتيش الدقيق بحثا عن ورقة أو قلم أو جريدة، ثم يتتابع صوت المفتاح وهو يدور في أقفال الزنازين، يحبس في كل زنزانة جانبا من ضجة العنبر حتى يسود الهدوء التام، ونجلس على الأرض مُستندين بظهورنا إلى الجدران المُثلجة، نتابع من قضبان الكوة الصغيرة ضوء الغروب وهو يتلاشى بسرعة، والليل طويل طويل، لكنه مهرب من نهار مليء بالمُفاجآت".

يحيى حقي

إن براعة الربط هنا ما بين الجسد الأساس للرواية الرئيسية، والروايات الموازية له تتبيّن لنا من خلال القطع المتوازي الذي نُلاحظه حينما يصل حديثه مع صديقه الصحفي سعيد إلى: "قال سعيد ونحن ننقل أقدامنا في بطء على الإسفلت المُلتهب: كنت أفضل أن أكون في الإسكندرية الآن. قلت: الشتاء بها أروع. قال: لم أرها في الشتاء. قلت: أما أنا فرأيتها". إن وصول الروائي بأحداثه إلى هذه النقطة؛ تجعله يقطع مُباشرة للانتقال إلى حدث خاص بالسرد الموازي، وهو قطع له علاقة وطيدة بالرواية الأساس لبيان مدى التناقض والتضاد، فيكتب مع قطعه: "الشوارع أنيقة هادئة، والجو رمادي، ومن خروم السلك الذي يغلف السيارة كلها لاح البحر على مبعدة، وتطلع إليه في لهفة قائلا: إنه يعشق هذه المدينة؛ ففيها وُلد وقضى أيام صباه قبل أن يبدأ هذا كله، وارتفع البحر أمامنا حتى غطى صفحة الأفق بأمواج خضراء يغلفها زبد أبيض، ولانت قسمات الوجه الذي يبدو أحيانا كأنه من الجرانيت، وابتسمت عيناه في عبث الأطفال وأشواقهم، وتلاشت آثار الجدري كأنما بفعل السحر، عندما رفع رأسه يستنشق بلهفة الهواء الذي أتت نسماته مُشبعة برائحة الأسماك، وأراح يده المُقيدة على السلك قائلا: إنه أشرف على الخمسين، لكن ما زال أمامه الكثير، ورغم الهواجس لم يحدس أنه لم تتبق سوى أشهر قليلة".

ألا نُلاحظ أن قطع الروائي هنا حينما تحدث الراوي مع صديقه عن الإسكندرية له علاقة وثيقة بالعمل الروائي ككل؟ فهو هنا يتحدث عن المُناضل السياسي الشيوعي شهدي عطية- ابن الإسكندرية- الذي تم قتله نتيجة للتعذيب الوحشي داخل المُعتقل- والذي أحرج مقتله في المُعتقل جمال عبد الناصر في الوقت الذي كان فيه في يوغوسلافيا- لا لجريمة ارتكبها، بل لمُجرد أنه ظن بأن هذا الوطن ملك له، من حقه إبداء رأيه فيه، أو الاعتراض على ما يراه غير صحيح في نظامه السياسي الجديد بقيادة جمال عبد الناصر الذي نكل بالجميع- شيوعيين وإخوان مُسلمين- ولم يسمح لأحد بمُمارسة حقوقه في الحياة، أو إبداء الرأي في أي شيء.

لذا، فهو على طول الرواية لا يستطيع التخلص من عبء عبد الناصر وما قام به باتجاه الجميع، فهو يشعر بثقل ظله الذي لا يفارق أحد، بل يظل كالشبح المُطارد لجميع الشخصيات أينما كانوا، وأينما اتجهوا؛ فالنظام العسكري البوليسي جاثم على الجميع يكاد أن يزهق أنفاسهم، يتدخل في حيواتهم، وكل تفاصيلها، وقادر على إنهاء هذه الحيوات في أي لحظة إذا لم يرقه ما يفعله الأفراد في حيواتهم التي تخصهم، نُلاحظ ذلك في: "قلت: آن لك أن تتزوج يا صبري. ماذا تفعل؟ تنهد: كما يفعل الجميع. وأشار إلى صورة سعاد حسني- في إشارة منه إلى مُمارسته للعادة السرية- قلت: والروسيات؟ قال: هذا آخر ما يجب أن تفكر فيه، وإلا وجدت نفسك في القاهرة، ووُضعت هي على الطائرة الذاهبة إلى موسكو"، أي أن مُراقبة الأمن للجميع تمنعهم حتى من مُمارسة حيواتهم بشكل طبيعي، وإقامة أي علاقة إلا بأمرهم، ورضاهم! فمُجرد إقامة علاقة ما مع إحدى الروسيات اللاتي يعملن في موقع السد من شأنه إنهاء عمل الشخص، فضلا عن ترحيل الروسية إلى بلدها التي لا يختلف نظامها الشمولي شيئا عن نظام عبد الناصر.

إنها الثورة، أو ما أُطلق عليه وصف الثورة، والتي ظن المصريون حينها فيها خيرا، وأنها ستنقلهم إلى آفاق من التحرر والتقدم، والكرامة الإنسانية، والثراء مما لم يعرفونه من قبل، لكنهم فوجئوا بأن فترة الاستعمار الملكي كانت أفضل لهم من حُكم أبناء البلد الذين فرضوا نظاما عسكريا قاهرا على الجميع، وتم الإلقاء بالجميع في المُعتقلات لإرهابهم، وتعذيبهم، بل وقُتل الكثيرين منهم بسبب هذا التعذيب، مما يعني أن هذه الثورة "المُباركة" قامت على الديكتاتورية في كل شيء، ولعل أولى هذه الأفعال الديكتاتورية تبدت لنا في تأميم أموال المواطنين، ونزعها منهم بلا وجه حق، وباسم الوطنية: "قال وأنا أستقر إلى مقعد بجواره: جاءك الفرج يا عم، يمكنك أن تنقل حاجياتك الآن إلى قصري. فراش وغسيل وثلاث وجبات يوميا دون مُقابل. أحضر لي الجرسون زجاجة بيرة، وقال سعيد: إنه التقى في الظهر بوكيل الوزارة، وحدثه عني؛ فقام إلى التليفون واتصل بالشركة، ورحبت باستضافتي لأنها تريد تحسين العلاقات مع الهيئة، كما أنها تهتم بالدعاية لنفسها أكثر من بقية الشركات الأخرى المُشتركة في المشروع. سألته عن السبب؛ فقال: إنها تدخل معركة حياتها ليستمر إعفاؤها من التأميم بعد انتهاء السد، ولذلك تقوم ببناء فيلات فخمة لكبار رجال الحكومة بأسعار بخسة لا يتصورها عقل"، أي أن ديكتاتورية النظام الناصري الثوري الذي رأى الاستيلاء على أموال الناس، وثرواتهم حقا مُكتسبا من حقوق نظامه باسم الوطنية والانتماء، وبناء البلد؛ قد أدى إلى أن يعيش الجميع في حالة من القلق والخوف من فقد أموالهم، وهو ما يجعل هذه الشركة تلجأ إلى النفاق، وبناء الفيلات بأسعار بخسة لرجال الدولة الذين قد ينقذونها من أن يتم تأميم أموالها رغم أنها لا تسرق أحدا، ولم تأتِ بأموالها من طريق غير مشروع، بل تعمل من أجل استثمار هذه الأموال، ومن ضمن هذه الأعمال عملها في السد- وهو مشروع وطني بالتأكيد.

إذن، فالخوف هو المُحرك الأساس في دولة جمال عبد الناصر الديكتاتورية، والجميع يخشى الجميع، والكل يشعر بأنه مُراقب، وتحت ضغط، ومن ثم فلا بد أن يسود تيار عام- قد لا يعلن عنه أصحابه، وإن كان يضغط على نفوسهم- بخيبة الأمل مما وصلت إليه الثورة التي كانوا يظنون بأنها المخرج لهم نحو مُستقبل أفضل: "قال سعيد كلنا بدأنا بأحلام عريضة، ثم ما لبث كل شيء أن جف. أقول لك الحق؟ لم أعد أرغب في كتابة شيء على الإطلاق، أصبح كل ما أكتبه ممسوخا مائعا بلا روح. مقالات تتوه في سراديبها، ولا هدف لها إلا تبرير كل شيء. قلت: لا تقل لي أنك لم تكن مُقتنعا بكل ما تكتبه. قال: كنت أقنع نفسي. لقد كانت هناك أشياء ضخمة، وكنا جميعا نتجاهل الجوانب الأخرى عن عمد. ألم تكن السجون حاشدة؟ وكنا أيضا نجني شيئا من الثمار".

إنها الثورة التي بدلا من أن تُكسب أبناء الوطن حريتهم، والحلم فيما هو أفضل، أدت بهم إلى اليأس من المُستقبل الذي انغلق معه الأفق أمامهم، فضلا عن اعتقالهم، وتجريدهم من الكرامة الإنسانية، وإغراقهم في المهانة التي تجعل المرء في النهاية بلا قيمة، ولا معنى لحياته، وهو ما يجعل صُنع الله إبراهيم طوال العمل الروائي يسقط مجموعة من الإسقاطات التي ينتقد من خلالها العسكر وحُكمهم، ومُمارساتهم؛ لذا يتوجه الراوي بسؤاله لمُدير إدارة المركبات، وهو رجل عسكري: "فكرت بسرعة ثم سألته: ما هو في رأيك سر النجاح الذي سجله العمل في السد حتى الآن؟ أجاب على الفور: السر هو النظام والطاعة المبنيان على الخوف. لا تظن إني ضد الديمقراطية. خذ هؤلاء العمال مثلا، إنهم يستطيعون دخول مكتبي في أي وقت. أخرجت مُفكرتي، وتظاهرت بتدوين أقواله. اعترضني قائلا: لا داعي لكلمة الخوف هذه. الأفضل أن تقول: النظام والطاعة المبنيان على الإقناع، حتى لا يُسيء أحد الفهم"، وهو ما يؤكد على أن العسكر هنا لا يعرفون سوى الخوف، والخشية، وإذلال الآخرين للوصول إلى أهدافهم، فالعمل المُنتظم- من وجهة أنظارهم- لا يمكن له الاستقامة إلا مع الخوف والترهيب للآخرين! وهو ما نقرأه مرة أخرى حينما يرغب الراوي وسعيد- باعتبارهما صحفيين يقومان بتغطية المُعجزة المصرية في بناء السد العالي- في ركوب إحدى السيارات المارة، وطلبا من أحد الجنود إيقاف سيارة لهما: "صعدت يتبعني سعيد، وجاء في أعقابنا عامل صعيدي ذو شارب ضخم يرتدي جلبابا ملونا، وعندما حاول أن يصعد خلفنا مُباشرة، جذبه الجندي من ذراعه، وسأله عما إذا كان قد سمح له بالصعود. توقف الصعيدي واجما، ورفع الجندي يده وهوى بها على قفاه، ثم سأله عن بلده؛ فقال وقد انحنى رأسه تحت كف الجندي: إنه من قوص"، أي أن القهر هنا يدور في حلقة مُفرغة لا يفارقها ليصيب الجميع؛ فالجندي الذي يلاقي الكثير من الإذلال على يد رؤسائه من الضباط، يقوم بإسقاط هذا القهر والإذلال على المواطن العادي الذي لا يمتلك الرد عليه، ورغم أن ركوب أي سيارة في موقع العمل هو أمر مُتاح للجميع، إلا أن الجندي هنا رغب في إبراز سطوته على الأضعف منه، بل وإسقاط القهر الذي يلاقيه على الآخرين!

إن الأنظمة الديكتاتورية في أي مكان من العالم لا يمكن لها الاختلاف في سماتها الرئيسية، وأفعالها الظالمة التي تقوم بإسقاطها على المواطنين؛ لذا فهي تتشابه في كل ما تفعله، سواء كان ذلك في مصر، أو في الاتحاد السوفيتي، أو في يوغوسلافيا، أو غيرها من الأنظمة في أي دولة من الدول؛ لذا حينما تحكي تانيا الروسية للراوي عن حياتها وما حدث فيها تحت ظل النظام الشيوعي، يسألها عن أبيها: "وأبوك؟ قال لها فاليري شيئا بلهجة حادة، فهزت رأسها في عناد دون أن تنظر إليه: أبي لم أره مُطلقا، فقد اعتقلوه قبل أن أولد بشهر، وظل في المُعتقل حتى مات. تأملتها حائرا ثم سألت: من هم الذين اعتقلوه؟ أجابت: رجال ستالين، من غيرهم؟ عدت أسأل: وماذا فعل؟ لا شيء، هل تظن أنه كان من الضروري أن تفعل شيئا لتُعتقل؟ ربما كان ضد الاشتراكية. لم يكن هناك من هو أكثر منه إخلاصا وإيمانا بالحزب، وستالين نفسه"!

إذن، فالجميع رهن الاعتقال في أي لحظة، وليس من الضروري أن تكون مُعارضا للنظام السياسي، ومهما كنت مُؤمنا بهذا النظام، مُباركا له، مُتبعا إياه بشكل يقيني؛ فأنت عرضة للاعتقال تحت أي مُبرر، وهو ما يتضح مما حدث لوالد تانيا الذي كان شديد الإيمان بالحزب وبستالين نفسه، لكن هذا الإيمان لم يمنع من اعتقاله، بل والموت في المُعتقل، وهو ما لم يمنع أيضا اعتقال صُنع الله إبراهيم نفسه الذي كان مُؤمنا بعبد الناصر، ونظامه العسكري الديكتاتوري!


هذه الأنظمة التي يجلس على رأسها الطاغية- الذي يبدو للجميع دائما في صورة الأب، والمُخلص، والراعي الطيب- لا يظهر لنا بمثل هذا الشكل الطيب إلا من خلال آلة إعلامية ضخمة يتم تكريسها بالكامل من أجل خدمة هذه الأنظمة، والعمل على تجميل صورتها، والدعاية لها ليل نهار، وهي أسلوبية تتبعها جميع الأنظمة الديكتاتورية بالسيطرة على الآلة الإعلامية، واعتبارها ملكية شخصية لا يمكن أن يخرج منها إلا ما هو في مصلحة الأنظمة، والاقتراب بها من منزلة الملائكية؛ لذا لم يفت نظام عبد الناصر هذا الأمر، ونجح في عسكرة الإعلام، والسينما، والتليفزيون، وكل ما يحيط بنا من أجل النظام المُبارك- كما كان يروج له الإعلام- ومن هنا كان الدعاية لمشروع السد العالي باعتباره أهم المشاريع التي تقوم بها الثورة من أجل بناء إنسان ثوري جديد تحيط به كل الظروف الإنسانية والحضارية، لذا حينما يقرأ الراوي الصحيفة وما كُتب فيها من موضوعات إنسانية تخص من يعملون في السد العالي يقرأ: "عدت إلى موضوع القصص الإنسانية، كان كاتبه يقول: إن كل من يعمل في السد يستطيع أن يقوم بإجازة حينما يشاء، لكن أحدا لا يرغب في ذلك. وكل سائق أُعطي ترمسا للشاي، كما زود بوسادة من المطاط تمتص العرق، وتُجنبه الإصابة بالروماتيزم، وبنظارة أنيقة تحمي عينيه من وهج الشمس. سألني السائق بغتة، وهو يتطلع إليّ في مرآته، إذا كنت قرأت موضوع القصص الإنسانية؛ فأجبت بالإيجاب. قال: أنت شوفت سيادتك سواق لابس نضارة شمس، وشايل ترموس؟ قلت: لم أنتبه إلى شيء من ذلك. قال: وحكاية الإجازات دي، تعرف إن الوزير مانع الإجازات كلها؟ تصفحت بقية العناوين. توقفت عند صورة أسد ضخم، وقرأت أسفلها أنه بكى من التأثر في مطار القاهرة عندما وضعوه في طائرة المُغادرة"!

ربما نُلاحظ هنا مدى الكذب الإعلامي الذي يقوم نظام عبد الناصر بتسويقه عن الديمقراطية، ومشروع السد، والإنسانية التي يتعاملون بها مع العمال في السد رغم مُخالفة كل ما يُكتب للواقع الحقيقي، لذا فحينما يخبره السائق بأن الوزير قد منع أي شكل من أشكال الإجازات، لم يعلق الراوي الذي يحكي ويشاهد من الهامش، أو من الخارج، ولا يحاول التورط فيما يدور من حوله، بل سارع صُنع الله بجعله يعود إلى الصحيفة مرة أخرى عند عنوان يوغل في الكذب، والمُبالغة اللاعقلانية، بل والسُخرية أيضا، وهو ما يخص الأسد الذي بكى لأنه سيغادر مصر التي يصورها الإعلام المُزيف باعتبارها جنة الله على الأرض تحت سطوة جمال عبد الناصر، وإدارته البوليسية.

إنها الإدارة البوليسية التي تحاول إحكام قبضتها الأمنية على الجميع حتى لا تعطي لأحد الفرصة في التفكير، أو الاعتراض، أو التعبير عن رأيه، أو حتى يحاول امتلاك حريته وكرامته، بل يظل طوال الوقت أسير الخوف، والخشية من الاعتقال، وهو ما عبر عنه حينما أخبره العامل النوبي "فقير" بأن ثمة من يسأل عنه طوال الوقت: "قال عندما رآني: إن أحد موظفي الشركة كان هنا مُنذ قليل، وسأل عن موعد مُغادرتي الاستراحة. سألته في إعياء عما إذا كان يعرف هذا الموظف من قبل. قال: أول مرة أشوفه. قال: إنه يشتغل في الشركة، وفي الأول سألني عن مواعيد خروجك، واللي بيزوروك. عدت إلى الغرفة واستلقيت على الفراش أدخن".

بالتأكيد نستطيع من خلال هذا الاقتباس اليقين من أن هذا الشخص الذي يتابعه سائلا عنه، وعن مواعيد خروجه، وعمن يزوره لا يمكن أن يكون موظفا في الشركة، بل هو من أفراد الأمن الذي يراقبه، ولعله لا بد لنا الالتفات هنا إلى نوعية الأسئلة الأمنية التي تم توجيهها للعامل النوبي "فقير"، والتي لا يمكن أن تكون مُجرد أسئلة بريئة من أحد عمال الشركة؛ لذا لا يفوت الكاتب هنا سوق شهادة مُهمة على ما فعله نظام عبد الناصر بالمُعتقلين من اليساريين، وغيرهم- لا سيما مُحاكمة شهدي عطية- رغم أنهم لم يرتكبوا أي جريمة يستحقون عليها العقاب، فنقرأ من خلال القطع إلى ما لاقاه في المُعتقل، هو وغيره: "جاء هواء الصباح من خلف الجدران الحديدية مُحملا برائحة البحر، وقال عبد السلام: إن معدته تنقلب كلما حل في الإسكندرية، وجعل يذرع الزنزانة رائحا غاديا وهو يضغط معدته بيده، وقال: إن لم يفتحوا لنا الآن لنذهب إلى المراحيض سيفعلها في جردل البول، ورأينا من ثقب المفتاح سجينا بالسروال السكندري ذي اللية يمشي على مهل وهو يجفف وجهه بمنشفة، وقلت: إن دورنا لم يحن بعد؛ فأسرع إلى جردل البول واستوى فوقه، واصطدم المفتاح في قفل الباب الحديدي بعنف، وانفرج عن عدد من الحراس يحملون أحزمتهم الجلدية في أيديهم، انهالوا بها علينا وهم يصيحون بنا أن نتجرد من ملابسنا، وساقونا عرايا إلى الخارج حيث اصطف عدد آخر منهم على جانبي العنبر، وقد أشرعوا أحزمتهم في أيديهم، وجعلونا نجري بين الصفين والأحزمة تنهال علينا، ثم أعادونا إلى الزنازين، حيث دفعنا حارس عجوز للركن وقلب جردل البول الذي ملأه عبد السلام فوق جسدينا، وبقينا عرايا نرتعش من البرد، نحاول إزالة ما علق بأجسادنا من فضلات الجردل، ثم علا صوت الراديو بنشيد "وطني"، وأعقبته مُوسيقى كلاسيكية، قال عبد السلام في حماسة إنها "لبيزيه"، وعندما اقتادونا إلى المحكمة، كان بعضنا مُجللا بالأربطة البيضاء، وقالوا: إنها شاهد على ما قمنا به من العدوان على الحراس العُزل، ولم يكن هناك غير المُحامين ورجال المباحث والبوليس وبعض الأمهات والزوجات الحائرات، واهتزت أرداف المُدعي السمينة كما تهتز المرأة الحبلى، وسوى وشاحه الرسمي، ولعلع صوته، وقد أُضيف مجد جديد إلى سجل أمجاده الحافل بقضايا الاحتيال والجواسيس والإخوان المُسلمين، وفي الأعلى أسند الجنرال، قائد الجيوش البرية، خده إلى راحته اليمنى مُستمتعا بما يجري، وخلفه مساحات شاسعة من الأراضي، وتاريخ من سطوة الإقطاع، ومعارك وهمية لم تُطلق فيها رصاصة واحدة، وابتسم لأطفاله الموردين في بياض نسل الأتراك الذين جاء بهم ليشهدوا نهاية ثورة العبيد، وأسبل قاضي اليمين جفنيه على إغفاءة سريعة، بدت كالتفكير العميق، فمُعاملات الاستيراد والتصدير تستهلك الجهد الكبير، ولم يرفع قاضي الشمال عينيه عن صديقته الملونة التي جلست في الصف الأول، تشهد مدى سطوته، حتى انتصب الجسد الفارع داخل القفص، وعلا رأسه الذي لم تشوهه آثار الجدري عن مستوى القضبان، وحول أسنتها التفت أصابعه الطويلة، وكان عبثا أن راح يجادل بالمنطق ويقول: إنه لا يمكن أن يعادي حكومة تبني السد"!

ربما نُلاحظ هنا مدى القهر الذي يتعرض له المُعتقلين السياسيين على أيدي حراسهم في المُعتقلات، ورغم هذا القهر، فلقد تم اتهامهم بأنهم هم من اعتدوا على الحراس العزل، لكن، تتبدى لنا السُخرية العميقة هنا في هذا الاقتباس في أنه بعد الانتهاء من تعذيبهم، وضربهم، وإهانتهم أن السجن قد شغل لهم مُوسيقى وطنية، وهي السُخرية التي تأخذ مداها الأقصى حينما يؤكد لهم شهدي عطية في المحكمة أنه لا يمكن له مُعاداة حكومة تبني السد! وهو ما يؤكد على رومانسية هؤلاء المُعتقلين السياسيين الذين غُرر بهم باسم الثورة، وما تقوم به من أجل هذا الوطن من أوهام لا يحدث منها أي شيء، تماما كما ذكر الكاتب في الاقتباس عن المعارك الوهمية التي لم تُطلق فيها رصاصة واحدة، وإن كان النظام عمل على الترويج لها باعتبارها نصرا عظيما من انتصاراته العديدة!

إنها جريمة النظام التي يؤكد عليها صُنع الله غير مرة، لا سيما في مشهد مقتل شهدي عطية داخل المُعتقل تحت تأثير التعذيب: "الجنود صفان مُتقابلان، كعهدهم دائما، وعصيهم الغليظة تشق الهواء جزافا، والصيحة المتوحشة تأمر بالجري بينهم حتى الساحة، وهناك استقرت منصة مُرتفعة جلس خلفها الجنرال بملابسه العسكرية، والشارة الحمراء التي تدل على رتبته الرفيعة، وحوله النظارة الذين جاءوا خصيصا ليشهدوا الحفل، وقد ارتدوا جميعا نظارات سوداء، وانهالت الضربات على الرؤوس والصدور والظهور، بالقضبان والأقدام والعصي والأحزمة الجلدية والنبابيت والشوم وكعوب الأحذية العسكرية، وجُرد الضحايا من ملابسهم، واقتيدوا واحدا بعد الآخر أمام الجنرال، ليتفقد بعينيه أحجام رجولتهم، ثم سُحلوا عراة فوق الرمال، حتى الوحش الآدمي ذو العينين المجنونتين الذي اندفعت قبضته السمينة في الهواء، وقد لمعت فوقها بقعة من الدماء الطازجة، وبعد ذلك كان الدوران عشرات المرات حول العنبر الحجري الطويل، وداخله كانت هناك الأرض الحجرية العارية، والدماء التي تنزف من الظهور، والهذيان، وفقدان الوعي، وفي المساء أُضيء النور؛ فتبدت معالم المكان، وظهر الفراغ الذي تركه إلى الأبد الجسم العملاق، والوجه الذي لم تفلح آثار الجدري في تشويهه"، أي مقتل شهدي عطية من أثر التعذيب.

إذن، ففي الوقت الذي كان يتم فيه تعذيب وقتل المُعتقلين من أبناء هذا الوطن لمُجرد أنهم صدقوا ما أُطلق عليه اسم الثورة، وصدقوا أنهم مواطنون لهم رأيهم، ويمتلكون حريتهم وكرامتهم، كان هناك آخرون من أبناء هذا الوطن ما زالوا يصدقون الثورة النبيلة- كما يتم تصويرها- ومن ثم كانوا على أتم الاستعداد بالتضحية بحياتهم من أجلها، ومن أجل مشاريعها- فهم لم يصبهم الدور بعد- وهو ما اتضح في: "مال عليّ فوزي وهو يهز إصبعه في وجهي: لا تظن بأننا لم نكن سُعداء في المرحلة الأولى- يقصد المرحلة الأولى من بناء السد- لم نكن نملك وقتا للتفكير، لا في عائلاتنا، أو في المُستقبل، أو النساء. كان لدينا عمل واضح مُحدد هو هدم الصخور، ثم نقلها وإلقاؤها في النهر حتى تعترض مجراه. وكان هناك هدف مُحدد هو سد النيل، وفتح القناة الجديدة في آن واحد. كان النهر يعج بالحركة والحماسة طوال الوقت. الجميع يتسابقون للحاق بيوم 14 مايو 1964م، وجميعهم على استعداد للتضحية بحياتهم ببساطة"، أي أن بناء السد هنا قد تحول بالنسبة للمواطن- الذي لم يصبه الدور بعد، وما زال يصدق ما يتم تصديره إليه- بأنه في مهمة وطنية لا بد له فيها أن يُساند النظام الذي يبني جمهورية جديدة، هي جمهورية الأمل والكرامة والحرية.

هذا الوهم بوطنية هذه المهمة قد جعلت الجميع منهم مُستعدين للتضحية بحياتهم، تماما كما فعل فوزي- مُهندس التفجير- حينما روى للراوي الأمر: "كان فوزي يواصل الحديث: يوم التحويل مثلا كان يوما هائلا، كنا سنُجن من الحماسة، وكان هناك سدان مُؤقتان من الرمال في طريق القناة الجديدة، كان لا بد من نسفهما أولا حتى تنطلق المياه من القناة، وعندئذ تُغلق آخر ثغرة في السد. وانفجر السد الأمامي، ولكن الخلفي لم ينفجر، وأصبح كل شيء مُهددا في دقائق، فقد كان بوسع المياه أن تجتاح أساس محطة الكهرباء وتُدمر السد الرئيسي. ملأ كوبا جديدا من البيرة، أفرغه عن آخره، ومسح فمه بظهر يده: كنت أنا المسؤول عن تفجير السد الخلفي، وأدركت أنه لا بد من الغوص فورا، لمعرفة السبب بالرغم من أن الديناميت قد ينفجر في أي لحظة، فخلعت ملابسي وغصت، ووجدت الأسلاك مقطوعة فربطتها".

جمال عبد الناصر

إن الثورة/ الانقلاب العسكري الذي قام به جمال عبد الناصر وزملائه من ضباط الجيش نجحت في إيهام المصريين بأنهم سيمتلكون إرادتهم، ووطنهم، وكرامتهم، وهو ما أكسبهم قدرا هائلا من الشوفينية التي تفشت بشكل سريع بين الجميع، ومن ثم بات الكل يتحدث باسم الوطنية والانتماء الفارغ ليل نهار، مُضخما من صورة المصري الوطني الذي لا يشبهه أحد، حتى لو كان تضخيم هذه الصورة الوطنية بإنكار الوقائع التي تحدث أمام عينيه: "قال فوزي: العمال الروس مُدهشين، رأيت مرة واحدا منهم عندما انهار النفق الثاني. كلنا جرينا وتركنا آلاتنا خلفنا، أما هو فرفض أن يتحرك بدون الحفارة التي كان يسوقها، وظل يعافر بجنون ليخرجها. تعرف ماذا فعل؟ دق الكباشة في الأرض، وجعل يقفز بالحفارة إلى الخلف حتى أخرجها من النفق. وتحول إلى سعيد وهو يهز إصبعه: هذا لمعلوماتك فقط، وليس للنشر؛ فنحن لا نريد أن نعطي صورة سيئة لعمالنا، ونُبالغ في تقدير الروس. قال سعيد: لا تخشى شيئا، فلست أريد أن يُقال: إني شيوعي، أو إني مُصاب بعقدة الأجنبي، وعاجز عن رؤية المُعجزة المصرية"! ربما نلحظ هنا في نهاية الاقتباس السابق قدرا هائلا من السُخرية التي يتقصدها الروائي في جملة: "وعاجز عن رؤية المُعجزة المصرية"، فهي في حقيقتها مُعجزة روسية حدثت أمام أعين الجميع.

هذه الكوارث التي تحيق بالعديد من البشر تحت مُسمى الوطنية، والانتماء، والثورات لا يقصره صُنع الله إبراهيم هنا على المصريين وثورتهم فقط، بل تعداه إلى كافة الأنظمة الشمولية الأخرى والتي كان منها النظام السوفيتي المتعاون مع النظام المصري المُطابق له، ولنتأمل: "استقبلتنا امرأة ضخمة ذات وجه جامد لا يعرف الابتسام، قال ياكونوف، وهو يقدمها لنا: إنها مُهندسة، ولها في بلادنا عدة شهور. سألها سعيد عما إذا كانت تعيش مع أسرتها؛ فاحمر وجهها وقالت: إنها بمُفردها. ثم أضافت بعد لحظة: إنها فقدت زوجها في الحرب، وليس لها أطفال. ران علينا الصمت، وهربت بعينيّ إلى صورة لينين المُعلقة على الحائط فوق رأس المُديرة".

إن انتقال الراوي بعينيه إلى صورة لينين المُعلقة فوق رأسها كان خير تعليق منه، وفيه قدر غير هيّن من الإيجاز والفنية والبلاغة، مُستخدما آلية الكاميرا السينمائية التي تنتقل إلى الشيء المُتسبب في الجريمة من دون إطلاق أي تعليق آخر مُباشر من شأنه إفساد فنية النص الروائي. فلينين هنا هو السبب في مأساتها التي تعيشها، تماما كما كان عبد الناصر هو السبب في العديد من المآسي التي حدثت للكثيرين من المواطنين باسم الثورة والانتماء!

محاولة الروائي هنا التأكيد على تاريخ الكذب، والطغيان تتضح لنا هنا بينة جلية بعودته إلى التاريخ المصري القديم للتماهي مع ما قام به جمال عبد الناصر، وما فعله الملك رمسيس الثاني بشكل فني بديع، لا عمدية فيه بقدر ما جاء الأمر بسلاسة مُقنعة، وهو ما قرأناه حينما وصل الراوي إلى أبي سنبل وزار معبد رمسيس الثاني؛ فسأله خليل الآثاري: "سألني: قل لي، ماذا تعرف عن رمسيس الثاني؟ قلت: ليس كثيرا، ما زلت أذكر من أيام المدرسة أنه خاض معركة كبيرة في آسيا، وانتصر فيها على الحيثيين. قال: بالعكس، لقد هزموه شر هزيمة، لكنه زعم عند عودته أنه انتصر عليهم. قلت: أذكر أيضا أنه عاش كثيرا. قال: 92 عاما. قلت: وكان زير نساء. قال: 23 زوجة، و178 من الأولاد والبنات. قلت: وإنه بني أبي سنبل، وسلسلة كبيرة من المعابد على طول النيل. قال: واغتصب كثيرا من المعابد التي بناها أسلافه، بل أزال اسم أبيه من أحد المعابد، ووضع اسمه مكانه. سألت: أوديب؟ أجاب: ربما، أزال أيضا كل أثر لشقيقه الأكبر عندما تولى، ونقش في أبيدوس أنه أكبر أبناء أبيه. قلت: إنه إذن فرعون الأكاذيب".

إذن، فأكاذيب التاريخ تتماهى مع الأكاذيب الحالية، ولعل الجملة الأخيرة في الاقتباس السابق "إنه إذن فرعون الأكاذيب" تنطبق كلية على جمال عبد الناصر بدوره الذي كان فرعونا للأكاذيب في الكثير من الأمور، أي أن صُنع الله هنا يعود إلى التاريخ ليتخير منه العديد من المواقف التي قام بها رمسيس الثاني والمُماهاة بينها وبين ما قام به جمال عبد الناصر؛ فرمسيس لم ينتصر على الحيثيين كما سجل على جدران معابده، بل هُزم شر هزيمة، وهو ما حدث تماما مع جمال عبد الناصر في يونيو 1967م حينما كان إعلامه يذيع بيانات حماسية للمواطنين مُؤكدين لهم بأنه قد تم الانتصار على العدو، وبأن جيشنا قد اقترب من تل أبيب في الوقت الذي هُزمنا فيه هزيمة ساحقة على يد العدو، كما أن رمسيس الذي أزال اسم أبيه من على أحد المعابد ونسبه إلى نفسه يتشابه مع عبد الناصر الذي لجأ نظامه إلى حذف كل ما يمت للملك فاروق بصلة في جميع أفلام السينما السابقة على الثورة؛ مما أدى إلى تقطيع هذه الأفلام وحذف كل ما يشير إلى الملك فيها، فضلا عن نسبة الثورة إليه ولمن معه من الضباط مُتناسين في ذلك اللواء محمد نجيب الذي لولاه لما كان هناك انقلابا عسكريا على الملكية، وهو ما يتقابل مع ادعاء رمسيس الثاني بأنه أكبر أبناء أبيه.

إنه ما يؤكد عليه الروائي بشكل صريح مرة أخرى حينما يسأل الطبيب الراوي: "سألني الطبيب: لماذا لا يعجبك رمسيس الثاني؟ إنه أكثر شخصية تتمثل فيها عبرة التاريخ. تساءلت: كيف؟ قال: ألم يحك لك خليل عن تاريخه؟ سبعون سنة من السُلطة، أي الكذب، والفجور، والقتل، والادعاء، والغرور، والاستعباد، وها هو ما زال يعيش حتى أيامنا، ونحن الآن نعمل ليل نهار ليُخلد اسمه. تماما كما أراد. قلت: ولماذا لا نقول: إننا نُخلد الفنان المجهول الذي نحت هذه التماثيل؟ انفجر ضاحكا: الفنان المجهول كالجندي المجهول، الضحية التي ينساها الإنسان بسرعة البرق".

ألا نُلاحظ هنا وجه التطابق ما بين كل من رمسيس الثاني الذي خلده التاريخ حتى اليوم رغم كل ما قام به من جرائم وأكاذيب، وبين جمال عبد الناصر الذي ما زال مُخلدا، والذي يعمل الكثيرون على تخليده وتبييض صورته رغم كل الجرائم التي ارتكبها بمُساعدة نظامه العسكري مع المواطن المصري؟

إذن، فالتاريخ يعيد نفسه بنفس الطريقة تقريبا على فترات مُتباعدة كما يرغب صُنع الله الإشارة في إلى ذلك، أي أن الطغاة لا يذهبون إلى الفناء- كما يظن المثاليون- ولا يمكن نسيانهم، بل يتم تخليدهم، وتأبيدهم في الوقت الذي يتم فيه تناسي العظماء والنبلاء الذين قاموا بالعديد من الأعمال الخيرة التي من شأنها أن تعمل على تخليدهم، ولكن، ليس هذا هو المنطق الذي يعمل به التاريخ، فالمنطق هو التخليد للطغاة أكثر من تخليد النبلاء.

لذلك يحاول الروائي من خلال آليته الروائية التي جعلها أداة أساسية للسرد الروائي- أي القطع على التوثيق من التاريخ للتماهي مع الحاضر- الإيغال في توضيح هذه الحقيقة- الكذبات الكبرى التي يخلدها التاريخ- حينما نقرأ: "قال خليل: لقد نجا رمسيس من الموت في هذه المعركة بفضل حرسه الخاص من الجنود الذين أحاطوا به من كل جانب. لكن النقوش لا تشير إليهم بحرف، أما هو فقد صب اللوم كله فيما حدث على جنوده، ووصفهم بأنهم جبناء مع أن المسؤولية كلها تقع عليه. كيف؟ هو الذي اتخذ قرار الحرب، وأسرع بجيشه دون أن ينتظر حتى أن تلحق به بقية قواته. وهو الذي صدق رواية الأسيرين، ولم يعبأ بأن يتحقق من صدقها".

ربما لا بد لنا هنا من تأمل الاقتباس بتمعن؛ فرمسيس كان هو المُخطئ، وهو المُتسرع في اتخاذ القرار مما أدى إلى هزيمته أمام الحيثيين، وفي المُقابل فعل جمال عبد الناصر نفس الأمر في حرب يونيو 1967م مما أدى إلى هزيمته، فضلا عن أنه لم يعترف بالخطأ بدوره، بل خرج إلى الناس في ملهاة مسرحية ليعلن لهم تنحيه عن دوره كرئيس للجمهورية؛ مما جعل الشعب يتعاطف معه ويطالبه بالبقاء وعدم التنحي!

لكن، مع وصول صُنع الله إلى نهاية هذا الاقتباس السابق، سُرعان ما يقطع على التاريخ مُباشرة لنقرأ: "لم يكن أحد منكم هناك، لم يكن معي قائد، أو ضابط مركبة، أو ضابط من المُشاة، ولا حامل درع، فقد تركني مُشاتي فريسة أمام العدو، لم يقف أحد بجانبي، ويضع يده في يدي وأنا أحارب العدو. إن الأجانب الذين شاهدوني سوف يخلدون اسمي حتى في البلاد النائية التي لم يسمع بها أحد".

صُنع الله إبراهيم

رغم أن هذا المقطع السابق استقاه صُنع الله من بطون التاريخ- فهو حديث رمسيس الثاني بعد الانتصار المزعوم على الحيثيين- إلا أنه يحمل قدرا ليس بالهيّن من السُخرية- سواء من رمسيس أو من جمال عبد الناصر بدوره- فهو هنا يدعي البطولة الأسطورية، يدعي انتصاره المزعوم على الحيثيين وحده فقط- من دون مُساعدة جنوده- يتجاهل تماما حرسه الخاص الذين أنقذوه من الموت، ويشير إلى بطولته في الانتصار وحده، بل وتصل المأساة الساخرة إلى حدها الأقصى في قوله: "إن الأجانب الذين شاهدوني سوف يخلدون اسمي حتى في البلاد النائية التي لم يسمع بها أحد"، لأنه بالتأكيد الأجانب الذين شاهدوه لن يخلدوا اسمه كما يدعي، بل سيتخذون منه مسخرة حينما يسمعون بادعاءاته التي يدعيها لمواطنيه من المصريين، في حين أن الواقع يختلف اختلافا بينا عما يدعيه، وعما شاهدوه!

يرغب صُنع الله إبراهيم هنا في التأكيد على أن كل طاغية يستطيع أن يخلق من نفسه أسطورة ليصدقها البسطاء، وغيرهم من المثاليين، والمُغرر بهم، ولعل حديث الريس سرور- صاحب الصندل الذي انتقل عن طريقه الراوي إلى أبي سنبل- ما يؤكد ذلك: "جلست على شبه وسادة صُنعت من أكياس الخيش، وأنا أسأله عن الأحوال. رفع يده إلى فمه، وقلبها ظهرا لبطن قائلا: نحمده، البحر وسع بعد السد ببركة ريسنا جمال، الريس دا والله نبي. سألته عن موعد وصولنا إلى أبي سنبل، فأجاب: علم الله، احنا في البحر ملك إيديه، فيه ملايكة شايلين البحر على سلاسل، وفي أيديهم كل حاجة"!

لاحظ هنا محاولة إضفاء القداسة على جمال عبد الناصر من قبل الريس سرور، وهو اليقين الذي بالتأكيد يؤمن به الكثيرون غيره من البسطاء، ليروا في عبد الناصر مُجرد نبي من الأنبياء المُصطفين الذين وهبهم الله إياه من أجل الاعتناء بهم، وبمصالحهم!

إن رواية" نجمة أغسطس" للروائي صُنع الله إبراهيم من الأعمال التي لا غنى عنها كوثيقة مُهمة استعرضت بأسلوب روائي مُختلف ما كان في هذه الحقبة الزمنية، وهي وثيقة حية، عايشها الروائي عن قرب، وحدثت أمام عينيه، وعانى منها، وشارك فيها، ورغم إيمانه الواضح والبيّن بنظام عبد الناصر، إلا أنه كان- مثله في ذلك مثل غيره من الوطنيين- من أولى ضحايا هذا النظام بإلقائه في المُعتقل- بما أنه من الشيوعيين- والتنكيل به، وتعذيبه.

لكن، يبقى أمامنا براعة صُنع الله إبراهيم في اختياره لأسلوبية روائية خاصة، يتقنها جيدا، وقادر على تطويعها من أجل التعبير عن عالمه الروائي الذي لا يتشابه فيه مع الآخرين، وهي الأسلوبية التي أطلقنا عليها "الحكي من الهامش"، أي اتخاذ موقع هامشي له على جانب العالم الروائي، والبدء في رصده، ومُتابعته، ووصفه من دون التورط فيه، أو محاولة أن يكون كراوٍ جزءا من هذا العالم، إلا أنه رغم هذه البراعة لا يمكننا تجاهل الفوضى اللغوية الكارثية، والفجائعية التي لاحظناها على طول الرواية، وهي الفوضى التي تجعل استمرار القراءة أمرا شديد الصعوبة لمن ينتبه إلى الأخطاء اللغوية، الكتابية، والنحوية، والإملائية التي تملأ العمل الروائي، أي أن العمل في حاجة ماسة إلى إعادة تدقيقه، لتعديل هذه الفوضى ونشره مرة أخرى سليما.

 


محمود الغيطاني

مجلة "نقد 21".

عدد سبتمبر 2025م.

 

 

 

 

 

 

الاثنين، 1 سبتمبر 2025

ابتكار الألم: القص من الخارج!

 ثمة سؤال، لا غنى عنه، لا بد أن يفرض نفسه على قارئ المجموعة القصصية "ابتكار الألم" للقاص الجزائري محمد جعفر: هل من المُمكن للكاتب الكتابة من دون التورط فيما يقوم به- بمعنى ترك مسافة ما بينه وبين النص الذي يقوم بصياغته- وينجح رغم هذه المسافة في تقديم نص إبداعي جيد، ومُكتمل- أو على أقل تقدير أقرب إلى الاكتمال، ويصبو إليه؟

إن قراءة المجموعة القصصية المُشار إليها تجعل السؤال يتردد على أذهاننا غير مرة- طوال عملية القراءة، حتى الانتهاء منها- لا سيما أن الكاتب هنا يحاول الاعتماد على أساليب وتقنيات في الكتابة لا يمكن لها أن تُساعده على السرد بشكله الفني اللهم إلا إذا ما كانت هناك مسافة- حادة وواضحة- بينه وبين العالم القصصي الذي يحيكه، مما يعني أن الكاتب هنا يمارس عملية القص من الخارج، أي يتأمل العالم القصصي الذي يعمل على بنائه من خلال مسافة كافية، ومن ثم يبدأ في النسج بتؤدة وأناة من دون التورط في هذا العالم بالسقوط داخله، أو الانحباس داخل أحداثه، أو التأثر به وبشخصياته، أو حتى التعاطف معهم، وهو ما يعني- أيضا- أن العملية الإبداعية هنا قد باتت عملية عقلية، جافة، باردة، أكثر من كونها عملية شعورية تتمتع بالحميمية، والتورط الشعوري الذي قد يُفقد النص القصصي منطقيته في بعض الأحيان- رغم أهمية هذا التورط في العملية الإبداعية.

إذن، فالعملية الإبداعية لدى القاص محمد جعفر هنا هي أقرب إلى العمليات الحسابية العقلانية التي تستدعي الكثير من التيقظ وإعمال العقل- بالنسبة للكاتب- وهو ما يتيح له مساحة أكبر من التجريب، واستخدام تقنيات فنية من شأنها إدهاش القارئ، ومقدرة الكاتب على امتلاك زمام عالمه القصصي، وتوجيهه- التلاعب بالعالم القصصي قدر المُستطاع- فهو ينسج العالم من الخارج- الإله المُتحكم في العالم- أي من خلال مسافة، وهو ما يتيح له رؤية كلية شاملة لهذا العالم ما كان له أن يمتلكها لو كان متورطا داخل عالمه القصصي، محاولا بنائه من خلال التورط الشعوري.

لكن، هل يعني ترك تلك المسافة ما بين المُبدع والنص الإبداعي؛ تجريد القصة من هذا الرابط الشعوري- الذي لا غنى عنه- وهو الرابط الشبيه بالحبل السُري ما بين كل من الكاتب والعالم الذي يصوغه؟ فالعالم القصصي في جوهره يقوم، ويكتسب وجوده، وحياته، ومقدرته على التنفس بحيوية من خلال هذا الرابط.

لا يمكن التغاضي عن حقيقة أن العالم الإبداعي لأي مُبدع إنما يعتمد في المقام الأول على تورط الكاتب في عالمه الذي يصوغه، وهو التورط الذي يجعل الكاتب مُتعاطفا إلى حد ما مع شخصياته، وأحداث عالمه الفني، وسلوكياتهم، حتى أنه قد يتعاطف مع إحدى الشخصيات أكثر من غيرها مما يجعله مُنحازا لها، موافقا على أن تقوم ببعض الأفعال غير المنطقية لمُجرد الميل إليها، لكن هذا التورط داخل العالم الإبداعي من شأنه أيضا العجز عن رؤية العالم الفني بشكله الكلي- الرؤية الخارجية- فالكاتب مُنغمس بكليته- نتيجة لتورطه الشعوري- داخل العالم، مُندمج مع شخصياته، يكاد أن يكون واحدا منهم، يتفاعل معهم بحميمية- ربما تنبني تصرفاته على تصرفاتهم- وهو ما قد يجعله مُنساقا مع حركة الشخصيات القصصية ومنطقها الداخلي- أي فرض الشخصيات القصصية لسطوتها عليه- مما يجعله عاجزا عن فرض تقنيات وآليات سردية جديدة عليها لأنه في واقع الأمر يرى العالم الإبداعي- في هذه الحالة- من داخله، وليس من الخارج.

إن رؤية العالم الإبداعي من الخارج- ترك مسافة ما بين المُبدع والعالم الإبداعي- من شأنه إعطاء الفرصة للمُبدع للتلاعب بالعالم، والتجويد فيه، وتجريب العديد من الأساليب السردية المُختلفة التي ما كان له أن يلجأ إليها لو كان السرد من الداخل، لكنها في نفس الوقت تشبه إلى حد كبير السرد على الحافة- أي أنها قد تؤدي إلى انهيار هذا العالم- لأن هذه المسافة التي يعمد إليها الكاتب قد تؤدي بالعالم بأكمله إلى الجفاف، والبرود- الصقيع الشعوري- الذي يجرد العالم القصصي أو الروائي من طبيعته، وإنسانيته، ومشاعره، ويحيله إلى شيء مصنوع لا روح فيه، ولا حياة، ومن ثم يفقد المُتلقي مقدرته على التعاطي مع هذا العالم، أو التعاطف مع شخصياته، فيسقط الكاتب في هوة التجريب الذي لا معنى له، ولا طائل من اللجوء إليه.

هنا- وعند الوصول إلى هذه النقطة- لا بد من طرح السؤال: كيف تعامل القاص الجزائري محمد جعفر مع هذا الأمر، وهل نجح في تقديم قص إبداعي يمتلك من الروح الإبداعية والشعورية ما يجعل القارئ قادرا على التعاطي معه، والتأثر به، أم كان لجوئه إلى ترك هذه المسافة- القص من الخارج- سببا في تجريد العالم القصصي من روحه، ومن ثم سقوطه في الجفاف والبرودة، وفقدان التأثير بسبب الانسياق إلى العديد من الألاعيب الفنية الخاضعة إلى حد كبير للعقل والتجريب، والمُغامرة؟

نلمح هذه المحاولة الخاضعة إلى حد بعيد للعقل والإدراك والتجريب في قصة "صوت" التي افتتح بها القاص مجموعته القصصية، حيث مال الكاتب إلى ما نُطلق عليه في المسرح إسقاط/ كسر الحائط الرابع، وهو التعبير المسرحي الذي كثيرا ما لجأ إليه الكاتب المسرحي الألماني Bertolt Brecht برتولت بريخت، والذي يعني كسر الإيهام بعدم وجود المُتلقي/ الجمهور بالتوجه المُباشر إليه، وربما الحديث معه- نافيا من خلال هذا الفعل حالة التواطؤ الفني الناشئة والمُتفق عليها ما بين كل من المُبدع والمُتلقي.

نُلاحظ هنا أن الكاتب يعمل على كسر هذا التواطؤ مع مُفردته القصصية الأولى؛ فنقرأ: "من حوار مع الكاتب. س: هل تعتقد أن الأساليب التعبيرية السردية الدارجة اليوم هي وليدة الابتكار والتجديد؟ ثم إلى أي مدى تراها تُسهم في نقل هواجس وانشغالات الكاتب؟".

إن جملة "من حوار مع الكاتب" التي بدأ بها القاص قصته تُحيل القارئ بشكل مُباشر إلى إيهام تجريد القصة بالكامل من إمكانياتها الإبداعية إلى مُجرد إخبار بأمر ما؛ ومن ثم يكون السرد التالي على ذلك بكليته جزءا من جنس سردي آخر، ومُخالفا لما نحن بصدده، فلقد خرج للوهلة الأولى من الإبداع القصصي إلى الإخبار الصحفي.

لكن، مع الاستمرار في قراءة القصة يتبيّن لنا أن القاص إنما يهدف من وراء هذا الشكل من الإيهام إلى التهكم، أو السُخرية من الكثيرين من المُبدعين الذين يتناسون أن مهمتهم الرئيسية هي الإبداع، وليس التنظير؛ فكثير من المُبدعين يخرجون علينا ليل نهار بالكثير من الآراء والرؤى النقدية، والتنظيرية مُتناسين في ذلك هدفهم الرئيس من العملية الإبداعية، وهو تجويد ما يقومون بكتابته، ومحاولة الوصول به إلى الاكتمال بإدخال المزيد من الآليات والأساليب الفنية إلى سردهم، وإتقان العملية السردية، لكنهم بدلا من الانكباب على كتابتهم الإبداعية بشكل عملي- ليس في حاجة إلى التنظير- يتناسون هذه المهمة بالكثير من الأحاديث، واللغط، والثرثرة التي لا معنى لها؛ ومن ثم تغلب آرائهم النقدية التنظيرية على أسلوبيتهم الإبداعية، ويتحولون- رغما عنهم- إلى مُجرد مُثرثرين أكثر من كونهم مُبدعين- فهم في المرحلة الوسطى ما بين الإبداع والنقد التنظيري، غير قادرين على الانحياز لأي منهما لرغبتهم العارمة في الثرثرة والتنظير أكثر من العمل الجاد على كتابتهم وتجويدها.

القاص هنا يحاول التعبير عن آفة العصر والوقت الآني الذي نحياه، وهي الاستعراضية. إنها الاستعراضية التي تؤكد على أن صاحبها فارغ إلى حد بعيد، مُهتز، غير واثق من نفسه، أو من ثقافته، أو من مقدرته على الإبداع من دون شرح أو تعليل لما يقوم بفعله، في حين أنه لو ركز على ما يقوم به من عملية إبداعية بدلا من هذا التنظير؛ لنجح إلى حد بعيد فيما يقوم به، ولاكتسب المكانة التي يسعى إليها بالقليل من الكلام، والكثير من الاجتهاد في الكتابة، ومن دون تفسير.

إن محاولة الظهور الاستعراضية التي يقوم بها المُبدع هي ما يشغل القاص في هذه القصة، بمعنى أنه تأمل فيما حوله، ولاحظ تفشي هذه الظاهرة بين الكثيرين من المُبدعين، وهو ما دفعه إلى محاولة التعبير عنها بشكل إبداعي، وبالتالي لجأ إلى هذا الشكل الفني الذي استدعى كسر ما يُسمى في المسرح بالحائط الرابع، فضلا عن تراجعه خطوات بعيدا عن النص الإبداعي الذي يعمل عليه- أي ترك مسافة بينه وبين النص- وهو ما أدى في النهاية إلى تشكل النص القصصي بمثل هذا الشكل الذي يبدو لنا للوهلة الأولى مُجرد رأي نقدي، ولنتأمل: "ج: الرهان الأساسي في العملية الإبداعية- ومُنذ البدايات- كان في كيفية القول. وإذا كان البحث عن إمكانات جديدة وغير مسبوقة بغرض الإمساك بتعقيد الوجود والظرف الإنساني لا يزال ضرورة لا مناص منها، فإن الإغراق في الذاتية سمة الأدب في العصر الحديث. ولعل أبرز تجليات الذاتية اليوم أو سَقْطها تلك الشعرية البغيضة التي تقوم على تجييش المشاعر واستفزازها عبر مجازات مفضوحة هي أقرب إلى هذر العاجز، شعرية أشبه بجلسة تعذيب مُتقنة. الاعتراف فيها يكون من غير معنى، ويشير إلى تخلي الأدب عن دوره ومسؤوليته. ولأنه لا يمكن التأكيد على فاعلية الأدب إلا عبر التأكيد على جوهره، فإن الكشط والحفر في اللحظة، ومحاولة الإمساك بها والتركيز على الجوهر بعيدا عن اللغو والوصف وما لا فائدة منه في استعراض غير مسؤول للعضلات اللغوية والأدبية، هو الغاية متى كان المُبدع واعيا بها حين الكتابة عنها. إذ يصير الوقوف وجها لوجه أمام بذاءة العالم الغرض الكلي من الكتابة الأدبية".

 ألا نُلاحظ هنا أن جعفر- فضلا عن محاولة التعبير الفني عن هذه الظاهرة الاستعراضية بشكل قصصي- يحاول تمرير رأي نقدي جاد من خلال قصته؟ أي أنه لجأ هنا إلى استخدام الحيلة الفنية- كسر الإيهام- التي قد تجعل المُتلقي غير مُنتبه للرأي النقدي الجاد المُضمن في قصته؟ هذا من جهة، ومن جهة أخرى فهو من خلال ما ساقه على لسان الكاتب في قصته إنما يؤكد على ما ذهبنا إليه نقديا مُنذ قليل- خطورة التورط الشعوري في النص الإبداعي- وهو ما نُلاحظه في "ولعل أبرز تجليات الذاتية اليوم أو سَقْطها تلك الشعرية البغيضة التي تقوم على تجييش المشاعر واستفزازها عبر مجازات مفضوحة هي أقرب إلى هذر العاجز، شعرية أشبه بجلسة تعذيب مُتقنة. الاعتراف فيها يكون من غير معنى، ويشير إلى تخلي الأدب عن دوره ومسؤوليته".

إن لجوء القاص إلى التصريح بمثل هذا الرأي النقدي على لسان كاتبه في قصته يُفسر لنا السبب في ركونه إلى وجود مسافة آمنة بينه وبين نصه، أي عدم التورط الشعوري مع النص الذي يقوم بكتابته، وهو ما يسمح له ببناء عالم قصصي مُتزن، أقرب للاكتمال من خلال استخدام تقنيات وأساليب فنية تساعده على ذلك، وهو ما رأيناه أيضا في العديد من قصص مجموعته القصصية، كما يؤكد من خلال هذا الرأي النقدي- المُضمن- إلى ضرورة اكتفاء المُبدع بدوره كخالق للعمل الفني- أي القيام بدوره الفني- وعدم تخطيه إلى محاولة الثرثرة، أو التنظير، أو الشرح، أو التعليل لما يقوم به.

في قصة "الشك" يستعين الكاتب بتقنيات أسلوبية وفنية تؤكد لنا على أن العملية الإبداعية لديه تميل إلى التجريبية العقلانية- باعتبارها تجربة معملية، أو ذهنية- أكثر من ميلها إلى التجربة الشعورية- المُميز الأساس للإبداع- وهو ما ذهبنا إلى تعريفه سابقا "بالقص من الخارج"، مع محاولة الحفاظ على الحد الأعلى من الإبداع ومقومات السرد القصصي حتى لا يفقد السرد جاذبيته وروحه الإبداعية؛ فيحاول التعبير عن شكوك إحدى الزوجات التي تجد في ثياب زوجها منديلا ورقيا مكتوبا عليه رقم هاتف مجهول، ومن ثم تأخذها الشكوك، والاحتمالات، والهواجس، والتفكير في صاحبة هذا الرقم، وإمكانية أن يكون زوجها على علاقة بامرأة غيرها، وتبدأ الزوجة في وضع الاحتمالات والخطط التي لا بد أن تقوم بها من أجل معرفة الحقيقة- التي من شأنها أن تُدمر حياتها في نهاية الأمر- لكنها بعد الكثير من التفكير، ووضع الخطط والاحتمالات تُفضل تجاهل الأمر حتى لا تنهار حياتها؛ فوجود زوجها في حياتها أهم من هواجسها، والوصول إلى الحقيقة التي تحاول البحث عنها من خلال السيناريوهات التي فكرت فيها ووضعتها من أجل تنفيذها.

محاولة القاص هنا في بناء هذا العالم بشكل يكون فيه مُنفصلا شعوريا عن شخصياته أدى به للجوء إلى استخدام الضمير الثالث- هو- وهو الضمير الذي يخلق مسافة في القص بشكل تلقائي، ويجعل القاص غير متورط مع شخصياته الإبداعية، لكنه في نفس الوقت يجعل المُبدع "راوٍ عليم"، أي إله يعلم كل شيء بشكل مُسبق، ومن ثم تنحصر مهمته الإبداعية في الإخبار، ولنتأمل: "جرت العادة أن تُفتش الزوجة في الثياب التي ستدفع بها إلى آلة الغسيل خشية أن تكون بها أشياء مهمة يمكنها أن تتعرض إلى التلف والضياع. وبينما هي تفعل هذه المرة وقعت على منديل ورقي محشور في الجيب الخلفي لسروال جينز يلبسه زوجها. كان المنديل مطويا بعناية فائقة، وحين فتحته انتبهت أنه يتضمن رقم هاتف محمول كُتب على عجل بغير خط زوجها. حينها حملته ووضعته على الطاولة قُرب السرير وعادت تُكمل أشغالها، لكن لم يمض وقت طويل حتى عبرها خاطر مُريب أسر إليها بأن المنديل يتضمن سرا ما. وأخبرتها هواجسها أن الرقم لا بد أن يكون لسيدة. فهل كانت تملك ما يعزز هذا الخيار؟".

إن لجوء الكاتب هنا إلى الضمير الثالث هو ما جعل القص يأخذ شكل الإخبار العليم والمُحيط بكل شيء، أكثر من شكل الإخبار الناقص أو الجزئي- أي الاعتماد على الكشف رويدا ليكون على قدم المساواة مع شخصياته القصصية في اكتشاف ما هو غامض عليه- لذا نُلاحظ مُنذ البداية أنه يقوم بإخبارنا بواقعة يعرف تفاصيلها ونهايتها التي ستنتهي إليها.

كما لا يفوتنا أن السؤال الذي انتهى به الاقتباس السابق ما كان يمكن للقاص اللجوء إليه في حالة استخدام ضمير المُتكلم- التورط داخل العالم، أو التماهي مع شخصية الزوجة- لذا فالضمير الثالث هنا كان أكثر الضمائر مُناسبة، لا سيما حينما يستمر القاص في سرده ويبدأ في إخبارنا بالاحتمالات التي بدأت الزوجة في التفكير فيها: "بدت عليها الخيبة حين لم تقع على غير رائحة المنديل المُعطر. أيضا لم تكن مُستعدة لأن تستسلم. قد يكفي المنديل الورقي والرقم الذي عليه كحجة دامغة. ولتتجاوز وساوسها رأت التالي: 1- أن تتجاهل الرقم وتهمله كشيء لا يعنيها مع الإبقاء على وساوسها وعدم قدرتها على التخلص مما يزعجها. 2- أن تطلب الرقم لتقف على صاحبه، مع احتمالين اثنين: الاحتمال الأول: أن يكون المُتصل به أنثى. الاحتمال الثاني: أن يكون المُتصل به ذكرا. هذا مع غض النظر عما يدور في ذهنها إذا ما تحقق الاحتمال الأول، لكون هذا الاحتمال يتوفر على فرضيتين اثنتين عكس ما كانت تراه هي: الفرضية الأولى: أن يكون الرقم لأنثى، وتكون هذه الأنثى عشيقة زوجها، وهي الفرضية التي لم تكن ترى غيرها وهي واقعة تحت الضغط. الفرضية الثانية: أن يكون الرقم لأنثى، وتكون هذه الأنثى أي شيء آخر غير عشيقة زوجها (من الأقارب، زميلة عمل، سيدة مُرتبط بها لأجل قضاء مصلحة ما) وهي الفرضية التي ظلت محجوبة عنها لاندفاعها وهيمنة وساوسها عليها. وحتى لا نستبق الأحداث نعود إلى الزوجة والتي قررت الاتصال لتقف على صاحب الرقم ومن يكون. حين همّت أن تفعل وجدت نفسها أمام طريقتين لفعل ذلك: الطريقة الأولى: أن تطلب الرقم باستعمال هاتفها مُباشرة مع إمكانية أن يتعرف عليها الطرف الآخر بدوره. الطريقة الثانية: أن تطلب الرقم باستعمال خاصية الرقم المجهول".

مع تأمل الأسلوب السردي في الاقتباس السابق يتأكد لنا أن القاص ما كان يمكن له اللجوء إلى هذا الشكل السردي- الإخباري، والقائم على الاحتمالات الذهنية البحتة- لو لم يترك مسافة كافية بينه وبين النص الذي يقوم بكتابته، فهذه المسافة- فضلا عن منحه المزيد من الحرية في وضع الاحتمالات- منحته المقدرة على بناء العالم القصصي بشكل سردي وأسلوبي جديد يمنحه خصوصيته كقاص نتيجة تخلصه من التورط الشعوري في عالمه القصصي، أي القص من الخارج الذي يجعله يتأمل العالم أمامه وكأنه لا يخصه، وبالتالي يستطيع الحُكم عليه، أو السُخرية منه، أو وضعه تحت المجهر لاختباره؛ فالعالم هنا مُجرد شيء قابل لكل ما يرد على ذهن الكاتب نتيجة النظر إليه من الخارج.

إنها الأسلوبية التي يعيها الكاتب جيدا، ويحاول إخبارنا بها بشكل جلي، وهو ما لاحظناه في جملته: "وحتى لا نستبق الأحداث نعود إلى الزوجة والتي قررت الاتصال لتقف على صاحب الرقم ومن يكون"، أي أن القاص هنا يؤكد لنا بأنه مُجرد شاهد على ما حدث، ومهمته في هذا الأمر لا تتخطى أكثر من إخبارنا بما كان، حتى لكأنه لا علاقة فعلية له بخلق العالم، أو محاولة نسجه، وتسييره كيفما شاء- اللعب الفني الذي يمنح القاص المزيد من البهجة أثناء مُمارسته لعملية الخلق الفني بتحويل السرد القصصي إلى عملية عقلية أو حسابية بحتة قائمة على الاحتمالات، وهو ما يمنحه خصوصيته الإبداعية.

يستمر القاص هنا في لعبته العقلية بمُتابعة الزوجة التي حاولت الاتصال بالرقم المجهول، لكنها حينما لم تتلق ردا؛ ازدادت شكوكها وهواجسها، ومن ثم بدأ الكاتب في وضع المزيد من الاحتمالات القائمة على هواجس الزوجة: "مُحبطة وجدت نفسها تحتكم لخطة جديدة. وراحت تستعرض أمامها مجموعة خيارات قلبتها على مهل: 1- أن تترك المنديل على الطاولة لتتابع تصرف الزوج حياله. 2- أن تأخذ المنديل وتخفيه في مكان لا يصل إليه الزوج، ثم ترقب ردود أفعاله، وهل سيسأل عنه. 3- أن تُفاجئ الزوج أول ما يدخل بسؤالها عن الرقم ولمن يعود. تحاول من خلال ذلك مُحاصرته والتضييق عليه. 4- بدل كل ذلك، يمكنها أن تسأل زوجها، وفي صيغة مُباشرة، لمن يعود الرقم. وإذا لمست ما يريب طالبته أن يتصل بصاحبه في حضورها. هكذا فقط يمكنها أن تقف على الحقيقة كاملة".

هذه الأسلوبية التي يعتمد عليها القاص محمد جعفر- لعبة الاحتمالات وتأمل العالم القصصي من مسافة- لم يكن من المُمكن له اللجوء إليها لو لم يتخذ من آلية القص من الخارج أداة له من أجل مُساعدته للوصول إليها، وهي الآلية التي تجعل أسلوبية القص هنا مقبولة لدى المُتلقي، قادرا على التعاطي معها، ومع جدتها، وطرافتها.

يستمر جعفر في مُتابعة هواجس الزوجة، وتذكرها لذكرياتها مع زوجها، وكيفية تعرفها عليه، ووقوعها في عشقه، وكيف استمرت حياتهما معا، إلى أن يصل لقرارها الأخير بالتخلي عن رغبتها في هذه المعرفة، والبحث وراء صاحب هذا الرقم- فالاكتشاف والمعرفة من شأنهما أن يدمرا حياتها، وهو الاحتمال الأكبر- لذا يكتب: "إنها وبأي حال لا تريد أن يختفي زوجها من حياتها إلى الأبد، لا ترغب في أن تجد نفسها ذات يوم على السرير وحيدة دونه، لا تريد أن يحصل هذا. كما أنها موقنة أنها لا تحتاج إلى شخصه، لكنها تحتاج إلى حضوره. هذا الحضور الذي يعني لها الكثير في بيئة لن ترحمها إذا ما غاب تحت أي ذريعة أو ظرف. وحين سارت إلى الباب تفتحه كانت مُتلهفة إلى لقاء أبنائها وتقبيلهم. كذلك شعرت بالشوق إلى زوجها. شوق يُعزز احتمالا واحدا لا غير، ويلغي جميع الاحتمالات الأخرى".

إذن، فمن خلال هذه القصة يحاول القاص تأمل حالة عدم الثقة بين الزوجين- لا سيما الشك الدائم غالبا من قبل الأنثى، وحالة الهواجس التي كثيرا ما تنتابها وتؤدي بها إلى رسم الكثير من السيناريوهات المُدمرة- وهو الشك الذي من شأنه تدمير العلاقات بين أي شخصين؛ لذا يعمل الكاتب على نسج تأملاته في عالم قصصي يغلفه بالكثير من العقلانية، وآلية سردية تخصه.

ربما لا يفوتنا هنا أن هذه القصة تذكرنا إلى حد بعيد بالفيلم الروائي القصير Mystery سر 2011م للمُخرج الروسي Andrey Zvyagintsev أندري زفياجينتسيف، وهو الفيلم الذي رأينا فيه الزوجة تُكلف مُحققا خاصا لمُراقبة زوجها في مُقابل مبلغ كبير من المال لشكها فيه، ولكن، حينما يقوم الرجل بعمله، ويُقدم لها مظروفا فيه كل المعلومات التي تحتاجها لمعرفة ما يخفى عنها؛ تشعر الزوجة بالخوف والتردد في فتح المظروف؛ لذا تسأل المُحقق عما يحتويه مظروفه، وهل هناك ما يمكن أن يُمثل مُفاجأة لها، ليرد عليها ببلاغة مُوجزة بقوله: هناك دائما شيء ما، الرجل غامض، وقد يكون للغموض أسراره الخاصة، جميعنا نخفي شيئا عن بعضنا البعض، إذا ما كنت تحبين شخصا بالفعل؛ فدعيه يخفي ما يخفيه. وهو ما يجعل الزوجة بالفعل تقوم بحرق المظروف، وعدم الاطلاع عليه، مُضحية برغبتها في معرفة ما هو خافٍ عنها لصالح علاقتها بزوجها، والمشاعر التي تربط بينهما.

في قصة "الأعمى مُبصرا" يحاول القاص الإيغال في المُغامرة القصصية باللجوء إلى المزيد من التقنيات غير المُعتادة في السرد والبناء القصصي المُعتمدين على النظر من الخارج وكأنه يمارس لعبته المُفضلة، من خلال تناول قصة بسيطة وساذجة- لفرط مرورها علينا وتكرارها- تتحدث عن شخصين كانا مُرتبطين عاطفيا فيما سبق أيام دراستهما، ولكن بعدما انتهيا من الدراسة كان عليه أن يؤدي الخدمة العسكرية الإلزامية أولا كي يستطيع الحصول على عمل يُساعده على المعيشة والزواج منها. نعرف أنها قد وعدته بانتظاره لحين تأديته للخدمة العسكرية التي لا مناص منها، لكنه بعد الانتهاء من الخدمة لم يستطع إيجاد عمل بسهولة، كما يُفاجأ بأنها قد اختفت، وعجز عن تقصي أخبارها، أو معرفة أي شيء عنها، وهو ما جعله يظل مُخلصا لها، ولم يحاول التعرف على أي فتاة أخرى، بل عاش مُتذكرا لها في الكثير من الأحيان رغم اختفائها، إلى أن يلتقي بها مُصادفة في حفل ما، لكنه يُفاجأ بأنها في صحبة رجل آخر- يبدو أنه زوجها- ورغم أنها تراه في الحفل معها إلا أنها تتجاهله، محاولة الاهتمام البيّن والمُبالغ فيه بالرجل الذي يصطحبها- وكأنها محاولة منها للاحتماء به من ماضيها مع حبيبها السابق- وهو ما جعله يستعيد حياته السابقة معها، ومشاعرهما، ويصل في النهاية إلى أن قصة الحب التي كانت بينهما قد انتهت مُنذ سنوات طويلة من جانبها، وكان لا بد لها أن تنتهي من جانبه أيضا؛ فلقد مارست حياتها، وارتبطت بغيره في حين ظل هو- كساذج- مُحافظا على مشاعره، مُخلصا لها رغم غيابها إلى أن اكتشف ما كان يجهله.

لكن، كيف صاغ القاص هنا من هذه الحكاية المُبتذلة- لفرط تكرارها في الحياة- مُغامرة فنية من شأنها أن تجذب أنظارنا، وتجعل منها قصة فنية جيدة؟

يبدو لنا القاص هنا- في تلاعبه العمدي بالتقنيات السردية- وكأنما يتسلى بدفع الوقت نتيجة لفرط شعوره بالملل، وهو ما يجعله يلجأ إلى ابتكار هذه الأسلوبية كحيلة منه لمرور الوقت المُكتسب لثقله وكثافته نتيجة لتوقفه. بمعنى آخر: ثمة شعور ينتابنا حينما نقرأ هذه القصة بأن القاص قد بدأ في كتابتها لمُجرد شعوره بالملل الشديد المُسيطر عليه، وبالتالي كانت كتابته لهذه القصة تحمل وجهين: وجه فني بكتابة عمل فني يبدو مُبتكرا في آليته السردية- المُغامرة الفنية، واللعب بتقنيات السرد- ووجه براجماتي يرغب في التخلص من هذا الملل، والسكون الزماني الذي يشعر به- أي إزجاء وقت فراغه.

هذا الإحساس الذي يتنابنا مع قراءتنا لهذه القصة يبزغ داخلنا للوهلة الأولى نتيجة للآلية التي استخدمها القاص هنا، وهو ما نلحظه في: "كانت زميلة دراسة حصل أن جمع بينه وبينها الحب. لاحقا افترقا، وظل طوال مُدة الفراق يحاول تقصي أخبارها، لكن مُنيت جميع محاولاته بالفشل. ولم يعد يرد بخلده أنه سيعود ويلتقي بها يوما. الآن، وبعد سنوات عديدة ها هو يقف أمامها من جديد (ثلاث سنوات بالضبط، فصاحبنا دقيق في حساباته، ولا يمكنه أن يُخطئ استنادا إلى مُراجعات عديدة لا يمكن الخوض فيها في الحين، وإن كان القارئ سينتهي إليها لا محالة متى واصل القراءة). ألفى نفسه وسط حفلة تخرج لبى الدعوة إليها مُرغما ومُحرجا. وما فتئ يسأل نفسه طول الوقت (وحتى بداية قصتنا طبعا) عن السبب الذي أوجده هنا. فلطالما اعتقد أنه لا ينتمي إلى مثل هذه العوالم، كما لا يمكنه أن ينسجم معها بأي حال من الأحوال (إذا لم تقتنع عزيزي القارئ بجو الحفلة؛ لك أن تقترح ما شئت: عرس، ختان، ليلة رأس السنة، عيد ميلاد، دعوة على المسرح أو السينما، ندوة. ما يهمنا في الأصل هو الجمع بين البطلين في بيئة واحدة حتى يحدث الاصطدام وتبدأ قصتنا، والتي هي إلى الآن لم تبدأ بعد. اعتراف صغير لك طبعا: لو عرفت كيف أتخلص من كل هذه الديباجة لأبدأ قصتي لفعلت، لكن كيف يمكن ذلك وأنا محكوم بعناصر القصة، تلك العناصر التي متى تجاهلتها كنت عرضة لنيران النقد والنقاد)".

القاص الجزائري محمد جعفر

إذن، فالقاص مُدرك تماما لما يقوم به، يمارس عملية البناء الفني بذهنية نشطة واعية، حريص على الدخول بنفسه ككاتب إلى العالم القصصي، وهو هنا لا يحاول التخفي من القارئ بقدر مواجهته، ومحاولة إدهاشه، والحديث المُباشر معه، وإبداء المُلاحظات- كسر الإيهام أو إسقاط الحائط الرابع مرة أخرى، ولكن بشكل أكثر مُباشرة ووضوحا- كما أنه لا يفوته أن يشرح لقارئه الأسباب التي تدفعه إلى الركون إلى آلية فنية ما، أو الابتعاد عن آلية أخرى! أي أنه لا يخفي على قارئه بأنه يقوم بعملية إبداعية، ويكتب له قصة ما، بل ويشركه معه في الكتابة، مُفضيا إليه بما يدور في ذهنه من أفكار، ساخرا من العملية النقدية، والنقاد الذين كثيرا ما يؤاخذون الكتاب على ما يقومون به، وهو ما يجعل هؤلاء الكتاب مُضطرين إلى اتباع بعض الخطوات الإبداعية التي قد يكونوا غير مُقتنعين بها؛ لمُجرد إرضاء النقاد في نهاية الأمر.

إذن، فالقاص هنا يمارس شكلا من أشكال المُغامرة الفنية- ربما تحت وطأة الشعور بثقل الوقت- لكنه رغم نجاحه في هذا الشكل الفني المُقنع، واستخدامه لآلية كسر الإيقاع الفني بالتدخل المُباشر منه ككاتب، إلا أنه يبدو لنا غير قادر على الثقة في قدراته الفنية- الوقوع في التردد والاهتزاز الذي أشار إليه في قصته الأولى، وهو التردد الذي ينتاب العديد من المُبدعين مما يدفعهم إلى اللجوء للثرثرة، والتبرير، والتعليل، والتنظير النقدي، وشرح ما يقومون به، بدلا من المضي قدما فيما يقومون بفعله، وتقديمه- وهو ما نُلاحظه في الصفحة الأولى من هذه القصة، حيث نقرأ في الهامش: "كسر الإيقاع هنا، وفي هذا النص تحديدا، مقصود حتى لا يحصل الاندماج. إنه شكل من التغريب، كذلك الموجود على المسرح"!

إن الكاتب هنا يهدم ما يقوم به من فعل فني ناجح- من دون أن يدري- بثرثرته التي لا طائل من ورائها، ومُلاحظته التي أبداها في الهامش، أي أنه يحاول أن يقوم بدور خالق العمل/ المُبدع، والناقد معا؛ وهو ما يؤدي إلى إضعاف العمل الفني وهدمه كلية- فالقاص نفسه غير مُؤمن بما يفعله؛ فكيف يطلب من قارئه الإيمان به كسارد؟

وقوع القاص في مُنزلق الشرح والتبرير والثرثرة، ومحاولة التنظير النقدي لما يقوم به يحمل في جانب آخر من جوانبه التعالي على القارئ، أي أنه يظن الجهل في قارئه، وعدم مقدرته على استيعاب الآلية الفنية التي يمارسها في هذه القصة مما دفعه للشرح والتبرير في الهامش؛ وهو ما يفقدها قيمتها الفنية لدى القارئ الواعي، نظرا لتعالي القاص عليه، واعتقاده بأنه أكثر ثقافة، وفهما منه.

إذن، فلقد سقط الكاتب هنا في مُنزلقين: الثرثرة والتنظير، وهما ما انتقدهما بشكل غير مُباشر في قصته الأولى التي افتتح بها مجموعته. والتعالي على القارئ وافتراض الجهل فيه؛ مما أضاع جزءا غير هيّن من المجهود الفني الذي قام به في صياغة وبناء هذه القصة التي تبدو لنا جيدة من الناحية الفنية، فالكاتب يُدرك بشكل واعٍ تماما ما يقوم به من ألاعيب ومُغامرات فنية، لكنه يظن أنه أكثر ثقافة ووعيا من قارئه.

يحرص القاص على الإيغال عميقا في مُغامرته الفنية بالاهتمام بالتفاصيل السردية، والمزيد من المُلاحظات والتعليقات الموجهة للقارئ، مما يضفي على هذه المُغامرة الفنية عمقا فنيا يتلاءم مع المجهود الذهني والفني الذي قام بهما، ومُؤكدا في الوقت ذاته على أن ميله المُعد سلفا لترك مسافة بينه وبين نصوص هذه المجموعة قد أفاده من الناحية التقنية والفنية أيما إفادة- من حيث ابتكار آلياته السردية، وتأمل العالم القصصي بشكل أقرب إلى التجريب والاستغراق فيه- نلحظ ذلك على سبيل المثال في: "كان لا يزال مشغولا بالنظر إليها. وكانت لا تزال مُهتمة بالسيد الواقف إلى جانبها. كما كان هناك صديق له حضر في صحبته أخذ يرصد الجميع دون أن ينتبه إليه أحد. قطع عليه هذا الأخير تواتر ذكرياته. وسأله في خبث محاولا استدراجه للحديث: هل كنت تعرفها؟ هل كانت حبيبتك؟ إنها حبيبتي. أبدافع الغيرة قال ما قال؟ أم بدافع الشهوة بعدما استثاره الحاضر وهو يحكم ماضيه ويشده بزند غيره؟ قد يكون هذا ما نراه، لكن الواقع يقول شيئا آخر. فصاحبنا لا يبدو مُهتما لعدم التصديق الذي عكسته ملامح صديقه، كما لم يشعر بأنه مُضطر لتبرير ما قاله، ولم يسع لإقناعه بشيء. وعلى العكس من ذلك بدا مُتجانسا، مُتآلفا، مُتصالحا مع وجوده. مُقتنعا تماما بما أورده كجواب. ولا مُباليا مد يده إلى طاولة أمامه. أخذ من صحن عليها شيئا من المُقبلات ما لبث أن دفع به إلى فمه دفعة واحدة. وراح يمضغه على أقل من مهل. وكان بذلك قد منح لنفسه فرصة أن يكون جوابه قاطعا مُوجزا مُختصرا، كما جعل من صمته عقب جملته مُقنعا (عزيزي القارئ إذا بدا لك أنك أبدعت وأنت تطرح بديلا عن جو الحفلة، فأنت هنا مُضطر أن تواصل إبداعك وتقنعنا بتعلّة تجوّز لنا بها رغبته في الصمت)". أي أن القاص هنا لا يحاول إشراك القارئ معه في العملية السردية فقط، ومحاولة إعادة صياغة العالم الفني، بل هو يطرح على القارئ إمكانية ترك مكانه- كسارد فني- له كي يقوم المُتلقي بالعملية السردية بأكملها- تبادل الأمكنة- وهو ما يؤكد لنا على فنية الأسلوبية التي لجأ إليها القاص في صياغة قصص المجموعة.

يستمر القاص في مُتابعة بطله ليختتم القصة بكتابته: "فارا بنظره منها إلى ما حوله، ومحاولا الانشغال عنها بجو الحفلة (الحفلة التي لم يشعر للحظة أنه ينتمي إليها) تلفت انتباهه إحداهن وهي تبتسم له. تروقه فيبتسم لها بدوره، مُعبرا عن ودٍ خالص. ثم وهو يفكر في الخطوة التالية كان لسان حاله يقول: (أو كنت أنا من يقول، أشبه في ذلك الجدات وهن يختمن حكاياتهن بخلاصة أو حكمة. مع اعتراف بسيط أن هذا لم يكن واردا أو مطروحا وأنا أبدأ هذه القصة) كل عقيدة هي صادقة ما لم يخذلها الزمن، أو تخنها التجربة، أو يلوي زمامها المحك. وعلى المرء أن يتحلى بالقدرة على الإيمان بعقائد جديدة بدل تلك التي كان يؤمن بها ولم تقده قط إلى بر الأمان".

ألا نُلاحظ في هذه الفقرة الأخيرة التي اختتم بها القاص قصته أنه قد هدمها تماما من الناحية الفنية بدلا من محاولة إغلاقها بشكل فني؟

إن الكاتب هنا يبدو وكأنه يحاول التفلسف، أو إظهار الحكمة العميقة، أو أنه- في واقع الأمر- لا يمتلك المقدرة، أو لا يعرف الكيفية التي يستطيع من خلالها إغلاق قصته، كل هذه الأمور قد دفعته إلى اللجوء لجملته الأخيرة التي تشبه الحكمة المُستخلصة من الحياة/ الحكاية في جوهرها، وهو ما أضعف بنية القص الفني إلى حد بعيد. ورغم أن الكاتب قد أفضى لنا بأنه مُنتبه تماما، ومُدرك للجوئه إلى الإغلاق بهذه الحكمة الساذجة، إلا أن إدراكه لما قام به ليس مسوغا له للفعل في حد ذاته، ولا يمنحه شرعية القيام بذلك؛ لأنه أدى إلى التفريط في كل المجهود الفني الذي قام به مُنذ بداية القصة؛ فلقد كان من المُمكن للقاص أن يتوقف عند مُبادلته للابتسام مع "إحداهن" التي ابتسمت له، ولا يحاول التزيد، وبذلك يكون قد أغلق قصته بشكل فني، ولكن يبدو أنه قد انساق من خلف شهوة السرد التي أدت به إلى السقوط المُباشر بإخراج القص من مجاله الفني إلى مجال الجدات وحكمهن- وهو ما لا علاقة له بالفن.

في قصة "التباس" يحاول الكاتب- جاهدا- ابتكار المزيد من تقنيات السرد القصصي الجديدة التي من شأنها إدهاش القارئ، ولكن يبدو أن المسافة التي يأخذها الكاتب من السرد القصصي قد اتسعت كثيرا هذه المرة؛ مما أخضعها للصنعة والتكلف، والابتعاد بالقص كثيرا من محاولة التجديد الفني، واللجوء إلى تقنيات سردية وفنية جديدة كمُغامرة فنية إلى محاولة النحت الذي لا طائل من ورائه في التجديد مما أفسد القصة- رغم جودة عالمها- فبدت لنا وكأنها مُجرد حشو لا معنى له، وتكرار مُثير للكثير من الملل.

يتناول الكاتب في هذه القصة جريمة قتل لشرطي على يد شخص مجهول في أحد الأحياء السكنية، وهو ما يجعل رجال الشرطة يطوقون المنطقة بالكامل، ومن ثم يحاولون الهجوم على إحدى البنايات التي يشكون في أن القاتل يحاول الاحتماء بها. يهجم رجال الشرطة على رب أسرة، ويعتقلونه بشكل مهين أمام أسرته وأطفاله: "هكذا وضعوا يدهم على المُتهم. قيدوه بعدما تلقى ضربة مُوجعة على رأسه بمُؤخرة كلاشينكوف أفقده توازنه. وأعلن قائد العملية في نبرة انتصار وهو يفرد صدره: ها قد وقعت أيها الإرهابي القذر. فتشوا المكان في حذر شديد أملا في العثور على قطعة سلاح مُحتملة، أو منشور سري يكفل لهم تجريم المقبوض عليه. وحين لم يجدوا في حوزته ما يريب أصابهم التشوش. أهانوه وانهالوا عليه بالضرب أمام أبنائه وزوجته. واقتادوه أمامهم مُنحني الجذع يلبس بعضه كجورب نُزع على عجل ولا يساوي نكلة".

ربما لا بد لنا من التوقف أمام هذا الاقتباس السابق من أجل تأمل أسلوبيته قبل الاستمرار في مُتابعة تلك القصة. فبغض النظر عن الخطأ الأسلوبي واللغوي الذي وقع فيه الكاتب بكتابته "هكذا وضعوا يدهم على المُتهم"، حيث لا يمكن استخدام المُفردة "يدهم" للجمع هنا، بل لا بد من استخدام مُفردة "أيديهم" لأن رجال الشرطة لا يمكن أن يكون لهم يد واحدة يضعونها على المُتهم- حتى لو ذهب الكاتب لتبرير الأمر بأنه يقصد أن رجال الشرطة هنا في مقام الرجل الواحد؛ لأن هذا التبرير، على فرضية اللجوء إليه، لا يسوغ الخطأ من الناحية الأسلوبية.

نقول: رغم هذا الخطأ الأسلوبي الذي لم ينتبه إليه القاص، فثمة جمالية أسلوبية أخرى في نهاية الاقتباس، وهي الجمالية التي تتبدى لنا في صياغته لجملته "واقتادوه أمامهم مُنحني الجذع يلبس بعضه كجورب نُزع على عجل ولا يساوي نكلة"، فصياغة الجملة هنا وتشبيه الرجل بالجورب الذي نُزع على عجل مما جعله منحني الجذع وكأنه يلبس بعضه بعضا فيه من البراعة التشبيهية والجمالية الأسلوبية ما يجعلنا نتخيل مشهد الرجل بعدما قبض عليه رجال الشرطة، ولعله لا يفوتنا استخدامه في نهاية الجملة لمُفردة "نكلة" في قوله "لا يساوي نكلة" وهي في جوهرها مُفردة تخص الثقافة المصرية مما يُدلل على سطوة هذه الثقافة على الآخرين؛ فالنكلة هي عملة مصرية قديمة كانت تُقدر قيمتها باثنين مليم، وكانت تُصنع من الفضة، ويعود سبب تسميتها إلى عملة "النيكل" البريطاني والمصنوعة من مادة النيكل كروم، ومن التعبيرات الشائعة في المُجتمع المصري قولهم: "هذا الشيء، أو هذا الشخص لا يساوي نكلة" للتدليل على عدم قيمته، أو تدنيه، أي أن الجملة كانت تُستخدم في واقع الأمر للتحقير من الشيء أو الشخص- فالنكلة لا تساوي شيئا أمام الجنيه الذي يُعادل 1000 مليم، في حين أن النكلة تساوي مليمين فقط.

أثناء التحقيق مع الرجل يحاولون معرفة أين أخفى سلاحه، وما هي الجهات التي يتعاون معها، لكنه يؤكد لهم بإصرار على أنه لم يرتكب أي جريمة ولا علاقة له بالأمر مما يجعلهم يلجأون إلى تعذيبه وإهانته من أجل إرغامه على الاعتراف بارتكابه للجرم: "عزلوه، وخلال مُدة حجزه لم يسمحوا لأحد من معارفه بزيارته. كذلك سلطوا عليه كل ألوان التعذيب. حاولوا أيضا انتزاع اعترافات منه تحت الضغط والإكراه. ومن شدة الألم بكى كامرأة. وإذا قُدر له أن يبقى على قيد الحياة فلأن أجله لم يحن بعد، لأن ما تعرض له كان ليقضي على ثور ضخم. لاحقا، وبدل أن يخلوا سبيله لعدم توفر الأدلة أخضعوه لمُحاكمة صورية، وحكموا عليه بالأشغال الشاقة المُؤبدة. إذ يجب أن يكون هناك مُتهم يُحملونه وزر القضية كلها".

هنا تبدو لنا القصة مُكتملة وجيدة إلى حد بعيد، لا سيما في تعبيريتها عن الأنظمة الشمولية، ولجوئها إلى تلفيق التُهم للمواطنين الذين لا ذنب لهم، بل ومحاولة تعذيبهم للاعتراف بما لم يقوموا به لمُجرد عجز هذه الأنظمة البوليسية لضبط النظام، أو الوصول إلى مُرتكبي الجرائم؛ مما يدفعهم في النهاية إلى تلفيق التُهم لأي كان كي يبدون أمام رؤسائهم قادرين على القيام بمهامهم المنوط بهم القيام بها.

لكن- ولأن الكاتب هنا قد انتابته شهوة الرغبة في ابتكار آلياته السردية، ولابتعاد المسافة كثيرا هذه المرة بينه وبين القصة- نُفاجأ بأنه يستمر في السرد بآلية غريبة لم يقدم فيها أي شيء جديد بقدر ما أوقع السرد القصصي بالكامل في التكرار، ودفع به باتجاه الملل الذي لا طائل من ورائه، ولا فنية فيه. فلقد لجأ القاص هنا إلى بناء قصته على شكل لوحات، بكتابة عناوين: اللوحة الأولى، اللوحة الثانية، اللوحة الثالثة. أي أن الشكل القصصي هنا قد تم تقسيمه إلى ثلاث لوحات، مما قد يوحي لنا بأن كل لوحة من هذه اللوحات هي استمرارية للقص في اتجاه جديد، أو اتجاه مُكمل لما سبق أن قرأناه في اللوحة السابقة عليها، لكننا فوجئنا بأن كل لوحة من هذه اللوحات هي نفس القصة السابقة عليها تماما بنفس المُفردات، ونفس الجُمل، ونفس الأحداث، ونفس عدد الكلمات، ولم تختلف كل لوحة عما سبقتها سوى في طراز السيارة البيجو التي دخلت الحي مع رجال الشرطة من أجل القبض على الرجل البريء: "في الغد، وقبل طلوع الفجر تقدمت سيارة بيجو طراز 503، وشاحنة عسكرية، وحوالي عشرين شرطيا من النُخبة داخل حي الدرب العتيق". وإذا ما كانت السيارة البيجو في اللوحة الأولى من طراز 503، فلقد تم تبديلها في اللوحة الثانية إلى طراز 504، وفي اللوحة الثالثة إلى 505 مع الحفاظ على كل ما سرده في اللوحة الأولى. أي أن كل لوحة من هذه اللوحات هي صورة طبق الأصل من اللوحة الأولى؛ مما يدفعنا إلى التساؤل: ما الداعي لمثل هذا التكرار المُمل بمثل هذا الشكل، وأين هي التقنية الفنية التي رآها القاص فيما قام به، وكيف ظن أن هذا التكرار قد يفيد قصته، في حين أنه أضر بفنية القصة- في جوهر الأمر- إلى حد بعيد رغم جودة الحدث؟

في قصة "المرأة التي سقطت من غيمة" نُلاحظ اهتمام القاص البيّن بفكرة القطيع المُجتمعي، وهو القطيع الذي من المُمكن له أن يقود المُجتمع بالكامل إلى الانهيار في حالة الانسياق إليه ولأفكاره النمطية- فقطيع الغوغاء غالبا ما يمتلك قوة مُجتمعية بحشود ضخمة مما يؤدي إلى التأثير على الجميع.

يحاول القاص استغلال مسافته من السرد التي يخلقها على طول المجموعة- بينه وبين قصصه الفنية- بتقسيم الشكل البنائي للقصة هنا إلى مجموعة من المقاطع، ليضع عنوانا فنيا لكل مقطع من هذه المقاطع؛ حتى لكأنه يضم مجموعة من الأقاصيص داخل قصة قصيرة واحدة مما يُدلل على اهتمامه البيّن بشكلانية البناء الفني للقصة؛ لذا نقرأ بعد العنوان العام والشامل مُباشرة عنوانا آخر جانبيا: "ابتكار الألم"، ومع الاستمرار في قراءة القصة تتتالى العناوين الجانبية المُختلفة: "كيف ترسم قوسا، كيف ترعاه"، و"عطفا على القطيع"، و"ما أوحت به الغيمة".

يبدو لنا الأمر هنا- للوهلة الأولى- كأنما الكاتب قد كتب أربع أقاصيص قصيرة جدا، تدور جميعها في عالم فني واحد، وتحمل نفس الشخصيات القصصية- مُتتاليات قصصية- ثم جمع هذه الأقاصيص الأربع مع بعضها البعض تحت عنوان جامع من أجل تشكيل قصة قصيرة من هذه المُتتاليات، وهو شكل فني جيد يؤكد لنا على محاولة اجتهاد القاص قدر الإمكان من أجل ابتكار ما هو جديد فنيا، ومُمارسة لعبته الفنية المُمتعة.

لكن، رغم هذه الشكلانية الفنية- ومع تأملها العميق- يتبيّن لنا أننا إذا ما حاولنا التخلص منها بإزالة هذه العناونين الجانبية؛ ستظل القصة- تحت العنوان الجامع فقط- مُمتلكة لفنيتها، لم ينقصها أي شيء، مما يعني أن لجوء الكاتب إلى هذه العناوين الأربعة، وتقسيمه للقصة بمثل هذا البناء الشكلاني كان مُجرد مُمارسة للمزيد من التجويد، والترصيع، والتجميل، واللعب، وهو ما يمكن أن يفيد السرد من الناحية الجمالية، لكن حذفه لن يؤثر على العمل جماليا، ولا شكلانيا، ولا أسلوبيا.

يتناول القاص في هذه القصة حكاية امرأة تزوجت ممن شعرت تجاهه بالحب، لكن أخاها كان قد حذرها من زواجها منه لأنه راغب في تزويجها من أحد أصدقائه، إلا أن الفتاة رفضت سطوة أخيها عليها، وتسيير حياتها كيفما شاء، وكأنها حياته هو، ومن ثم تزوجت ممن أحبته، لكن الشقيق أكد لها بأنه سيقوم بقتل الزوج، وهو ما قام به بالفعل؛ مما أوقعها في حالة نفسية شديدة الصعوبة، لم تستطع تخطيها؛ وبالتالي لجأت إلى الانتحار، لكنها تم إنقاذها فباتت مُجرد جثة حية على قيد الحياة: "إذن، لم تقض خلال محاولتها الانتحار، بقيت حية تجر خلفها كل أيام النحس التي عاشتها، تستعيدها ذاكرتها ولا تريد أن تُفلتها، وكانت كلما وقفت أمام نفسها عاودتها تلك اللحظات مُشبعة بمرارة أكبر وأفظع. ظلت الذكريات تجلدها، ورغم الآلام التي كانت تُسببها لها فإنها لم تكن لتؤدي إلى حتفها".

إذن، فالشخصية الرئيسية في القصة هنا تعاني الكثير من الألم المادي والمعنوي بسبب مقتل زوجها على يد أخيها، وهو ما يُبرر لجوء القاص إلى العنوان الجانبي الأول "ابتكار الألم"؛ فهي حينما لجأت إلى الانتحار كان الأمر بمثابة التفنن في المزيد من الألم- بقتل نفسها- بعدما عانت الكثير منه بمُجرد معرفتها بمقتل زوجها لأنها تزوجته، ولم تتزوج صديق أخيها الذي اختاره لها: "أجزم أخوها أنه لن يتركها تهنأ بمن اختارته زوجا، وظل يصرخ في وجهها مثل ضفدع مُنتفخ الأوداج أنه مُستعد لارتكاب جريمة حتى يمنعها عما اعتزمته. أضرت به لما رفضت صديقا له اختاره لها، وأخرجه ذلك عن طوره. كرهته يومها كما عافت صديقه حتى دون أن تراه. لا بد أنهما من طينة واحدة. وأصرت على من أحبت، ولم تكن تدري أن أخاها سينفذ وعيده، وأن حبيبها سيُقتل وتسقط هي في الهاوية من بعده".

مع الانتهاء من الاقتباس السابق يتبيّن لنا أن الفتاة هنا تعيش في مُجتمع ذكوري- شأنه في ذلك شأن مُعظم المُجتمعات العربية المُحيطة بنا- يرى أن المرأة لا حقوق لها على الإطلاق حتى في جسدها ومُستقبلها، ومصيرها؛ ومن ثم فعليها الرضوخ لما يقرره الرجال- الأب، الأخ، الزوج- وإلا سيتم تدمير حياتها على أيدي هؤلاء الرجال.

إلا أن فنية القصة وعمقها لم يتبديا لنا بعد- فحتى الآن نحن أمام حكاية عادية وربما مُبتذلة لفرط تداولها في حياتنا الاجتماعية، وهو ما ينتبه إليه القاص جيدا ويُدركه- لذا فهو يصب اهتمامه البيّن على المُجتمع من حولها، وهو المُجتمع المُتمثل في النساء اللاتي يزرنها بعد إنقاذها من الموت بعد محاولة انتحارها: "يتجاوزن مأساتها ويقفزن فوق جرحها، حتى إذا عدن تعجبن لإقدامها على الانتحار، يغفلن عن دوافعها ويتغافلن عما فعله زبانية الظلام في حقها وحق زوجها، أكثر من ذلك يتمادين، يقاضينها فقط لأنها أحبت ودافعت عن حبها جهارا، غير مقبول هذا في عرفهن. يتشفين هذه المرة، تملأهن ضغينة لا يعلم أحد من أين رضعنها، أصابتهن بدورهن اللوثة بعدما عم الوباء واستفحل، ولو كان الأمر بيدهن لشحذن السكاكين بدورهن".

بغض النظر عن وقوع الكاتب مرة أخرى في نفس الخطأ الأسلوبي الذي سبق أن نبهنا إليه فيما قبل، وهو استخدام المُفرد للتدليل على الجمع في "لو كان الأمر بيدهن"، بدلا من "بأيديهن"، فهو يحاول هنا من خلال هذا المقطع السابق التعبير عن ذكورية المُجتمع بالكامل، فالثقافة الذكورية- في جوهرها- ليست مُقتصرة على الرجال، بل هي ثقافة مُجتمعية شاملة، يمارسها الرجال والنساء معا، لا فرق في ذلك بين رجل وأنثى- وربما كانت النساء في هذه المُجتمعات هن من يُنشئن الرجال على هذه الثقافة، مما يعني أن السبب الرئيس، والأول، والجوهري في المُجتمعات الذكورية هن النساء اللاتي يربين أبناءهن على ضرورة السلوك الذكوري، ومن ثم تعاني غيرهن من النساء معهن من هذه الذكورية المُتسلطة!

إن محاولة القاص التعبير عن ذكورية المُجتمع- النابع من المرأة في الأساس- تكاد تكون من أفضل المقاطع القصصية في هذه القصة، لا سيما أنه لا يركز فقط على ذكورية المُجتمع، بل يحاول التعبير- بشكل فني تلقائي، لا عمدية فيه- عن ثقافة القطيع التي تسود مُجتمعاتنا في: "تهمس إحداهن وهي تهز عجيزتها الضخمة، تحاول أن تثبت على وضع مُناسب: لقد ارتكبت خطيئة. توافقها باقي النسوة، بينما تستعجب أخرى: ما يُحيرني، من أين حازت كل تلك القدرة؟ تلتفت إليها ثالثة بعدما ساءها ما سمعت: لا يغرنك الأمر، إنه الجبن يا عزيزتي وعدم الثقة بالله. سريعا تعود صاحبتها فتوافقها وهي تُمعن في هز رأسها. تزعق عجوز فقدت كل أسنانها: ما فعله أخوها يشرفه، دافع عن عرضه بعدما لم يستطع ترويضها. وتعجب شابة لأمرهن، ولعلها تحلم بالحب أيضا: لكننا لم نسمع عنها ما يُعيب، كما أنها لم تفعل ما يشين، فقط أحبت وتزوجت بمن أحبت! تستحي أم الشابة لجسارة ابنتها وجرأتها وسط الحاضرات؛ تهتف تسترضي الجوقة: ماذا تعرفين أنت؟ إنها مُجرد فتاة عابثة، ولقد رأوها تستحم مع الأولاد في (القلتا). يا أمي، كان ذلك لما كان عمرها ست سنوات، أنا نفسي سمعت هذه القصة منك أكثر من مرة. وتعود الأم فتقرص الشابة في فخذها، تدعوها بذلك إلى الصمت، وتردف بصوت تريده أن يسود: لكن من غيرها يُخالط الذكور؟ يكفي أنها تعمل مُمرضة في مُستشفى جيفارا. حينها تُلجم الشابة، وتكتفي بهز كتفيها استهانة، وبينها وبين نفسها تُردد: أي قطيع هذا؟!".

إذن، فالمُجتمع بالكامل يتمتع بثقافة ذكورية بحتة، لا سيما النساء، وهي ثقافة لا يمكن الاختلاف معها، أو الخروج عليها؛ فقوانين القطيع سائدة، ومن يخالفها سيكون مُتهما، مدينا، مُجرما في حق الجميع- تماما كما يرون الفتاة التي فقدت زوجها- ورغم أنها كانت متزوجة إلا أن النساء هنا يرينها قد أجرمت في حق الجميع بزواجها ممن أحبت؛ فلقد خالفت القطيع وثقافته الذكورية التي لا بد من الانسياق من خلفها! لاحظ هنا أن هؤلاء النسوة اللاتي يحاولن إدانتها إنما يقمن بذلك أمامها، وفي بيتها، أي أنهن يذهبن إليها من أجل عيادتها، وإلقاء اللوم عليها في نفس الوقت، والتشفي منها، وكأنهن راغبات في إشعارها بالمزيد من الألم السادي من أجل القضاء عليها؛ فلقد كان من الأفضل لها أن تموت في محاولة الانتحار، لأن بقاءها على قيد الحياة يكشفهن أمام ذواتهن، ويُشعرهن بالنقص الشديد والدونية، فهن غير قادرات على التمرد، ورفض ثقافة القطيع الذكورية التي نشأن عليها؛ وبالتالي يكون فعل الفتاة هنا مُوغلا في القسوة بالنسبة لهن، يشعرهن بالألم والدونية.


لكن، بما أن القاص هنا مُنتبه تماما لما يقوم به في عالمه القصصي؛ فهو يرى أن هذه الثقافة البغيضة لا يمكن لها الاستمرار، بل ستتغير على أيدي أجيال أخرى قادمة، وهو ما أشار إليه في إغلاقه لقصته بشكل فني، بعيدا تماما عن المُباشرة: "غير قادرة على تمالك نفسها خطت باتجاه ابنتها تأخذها في أحضانها: الحمد لله أنك عدت إلى الحياة أخيرا. غالبت الابنة حزنها، وحاولت الابتسام ما قدرت: يا أمي، لسوف ينتهي كل هذا، ويبدأ زمن هؤلاء! قالت ذلك، بينما هي تضع يدها على بطنها. كانت وكأنها تُشير إلى شيء ما، وربما إلى مضغة راحت تتشكل هناك في أعماقها".

تبدو لنا المجموعة القصصية "ابتكار الألم" للقاص الجزائري محمد جعفر من المجموعات المُتميزة إلى حد كبير في محاولة ابتكار آليات سردها القصصي، وهي الآليات التي ما كان للقاص المقدرة على ابتكارها لو لم يترك مسافة بينه وبين العالم القصصي الذي يتحدث فيه، وهو ما أطلقنا عليه "القص من الخارج"، بمعنى عدم التورط داخل العالم الإبداعي الذي يعمل على صياغته وبنائه.

لكن، يبدو أن القاص هنا يعاني من فرط في عدم الثقة- والاهتزاز- بموهبته الفنية، أو بما يقوم به؛ ومن ثم حاول الاتكاء كثيرا على الآخرين من أجل تقوية موقفه الذي يراه ضعيفا- رغم عدم ضعفه- وهو ما يتبيّن لنا في لجوئه إلى القاص الأردني محمود الريماوي الذي قدم له المجموعة القصصية.

ربما يكون ما ذهبنا إليه هنا يستدعي سؤالا ضروريا لا بد منه: هل اللجوء إلى تقديم العمل الفني من قبل الآخرين يُعد بمثابة عدم الثقة من صاحب العمل؟!

بالتأكيد لا، لكن الاهتزاز وعدم الثقة هنا يبدوان واضحين بجلاء حينما نُلاحظ إصرار الكاتب على تصدير المجموعة بجملة موقعة باسم القاص محمود الريماوي قبل بداية المجموعة: "ابتكار الألم، قصص تُضيء على المتاهة البشرية". هذا من جهة، ومن جهة أخرى فالتقديم- أو المقال المُتعجل- الذي كتبه الريماوي للمجموعة القصصية قد تم تصديره في المجموعة قبل بدايتها، وليس في نهايتها، وهو ما يثير الكثير من الدهشة، والمزيد من التساؤل: لِمَ أصر القاص هنا على تصدير المقال المكتوب عن المجموعة قبل قراءة المُتلقي للمجموعة؟!

نحن هنا لسنا ضد تضمين دراسة نقدية بين غلافيّ أي كتاب إبداعي، لكن هذه الدراسة المكتوبة عن هذه القصص من الطبيعي أن تكون في نهاية المجموعة- بما أنها مكتوبة عن القصص التي لم يقرأها القارئ بعد- ومن ثم فالعقل، والمنطق يؤكدان على أن قراءة القصص، والإحاطة بها، وبفنياتها، وبعالمها لها الأولوية، ثم يلي بعد ذلك قراءة ما كُتب عنها- القانون التراتبي الطبيعي- لكن، بما أن القاص هنا يبدو راغبا في الاستعانة، والاستقواء، والاتكاء على من يقوّي موقفه الفني- الذي يراه هو نفسه ضعيفا وتعيسا- فلقد رأى أن يُصدر مجموعته بالدراسة المكتوبة عنها، حتى لكأنه قد وضع العربة أمام الحصان في منطق مقلوب ومغلوط لفرط سيطرة عدم الثقة- فيما يفعله- عليه. ورغم أن ما كتبه الريماوي لم يكن دراسة نقدية بقدر ما جامل فيه الكاتب، إلا أن جعفر رأى أنها ستكون في صالح المجموعة، ولا بد أن تأتي قبل قصصه من أجل تقوية موقفه الفني، أو لفرض وصاية ما على قارئه قبل بداية القراءة، مُعتمدا في ذلك على اسم الريماوي الذي كتب كلاما عاما، قد يبتعد إلى حد كبير عن جوهر المجموعة التي قرأناها.

من هذه العمومية على سبيل المثال ذهاب الريماوي إلى تفسير عنوان المجموعة تفسيرا لا علاقة له بجوهر ما قرأناه، حتى لكأنه كان يتحدث عن مجموعة أخرى غير تلك التي بين أيدينا- وهو ما قد يُدلل على المُجاملة للكاتب، وعدم الاهتمام بما يخطه؛ فهو يؤدي واجبا اجتماعيا باسم الكتابة والتقديم- ولنقرأ قول الريماوي: "يا له من عنوان شيق: "ابتكار الألم"، هذا الذي اتخذه القاص الجزائري محمد جعفر عنوانا لكتابه القصصي. فالألم هنا، وهو شعور أو انفعال يمتاز الكائن البشري بوعيه له، لا يقع فقط على ضحية، وليس مُجرد قدر تعيس أو مُفاجأة صادمة، ولكنه- ويا للغرابة!- موضع بحث عنه، واستدراج له، وإلى درجة يتم معها اجتراحه، أو "ابتكاره" على حد تعبير المُؤلف، ومن دون الوقوع في غواية المازوخية "تعذيب الذات". بين قصص الكتاب ليست هناك قصة بهذا العنوان الذي اختاره المُؤلف لكتابه، بيد أن التعبير يرد عنوانا لمقطع أول من قصة "المرأة التي سقطت من غيمة"، وذلك في إيماءة إلى أن المُؤلف اختار الإحالة إلى نسيج الكتاب ككل، وإلى مواضع الكثافة التعبيرية والدرامية فيه، مُستغنيا عن جعل أحد عناوين القصص عنوانا جامعا للكتاب".

مع تأملنا لما كتبه القاص الأردني محمود الريماوي من زخرف القول وتهويمه الذي لا معنى له؛ يتأكد لنا أن الرجل كان يحاول جاهدا القيام بمهمتين أصعب من بعضهما البعض: الأولى هي محاولة مُجاملة الكاتب بكتابة أي شيء من شأنه إرضاء القاص الذي لجأ إليه- وهو أمر مطروق كثيرا في الأوساط الثقافية بين الكُتاب حينما يرغبون في مُجاملة بعضهم البعض- المهمة الثانية هي إيهام القارئ الساذج البسيط- غير المُنتبه لجوهر ما يقرأه- بعمق ما كتبه الريماوي، وأهميته، وأن القاص كان يمتلك من العبقرية الفنية ما جعله يستغني عن اختيار عنوان إحدى القصص ليكون عنوانا لمجموعته، ومن ثم فلقد اختار- لطول تأمله فيما كتبه- عنوانا عاما يُدلل على المجموعة بأكملها وكأنما قصص المجموعة في مُجملها، أو في أغلبها تُشير إلى الألم- كما أشار الريماوي مُخالفا في ذلك الحقيقة- رغم أن القاريء الواعي والمُدقق حينما سينتهي من قراءة المجموعة سينتبه إلى زيف هذا التفسير، وتضليله، مما يعني ان الريماوي هنا لم يفعل أكثر من تدبيج كلام يبدو لنا من الناحية الشكلانية عميقا ومُهما عن عنوان المجموعة، في حين أننا إذا ما حاولنا تفكيك هذه الديباجة الزخرفية سيتضح لنا أنها فارغة، لا معنى لها، بل هي محاولة للتضليل التي لم يكن هناك أي داعٍ لها؛ فالمجموعة تمتلك جمالياتها التي تنفي هذه المحاولة، وتقضي عليها.

 

محمود الغيطاني

مجلة "كتاب" الإماراتية

عدد سبتمبر 2025م.