صحيح أن هذه الأفلام المُبكرة الأولى قد لا تُدلل على أسلوبية المُخرج
المُستقبلية، وما سيستقر عليه في الشكل الفني الذي يفضله ويتميز به، لكنها- غالبا-
ما تحمل بعض الإرهاصات مما سيصل إليه في نهاية الأمر.
هذه الإرهاصات المُبكرة لم تكن واضحة جلية في أفلام المُخرج والسيناريست الروسي Andrei Tarkovsky أندريه تاركوفسكي الأولى، لا سيما فيلمه التليفزيوني القصير There Will Be No Leave Today لا إجازة اليوم 1959م- وهو الفيلم الطلابي الثاني للمُخرج في قائمة أفلامه التي قام بصناعتها- حيث قام بصناعة فيلمين روائيين قصيرين تحت إشراف أستاذه، المُخرج الروسي Mikhail Romm ميخائيل روم في VGIK معهد جيراسيموف للتصوير السينمائي- معهد عموم روسيا للتصوير السينمائي- كان الفيلم الأول منهما هو فيلم The Killers القتلة 1956م عن قصة قصيرة للروائي الأمريكي Ernest Hemingway إرنست هيمنجواي بنفس العنوان، وهو الفيلم الأول في تاريخ روسيا الذي يعتمد على قصة أجنبية غربية، بينما قام بصناعة فيلمه الطلابي الثاني "لا إجازة اليوم" 1959م بالاعتماد على قصة حقيقية حدثت في روسيا حينما تم العثور على مجموعة من الصواريخ المدفونة في إحدى المُدن من مُخلفات الحرب العالمية الثانية بين كل من روسيا وألمانيا.
نقول: إن الفيلمين الأولين اللذين قام المُخرج بصناعتهما أثناء دراسته في معهد جيراسيموف لم نلمح فيهما أندريه تاركوفسكي الذي نعرفه، وإن كان ثمة بعض الإرهاصات البسيطة التي رأيناها في الفيلم الأول/ القتلة 1956م التي تمثلت في مهارته في اختيار زوايا الكاميرا التي يلتقط منها المشهد، وإكساب الكاميرا لشخصيتها بحيث تنقل لنا المشهد من خلال وجهة نظرها الخاصة، وليس من خلال وجهة نظر المُخرج، فضلا عن تركيزه على بعض التفاصيل الدقيقة التي سنراها فيما بعد في كل ما يقوم بصناعته، لكننا في الفيلم الثاني الذي صنعه للتليفزيون سنجد اسم تاركوفسكي على الفيلم، إلا أننا لن نرى فيه تاركوفسكي الذي نعرفه، حيث كان الفيلم مُجرد فيلم جماهيري تشويقي، يحاول تقليد السينما الأمريكية في إمكانية صناعة فيلم يقبل عليه الجميع، مُحافظا في ذلك على درجة التوتر المُتصاعدة لحظة تلو الأخرى من أجل السيطرة على انتباه المُتلقي حتى النهاية، وإن كنا سنلمح أيضا تركيز تاركوفسكي في الفيلم على بعض التفاصيل الدقيقة التي تميز بها فيما بعد، لا سيما تركيزه على أيدي الجنود الحذرة أثناء محاولة استخراج الصواريخ من مخبأها تحت الأرض من أجل إخراجها في منطقة آمنة وتفجيرها خارج المدينة، والميل- في بعض مناطق الفيلم- إلى المشاهد الطويلة البطيئة، وهو ما سيصبح سمة أسلوبية مُستقبلية للمُخرج فيما بعد.
لكن، إذا ما تأملنا فيلمه الروائي القصير الثالث The Steamroller and the Violin المِدحلة البخارية والكمان 1961م- مشروع تخرجه من معهد جيراسيموف-
سنرى فيه بشكل جلي تاركوفسكي الذي عرفناه فيما بعد من خلال أفلامه الروائية
الطويلة، أي أن الفيلم يحمل من جينات تاركوفسكي، وأسلوبيته السينمائية الكثير مما
استقر عليه فيما بعد في صناعة أفلامه، وهي الأسلوبية التي ظل يستغرق فيها إلى أن
بلغ معها مداها الفني الأقصى في فيلمه الروائي الأخير The Sacrifice القربان 1986م- وهو الفيلم/ الوصية التي تركها للإنسانية، وتحذيره
الأخير لها قبل رحيله كنبي للسينما العالمية.
ربما لا بد من الإشارة هنا إلى أن الترجمة الدقيقة لعنوان الفيلم هي "المِدحلة البخارية والكمان"، فكلمة Steamroller الإنجليزية تُقابل في ترجمتها العربية مُفردة "المِدحلة البخارية"، وهي أداة زراعية تُستخدم لتسطيح الأرض، وتكسير الكتل الكبيرة.
في فيلم تخرجه- المدحلة البخارية والكمان- نرى تاركوفسكي الذي نعرفه في كل
أفلامه الروائية الطويلة التي قدمها فيما بعد، أي أن أسلوبيته التي استقر عليها
ونضجت في أفلامه التالية كانت جلية في هذا الفيلم، وبالتالي إذا ما نزعنا اسم
المُخرج من على تيترات الفيلم سينتابنا ثمة شعورا قويا بأن الفيلم لا يخص سوى
أندريه تاركوفسكي، حيث يتأمل في الحياة بعمق، محاولا طرح العديد من التساؤلات، وهو
في هذا التأمل لا يقدم لنا أي قصة، أو حبكة سينمائية؛ فتاركوفسكي في جوهر الأمر
يقدم لنا شريحة من الحياة، من المُمكن لها أن تحدث في أي زمان، وفي أي مكان، وكل
ما فعله أنه كان يراقب هذا المشهد من الحياة من خلال كاميرته، محاولا التركيز
عليه، وهو التركيز الذي من شأنه أن يطرح العديد من التساؤلات، ويثير التفكير في
عقل مُشاهد الفيلم.
يفعل تاركوفسكي ذلك بتقديم فيلمه من خلال عينيّ طفل صغير لم يتعد السابعة من عمره، ولعل اختيار المُخرج للطفل من أجل تقديم فيلمه- مُتخفيا في ذلك خلف عينيّ الطفل- سنراه بشكل أكثر وقعا ووضوحا ونُضجا في فيلمه التالي على هذا الفيلم، Ivan’s Childhood طفولة إيفان 1962م، حيث قدم لنا العالم، ورؤيته للحرب وأثرها السلبي والمُدمر على الجميع من خلال عيني إيفان في هذا الفيلم- مُخالفا في ذلك الاتجاه السوفيتي في صناعة الأفلام من أجل تمجيد الجيش السوفيتي، وبطولاته، وعظمته.
كذلك في فيلمنا "المِدحلة البخارية والكمان" فالكاميرا، ورؤية
المُخرج الفنية بالكامل يتم تقديمها من خلال عينيّ ورؤية ساشا- قام بدوره المُمثل
السوفيتي Igor
Fomchenko إيجور فومتشينكو- الطفل الصغير الذي يجيد
العزف على الكمان، وهو طفل وحيد، لا أصدقاء له، ولا يرتبط بأي شكل من أشكال
العلاقات اللهم إلا بكمانه الذي يقوم بالعزف والتدرب عليه، كما أننا لن نرى أمه
سوى في نهاية الفيلم فقط- وإن كنا سنراها في صورة حادة، أقرب إلى الصرامة والتجهم-
أي أن الطفل هنا مُجرد كائن صغير وحيد لا تربطه أي علاقة بالعالم إلا من خلال كمانه،
وموهبته الرفيعة المُرهفة التي يمارسها في مواجهة هذا العالم.
ربما نُلاحظ مع نزول تيترات الفيلم أن التيترات مكتوب عليها أن الفيلم من إنتاج اتحاد الأدباء لإنتاج أفلام الأطفال، كما أنه قد شارك في إنتاجه ستوديو Mosfilm الذي كان أكبر وأقدم استوديو في الاتحاد السوفيتي وأوروبا، لكن ما يهمنا هنا أن اتحاد الأدباء لإنتاج أفلام الأطفال قد شارك في إنتاج هذا الفيلم الذي كان بطله الرئيس هو طفل في السابعة من عمره، لا سيما أن الفيلم للوهلة الأولى سيشعرنا بأنه فيلم مصنوع خصيصا للأطفال ومُخاطبتهم، لكن مع النظرة المتأنية المُتأملة لما قدمه تاركوفسكي على الشاشة سيتضح لنا أنه فيلم يتخذ شكل أفلام الأطفال، لكنه في الحقيقة يخاطب الكبار من منظور طفولي، شديد الرهافة، كثير العقلانية. كما لا يفوتنا أيضا أن ستوديو "موسفيلم" يقوم بإنتاج فيلم لتاركوفسكي للمرة الأولى، لا سيما أن فيلميه القصيرين السابقين كانا من إنتاج معهد جيراسيموف.
يبدأ تاركوفسكي فيلمه على ساشا يفتح باب شقته، لنراه خارجا منه، حاملا معه حقيبته في يد، وفي اليد الأخرى كمانه، ليقوم بإغلاق باب الشقة، وينزل الدرج لتتابعه الكاميرا في هبوطه. إن المشهد الذي بدأ به تاركوفسكي فيلمه يجعلنا نتوقف أمامه مُتأملين نظرا لفنيته التي تخص تاركوفسكي. فبما أن المُخرج يقدم فيلما يأخذ شكل أفلام الأطفال، وبما أن بطل الفيلم هو طفل في السابعة، سنُلاحظ أن الكاميرا الواقفة أمام الباب كانت في زاوية ذات منسوب مُنخفض، وهي الزاوية التي أتاحت للكاميرا أن نرى من خلالها ساشا الضئيل الجسد، القصير القامة داخل الكادر، بينما بدا الباب من خلفه عملاقا، لا يظهر لنا منه داخل الكادر سوى مُنتصفه فقط، أي أن ثمة براعة يتميز بها المُخرج في معرفة الزاوية التي يضع فيها كاميرته من أجل التعبير من خلال عدسة الكاميرا عما يرغب في الذهاب إليه، أي العالم الطفولي الذي يرى العالم من حوله مُتسعا، شاسعا، بينما الطفل يشعر بنفسه كنقطة في هذا العالم اللامُتناهي بالنسبة له.
سنُلاحظ- مع مُتابعة الكاميرا لهبوط ساشا على الدرج وكأنها تراقبه عن كثب،
أي إكساب الكاميرا شخصية خاصة بذاتها- أنه حينما يهبط إلى الطابق الذي يتواجد أسفل
شقته سيرى أحد الأطفال المُصابين بكسر ما في الساق واقفا أمام باب شقته؛ مما يشعر
ساشا بالخوف، ويجعله مُترددا في استكمال هبوطه، إلا أنه سُرعان ما سيركض من أمام
الفتى مُستمرا في الهبوط، لكنه بمُجرد وصوله إلى مدخل البناية، وقبل الخروج من
الباب الخارجي سيلمح مجموعة من أطفال البناية الأكبر منه في العمر يلعبون داخل
البهو؛ مما سيجعله يختبئ منهم، متواريا، خائفا من الإقدام على الخروج حتى لا
يلمحونه، وبمُجرد ما يرى إحدى السيدات مُغادرة للبناية، يسرع باتجاهها، محاولا
الاحتماء بها، والتخفي في جسدها عن أعين الأطفال، لكن الأطفال يلمحونه ويلحقون به
حينما ينبههم أحدهم: المُوسيقار يهرب.
مع تأمل المشهد السابق سنتأكد من أن ساشا- وهو الأصغر عمرا في الفيلم- طفل وحيد، مُرهف، ضعيف، كما سنُلاحظ أنه ضئيل الجسد، وكل هذه الأمور مُجتمعة تجعل جميع أطفال البناية- الأكبر منه في العمر والجسد- يحاولون دائما اللحاق به، والتنمر عليه، ومُضايقته، بل والاعتداء الجسدي عليه، وبما أنه لا يفعل أي شيء سوى العزف والتدرب على كمانه- مع ما يحمله ذلك من إسقاطات ودلالات على رهافته- فهو يحاول دائما الهروب منهم، لأنهم يخطفون منه الكمان، ويبدأون في التلاعب به ومُضايقته.
يلاحظ أحد عمال الإنشاءات/ سيرجي- قام بدوره المُمثل السوفيتي Vladimir Zamanskiy فلاديمير زمانسكي- الذي يقوم بتسوية الإسفلت بالمِدحلة في الشارع
أمام البناية التفاف الأطفال من حول ساشا ومحاولة إرهابه ومُضايقته؛ فينهرهم،
مُنقذا ساشا من بين أيديهم مُطمئنا إياه، طالبا منه المضي قدما في طريقه.
نُشاهد ساشا يسير في شوارع موسكو، مُتأملا ما حوله، ليتوقف أمام أحد المحال التجارية، ناظرا إلى العديد من المرايا المُتصدرة لواجهتها، ولعل هذا المشهد من الفيلم كان من المشاهد المُهمة التي تُدلل على أسلوبية تاركوفسكي التي نعهدها في أفلامه، حيث يقف ساشا مُتأملا من خلال انعكاس المرايا أمامه للمدينة، وما يدور فيها، فضلا عن بهجة الصورة التي تؤدي إلى العديد من الانقسامات في الرؤية، مما يُدلل على أن تاركوفسكي من خلال مشهد تأمل الطفل لهذه الانعكاسات أنه في جوهر الأمر في رحلة تأمل ذاتي داخلي، أكثر مما لو كان يتأمل العالم الخارجي الذي تنقله لنا الكاميرا.
إن الطفل هنا يتأمل بهجة العالم، واتساعه، وشعوره العميق بالضآلة فيه،
وربما وحدته، ولعلنا رأينا من خلال هذا المشهد وقوع سلة مُمتلئة بالتفاح من إحدى
السيدات على الأرض؛ مما يجعلها تنحني لمحاولة التقاطه، وهو ما يحيلنا مُباشرة إلى
مشهد شاحنة التفاح التي رآها إيفان في حلمه في فيلم Ivan’s Childhood طفولة إيفان وانسكاب حمولة التفاح على الشط، وأكل الأحصنة منه،
حتى لكأن مشهد وقوع سلة التفاح في فيلمنا هذا، وتأمل ساشا له، كان هو المشهد
المُؤسس، أو هو الإرهاصة الأولى للمُخرج الذي سيحاول تعميق مثل هذا المشهد ومفهومه
فيما بعد في فيلمه التالي، الذي كان فيلمه الروائي الطويل الأول.
ينتبه ساشا إلى استغراقه في تأمله داخل المرايا وانعكاساتها؛ مما يجعله
يتحرك مُستمرا في تجواله داخل شوارع موسكو العملاقة بالقياس إلى جسده الضئيل،
ليدخل أحد الأبنية، ونعرف أنه مدرسته التي يتدرب فيها العزف على الكمان.
ثمة مُلاحظة فنية مُهمة هنا لا بد من التوقف أمامها بمُجرد دخول ساشا إلى المدرسة التي يقوم فيها بالتدرب على العزف، فالإضاءة التي استخدمها المُخرج مُنذ بداية الفيلم كانت إضاءة ساطعة، واضحة، الألوان فيها زاهية مُبهجة، لكنه بمُجرد ما انتقل إلى داخل المدرسة سنُلاحظ أن الإضاءة قد باتت خافتة، أقل سطوعا، وقد فقدت الألوان بهجتها التي رأيناها في المشاهد السابقة- نرى هذا التباين في الإضاءة أيضا في المشاهد الداخلية لساشا في بيته حينما نراه مع أمه- أي أن ثمة اختلاف بيّن نلمحه من خلال التباين في درجات الإضاءة، وهي الإضاءة التي سنفهم الهدف منها حينما يدخل ساشا إلى حجرة مُعلمته ويقوم بالعزف أمامها، فنراه يقوم بالعزف على كمانه حالما وكأنه انفصل عن هذا العالم، لكن المُعلمة تستوقفه لتخبره بصرامة بأنه يُخالف الإيقاع في عزفه، ويقوم بالتنشيز، وسُرعان ما تطلب منه العزف مرة أخرى، ثم تُكرر طلبها عليه عدة مرات بعدما تستوقفه في كل مرة.
إن وجه المُعلمة الصارم هنا، وجهامتها المُبالغ فيهما، فضلا عن تشغيل بندول ساعة أمامه كي لا يخرج عن الإيقاع إنما يُدلل على محاولة تقييد الفن وجذبه باتجاه الأرض، أو الواقع، أي أن تاركوفسكي يرى أن الفن لا يمكن له أن يحيا إلا من خلال الانطلاق في آفاقه الحالمة، غير المُرتبطة بالقوانين، والقواعد الصارمة، فالفن في جوهره يمتلك أجنحة يستطيع من خلالها الطيران والتحليق بعيدا- لذا لا يحاول ساشا الالتزام بالقواعد/ الإيقاع الذي ترغبه المُعلمة في كل مرة يبدأ فيها عزفه، لكنها ترفض طيرانه، أو تحليقه، وتحاول في كل مرة مُقاطعته لجذبه مرة أخرى إلى الأرض عاملة على تقييده، والتزامه بالقيود. إنها رؤية تاركوفسكي الفنية التي يرى الفن من خلالها مُنطلقا في آفاق أرحب، مُعبرا عن ذلك في تنشيز ساشا في عزفه، وهو شكل من أشكال الخلق والإبداع والتفرد التي ترفضها مُعلمته المُلتزمة بالقوانين والتعليمات الصارمة.
ألا يعني ذلك من جهة أخرى محاولة حديث المُخرج عن دور الفن، وانطلاقه في
آفاق أرحب من أجل خلق عوالم أخرى جديدة؟ إنه دور الفن/ الهاجس الذي يشغل المُخرج
طوال حياته، وهو ما رأيناه في جل أفلامه اللاحقة، لا سيما فيلمه الملحمي Andrei Rublev أندريه روبليف 1966م الذي تناول فيه الحياة المُتخيلة لأندريه
روبليف، ودور الفن والفنان في مُجتمعه من أجل حياة أفضل لأبناء المُجتمع المُحيط،
كما رأينا ذلك مرة أخرى أيضا في فيلمه Stalker المُطارد
1979م حينما دار حوار فلسفي عميق بين كل من الكاتب والبروفيسور حول الفن، ومفهومه،
ودوره المُجتمعي.
إذن، فالمُخرج يحمل همومه الاجتماعية، والفنية مُنذ وقت مُبكر، ويحاول
التفكير فيها دائما، وإن تناولها فيما بعد بشكل أكثر تفصيلا ونضجا مما تناولها به
في أفلامه المُبكرة.
مهارة تاركوفسكي في اختيار زوايا الكاميرا تتبدى لنا هنا مرة أخرى، حينما نرى ساشا مُنتظرا أمام غرفة مُعلمته لحين دخوله، وفي الوقت الذي يخرج فيه أحد الأطفال من الغرفة سنرى الكاميرا تتأمل الطفل من زاوية مُنخفضة المنسوب لتنقل لنا الطفل الضئيل الجسد، بينما الباب من خلفه يبدو عملاقا، لا نرى سوى نصفه فقط، كما أن ساشا حينما يدخل بدوره إلى الغرفة سنرى نفس زاوية الكاميرا التي تخفي نصف الباب العملاق بالنسبة لجسد ساشا، أي أن تاركوفسكي يرغب في التعبير عن اتساع العالم من حول هؤلاء الأطفال، ونقل العالم من خلال وجهة نظرهم هم، ورؤيتهم للعالم من حولهم.
حينما يعود ساشا إلى بيته، سيُلاحظ وجود الأطفال المُتنمرين عليه أمام
البناية مُنتظرين اقترابه، لكن سيرجي سيقوم بإنقاذه منهم، كما سيأخذه فوق مِدحلته
في رحلة يعلمه من خلالها كيفية قيادتها والتحرك بها للأمام، والخلف، مما سيجعل
الأطفال المُتنمرين عليه واقفين يتأملونه بحسد، وحسرة لرغبتهم في أن يكونوا مكانه-
أي أن ساشا هنا قد اكتسب مكانة ما، أعلى كثيرا أمام الأطفال الذين يتمنون أن
يكونوا مكانه.
إن تاركوفسكي هنا تتلبسه روح الطفولة أثناء صناعته لهذا الفيلم، وهي روح الطفولة التي سنراها حينما يهبط سيرجي من فوق المِدحلة، تاركا إياها لساشا ليقودها، وبينما يحاول أحد الأطفال الكبار مُحاصرة ساشا بالالتفاف من حوله بدراجته، يصطدم الطفل بالدراجة في الحائط مما يجعل جرس الدراجة يقع أرضا ليدوس عليه ساشا بمِدحلته مساويا إياه بالأرض، أي أن تسوية جرس الدراجة بالأرض- رغم أنه لم يكن مقصودا من ساشا- هو الانتقام الطبيعي لساشا من الطفل الذي كثيرا ما ضايقه، ومن ثم تبدو لنا هنا الروح الطفولية التي تتلبس المُخرج أثناء قيامه بصناعة فيلمه، وهو ما سيشعرنا بالكثير من السعادة، وكأنما ساشا قد انتقم لنفسه من الطفل البغيض، وانتقم لنا بدورنا- نظرا لتعاطفنا مع ساشا.
يطلب سيرجي من ساشا التوقف لتناول الغداء، فيترك ساشا حقيبته، وكمانه على
المِدحلة، مُتجها مع سيرجي في جولة داخل المدينة، وأثناء سيرهما في الطريق، بينما
يحمل ساشا في يده قنينة من الحليب، يُلاحظ أحد الأطفال الصغار الذي يقوم طفل أكبر
منه بالاعتداء عليه بينما يبكي الطفل الصغير- في إسقاط على ما يحدث لساشا مع أطفال
بنايته- هنا ينظر سيرجي إلى ساشا قائلا: هذا ليس عدلا. ليقول ساشا: دعنا ننقذه.
يرد عليه سيرجي: أنقذه أنت. يسأله ساشا: وأنت؟ يرد سيرجي مُستنكرا: اثنان ضد واحد؟
يشير ساشا إلى قنينة الحليب في يده: لكن هذه معي. يقول سيرجي: سأحملها، أراك فيما
بعد.
يلتقط سيرجي زجاجة الحليب من يد ساشا، ويتظاهر بالانصراف، لكنه يتوارى على مقربة منه ليراقب فعله، فنرى ساشا مُترددا، يقول للطفل الكبير: لماذا تعتدي على شخص أصغر منك؟ اتركه وإلا سأضربك.
يترك الطفل الكبير الطفل من يده، لينظر إلى ساشا باندهاش، ثم يطلب منه
اتباعه، وحينما يدخل معه إلى مدخل إحدى البنايات يقوم بضرب ساشا، لكن سيرجي يلحق
به مما يؤدي إلى هروب الطفل الكبير، إلا أن ساشا يكون قد نجح في الحصول على بالون
الطفل المُعتدى عليه، ويعيده إليه، مُخبرا سيرجي أنه لم يكن خائفا، لكن الولد
الكبير صعب.
ألا نُلاحظ هنا أن سيرجي/ العامل يقوم تقريبا بدور الأب المُفتقد في حياة
ساشا، لا سيما أننا لم نر في الفيلم سوى أمه في نهاية الفيلم، مما يوحي لنا بأنه
يفتقد لوجود الأب في حياته، وبالتالي كانت هذه الصداقة، وهذا التجول مع سيرجي طوال
الفيلم؟
إن العامل هنا/ سيرجي لا يقوم بدور الأب فقط، وهو الدور الذي رأينا فيه العامل يحاول تعليم ساشا التحلي بالشجاعة والمواجهة، وعدم الخوف من الآخرين حينما طلب منه أن يقوم بإنقاذ الطفل الصغير من براثن الطفل الأكبر منه، بل هو يمثل في ذات الوقت أحلام ساشا، أحلامه في الحماية، وفي الشعور بالأمان، وفي الصداقة، والأبوة المُفتقدة، أي أنه من المُمكن لنا اعتبار رحلة ساشا مع سيرجي طوال مُدة الفيلم كانت مُجرد حلم طويل تخيله الطفل، لا سيما أن أفلام تاركوفسكي- ومنها هذا الفيلم- قابلة للعديد من التأويلات، والإحالات، والإسقاطات، وإعادة التفسير.
من جهة أخرى يمكن تأويل وجود سيرجي مع ساشا، وحمله، على رغبة تاركوفسكي
الماسة في إذابة الفوارق بين الطبقات، لا سيما الطبقات العمالية التي يمثلها
سيرجي، وطبقة الفنانين التي يمثلها ساشا/ المُوسيقار كما يُطلق عليه أبناء الحي
الذي يسكن فيه، وهو ما نلمحه بجلاء حينما يقول أحد العمال لسيرجي، قاصدا في قوله
ساشا: عامل حقيقي، ماذا يعمل؟ ليرد سيرجي: مُوسيقارا. لكن ساشا يسأله بغضب حينما
يستمع إلى رده على العامل: ماذا تقول؟ يرد سيرجي: مُوسيقار، أليس هذا عملك؟ لكن
ساشا يشعر بالغضب الشديد ليقوم بإلقاء الخبز على الأرض، وسُرعان ما ينصرف بعيدا،
لكن سيرجي يقول بصرامة: ارجع هنا، ما هو عملك في اعتقادك؟ ماذا؟ تحصل على خبزك
بحرية أم تعتقد أن الأرغفة تنمو على الأشجار؟ التقطه، ماذا إذا ما رمى شخص ما
كمانك على الأرض.
هذا المشهد الذي رأينا فيه ساشا غاضبا لمُجرد وصفه بالمُوسيقار هو مشهد من الأهمية بمكان ما يجعلنا نتوقف أمامه من أجل تأمله، فلقد غضب الطفل حينما قال سيرجي للعامل أنه يعمل مُوسيقارا، رغم أن هذا أدعى للفخر، وليس للسخط والغضب، لكن بما أن ساشا يرى أن الفن من الأشياء السامية؛ فلقد رفض أن يكون هذا عملا بالنسبة له، أي أن الفن من وجهة نظره هو التسامي بالروح، وتخففها من أثقالها الواقعية، وليس جذبه إلى الواقع والنزول به إلى العادية باعتباره عملا، لكن بما أن الفيلم يدور في المرحلة الاشتراكية للاتحاد السوفيتي، وهي المرحلة التاريخية التي كانت تُعلي من شأن العمل، وتعمل على تقديسه، فرؤية سيرجي مُختلفة تماما عن ساشا. فساشا هنا مُجرد طفل حالم، يرى العالم من خلال منظوره الشخصي الحالم، ورهافته التي اكتسبها من الفن، لذا فهو يرى الفن بمثل هذه الرؤية فقط، وبالتالي يكون تشبيه الفن بالعمل هو بمثابة إهانة لهذا الفن، لكن بما أن العامل هنا مُتشبع بالحياة، وخبراتها، والعقيدة السوفيتية الاشتراكية التي تُقدس العمل، وترى أن الدولة إنما تقوم على أكتافهم أولا فلقد أكد لساشا أن العمل هو أمر مُهم كي يستطيع الحياة، وإذا ما كان لا يعرف سوى العزف؛ فهو بمثابة عمل بالنسبة له، فضلا عن غضب سيرجي لإلقاء ساشا للخبز على الأرض، لا سيما أن الخبز لا يمكن الحصول عليه بسهولة إلا من خلال الكد والتعب، ومن ثم يكون فعل ساشا هنا بمثابة الإهانة لمفهوم العمل خاصة من وجهة نظر العقيدة الاشتراكية/ الأيديولوجية.
إذن، فالعلاقة بين الاثنين هي محاولة لإذبة الفوارق الطبقية بين الفئتين
الاجتماعيتين، وهو ما جعلهما مُنسجمين في هذه الصداقة رغم فارق العمر الشاسع
بينهما.
يلحق ساشا بسيرجي شاعرا بالخجل من فعله، ويبدآن في التجول داخل المدينة،
ليقفا مع جمع كبير من المواطنين أمام أحد الأبنية القديمة الضخمة، بينما نرى كرة
معدنية عملاقة تحاول هدم المبنى في إسقاط على روسيا القديمة التي يتم هدمها
والتخلص منها من أجل بناء روسيا الجديدة، يقوي من هذا المعنى والدلالة أن المبنى
القديم بمُجرد سقوطه سيظهر من خلفه أحد المباني الجديدة كإسقاط مُباشر على روسيا
الجديدة التي تم تشييدها.
يختفي ساشا عن نظر سيرجي أثناء عملية الهدم، والسقوط الغزير للأمطار التي
هطلت فجأة- سقوط الأمطار الغزير، وبرك المياه في كل مكان من المُفردات الفيلمية
المُهمة في عالم تاركوفسكي، وهو ما سنراه بكثافة في أفلامه التالية، أي أن هذا
الفيلم كان مُؤشرا قويا على ما ستكون عليه أفلامه فيما بعد- وحينما يعثر سيرجي
عليه يجلسان في أحد الأركان من أجل تناول طعامهما، وهو المشهد الذي يؤكد لنا على
رغبة ساشا في الانطلاق، ومُخالفة القواعد، وتكسيرها، وعدم التقيد بأي شيء- لاحظ
أنه حينما كان يعزف كان يتعمد عدم الالتزام بالإيقاع- حيث نراه يتناول الحليب من
القنينة الكبيرة ليقول لسيرجي: أمي تغلي حليبي دائما- أي أنه يحاول التحلل من قيود
الأم، الدائرة الأكثر ضيقا والأقرب إليه أولا- فيسأله سيرجي: لماذا؟ يرد ساشا:
تخاف من إصابتي بالأمراض. يقول سيرجي: إذن، لا تشربه. لكن ساشا يرد: أنت تشربه، وأنت
بخير حال. يقول سيرجي: نعم، حتى الآن جيد جدا.
إنها محاولة التمرد المُبكرة، وهو التمرد الفني الذي يلازم أي فنان حقيقي راغب في الانطلاق بعيدا بنفسه، وبفنه، وهو ما يجعله يحاول تقطيع الخبز بالسكين، ولكن نتيجة لصغر عمره، وحجم يديه بالنسبة لرغيف الخبز يقوم سيرجي بمُساعدته في تقطيع الخبز له.
يلاحظ سيرجي أن أحد أقفال حقيبة الكمان ليس مُثبتا، فيقوم بمحاولة تثبيته،
وهو الكمان المُمثل للفن بتساميه، حتى لكأنه حلم بالنسبة للآخرين. هذا الانبهار،
والنظر إلى الآلة المُوسيقية باعتبارها حلما سنراه حينما يقترب الأطفال من
المِدحلة التي ترك ساشا كمانه عليها للتوجه مع سيرجي من أجل تناول طعامهما، حيث
سيقومون بفتح حقيبة الكمان، وحينما يرونه أمام أعينهم سيقفون أمامه مسحورين،
وكأنهم دخلوا عالما سحريا من الأحلام، وبالتالي فلن يقوموا بسرقته، بل سيتأملونه
لفترة ثم يقومون بإغلاق غطائه مرة أخرى.
إنه نفس السحر الذي يتأمل من خلاله سيرجي للكمان حينما يخرجه ساشا من حقيبته من أجل تثبيت سيرجي لقفلها، حيث سيعرض ساشا على سيرجي أن يحمل كمانه إذا ما كان يرغب في ذلك، فنرى سيرجي يحاول مسح يديه من الوسخ أولا قبل تناوله للكمان، مما يُدلل على تقديسه، ومعرفته لقيمته، أو نظرته إليه وكأنه شيء من السحر، ثم رؤيتنا لنظرته المُنبهرة بالآلة المُوسيقية بينما يتأملها بين يديه.
إنها قيمة الفن التي يرغب تاركوفسكي في نقلها لنا من خلال فيلمه والتأكيد
عليها، لذا سيقوم ساشا- كمُكافأة لصديقه الكبير/ سيرجي- بالعزف له على كمانه، مما
يشعره بالكثير من السعادة.
يتفق كل من ساشا وسيرجي على اللقاء في السابعة مساء من أجل دخول السينما،
وهو ما يُشعر ساشا بسعادة أكبر، ومن ثم يتجه إلى منزله مُسرعا للاستعداد، وبينما
يقوم بتبديل ملابسه تدخل أمه، لتسأله عن السبب في اتساخ يده، ويخبرها أنها مُتسخة
من زيت الإسفلت، كما يخبرها بأنه ليس لديه من الوقت ما يسمح له بغسلها لأنه سيخرج
للذهاب إلى السينما مع صديقه الكبير سيرجي، لكن الأم ترفض الأمر، فيقول مُعترضا
حزينا: ماما، إنه ينتظرني، لقد وعدته. فتقول: في الحقيقة، لقد نسيت زيارة ناتاشا
وأمها لك اليوم، أخبرتهما أنك ستكون في البيت، ذلك كان وعدا أيضا، هذه ليست طريقة
للتصرف.
يبدي ساشا رفضه لما تخبره به أمه، لكنها تغلق عليه باب حجرته من الخارج مما يمنعه من الخروج، وبالتالي يظل واقفا في الشرفة عله يرى صديقه سيرجي.
يشعر ساشا بالكثير من الحزن، ويكتب في ورقة بأن ما منعه من الخروج هو أمه-
إنه ليس عيبي، أمي لم تتركني أذهب- بينما المُخرج ينتقل من خلال القطع المُونتاجي
إلى سيرجي المُنتظر لساشا أمام دار العرض، وحينما يقلق يتجه إلى منزل ساشا ليسأل
عنه الأطفال الذين فرقهم عن ساشا في الصباح، لكنه حينما يسألهم عن طابق ساشا يفرون
من أمامه خائفين.
يلمح ساشا سيرجي في الشارع، ويلقي له بالورقة التي كتب له فيها السبب في
تخلفه عن موعدهما، لكن سيرجي كان قد أخذ طريقه للابتعاد، ومن ثم سقطت الورقة خلف
ظهره، ولم يرها.
يعود سيرجي ليقف أمام دار العرض على أمل ظهور ساشا، لكننا نلمح إحدى الفتيات العاملات التي كانت تحاول مُغازلة سيرجي مُنذ بداية الفيلم- قامت بدورها المُمثلة السوفيتية Natalya Arkhangelskaya ناتاليا أرخانجيلسكايا- مُنتحية أحد الأركان بجوار دار العرض، مُراقبة لسيرجي الذي لا يشعر بها، ولا يهتم، وقد اشترت إحدى التذاكر من أجل الدخول. تتوجه الفتاة باتجاه سيرجي طالبة منه الدخول معها، إلا أنه يظل مُترددا لفترة على أمل قدوم ساشا، وحينما يفقد الأمل في ظهوره، يستسلم للدخول معها.
هنا يلجأ تاركوفسكي إلى أسلوبيته التي نعرفها عنه، والتي طالما لجأ إليها
في جميع أفلامه- أسلوبية الأحلام والرؤى- حيث يقطع مرة أخرى على ساشا المحبوس في
غرفته فتنتقل الكاميرا- ككائن حي مُستقل ومُضاف للشخصيات الفيلمية- إلى درج
المنزل، وتهبط الدرج إلى أن تصل لباب البناية الخارجي- تبدو لنا الكاميرا هنا
مُتماهية مع ساشا، لا سيما أننا لا نرى سوى الهبوط فقط من دون وجود شخص- وسُرعان
ما نرى ساشا يعدو في الشارع من خلال لقطة علوية قادرة على جعل ساشا يبدو شديد
الضآلة من خلالها، كتعبير عن اتساع العالم من حوله، وأحلامه الكثيرة، فنراه يلحق
بسيرجي الذي يقود مِدحلته، وحينما يلحق بها يحمله سيرجي إلى جواره على المِدحلة،
وقد انطلق سرب من الحمام من حولهما كإسقاط رمزي ودلالالي من المُخرج على الحرية،
والتحليق الذي يرغب فيهما الطفل.
إن مشهد النهاية الذي لجأ إليه تاركوفسكي من أجل إغلاق عالمه الفيلمي كان من أبرع المشاهد، وأكثرها فنية للتعبير عن أسلوبية تاركوفسكي التي ستميزه فيما بعد، فلقد لجأ إلى عالم الأحلام والرؤى، وهو العالم الذي ما فتئ يلجأ إليه في سينماه من أجل التعبير عن رؤيته الفنية التي يرغب في الذهاب إليها. وبما أن ساشا هنا- كفنان/ مُوسيقار- لديه الرغبة العارمة في التحرر والانطلاق والطيران، فضلا عن سعادته بصداقة سيرجي أو أبوته البديلة للأب الغائب، فلقد نجح الطفل في تحقيق ذلك من خلال حلمه، أو رؤيته، أو تخيله بسبب انحباسه داخل الغرفة التي أغقلتها الأم عليه من الخارج.
إن الفيلم الروائي القصير "المِدحلة البخارية والكمان" للمُخرج
الروسي أندريه تاركوفسكي كان من أفضل مشاريع التخرج التي نجحت في تعريفنا على
المُخرج وأسلوبيته السينمائية التي سنراها فيما بعد بشكل أكثر نضجا وعمقا، فلقد
رأينا من خلال هذا الفيلم مُفرداته السينمائية الأهم- المرايا وانعكاس الأشياء
فيها كدلالة على التأمل الذاتي، وهطول الأمطار الغزيرة، والبرك والمُستنقعات
العديدة كدلالة على الحياة، فالماء مُرادف حقيقي للحياة لدى المُخرج، فضلا عن
الكاميرا المُتأملة، المُتلصصة، ذات الشخصية المُستقلة، المُراقبة باعتبارها كائنا
حيا له كيانه الخاص، فضلا عن بعض المشاهد البطيئة الطويلة التي ستزداد وتيرتها
فيما بعد في أفلام المُخرج المُستقبلية.
صحيح أن الفيلم لم يقدم لنا أي قصة، ولا أي تنامٍ في الأحداث، بل مُجرد
شريحة من الحياة من المُمكن لها أن تحدث كل يوم، لكننا إذا ما عدنا إلى كتاب
تاركوفسكي نفسه Sculpting
in Time النحت في الزمن لقرأنا قوله: أردت أن أوضح
كيف أن السينما قادرة على مُراقبة الحياة من دون تدخل بشكل فظ، أو واضح في
استمراريتها، لأن هذا هو المكان الذي أرى فيه الجوهر الشعري الحقيقي للسينما. أي
أن المُخرج من خلال أسلوبيته السينمائية يوضح لنا بشكل مُباشر ومُحدد في كتابه أن
السينما هي في جوهرها أداة للتأمل، أداة للحلم، والمُراقبة، أداة تحاول نقل العالم
كما هو من دون التدخل فيه، لكنه من خلال هذا النقل يحاول إطلاق العنان للتساؤلات
الإيمانية، والروحية، والوجودية العديدة التي تُكسب سينماه معناها الروحاني،
والأخلاقي، والإيماني الخاص.
مجلة "نقد 21"
عدد يناير 2025م.